ينشر باب علامات في هذا العدد نصاً يستعيد من الذاكرة التاريخية العربية السيرة الذاتية لخير الدين الأسدي: شخصية مفردة في التاريخ البحثي والأدبي والصوفي لمدينة حلب خاصة وسورية عامة.

خير الدين الاسدي عاشق حلب

نـبـيــل سـلامة

مقدمة

قد يتساءل المرء، هل ثمة ملائكة في ثياب بشر؟!

قد تصعب الإجابة، لأن البشر مزيج من الغرائز الحيوانية، واللواعج الإنسانية، والأشواق الإلهية. ومن أراد منهم التصرف كملاك ينتهي ليتصرف كحيوان، لأنه تجاهل طبيعته الإنسانية التي هي ليست بالملاك ولا بالحيوان، كما كان قد أشار باسكال المتصوف الرياضي!!

وعلى هذا، يظهر أحياناً أناس لهم طبيعة الملائكة، فيعبُرون فيما بيننا كالنسيم، بالكاد يتركون أثراً لخطواتهم الرقيقة، بالكاد نسمع لهم جَلَبَة أو ضوضاء!!

مع العلاّمة خير الدين الأسدي أشعر أني قريبٌ من ملاك هادئ يفيض قلبه نوراً. فهو، وإن اخترق الحزن قلبه مرات ومرات، كان أولها طلاق والدته ثم وفاة والده ثم والدته، وأخيراً خسارته لأسهمه في معمل النسيج!! كما نال الألم منه حتى الصميم حين بُتِرَتْ كفه اليسرى، ومع ذلك، لم ترتفع منه كلمه «آه». وأكثر من ذلك، فقد تطاول عليه بعض أبناء أحياء حلب بإهانته والسخرية منه، ولم ترتفع منه كلمة شكوى أو تذمّر. ورغم هذه الإحباطات الهائلة التي حاقت به، فقد أكبّ على عمله وبحوثه حتى أراق دم قلبه في موسوعته الكبيرة «حلب المقارنة».

عاش وحيداً، ومات وحيداً، تاركاً لنا أنغاماً علوية تصدح في رائعته «أغاني القبة». فلتكن ملائكة الله معه.

سيرة حياته [1]

ولادته وأبواه

وُلِدَ محمد خير الدين الأسدي عام 1900م في حي الجلوم الواقع داخل السور، وهو واحد من أقدم أحياء حلب. أبواه حلبيان هما الشيخ عمر رسلان «أسد»، واسمه شماع. أما والدته فكانت من أسرة كلها تجار، أما والده فكان من رجال الدين، وعمل أستاذاً للصرف واللغة العربية في المدرسة العثمانية الكائنة في باب النصر والمدرسة الخسروية الكائنة بالقرب من مدخل القلعة.

تعليمه

تلقى خير الدين تعليمه الأول في «مكتب شمس المعارف» الذي أنشأته الحكومة العثمانية قرب القلعة عام 1904، وكان عدد طلابه آنذاك لا يتجاوز السبعين طالباً وفيه تُدَرَّس اللغات العربية والتركية والفارسية والفرنسية والإنكليزية. أما التركية فكانت اللغة الرسمية الأولى، والعربية لغة ثانوية. وكان الطفل يلبس الطربوش على الرغم مما يلاقيه من اللوم والاستنكار لهذا الزي. وفي عام 1907 تم تأسيس المدرسة العثمانية أو الرضائية.

وكان الأسدي يتردد على العثمانية بين الحين والآخر كطالب مستمع حيث كان يعلّم والده، ثم ما لبثت أن أصبحت كعبته يدرس فيها العربية ويتبحر، وقد ضمت المدرسة العثمانية فحول العلماء في النحو والبلاغة والفقه والتفسير والحديث وأصول الدين، وكان أبرزهم الشيخ بشير الغزي للنحو، والشيخ محمد الزرقا للفقه وعلوم الدين، وكان خير الدين يتابع تحصيله بشكل رسمي في المدارس التركية حتى بلغ «الرشدية» التي تقابل الثانوية اليوم. إلا أن والده الشيخ عمر أخرجه نهائياً من الرشدية وألحقه بالمدرسة العثمانية فأعطي غرفة فيها وأصبح مجاوراً كسائر المجاورين الذين نزلوا فيها.

