تغرق غزة بالدم، ولكنها لن توقع أحبابها في مصيدة البكاء المر، فمن يعرف غزة حق المعرفة لن يبكيَ عليها ولا على نفسه ولا على القتلى (الشهداء عند ربهم) وليس عندنا؛ لأننا حتما سنضيّع دماءهم كما ضيعنا دماء إخوانهم في حربين سابقتين، ودماء كل المناضلين والمجاهدين في فلسطين ليس فقط في التاريخ الفلسطيني المعاصر (1917) واطلع، بل منذ عهد أعمق في التاريخ!
لا أحد يبكي على غزة لا جرحا ذاتيا ولا جماعيا، فغزة تجلى بدمائها لأنها أصبحت فائرة الغضب، وهي تدفع ما زاد عن احتقانها في ظل صمت عالميّ ليس مخزيا بالمرة، لأنه طبيعي!
لا بد من أن تكشف غزة عن عزتها لتبدو أقوى وتسقي جذورها بالدماء لأنها ستصبح جذورا ممتدة في العمق وأغصانها في أعلى عليين... ليس كلام إنشاء مزوق، ولا تعزية إنها الحقيقة (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ)!
غزة ليست قصيدة عابرة في كلام العابرين، ولا لطمية اللاطمين، ولا مطية اللاهثين وراء زعامة تجرّ أذيال خيبتها العربية، إنها أكبر من سفر خلود في أرض الخلود، إنها العصية المستعصية القاتلة بنزفها الطهور كلَّ رجس متخاذل مهووس بالخروج الإعلاميّ المقيت!
غزة ما زالت كما كانت مذ فجّرها الوقتُ غزةَ، لا تغير أمرها، ولا يتحولُ ناسها عن فطرتهم التي كانوا عليها، أشداء على المحتلين، رحماء بينهم، تراهم قابضين على الجمر، مشتاقين للموت حِراصا على خوض المعارك، حرص الآخرين على النوم في سعار الفنادق، بيوتهم خنادقهم، وليلهم نهارهم، لا يضيئهم سوى الإصرار والحق المبين!
غزة الحياة، ومقبرة الغزاة، غزة البحر، الممتدة الأفق الذي لن ينكسر له خاطر ما دامت تسقي التراب نجيع الشرايين، فمن هذا المتصابي الغبيّ الذي يجرؤ على البكاء على غزة؟ إنها المدينة الوحيدة التي لا تفرّخ المخنثين النسوانيين، وحدها الجامعة زهور الأطفال في سلال الورد لتقدمها قرابين للبحر والأغنيات!!
من قال إن غزة تبحث عن نائحات لتبكي في جنائزها؟ إن غزة تخوض المخاض الأحمر الدموي كل حين ليولد المارد من جديد، ولتتزين عروسا بأبهى حلتها بعد أن تخرج من طقوس التعميد الطهورة فتصير أجمل وأنقى وأبهى!
أيها الجاهلونَ حقيقة المدن الأساطير، تدبروا جيدا لتعرفوا غزة! إنكم بعد لم تعرفوا أسماءها!!