يقرأ الكاتب الفلسطيني قصة قصيره جدا للقاص المرموق محمود شقير الذي يعد من القلائل في فلسطين ممن يكتبون في فن القصة القصيرة جدا ويوضح أن تلك القصة تظهر الاتزان و الحكمة التي لا تبرح جنبات كاتب ومفكر ومثقف ومجرّب.

الكبار والكتابة عن الحبّ

قراءة في «حبّ» للكاتب محمود شقير

فراس حج محمد

النص:

لم يقل لها مرة واحدة: أحبك، فهو يكتفي بالنظر إلى عينيها، وبين الحين والآخر يمدّ أصابعه بحنو يسوّي خصلات شعرها التي تبعثرها ريح المساء دون استئذان.

لم تقل له مرة واحدة: أحبك، فهي تكتفي بالسير صامتة إلى جواره، وفي الصباح التالي تأتي وحيدة تلملم آثار خطواتهما خوفاً من قسوة المارّة، ثم تعود وعلى رأسها سلّة كبيرة لا يدري أحد ماذا خبأت فيها.

الكاتب:

من أعلام القصة القصيرة، ليس في فلسطين وحسب، بل تعدت شهرته الوطن العربي ووصل إلى العالمية من خلال ترجمات متعددة لبعض أعماله، بالإضافة لمشاركاته المتعددة في الورش الإبداعية في مجال السرد على مستوى العالم، كما يتميز شقير بالكتابة للأطفال، قصصا وحكايات وروايات قصيرة، ينشر بشكل مستمر شهريا لمجلتي الزيزفونة المخصصتين للأطفال، وتصدران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل في رام الله.

 يعدّ الكاتب محمود شقير من الكتاب القلائل في فلسطين ممن يكتبون في فن القصة القصيرة جدا، وتجاوزت كتبه المطبوعة أكثر من (40) كتابا منوعا في شتى الفنون النثرية.

وقفة مع النص:

لعلّ الكتابة في موضوع الحبّ أمر محبب ولطيف، ويستهوي الكتّاب كبارا وناشئين، ولكنّ الكبار عندما يكتبون عن الحب يكتبون بنفَس آخر مختلفٍ جدا عن الكُتاب الناشئين الذين يبهرجون ويعظمون ويشطحون، ليس بالضرورة للفت الانتباه إليهم، ولكنّ مشاعرهم فائرة هائجة مشتعلة مما يجعل كتابتهم في هذا الموضوع مختلفة جدا مزاجا وتركيبا وإحساساً.

وأما شقير هذا الكاتب الناضج شعورا وفكرا وسنّا ستكون كتابته عن الحب بنمط وشعور مختلفَيْن، سيظهر ذلك الاتزان وتلك الحكمة التي لا تبرح جنبات كاتب ومفكر ومثقف ومجرّب كالأستاذ شقير، ولذلك تجد أن الكاتب استخدم السرد الهادئ اللطيف المكتنز بعواطف جياشة كبيرة، تبين وتستبين بهدوء ورزينة، إن هؤلاء الكتاب يعرفون مآلات هذه اللفظة، ولذا تجد ذلك منعكسا على شخصياتهم القصصية والروائية، فليس شرطا وليس مطلوبا أن يظل الشخص مرددا كلمة "أحبك" بل إن للحب دلالاتٍ توضحه، وترسمه، فهذا الحبيب الوارد في هذا النص لم يقل لحبيبته ولو مرّة واحدة "أحبك"، ولكن يعيش الحب فعلا بطقوس وأفعال هي لا تصدر إلا من حبيب، يتأمل عينيْ محبوبته، وفي العينين والنظرات تكتمل كل قصص العشق، وهناك تظهر مشاعر المرء الحقيقية، فمن العينين يبدو المحب أو الكاره أو المخادع، كما أنه وبين الحين والحين يمسد شعر محبوبته، فيفرح الكون والنسيم فيلاطف تلك الخصلات مع الحبيب وكأن القصة ترسم تلك الأجواء الرومانسية ومشاركة الطبيعة للحبيبن طقوس عشقهما.

وبالمقابل فإن الحبيبة هي مثل حبيبها، لم تقل له مرة واحدة "أحبك"، ولكنها تعبر عن حبها بطريقتها، تكتفي بالسير صامتة إلى جواره، إن هذا الصمت ليس ذلك الصمت المخيف المرعب، الذي يسلب المرأة حقها في الكلام والتعبير، ويدخلها في أجواء التسلط والتجبر، بل هو الصمت المتسق مع طبيعة تلك المرأة الخجولة، وتبدو المرأة الحبيبة هنا حريصة على هذا الحب وهذه العلاقة من أن ينوشها كلام الناس، فلذلك تأتي في الصباح لتلم بقايا خطواتهما الخجولة.

بناء القصة:

يبني محمود شقير قصته القصيرة جدا هذه موظفا ضمير (هو/ هي)، والفعل المضارع في سرد الأفعال التي شكلت عصب القصة، وجاءت الأفعال كلها متتالية سردية لتعبر عن الفكرة؛ إذ إن القصة هي قصة فكرة في الدرجة الأولى، وليست قصة أحداث أو شخصيات.    

كما أن الكاتب يمنح الشخصيتن مساحة واحدة في السرد، فـ(هو) له فقرة واحدة مستقلة في السرد، وهي لها فقرة أخرى محددة، موازنا بين أفعال الطرفين، وخاصة في البداية، موظفا الكاتب عمليا مساواة فنية بين المرأة والرجل، تلك المساوة التي يؤمن فيها واقعيا وفكرياً، وعليه يمكن للدارس أن يقرر أنّ للشكل أحيانا حدودا فكرية ومعنوية، وليس مجرد بناء عشوائي.

ويختم القاصّ قصته بنهاية فيها كثير من الدهشة والتعلق القلق بأسئلة، أهمهما ماذا كان يوجد في تلك السلة التي تحملها تلك المرأة على رأسها؟

توحي هذه النهاية بتلك الكيفية، إلى ما اعتادت عليه النساء في فلسطين، وذهابهن إلى حقولهن صباحاً لجني بعض الثمار كالتين والعنب، فهل كانت تلك المرأة - الريفية على ما يبدو- تتابع مشاهد كانت أمس، فتلمّ ذكرياتها القريبة وطقوسها، فتحملّها تلك الثمار الناضجة كهذا الحب الهادئ الرزين؟ إن ذلك مجرد تفسير لنهاية خصبة في دلالاتها، ولن أتمحل تفسيرا وتأويلا كثيرا بعيدا أو قريبا، ولكن شيئا من حياة شقير وطبيعتها قد يكون نافعا في مثل هذا التفسير.  

وأخيرا أشير إلى أن هذه القصة القصيرة جدا ربما ذكرتنا بما ورد في رواية أحلام مستغانمي "الأسود يليق بك"، إذ تقول الكاتبة في روايتها في الصفحة (182): "دافع كبار العشاق عن شرف الكلمات البكر التي خُلقت لتلفظ مرّة واحدة، فبالنسبة لهؤلاء كلمة "أحبك" حدث لغوي جلل"، وبذلك يكون شقير كبيرا بكتابته عن حبّ الكبار، كيف لا وهو الكاتب الكبير فعلاً؟

 

القدس المحتلة