ثم ما لبث أن تابع تحصيله العلمي معتمداً على نفسه بالمطالعة الخاصة. وكانت أمه تنفق عليه بسخاء وهو يشتري الكتب، حتى أسس وهو في العشرين من عمره مكتبة ممتازة ساعدته على التبحّر في جزئيات المسائل النحوية واللغوية.

العلاقة بين الوالدين

لم تكن العلاقة بين الشيخ عمر وزوجته ودية صافية على ما يبدو، ولهذا كان لا بد أن تتوتر الأجواء في العائلة بين الحين والآخر، إلى أن انتهت أخيراً إلى الطلاق، وتلك أولى الصدمات التي تلقاها خير الدين وهو في سن المراهقة. وحتى خلال سنيّ الطفولة الأولى كان الشيخ عمر كثيراً ما يترك البيت في رحلات إلى الأماكن المقدسة ليقضي فريضة الحج ويمكث فترة إلى جوار قبر الرسول(ص)، لقد كانت أمنيته الكبرى أن يجاور حبيبه محمداً(ص)، وقد تحققت هذه الأمنية بعد زواجه الثاني حيث بقي مدرساً في الطائف سبع سنوات عاد بعدها إلى حلب عام 1937.

ودفع اعتزاز الوالد بالعربية وشغفه بها إلى تغيير كنية العائلة من «رسلان» إلى «أسد»، ورسلان كلمة تركية تعني أسد، وأضاف خير الدين إليها ياء النسبة في تصدير مؤلفاته فأصبحت «أسدي».

ولم تلبث أن تزوجت والدته وانتقل الفتى مع أمه ليسكن معها في حي العقبة. وعلى هذا التل كان يقف الساعات مستشرفاً بساتين حلب الممتدة حتى جبل الشيخ محسن.

خصال الأسدي

استطاع الأسدي أن ينهل الثقافة الشعبية بالمعايشة، وبحكم ولادته في حي شعبي. ونشأ بالتالي نشأة عربية سليمة، وقد دعي مرة إلى الاشتراك مع لجنة لتتريك أسماء القرى العربية فأبى. وكان عصامياً يبني نفسه بنفسه، وينفق كل ما يكسبه في شراء الكتب واقتناء التحف منذ حداثته، حتى أسس مكتبة تعد من أضخم المكتبات الخاصة في المدينة أشار إليها الفيكونت دي طرازي في كتابه بقوله: «تعد مكتبة الأسدي العصامي من أكبر الخزائن في سورية ولبنان»، وبدأت تتحصل لديه ثقافة موسوعية أهلته للتدريس في مدارس عديدة.

ولما نزح الأتراك عن البلاد كان من أوائل معلمي اللغة العربية، وكان يُرْغِم طلابه على التحدث بالعربية الفصحى. ولم تفرح البلاد طويلاً باستقلالها، إذ سرعان ما ران عليها الاستعمار الفرنسي.

عمله

بدأ حياته التدريسية معلماً في المدرسة «العربية» في عام 1918م التي اشتهرت بدقة نظامها، ثم علم في المدرسة «الشرقية» ثم في المدرسة «الفاروقية»، وخلال هذه الفترة ألف كتابه المدرسي «قواعد الكتابة العربية» عام 1341هـ.

في عام 1922م كان أول من خلع الطربوش قائلاً: "لم يسبقني إلى خلعه أحد، وكان الناس يتغامزون ويقولون أنني جننت، ويقول آخرون: هذا كفر وزندقة".

وكان به ميل إلى المسرح والتمثيل، فأنشأ لطلابه مسرحاً، وفي عام 1923م قرر إخراج مسرحية «الاستقلال»، فقد كان لا يعدم وسيلة ينمّي بها في طلابه حب الاستقلال والحرية، ويزرع بذور الثورة على الاستعمار في قلوبهم، وبدأ تدريب طلاب المدرسة الفاروقية على المسرحية، وفي يوم العرض وضع في كيس كمية من البارود الذي يستعمله الأطفال في مسدساتهم، وأخذ يوزعه على الطلاب قبل ظهوره على خشبة المسرح حرصاً على أن يكون جو المعركة أقرب إلى الحقيقة، وفجأة انفجرت في يده قطعة من البارود أدت إلى التهاب الكيس بأكمله، وأصيب في يده كما أصيب بعض الطلاب. لكنه طلب من طلابه إكمال العرض، ثم أغمي عليه. وبعد أيام كان قد فقد كفه اليسرى بعد مداواة فاشلة.

