في بحثه يسلط الباحث الضوء على كيفية التعامل مع التاريخ من قبل القوى السياسية والدينية والاجتماعية المختلفة، مما يعكس الصراع على الحاضر والواقع. ويخلص إلى أن الدين هو بمثابة سلطة روحية تمكن الحاكم من تدبير أمور الدولة والتحكم اللاسياسي في حركة المجتمع.

الدين والسياسة في ضوء التاريخ

هشام أعناجي

نتساءل من جديد عن أهمية الدين في تغيير أحوال الناس وفي إدخال السعادة الدنيوية إلى نفوسهم؟ نتساءل عن الحرية والعدل هل في الدين أم في السياسة؟

قد نحاول استدراك ما فاتنا من أجوبة عبر حرارة الثورات، وقد ننهزم بسبب برودة التردي والانقلاب، بل قد نهجر الاثنين ونركن في غرفة التاريخ لعل ذلك ينسينا الآفة(1) التي أصبتنا مجدداً مع توالي زمن الانفلات والركود!

يبدو بمنطق التاريخ أنه لا فائدة من إعادة الأخطاء بل من إعادة نفس الأسئلة التي سيطر الحدث في الإجابة عنها، والحدث عندنا هو الاستعمار فلا تطور لجواب تحت مظلة العبودية! لكن في ضوء التاريخ وحده ومن خلاله نعيد قراء الثقافة والسياسة والفن!

يقول المفكر المغربي عبد الله العروي على ضوء ما ذكرناه في المقدمة(2): "إن النقاش الملتهب اليوم في العالم العربي حول القديم والحديث، حول الثرات والمعاصرة، حول الدين والسياسة، حول القيم والمجتمع .. هو في العمق نقاش حول مفهوم التاريخ''. يضيف العروي ويتساءل سؤالاً جوهرياً مفصلياً لكل المشاريع النهضوية(3): ''ما الهدف من الانبعاث: الوفاء للماضي أو الانتقام من قسوة التاريخ، أم كسب موقع مناسب من أجل المساهمة الفعلية في حياة الأمم؟ بعبارة أخرى ماهي القيمة الأساسية لنظامنا الفكري والخلقي: الوفاء أم الإبداع؟''. أكيد ان هذه الاسئلة الموجهة والموجعة تحمل بين حروفها منهجاً سديداً في فهم الأوضاع وكشف الأوجاع، بل هي أجوبة خفية لمن استنار عقله بضوء التاريخ، أجوبة مختبئة تحت غبار التخلف توجد فقط في أعماق التاريخ، ونقصد هنا بالأجوبة المنهج لا الحلول كما يحلو للكثير من الحركات الرجعية تسميته!

من خلال حركة التاريخ يتبين لنا أن هناك معنيين للتاريخ، الأول طارئ ونقصد به الانفلات وتعلم الحيل لتجب الصراع، وهذا المذهب يركن اليه "أهل الجماعة"، وبعض الفرق التي تحتمي بالمال في عش الاستبداد، ويخدم الاستمرار الطبيعي للحكم تحت غطاء الدين. المعنى الثاني أصلي، وهدفه العبرة وتربية الارادة، وهو ما أقصد به روح التاريخ الذي يحارب من أجل البقاء في زمن "الوحوش الثقافية"، نركز على هذا المذهب في فهمنا للدين والسياسة إذ هو فلسفة للبحث والكشف، والتحدث عن هدا الخيار لا مفر من ذكر عملاقي التاريخ والفكر: ابن خلدون المغاربي، وميكيافيلي الايطالي، إذ من خلال استقراء نظرتهما للدين والسياسة نقترب أكثر من بناء منهج تحليلي للظاهرتين، بل إن القارئ العطف يستدل من تاريخ الدول أن الدين نافع لقيادة الجيش ومواساة الشعب (نموذج الدول التقليدية، دول الخليج والعالم العربي) وتشجيع الاخيار وردع المفسدين (تركيا وبعض الحركات الاصلاحية في العالم العربي)، إذن دور الدين في التاريخ البشري براغماتي بامتياز إذ به تحقق المصالح وتفتعل الحروب وهو روح السياسة، فتجد مثلا ابن خلدون يقول بأن العرب لا يحصل عندهم الحكم الا بصيغة دينية.

