يرى الباحث عبدالغني عماد أن دور الشيعة في لبنان لم يكن يمثل هذه الأهمية التي يحتلها اليوم، ولم يكن بالتالي يستقطب ذلك الكم من الدراسات والاهتمام الإعلامي والسياسي، ليس على الصعيد المحلي والإقليمي فقط، بل أيضًا على الصعيد الدولي، وهو اهتمام أخذ بالازدياد والتوسع خلال الحرب الأهلية في لبنان وما نتج منها من تضخم لدور الميليشيات من جهة، ولاحتلال الجنوب اللبناني من قبل جيش الاحتلال الصهيوني من جهة ثانية، الأمر الذي أدى إلى بروز دور جديد ومؤثر لـ "حركة أمل" في العديد من المحطات العسكرية للحرب اللبنانية، وإلى انبثاق المقاومة الإسلامية التي قادها "حزب الله" لتحرير الجنوب.
وعلى خلفية الأحداث والتحولات الهائلة في لبنان والمنطقة، كانت ولادة "حزب الله" خلال السنوات الأولى من عمره، 1982 - 1985، ولادة أمنية وعسكرية، مدشنًا بذلك مواجهته للاحتلال الصهيوني في منطقة خلدة جنوب بيروت، فتشكلت نواته الأولى من مجموعات علمانية ولجان إسلامية، ومستقلين، اجتمعت لمواجهة الاحتلال الصهيوني الذي أصبح على أبواب بيروت.
وكانت البداية سرية والعمل التنظيمي يجري تحت الأرض، والقيادة غير معلنة، وسميت في البداية بـ "مجلس الشورى" الذي انكب على تنظيم أعمال المقاومة الإسلامية والتنسيق بين مجموعاتها، وكان يتألف من 12 شخصًا أغلبيتهم من رجال الدين.
ولقد تأخر الاعتماد الرسمي لاسم "حزب الله" حتى أيار/ مايو 1984 حين أنشئ مكتب سياسي للحزب، وتقرر إصدار صحيفة أسبوعية هي "العهد".
ويحدد "حزب الله" ويشرح في انطلاقته، بلسان الناطق باسمه السيد إبراهيم الأمين، خلفيات وأبعاد "الرسالة المفتوحة"، فيقول إنها تتضمن ثلاثة عناصر الأول يتمثل في أنهم يعملون "من منطلق بنية عقائدية كاملة"، وأنهم أصحاب رسالة يجب أن تعم العالم حتى تعيش الإنسانية مبادئ وتشريعات وأخلاق القرآن، والثاني يتمثل في العنصر السياسي الذي يفرض "دخولنا حالة صراع مع كل التجمعات البشرية التي ترفض أن تتعامل مع الإسلام كرسالة للحياة".
يؤرخ "حزب الله" نشأته عام 1982 مع أول عملية استشهادية قام بها أحمد قصير ضد مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي في صور، مع أن البيان الرسمي لقيام الحزب لم يعلن إلا في 16 شباط/ فبراير 1985 في ذكرى اغتيال الشيخ راغب حرب الأولى على يد القوات الإسرائيلية.
فرض توسع قاعدة "حزب الله" وانتشاره في التجمعات الشيعية الرئيسة بدايةً في البقاع، ومن ثم في ضاحية بيروت والجنوب، وجوب إقامة هيكلية تنظيمية لقيادة التنظيم وتوجيهه وإدارته. وحافظت البدايات التنظيمية في سنواتها الأولى على السرية وبتوجيه من الحرس الثوري الإيراني، وفق نظام ذي هرمية واضحة، ترأسها مجموعة من رجال الدين المعروفين، كانوا يظهرون علنًا في المقابلات والصحف اللبنانية والأجنبية، لكنهم حرصوا على عدم كشف مناصبهم ولا مواقعهم في النظام الهرمي الذي يعملون فيه.
على مستوى الهيكلية التنظيمية العامة، استقرت على مبدأ القيادة الجماعية بدلاً من القيادة الفردية، وأطلق تسمية "الشورى" على هذه القيادة، وأُقر نظام داخلي يحدد عدد أعضاء الشورى وصلاحياتها على أن يتم انتخابهم من قبل الكوادر الأساسية للحزب الذين يشغلون موقع مسئول قسم وما فوق، ومن ثم تتولى الشورى انتخاب أمين عام من بين أعضائها.
ويستخدم "حزب الله" آليات فاعلة لضبط وإدارة مجتمعه التنظيمي وإبقاء جذوة التعبئة حول خطابه العقائدي والسياسي متّقدة، بما يؤدي إلى تصليب وحدته وتفعيل حركته. وتتمثل أهم هذه الآليات بالتشديد الدائم على دور المرجعية الدينية والولاء لزعامتها الجديدة المتمثلة بالولي الفقيه، التي ترى وفق المنظور الخميني أن دور العلماء مماثل لدور الأنبياء والأئمة، وأن عملهم لا يقتصر على المسائل الحسبية وبيان الأحكام، بل يتصل بالقضايا الاجتماعية والسياسية، كما أنه لا يقتصر على "البيان" فقط، بل يشمل حقل التطبيق والممارسة.
ونجح "الحزب" في استثمار آلته الإعلامية بشكل فاعل، ونجح في توظيف تقنيات الصوت والصورة إلى أبعد الحدود في عملية التعبئة والحشد لثقافة المقاومة والثقافة الدينية، وتغطية وتعميم الأنشطة الكثيفة في مشهديه بصرية تستخدم تقنيات حديثة لترويج الموقف السياسي وتعميم المشروع والخطاب.
ويري الكاتب عبدالغني عماد أن المشهد السياسي الشيعي اليوم يعيش حالة من المخاوف ناتجة عن الانسحاب العسكري الأمني السوري والتي عمدت الشيعية السياسية على توظيفها بفعالية لتحويلها إلى هواجس تم تضخيمها بعد حرب تموز 2006؛ إذ انتشرت بعدها تحليلات تتحدث عن أهداف هذه الحرب والتي كان على أجندتها اقتلاع الشيعة وتهجيرهم ونفيهم إلى مناطق خارج لبنان. يذكر أن دراسة عبدالغني عماد صدرت عن وحدة الدراسات المستقبلية بمكتبة الإسكندرية العدد العشرون من سلسلة "مراصد"، تحت عنوان "حزب الله: إشكالية السياسة والمقاومة في مجتمع متنوع"