كل رحلة استكشافية –في محاولة لضبط مفهوم الخطاب وتحديد مؤشراته القياسية- ارتحال دائم ومطرد عبر الاتجاهات والمقاربات المعرفية المتنائية. إذ أن هذا المفهوم وهو يترسخ ويستنبع أصوله ومقولاته من اللسانيات الجنيفية (سويسرا)، لم يلبث أن تشقق إلى اتجاهات وانتظم له ركم من المصطلحات يشتغل بها، وتناءت حدوده ومفاهيمه ضيقاً واتساعاً تبعاً للمنطلقات الفلسفية والاجتماعية والثقافية التي كان حبل السرة بينها وبينه موصولاً.
فمن خلال تعاملنا مع الخطاب، لا نغالي إن قلنا أنه في اغتراب دائم عن جسده المصطلحي، فله في كل أرضية لغة مخصوصة. والمفهوم الحقيقي له هو مشروع مفهمة نسبية، فالخطاب الذي نتكلمه ونحيا به وفيه، عبارة عن سراب يكتنفه الغياب والنقص.
ولعل هذا الأمر، جعلنا نحدو حدو جيل دولوز (Gille Deleuze) حين قوله: "لا وجود لمفهوم بسيط، كل مفهوم يملك مكونات، ويكون محدداً بها، للمفهوم إذا رقم، إنه تعددية، حتى وإن لم تكن كل تعددية مفهومية"(1). إن المفهوم بحسب التعريف كل متشظ يحيل بدوره إلى مفاهيم أخرى. فالخطاب عامر بأسر متنوعة من المفاهيم الناقصة، شبه المنفتحة، المعروفة، والمحدثة. والطريقة الوحيدة لفهمه هي متابعة مسيرتة والتقاءه اختلافياً بعد كل حالة ينخرط فيها. والمهم في كل حالة هو أن يستوفي عناصره، بحيث أن كل تغيير يطرأ في الزيادة أو النقصان يغير من كثافته عينها. فما يحتويه من مركبات وما يصاحبه من علاقات مع غيره هو بالضبط ما يحدد شبكيته الاصطلاحية.
فليس مفهوم الخطاب متضمناً في نطقه، وإنما في تركيب تمفصلاته، وفي تقاطعاته، أي أنه انتظام لعدد من المركبات وفق نواحي الجوار –بدءا من اللسان إلى الجملة مروراً بالملفوظ والتلفظ فالنص– حيث يؤدي أدواره في مسرح اللغة ويتحول في سياق النص. ينبني ويتأسس على أرض مجموعة من المركبات (جملة، ملفوظ، تلفظ، انسجام، سياق، ترابط، نص .. إلخ). لكنها تتموج وتتوهج حيث نماذج الغرابة والمكر، فأي وعي جلي يمكنه مسايرة هذا الفضاء الخفي وهذه الحيوانية الخطابية في بهائها ودهائها؟
إن الخطاب مطلق ونسبي في آن واحد: نسبي بالنسبة للمركبات التي تحد من لا تناهيه وترسم معالم حدوده، لكنه مطلق ككل مثالي ومجرد. ليس لدينا مؤشرات ووحدات قياسية وإنما فقط تعدديات أو تنوعات قياسية، ففي اللسانيات حتى عندما تدعي الاكتفاء بالبين وعدم افتراض أي شيء خارج اللغة، تبقى داخل خطاب يتضمن طرائق تنسيقية لا تقوم بوصل اللغة بالمضامين الدلالية للملفوظات المقترنة بالسياسة المصغرة للحقل الاجتماعي.
ومن كل ذلك، لابد وأن يستوفي الخطاب ثلاثة عناصر جوهرية: عالم ممكن (المرجع)، ووجه موجود (ذات)، لغة واقعية أو كلام. إذ لا يفترض شيئا آخر سوى تحديد عالم محسوس كشرط، يبرز الآخر تحت هذا الشرط كتعبير عن ممكن يتحقق في لغة تمنحه واقعاً.
