يتأمل القاص المصري الحياة من خلال عيني الجد وهو يصطحب حفيده الراوي في رحلة صيد على البحر ويحيل كل المشاهدات إلى ما يقترب من أحلام الطفولة وحكاياتها الخرافية حيث يستطيع مسك النجمة الساقطة من السماء براحة اليد في لغة شفافة متدفقة تناسب المحتوى.

أمواج تتلألأ أرواحاً

أدهـم العبـودي

لم تعد النهايات تعني جدّي كثيراً، في الغالب لم يكن يعنيه الآن سوى بدايتي، ربما باتت كلّ النهايات –إليه- أمراً نسبياً مجرّد التفكير فيه مرهق. ثمّة يأس لا إرادي –ربما من باب الاستسلام- كان يتسلّل من عينيه كلّما التفت نحوي. يتوكّأ على كتفي، فإن بدت الشمس في حمرتها المزاجية الغاربة نخرج، نجلس على شطّ البحر، وشرفة البيت من الوراء تصحب خطواتنا الوئيدة فاغرة فاها، يقول جدّي:

- ماذا تريد أن تصطاد اليوم؟

ويغمز بطرف عينه مداعباً، يمصمص تجويف فمه الخالي، ويتركني أرمي صنّارته نحو فضاء البحر، وننتظر معاً.

- في القديم.. حين فقدت أباك.. قلت لنفسي أكفّ عن الصيد.. إنّما كنت أنت الملاذ من الوحدة.

- ترى يا جدّي! لأيّ قدر أشبه أبي؟

- لحدّ الكمال.

ثم يهزّ رأسه في أسف ويُكمل:

- بصّ يا ولد، لقد فرُغت الدنيا إلاّ منّا، لم يعد لنا غير ذاك البيت...

ويلوّح بإصبعه الهزيل إلى الوراء.

- والتذكّر.. والصيد.

أسأله وقرص الشمس يغطس في خطّ الماء البعيد:

- جدّي.. هل كانت أمّي جميلة؟

يضحك ضحكة قصيرة يتبعها سعلتان جافّتان:

- أحبّ ولدي القمر في تمامه.

تتداعى قبالتنا متون السماء النهارية، فتسبح ظلال الليل –رويداً- بين أكفّ الأفق المفرودة، ينهاني جدّي عن التعجّل، يقول في حكمة شائخ:

- الصبر يفاجئك بالمعجزات.

فأصبر، أنتظر معه خروج أولى مكاسب الصنّارة، يحمل لي الهواء نسمات من حنين، وأنا أديم تأمّلي في جانب وجه جدّي المليء بصفعات الزمن. عيناه شاخصتان في عبّ المياه، وعيناي تمعّنهما مزمن، ترى يا جدّي ما الذي قد يسفر عنه صيد اليوم؟ مالك شارد شرود الموج؟ هل يحفل شرودك بالذكريات؟ لو أنّ لي صبراً في ذاك الملكوت كصبرك لأمسيت كهلاً دون الميعاد.

يهتزّ بين أنامله خطّ اتّصالنا بالبحر، ترتجف يده قليلاً فأثبّتها بمسكة من يدي العفّية، نشدّ سوياً الصنّارة والموج يتلألأ ويشكّل حولنا محيطاً فيروزياً، يظلّ جدّي يلهث منفعلاً كلّما قصر خيطنا الموصول مع المياه، ثم حين انقطع اتّصاله، وعاد بكامله يلهو أمام أبصارنا منتعشاً، أغشى عيوننا بريق لم يكن في بهائه مثيل، كانت نجمة يتدفّق من داخلها الضياء، فتفرشه على مدى البصر. نلمّ سوياً بدن النجمة الرخو وندفئها في ثوبي.

- جدّي إنّها نجمة حيّة.

- ومتى كانت النجوم ميّتة؟ كلّما أفلت روح على الأرض سقطت نجمة من السماء في مجهول البحر، ربما كانت هذه النجمة أباك، أو أمّك، أو أيّ واحد ممّن تركوا قلوبنا يابسة ورحلوا.

أخذت النجوم المتألّقة في السماء تصطفّ أعلانا في منظومة قدرية وهي تطلّ على صاحبتها التي تضطجع في حجري، تخبرني أنّها عادت بعد غياب، وأوحشتهم كثيراً. كانت النجمة ترتعش بين ساقيّ كأنّها لم تعرف الدفء أبداً، أو لعلّها تعزّيني فيمن فقدت! لا أدري! تخالط عليّ الأمران فأوشكت أن أنجرف نحو فضاء الذكرى، وثمّة دمع يتقاطر على النجمة في حجري فتنتفض أكثر كما لو أنّها تحيى من جديد. موج البحر يتدافع نحونا مزداناً باللمعان، ومن صفحته تخرج هوام فردوسية مضيئة إضاءة ذكرى لم تبارحنا. قال جدّي في وهن:

- تلك أرواح البحر تحتفل بتمام صيدنا.

ثم التفت إليّ وهمهم:

- كم كنت أخشى الغروب ذي قبل.. الآن بات للغروب معنى.

أتفقّد الجلال الذي أهاب بسائر المفردات التي نسكنها أن تمنحنا بعض الأمل، وجدّي مضى يردّد مبتسماً:

- كلّ روح آفلة نجمة في بحر.. كلّ روح آفلة نجمة في بحر.

وفي السماء، تدور النجوم دورة غير مسبوقة، يحتويني غدير من سحر طالع إلى أعلى، يمسّ روحي والنجوم، فأشعر بنبضها، ودفئها، وأروم صوب لذّة الإحساس بالبريق الذي أضاء الكون من حولنا.

- جدّي.

أهزّه، لكن الابتسامة التي كست شفتيه جمدت، ورأسه تساندت على منكبه، وعيناه اللتان شردتا منذ قليل ها هما قد شردتا شرود الأرواح التي سكنت البحر.

مصفوفة النجوم بأكملها مضت تتساقط نحو البحر نجمة تلو أخرى، كأنّ العالم إلى فناء.