كانت هذه الحادثة انقلاباً في حياته، فازداد عكوفاً على البحث، وانطواءً على نفسه، وانسحب إلى مكتبته التي كانت تنمو بسرعة يعبّ فيها خلاصة الفكر وجوهر الحقائق. وقد ترك التدريس في الفاروقية نهائياً بعد الحادثة مباشرة.

وأخذ يدرس اللغة العربية في مدرسة «الهايكازيان» الأرمنية حيث لقي فيها التقدير، وعرَّبَ مع زميل له (تشيستويان) ملحمة عروج أبي العلاء للشاعر الأرمني اسحاقيان، ثم ما لبث أن تعاقد أيضاً مع الكلية العلمانية (اللاييك) التي سميت فيما بعد المعهد العربي الفرنسي.

وفاة والده

في عام 1940، وخلال الحرب العالمية الثانية، توفي والده الشيخ عمر، وقام ابنه بواجب الدفن، وقد دفعته هذه الحادثة للتأمل في الموت.

بيع مكتبته

مرض الأسدي عام 1945 مرضاً خُيِّلَ إليه فيه أن الموت قريب منه، فقرر أن يهِبَ مكتبته لمؤسسة خيرية تعوله لقاءها، فأقنعه العديد من المسؤولين هناك مثل المحافظ ورئيس البلدية ومدير دار الكتب الوطنية آنذاك الشاعر عمر أبو ريشة، بتقديم مكتبته إلى دار الكتب الوطنية بحلب لقاء مرتب شهري يحدده هو فاشترط أن تُسْنَدَ إليه وظيفة قيّم فرع الاختصاص ليرشِدَ الباحثين والمؤلفين إلى المراجع، وأن يتقاضى لقاء ذلك مرتباً شهرياً قدره 250 ل.س، فاتُّخِذَتْ الترتيبات لنقل المكتبة إلى دار الكتب الوطنية عام 1946، وبعد مدة شجر خلاف بينه وبين رئيس البلدية، فأُقِيلَ من وظيفته وظل يعيش على هبة المكتبة وما يأتيه من تدريس بضع ساعات يُكَلَّفُ بها. ثم ما لبث أن حُرِمَ من هبة المكتبة (هذا المبلغ الضئيل). وذلك بموجب قرار من المجلس البلدي عام 1963 بحجة أنه أخذ تعويضات توازي أو تفوق قيمة المكتبة.

رحلاته

رحلته الأولى

كان الأسدي شديد الولع بالآثار والرحلات، ففي عام 1946 انتقل مع والدته إلى داره الجديد في حي سيف الدولة، وفي نهاية نفس العام في 6/12/1946 قام برحلته الأولى إلى فلسطين ومصر، فزار القدس ومدناً أخرى، وذهب عن طريق القنطرة براً إلى مصر فزار القاهرة والإسكندرية ثم عاد إلى فلسطين ثانية، ومنها إلى بيروت منهياً رحلته في 26/1/1947.

وفي رحلته العلمية هذه، تردد على خزانة يوسف باشا الخالدي في القدس، وعلى دار الكتب المصرية في القاهرة، حيث اعتكف مع أمهات المخطوطات في عدة خزائن، بما في ذلك خزانة بلدية الإسكندرية في الإسكندرية.

الرحلة الثانية والثالثة

في العامين التاليين، زار تركيا مرتين، الأولى بدأها في 2/9/1947، فركب القطار من حلب، وزار إزمير وأنقرة واستانبول ثم عاد منهياً رحلته في 1/10/1947.

في السنة التالية عاد مرة أخرى إلى تركيا بين 12/8/1948 و3/9/1948 لاستكمال بحوثه والاطلاع على المخطوطات، فزار قونيه وبورصه واستانبول، ويمكن اعتبار رحلتيه إلى تركيا رحلتين علميتين، ويتبين لنا ذلك من ثبت الخزائن (المكتبات) التي كان يتردد عليها.