لكن في المقابل كما يقول ميكيافيلي في كتابه الأمير "بعد انهيار روما، أكبر وأمتن نظام سياسي عرفه التاريخ، وانهزام الرومان أفضل الناس أخلاقاً، لا يمكن للمرء أن يتنبأ بدوام أي عمل انساني" يعني أن السعادة لا تتحقق دائماً بالدين ولا تنتصر الأخلاق دائماً، والا فكيف سنفسر سقوط فلورنسا وبغداد كما سقطت الأندلس! بغض النظر عن أهمية الاستمرارية في الحكم فإن الرفاهية والعدل أساس الحكم، فهل يتحقق ذلك في دولة تحكم باسم الدين؟ لا أظن كثيرا أن الامر سيأخذ مساره الطبيعي في الانجاز ونرجح كلامنا بالرجوع إلى تاريخ ما بعد نموذج حكم الخلافة (لا نقصد بالنموذج هنا الأفضل بل مثالاً من بين أمثلة للحكم في العالم) حيث عادت الفوضى وانحطت الأخلاق فبدأ الحكم إمارة عادلة فتحولت باسم الدين إلى مستبدة "حكم معاوية وما ترتب عنه"، لا نريد هنا فقط ذكر الحدث بل البرهان على العودة الى براهين الدولة الدينية كيفما كانت شكلية، وطريقة الحكم سيؤدي حتما إلى أصولية تحكمية باسم "المطلق" لا تقل ضررا من استبدادية الحكم الانفرادي باسم الحزب الوحيد، وهذا الأمر بالتأكيد يطرح إشكالية الأسس الأخلاقية والأفكار المرجعية في بناء الدولة في المجتمعات العربية بين القطيعة الجذرية مع التراث التاريخي والحضاري أو الوصل المطلق المتماهي معه، وبين جمود فقه سياسي سلطاني متجاوز، وقد تبلور ذلك عند الباحث في العلوم السياسية سلمان بونعمان(4) في اختيارين اساسين: الأول يعتقد أن الحل هو في بناء الدولة الحديثة وفي الاستناد الى العلمانية باعتبارها مرجعية نهائية للدولة، بينما الثاني يرى في ارتباك الدولة العربية في تطبيق الشريعة والحل يقتضي الضغط عليها شعبيا (في قضايا مرتبطة بالهوية، مثال مدونة الأسرة بالمغرب، حيث نزلت حركتين اسلاميتين الى الشارع) أو عبر العملية الانتخابية وتكريس حضور الدين في العملية السياسية، لكن اليوم لابد أن نشير إلى الدور الدي لعبته الحالة الانقسامية في الفكر والسياسة وفي الثقافة عامة والإعلام خاصة حول ثنائية الديني والسياسي (الانتفاضات التي عرفها العالم العربي منذ 2011) حيث قزمت الأدوار الطلائعية للانتفاضات وعمقت الشرخ بين الديني والسياسي، وهنا نتساءل إذا كانت الدولة المدنية تعكس مضمون "ضد الدولة العسكرية" فلماذا لم تقدم أي نموذج للحكم لحل اشكالية الديني والسياسي؟ لدي يقيني غير جازم في حقيقة الأمر أن ليست هناك دولة مدنية بل هناك حالة مدنية تسري في عروق الدول الحديثة عبر مؤسساتها وتشكل بذلك نمط عيش المجتمع، بالتالي تتحول الى ركن من أركان هويته. لا نجزم بهذا الكلام القطع مع دور الدين بل نقول أن أحد تمثلات هذا الدين التي يجب أن تكون هي إذكاء روح المدنية في الحياة العامة ودعم كل ما هو مدني. لذلك نجد هذا التمثل في تصوير الاوروبيين(5) للدولة مماثلة للجسم البشري، فرجال الدين هم الرأس والحاكم هو القلب، والجنود هم الأذرع والمزارعون هم الأقدام، قد لا نتفق مع هذه الطريقة في التصوير لكن الذي يهمنا هو الدور الذي أعطي للدين، وقد لا نستبعد هذا التمثل لكن في تصوير آخر (الحديث النبوي "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد ..).

يمكننا أن نخلص إلى أن الدين مهما يكون مضمونه أو طريقة العمل به في الحكم فهو بمثابة سلطة روحية يمارسها الحاكم في تدبير أمور الدولة وقد يصل به الأمر، أي الحاكم، إلى التحكم في حركة المجتمع (نموذج السعودية: لا تعددية ولا أحزاب، إنها دولة أوهمت شعبها وأرغمته على طاعة الاستبداد، كما تؤثر هذه الدولة على باقي العرب كأنها تحمل حق الفيتو في أمورهم السياسية والدينية للآسف.. متى ستغير السعودية من سخافتها السياسية، وتتحرر من انسداد أفق الفكر الديني لديها؟

الهوامش

(1) رواية الآفة لعبد الله العروي تكشف الغموض الثقافي عند العرب وعن أزمتهم التعليمية في فترات تاريخية.

(2) المشاريع الإصلاحية التي ظهرت بعد هزيمة العرب 1967 على الكيان الاسرائيلي.

(3) من كتاب ثقافتنا في ضوء التاريخ للمفكر عبد الله العروي.

(4) انظر ص108ــ109 من كتاب «أسئلة دولة الربيع "العربي" نحو نموذج استعادة نهضة الأمة للكاتب سلمان بونعمان.

(5) هذا التصوير المقارن مأخوذ من فصل "الخلافة والدولة" في كتاب عالم المعرفة "الاسلام والغرب" لـ أنتوني بلاك.