فالعالم بمعزل عن الذات متجرد من كل طابع ومن كل تعين. إنه في ذاته لا شكل له على الإطلاق. وإن كانت كل الأشياء تشترك في صفة الوجود على اعتبار أنها موجودة في العالم، فلأن الذات انتقلت إلى صورة الوجود أي انتقلت من الذاتي إلى الموضوعي. مما يعني أن الذات تنفث وتقذف بنفسها خارج ذاتها بأن تميزها بالانعكاس في الآخر والأشياء، فحين نقول أن الذات موجودة في العالم، يعني أنه يظهر داخلها بحيث يصبح الإثنان –تقريبا- شيئاً واحداً. وفي مدار تحقق هذه الإرادة، تسعى الذات إلى تعديل العالم وتغييره حتى يتفق معها. إن في هذه الحركة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون تعاقباً زمنياً (ماض، حاضر، مستقبل)، يحاول فيه الفكر تعقل الوجود بالوصول إلى نبض الأشياء. غير أن هذا الفكر لا يصبح متاحاً إلا باللغة، على أن اللغة هنا ليست تعبيراً عن الداخل أو وسيطاً بين الفكر والوجود، ما دام فعل التفكير عينه لا ينفك عن كينونته اللغوية ولا يتحقق إلا داخلها. وبالتعبير الهيدغري (نسبة إلى هيدغر)، إنها ذلك النداء الأصيل الذي تتكلم به الأشياء من خلالنا، إنها نبض الأشياء ووجودها الحي الناطق، إنها فعل وفعالية وعلاقة معقدة تربط الكائن الإنساني بنفسه وبالأشياء وبالطبيعة وبالكائنات البشرية الأخرى.
فكل ما يلج عالم الإنسان ويحقق شرطيته الإنسانية بتعبير حنا آرندت (الشغل، الصنعة، الفعل السياسي)، أو كل تلك الإبداعات المادية والرمزية التي تحقق حاجات الأفراد والجماعات وتنظمها الحياة الاجتماعية. لا تأخذ في اعتقادنا صورتها الإنسانية التامة إلا عن طريق الإبداع قولاً، أو ما نسميه خطاباً أو خطابات. إن هذه الأخيرة تمثيلات لفظية لواقع ما تشكل مصدراً للمعرفة بالذات وبالعالم وبالآخرين، تتأسس كمعايير، وتصير قادرة على تعمير كونية تخصها وحدها، بأن تستوطن أنظمة عقائدية، أو دينية، أو اقتصادية أو سياسية .. إلخ. إنها خطابات تقول واقعاً، تفسر كيف جاءت جماعة أو ثقافة ما من خلال التقاليد اللغوية التي تنقلها باعتبارها أشكالاً تكون تجارب فكرية نستطيع من خلالها أن نعمق فهمنا للوجود انطلاقاً من العالم المعروض فيها، والتطلع إلى ممكنات لم تتحقق بعد.
وبالعودة إلى التعريفات اللسانية، نجد الخطاب متصلاً بفعل التلفظ عينه، أي تلك الحركية التي تسيطر من خلالها الذات على الموضوعات، بل هو العلاقة بين الكائن الإنساني وحركية الوجود، مادام الوجود الجدير بالفهم هو اللغة كمعيار للأنظمة الفكرية في كل الثقافات، وعلى اعتبار أن الممارسات الإنسانية والتجارب المعيشة لا تتبلور إلا في اللغة. لقد تفطن معلم اللسانيات الحديثة (فرديناند دو سوسير) إلى هذه المسألة حينما جعل اللسان نسقاً من المعاني الخالصة، يسهم عنصران في وجوده: الأفكار والأصوات. فهذه الأخيرة مادة قابلة للتشكل والانقسام لأنواع الدال التي يحتاجها الفكر، بل ندفع بالقضية إلى حد القول بأن تلك التقطيعات والتمفصلات هي تقطيعات وتمفصلات الفكر عينه، تخرجه من الحالة السديمية، الكاوسية وتجعله متاحاً متحققاً كإشارات لغوية بواسطة الأفراد في زمان ومكان معينين.
فالتفكير يعمل داخل الترميز أي في خضمه حيث التلفظ هو مرجعيته ذاتها. والملفوظ المحقق والمنجز بأصواته وحروفه هو ما يعنيه معناه. وهذا الأخير معروض في سياقي الزمان والمكان، قابل لسرد قصة تكوينه في وسط تاريخي، ولغوي، وجغرافي هو محل إنتاجه.
من هنا، يحل الخطاب كتجسيد للوسط أو النظام الإنتاجي الكفيل بتوليده. فهو صورة مطابقة للسياقات الاجتماعية الخاصة بالظواهر الثقافية في مجتمع ما.