الرحلة الرابعة

كانت هذه الرحلة إلى العراق وإيران. وقد سافر براً عن طريق أبي الشامات بتاريخ 10/9/1949 ودخل إيران بتاريخ 22/9/1949 وعاد بالقطار إلى حلب بتاريخ 18/10/1949. زار العديد من المكتبات والأماكن الأثرية والخزائن الزاخرة بالمخطوطات، والتقى بشخصيات علمية كعلي كاشف الغطاء، وزار مدينة طوس على الحدود الهندية، وقبر هارون الرشيد فيها، بالإضافة إلى العديد من الخزائن التي زارها في العراق وإيران.

الرحلة الخامسة

زار فيها يوغسلافيا وهنغاريا وبلغاريا والنمسا وألمانيا، كما زار اليونان وقبرص. وكانت رحلة عام 1956 إلى النمسا مشتركة مع طلاب كلية الهندسة بجامعة حلب بالسيارة، وفي استانبول فضّل العودة بباخرة تركية تجوب الشواطئ بين استانبول وإسكندرون،. وقد اتسمت هذه الرحلة بالطابع السياحي واستطلاع الآثار. وكثيراً ما كان يتأخر انطلاق السيارة في انتظار الأسدي الذي يكون مشغولاً في تملّي قطعة آثار أو مشاهدة رقصة شعبية.

الرحلة السادسة

إلى شمال إفريقيا وإسبانيا. وقد زار فيها طرابلس الغرب، تونس، المملكة المغربية، إسبانيا، ومالطة. وهي رحلة علمية زار خلالها عدة خزائن، منها خزانة الأوقاف في طرابلس الغرب.

الرحلة السابعة

إلى إفريقيا والحجاز. زار فيها السودان، الحبشة، اليمن، الحجاز.

غادر دمشق بالطائرة إلى الخرطوم في 7/3/1959، حيث مكث أربعة أيام ثم عاد إلى القاهرة، ومنها انطلق إلى أديس أبابا في 17/3/1959، ومنها إلى مطار تعز في اليمن، وبعد أربعة أيام اتجه إلى جدة في 6/10/1378هـ، ومنها إلى مكة المكرمة إبان تأدية فريضة الحج، ثم غادرها إلى المدينة المنورة لينطلق منها إلى بيروت في 12/10/1378هـ، منهياً رحلته في 22/4/1959 بعودته إلى حلب.

اتسمت هذه الرحلة بالتنقل السريع واختصار الوقت بالانتقال بالطائرة، وذلك ليتوفر له زيارة بعض القبائل الإفريقية والشخصيات العلمية ودور الصحافة والخزائن.

وكانت هذه رحلاته، هذا عدا زياراته المستمرة لربوع سورية والأردن ولبنان وتردده على مكتباتها وأعلامها وأماكنها الأثرية. وكانت أغلب رحلاته تأتي في الأشهر الأخيرة من السنة –خلال الصيف– وذلك يشير إلى أنه كان يعمل طيلة السنة في التدريس ليجمع ما يمكّنه من القيام برحلة علمية تكون دعماً لمباحثه الكثيرة. وكان كثيراً ما يقتصر على القليل من الطعام ليتسنى له دفع أجرة الفندق أو بقاء مدة أطول إلى جانب تلك المخطوطات.

وفاة والدته

بعد انتهائه من رحلته الرابعة، في عام 1951 أصابت الأسدي صدمة قاسية بوفاة والدته، وهي رفيقة درب امتد أكثر من خمسين عاماً. وحزن عليها حزناً شديداً.

وفي هذه الفترة أصدر كتابه «حلب: الجانب اللغوي من الكلمة». أما العمل في موسوعته الكبرى (موسوعة حلب المقارنة) فكان يستغرق أوقاته كلها.

أحداث أخرى في حياته

في عام 1950 بعدما أعيد تنظيم جمعية العاديات، عُيِّنَ الأسدي أميناً للسر ثم ما لبث أن أصبح نائباً للرئيس وبقي في هذا المنصب حتى وفاته.

في عام 1956 ترك التدريس في الكلية العلمانية (اللاييك) بعد أن اندلعت النار فيه، وحصل على تعويض مادي اشترى فيه أسهماً في شركة الغزل والنسيج لتكون له مورداً ثابتاً يعيش منه.

