تهتك القاصة المغربية في هذا النص الفنطازي الجدران والقيم وتكشف من خلال شخصيتها القصصية الذي يسقط على جلبة فيتطلع نحو النافذة ليجد أن في استطاعته الرؤية عبر جدران الجيران كاشفة عن تفاصيل وأسرار ما خلفها بما ينقض الحياة في شكلها الجاري المغطى، في بنية نص رمزية تسقط أقنعة الحياة.

تحت وصاية الجدران

نـزهـة مـليحة

 استيقظ على صوت جلبة كبيرة.. فكر أن حركة المرور الصباحية مزعجة اليوم أكثر من المعتاد…فتح عينيه ببطء محاولا التخلص من أحلام غريبة تراوده بين الحين والآخر..ترك فراشه غير واع تماما بما حوله..أجال عينيه نصف المغمضتين بين أشياءه المبعثرة بلا مبالاة هنا وهناك محاولا العثور على خفيه…رفع بصره قليلا ثم اتسعت عيناه فجأة و ارتسمت  دهشة شديدة على ملامح وجهه..من المكان الذي يقف فيه، في غرفته،في شقته الصغيرة ،من  الطابق الرابع كان بوسعه أن يرى غرفة معيشة الجيران في العمارة المقابلة…

 حرك رأسه وهو ينظر إلى ستائرها التي بدت معلقة إلى فراغ على جوانب نافذة بدت معلقة بدورها إلى لا شيء..نظر غير مصدق ما يراه أمامه…لا جدار..أو على الأقل هذا ما استنتجه عندما لاحظ أن بوسعه أن يرى كل محتويات تلك الغرفة و منها كل غرف البيت الأخرى…أجال عينين حائرتين فاكتشف أن كل طوابق العمارة وكل منزل فيها أصبح مكشوفا أمامه..وفهم مصدر الجلبة…أناس كثر في منازلهم وفي الشارع يتحركون في فزع ويتحدثون إلى بعضهم بأصوات مرتفعة..لم يتمكن من فهم ما يقولون..جال بخاطره انه ربما لا يزال نائما وان هذا واحد من أحلامه الغريبة..تحرك إلى الأمام فتعثرت  قدمه بالسرير وتأوه متألما: اللعنة ! هذا ليس حلما ! تقدم إلى نافذة غرفته وانتبه فجأة انه لا ينظر إلى منازل الحي من النافذة بل من الجدار…مما يفترض انه مكان الجدار..اقترب في بطء..حاول أن يطل إلى الأسفل فاصطدم رأسه بشيء ما…مد يديه دون تفكير وبدأ يتحسس أمامه… “يا الهي ! لم يختف الجدار إنه هنا…لكنه شفاف تماما..” فكرة قرت في ذهنه قبل أن يكتشف شيئا آخر أربكه أكثر، بوسع كل الجيران ان يروه من داخل منازلهم تماما كما يستطيع هو أن يراهم !! ارتدى ملابسه مسرعا..جلس للحظات قبل أن يقرر الخروج الى الشارع ليشارك الناس ذهولهم وحيرتهم أمام ما يحصل…

 أفكار كثيرة جالت بذهنه وهو يحاول أن يستوعب ما يحصل..كأن كل الجدران قررت آن تتخلى عن سمكها و تعرض ما يختفي وراءها بلا اكتراث…

قطع أثاث فاخرة على مساحات شاسعة في هذا الحي..وغرف ضيقة وعارية إلا من أثاث قديم  بالكاد يغطي الأرضيات الباردة في إحياء أخرى كثيرة..وفي كل مكان تتجاور منازل نظيفة ومرتبة وأخرى تعمها الفوضى ..

في منزل “سي المختار” نرجيلة مخبأة ما بين الدولاب وجدار الغرفة،قنينات خمر أسفل السرير،أشياء أصبحت معروضة على أعين المارة كما كانت يوما في واجهات المحلات التجارية…من كان ليظن أن الشيخ يتعاطى لهذه الأشياء على كبر؟ !!

 من داخل منزلها جلست “وفاء” زوجة الجزار تنظر إلى بعض السكان المتجمهرين في الزقاق..كان بصرها مركزا على وجه احدهم..كان ينظر إليها بدوره..وعلى ملامحهما تواطؤ يعرف سكان الحي مغزاه.. تواطؤ التقطته عينا الجزار الذي انقض على الرجل يلكمه في شراسة..بينما التقطت زوجته رداءها في رعب واندفعت خارج منزلها وعلى ملامح وجهها خليط من شحوب الأموات ورعب الأحياء أمام أشباحهم…

 ترك المكان محاولا الابتعاد عن جلبة الجاني والمجني عليه،لكن أصوات المتناحرين لاحقته في كل مكان..فاضت المنازل بوابل من القصص..وعلى غير عادة راقبت الأعين وامتنعت الألسنة عن التعليق.

لم يدر كم مضى عليه من الوقت يسير من حي إلى آخر تنتقل عيناه بين حكايات المنازل كمن يقلب محطات التلفزيون في ضجر..توقف أمام مركز الشرطة..كان الموظفون جالسين إلى مكاتبهم في هدوء وترقب..في زنزانة بجانب من المكان قبع أشخاص يفترض أنهم متهمون في قضايا متفرقة..كان المكان هادئا بشكل غير متوقع..فجأة توقفت أمامه شاحنة صغيرة.. ترجل منها أربعة عمال اخذوا يفرغون حمولة الشاحنة داخل المركز..خلال لحظات كانت جدران المكان تختفي كليا خلف حاجز سميك من الستائر…بعدها بساعات حذت بعض المنازل حذوه..ثم بدأ الجميع يتسابق من أجل ستائر للستر..ونشبت معارك ضارية من أجل قطعة ثوب..إلى أن خيم الظلام وستر الجميع تحت جنحه..

 بزغت شمس اليوم الموالي على مدينة بمظهر جديد..واجهات منازل مغطاة بأقمشة من ألوان مختلفة كأنها رقع على بذلة بهلوان..بعض المنازل لم تجد من القماش ما يكفي إلا لستر غرفة أو غرفتين..وفي مدينة لا تحفل كثيرا بطرح الأسئلة..لماذا؟ و كيف؟ كانت الأقمشة جوابا كافيا أعاد بعض الهدوء الى شوارعها و الحركة في متاجرها و ورشاتها..وتناقلت الألسن من جديد ما حدث مع فلان وفلان وفلان…

 وحدها حياة من لا يملكون قماشا كافيا صارت الأكثرة شهرة، ضرب من الصراحة الإجبارية  تحولت شيئا فشيئا  الى تخل طوعي عن كل التحفظات..لم يعد هؤلاء يستودعون أسرارهم أحدا فحتى الجدران خانت الوصية وأصبحت وصية على حياتهم تعرضها بلا اهتمام..

هل كان قرارا للجدران آم أن ما يحدث مجرد كابوس لعين آخر ؟!!  لم يحفل كثيرا بالتوقف عند الإجابة فقط غاصت أفكاره بعيدا وهو يفكر في أقنعة سقطت وأخرى ازدادت سمكا وتمسكا بالإقناع،يتأمل حدودا انمحت وأخرى حميت  و رسمت بعناية أكثر وبخطوط حمراء عريضة…