غير أن هذا الخطاب، وبمجرد أن يبتعد عن سياقه ومقامه الأصلي، فإنه يحجب الواقع ويجمد المعنى، متحولاً بذلك إلى نص مغلق ومجرد. إن امحاء المحور الإحالي المرجعي، يجعل النص عبارة عن أقنعة لصيرورات أخرى، تغدو عندها الكلمات مستعارة كوحدات متفردة أكثر جفاء، ذات معان ٳسنادية متعددة. إنه انتقال من مستوى المعنى إلى ما وراء المعنى وهو انتقال تكفله حرية ذات القارئ. النص هنا نقطة مشتركة تلتقي فيها ذات حاضرة تكون النص وتضفي عليه دلالات مشتقة من رصيد التجارب الخاصة بها (الذات). إن معنى النص أو دلالاته تنبثق من التفاعل بين عالمه وعالم القارئ، يتم من خلاله ضخ المعنى في تجربة الزمن حيث يتغذى من التأويلات والقراءات الراهنة كافتراضات خاصة.
وننبه على أن النص المجرد المنفلت من سياق التجربة المعيشة، هو نسق مفترض يشي بمختلف العوالم الدلالية الممكنة ذات الطبيعة الاجتماعية والفردية، فباعتبار النص محل التكهنات والافتراضات المستقبلية، فإنه مرتبط وثيق الارتباط بالممكن، وهذا يعني أن الماضي (المعنى الأصلي) لا صلة له بالممكن.لأن الماضي، بحكم لا رجعة الزمن، غير مرتبط البتة بالممكن، وما يعزز اعتقادنا هو مفهوم الضبابية و" نسبية الحقيقة في اللغة الطبيعية"(2). فالجمل والكلمات هي موضع الضبابية على اعتبار المساند (جمع مسند) تؤول إلى مفارقات تسلسلية تشي بمظاهر التوسع الدلالي.
ارتباطا مع النقط السالفة، نخلص إلى أن الخطاب يتحمله شخص يهدف إلى قول شيء ما، يكتسب قيمته داخل محيط سوسيو-ثقافي. أما النص (سواء كان شفوياً أو مكتوباً)، فإنه انشيال للخطاب وتحليق في فضاء اللامتناهي، ليست له إحداثيات مكانية زمانية. إنه مساحات وأشكال لا موضوع لها. ثم يأتي الحدث الذي يحين النص باعتباره خطابا، بواسطة ذات تتحمل المسؤولية التي تحددها وتسجلها في عالم من العوالم الممكنة. إن حدث التلفظ هنا مظهر من مظاهر التعديل يمكن وصفها على الأقل في شكل تسجيل في عالم من عوالم دلالية شتى. فدلالة النص هنا، لا تستمد مشروعيتها من النص ذاته، إنما من ذاتية القارئ. إن هذا الأخير يهب للنص مدلولا انطلاقا من محيط التجارب الموجودة بالفعل لديه. تولد هذه الصيرورة خطاباً خاصاً عن محيطه الحالي.
من هذه المنطلقات التحديدية، يغدو موضوع تحليل الخطاب هو الخطاب في مقامه الأصلي، أي معرفة وشرح الكيفية التي استكشفت بها الذات الواقع والآخر ونفسها مجدداً، حيث الخطاب بلحمته يجعل الحياة عملاً لغوياً. طبعاً ستكون الانطلاقة من علوم اللسان، لكن ينبغي كذلك الاستعانة بعلوم أخرى: المنطق، وعلم الاجتماع، وعلم النفس .. مادام الخطاب جدلاً متصلاً بين الذات وممارستها والآخر والشروط الاقتصادية والمجتمعية المحيطة بها.
بالنسبة لموضوع لسانيات النص فهو النص الخالص. أي حاصل جميع الأنساق الموظفة فيه كوحدة قابلة للوصف والتحليل باستقلال عن الشروط الخارجية. مع الهيرمينوطيقا سيتم توسيع حركية النص كوسيط نفهم عبره أنفسنا، بنقده وتنويره وتطويعه ليتماشى مع الحاضر وينفتح على المستقبل. حينها يتغذى من التأويلات وإرادة الفهم. فإذا كان النص يفتقر إلى المرجعية فإن تحيينه كخطاب يسمح بإعادة المرجعية في حال جديدة. وهذا بالضبط هو مهمة القراءة بصفتها تأويلاً.
الهوامش:
(1) جيل دلوز - فيلكس غتاري، ماهي الفلسفة؟، ترجمة ومراجعة مطاع صفدي وفريق مركز الإنماء القومي، مركز الإنماء القومي، لبنان، بيروت، ص39.
(2) روبيرمارتان، في سبيل منطق للمعنى، ترجمة الطيب البكوش وصالح الماجري، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ديسمبر2006، ط1، ص38.