واضطر إلى الالتجاء إلى وزارة التربية ليحصل على بعض الساعات في التدريس، وقد بقي يدرِّس في إعداديتي إسكندرون والحكمة فترة طويلة.

وبعد أبحاث طويلة كان قد نشر قسماً منها في مجلتي الضاد والرسالة عامي 1945 و1947، استوى لديه البحث وتكامل في كتاب تم طبعه عام 1957 بعنوان «يا ليل» وتدور أبحاثه هذه حول أصل هذه الكلمة. وعندما بلغ الستين بدأ يتعلم السريانية ويتعمق فيها.

في عام 1960/1961 تلقى أكبر صدمة مادية في حياته تركته حزيناً لمدة طويلة، فقد أُمِّمَتْ شركة الغزل والنسيج وخسر بذلك ما كان له فيها من أموال دفعة واحدة.

وفي 24 تشرين الثاني من عام 1967، ولمدة أربعة أيام عقد الأسدي ندوة عن لهجة حلب، كانت القاعة كل مساء تمتلئ بالرواد، يسألونه عن كلمات حلبية فيجيبهم عنها من معجمه الكبير (موسوعة حلب المقارنة)، كما كان يذيع مساء كل جمعة من إذاعة حلب حديثاً مماثلاً.

لم يقتصر الأسدي على نشر الكتب التي يطبعها، وإنما كان يرسل المقالات إلى الصحف والمجلات العربية والسورية، كالرسالة والعمران والضاد والكلمة والحديث والجماهير.

في عام 1970 زار سد الفرات، ولما رأى عظمة المشروع التفت إلى صديقه وتلميذه القاضي نبيه الجبل وقال: «أنا الآن سامحت الحكومة بأموالي التي أخذتها مادامت تصرفها على مثل هذه المشاريع».

مرضه

بدأ الوهن يدب في جسم الأسدي حتى اضطر إلى دخول مستشفى القديس لويس، ثم خرج منه إلى دار أخته حيث بقي فيها عشرة أيام، وترك الدار إلى عزلته من جديد، ثم عاوده المرض فأُدخِلَ المستشفى الوطني ولكنه سرعان ما تركه لأنه لم يجد فيه العناية الكافية، وأُدْخِلَ مستشفى الكلمة. ولما لم يكن لديه ما يدفع نفقات العلاج والمبيت فقد كان في كل مرة يدخل القسم المجاني في المستشفى.

وفي أخريات أيامه ساءت حاله وتفاقم مرض السكر والخثرة الدموية، وأصبح يُرَى شاحباً أصفر هزيلاً يجر أقدامه على الرصيف جراً، ولم يعد يستطيع الصعود إلى دار الإذاعة لتسجيل برامجه فأُرْسِلَ إلى المبرة (دار العجزة)، حيث أُعْطِيَتْ له غرفة وراح يتردد عليه بين الحين والآخر بعض الأصدقاء، وخلال إقامته فيها كان يتابع العمل في موسوعته الكبرى!!

على الرغم من المرض الشديد كان يناضل الموت ويبعده عنه كي ينهي عمله الموسوعي، قال مرة: «لن أُمَكِّنَ عزرائيل مني، فكلما فرغت من عمل أدبي بدأت عملاً أدبياً آخر، وهكذا يجدني منشغلاً فينصرف عني»، وظل يردد دائماً: «اكسبوني قبل أن أموت».

وصيته ووفاته

حين شعر بدنوّ أجله كتب وصيته الأخيرة، موجهاً إياها إلى محافظ حلب ورئيس بلديتها، وقد قال في الوصية:

«لدي مكتبة، وطرائف فنية أهبها لبلادي وللعالم».

ولما أحس بدبيب الموت في جسمه أوصى أن يُقَام له ضريح لا يُكْتَب عليه غير عبارة واحدة هي: «خير الدين الأسدي».

وفي صباح التاسع والعشرين من كانون الأول عام 1971 جاء الدكتور إحسان الشيط ليزور صديقه هذه المرة، سأل الممرضة كيف حال الأستاذ اليوم، فقالت: هو في خير، أسرع إلى غرفته فوجده وقد أسلم الروح منذ مدة، عاد إليها ليقول: إنه ميت.

دفنه

اتصلت المبرة بالبلدية، واتصلت البلدية بدائرة الدفن، وتهاونت المبرة بالاتصال بذويه وأصدقائه من الأدباء، وحضرت سيارة بيك آب وُضعت فيها الجثة بلا تابوت، واتجهت إلى مقبرة الصالحين، فدفنه حفار القبور في ممر بين قبرين. وعادت السيارة من حيث أتت ولم تنتظر أن يُدْفَن.

هكذا حُمِلَ الأسدي إلى مثواه الأخير وحيداً غريباً، بلا جنازة ولا مشيعين في تربة المدينة التي عشقها وخلّدها بتآليف ما خُلِّدَتْ بمثلها مدينة من قبل، لم يجد مساحة مترين تكون له قبراً تهدأ فيه عظامه!!

مكان الدفن

لا يعلم أحد أين دُفِنَ غير تلميذه القاضي نبيه الجبل الذي سجل في كراس صغير اسم القبرين اللذين دُفِنَ بينهما الأسدي كما ادّعى التربي (حفار القبور)، ولربما ضاع ذلك الكراس الآن وضاع معه مدفن الأسدي إلى الأبد.

تأبينه

تكريماً له، أُقِيمَ حفل تأبين الجمعة في 28 نيسان 1972 في قاعة محاضرات دار الكتب الوطنية.

أعماله

(1) البيان والبديع، وضع وتصنيف: خير الدين الأسدي، حلب (سورية)، مطبعة العصر الجديد، 1936.

(2) ليس، تحقيق: خير الدين الأسدي، حلب (سورية)، مطبعة العصر الجديد، 1937.

(3) السماء، تحقيق: خير الدين الأسدي، حلب (سورية)، المكتبة العصرية، 1940.

(4) قواعد الكتابة العربية، تأليف: خير الدين الأسدي، 1341هـ/1941م.

(5) عروج أبي العلاء، تأليف: اويديك اسحاقيان، ترجمة: خير الدين الأسدي، بارسيخ تشيتويان.

(6) أغاني القبة: نفحات صوفية، تأليف: خير الدين الأسدي، حلب (سورية)، مطبعة الضاد، 1950.

(7) حلب: الجانب اللغوي من الكلمة، تأليف: خير الدين الأسدي، حلب (سورية)، مطبعة الضاد، 1951.

(8) يا ليل، تأليف: خير الدين الأسدي، حلب (سورية)، مطبعة الضاد، 1957.

9)) موسوعة حلب المقارنة (سبعة مجلدات)، تأليف: خير الدين الأسدي، أعدها للطباعة ووضع فهارسها: محمد كيال، حلب (سورية)، جامعة حلب، 1981.

(10) أحياء حلب وأسواقها، تأليف: خير الدين الأسدي، تحقيق: عبد الفتاح رواس قلعه جي.

مخطوطات

(1) الله (112ص).

2)) أيس وليس (257ص).

3)) كتاب الألف (431 ص).

(4) الموسوعة في النحو (310 ص).

التصوف في حياة الأسدي

لاشك أن حادثة عام 1923 التي فقد فيها الأسدي كفه اليسرى قد تركت في حياته انقلاباً، فازداد انطواءً على نفسه، وازداد بحثاً عن خلاصة الفكر وجوهر الحقائق، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن هذه الحادثة كانت إحدى أهم العوامل والأسباب التي جعلته يعرض عن الزواج، والتي جعلت الأقاويل تزداد عليه همساً وعلناً، وزادت أيضاً في محاولة البعض السخرية منه وإهانته!!

يقول الأديب عبد الفتاح رواس قلعه جي: "أخذت حالات الشك والإنكار تمر به إلا أن بديلاً كان يتبلور في نفسه يتمثل في نزوع إنساني عميق انتهى إلى منعطف كبير في حياته وفكره نقدر أنه بدأ قبل الحادثة المشؤومة وتأكد بعدها.

وفي أواخر عمر والده مال إلى الاتجاه الصوفي، وأعلن الأسدي امتناعه عن أكل اللحم ومشتقاته مكتفياً بالأغذية النباتية. إن قراءاته المتعمقة للمعري وفلسفته، واطلاعه على الفكر الهندي والمجاهدة التي كان المتزهدون والمتصوفة والهندوس يأخذون أنفسهم بها هيأته لاتخاذ هذا القرار. ولما أصبح طريح الفراش أجبره الطبيب على تناول اللحم".

وعلى هذا يجمع الباحثون في حياة الأسدي على أربع مراحل أساسية في تطوره الروحي:

الأولى: مرحلة التدين بتأثير أبويه ونشأته.

الثانية: مرحلة البهائية إذ تعرَّف على أحد البهائيين الحلبيين (مجد الدين الحلبي) الذي كان يعلم اللغة التركية معه في الفاروقية ويسكن معه في حي الجلوم. وهي مرحلة نباتية امتنع فيها عن أكل اللحوم واقتصر على النباتات متأثراً بالمذاهب الهندية وفلسفة أبي العلاء.

الثالثة: مرحلة الإلحاد. وهي مرحلة الشك في الموروثات الإيمانية حيث انتهى به المطاف إلى نفي كل الرسالات السماوية.

الرابعة: مرحلة التصوف نتيجة لزيارته بغداد وإيران. ويبدو أن إيمانه في هذه المرحلة اقتصر على الإيمان بالله، وعلى معتقدات المتصوفة من حلول ووحدة وجود واتحاد.

أغاني القبة

«أغاني القبة» نموذجاً

لعل رائعته هذه تذكرنا بشعر «محمد إقبال» شاعر باكستان العظيم، ومتصوفها الكبير، وذلك السحر الذي يصدح بموسيقى سماوية، عنوانها «أغاني القبة».

يذكّرنا أيضاً بشعر «كبير» الصوفي الهندي الذي كان ينخطف في شعره إلى عوالم من السناء والنغم العلويين!!

لا يخفي الأسدي تأثره بالمتصوفة عموماً، ومتصوفة إيران خصوصاً، فلقد اتخذ في هذا العمل مرشده وملهمه الروحي «حافظ الشيرازي»، ونحن لا ننسى تجربة الأسدي القاسية حين خسر أسهمه في معمل الغزل والنسيج بعد تأميمه، كيف دخل في تجربة عيانية للفارابي الذي أخذ يشدّ من أزره، ويؤازره في محنته.

ويذكر الأستاذ جميل منصور: «لقد جعل الشاعر غوته كبير شعراء ألمانيا -وأحد أعمدة الشعر الأربعة في العالم حسب أقوال النقاد العالميين، والثلاثة الآخرون هم: "هوميروس، ودانتي، وشكسبير"- من حافظ الشيرازي دليلاً يهديه في قفار الشرق الواسعة».

وعلى النحو نفسه، اتخذ الأسدي من «حافظ الشيرازي» دليلاً له في عالم الغيب والنشوة الصوفية. وفي هذا نسمع الأسدي يقدم ديوانه هذا بقوله: "هذه نفحات من الشعر الصوفي المنثور، ارتفعت عن دنيا اليقظة، كما ارتفع الموضوع عن دنيا الهيولى، وأرسلتها الغيبوبة الغارقة نثرات من رفاه

الحب، وجَوَاه إلى ساحة ما وراء الطبيعة".

ثم يقول: "لقد جهد الوعي كثيراً في ترتيب ما التقطته عدسة الغيبوبة وما وضعته، ولعل هذه الإثارة من بقاياها التي لم يذلّلها الوعي.

جعلتُ هذه النفحات مقطوعات، دعوتُ كلاً منها (سورة) أي (أغنية) وأوردتها على لسان حافظ الشيرازي: لسان الغيب –كما لقّب– وزعيم الشعر الصوفي، وملهمي وأستاذي، كما ألهم وعلم قبلي غوته، أوردتها على لسانه – وإن كان الأكثر منها لا ينتمي إليه".أما الجو الخاص الذي كان الأسدي يضع نفسه فيه قبل أن يشرع في كتابة قصائده، فهو ما يشير إليه الأديب عبد الفتاح رواس قلعه جي قائلاً: "قال لي طبيبه وصديقه إحسان الشيط: إنه كان يأخذ نفسه بصوم قاسٍ فيمتنع عن الطعام والشراب أياماً، يعتزل فيها الناس، وينقطع إلى التفكير متخففاً من ثيابه حتى إذا بلغ منه الوهن الجسمي مبلغه، وبتأثير الجوع والظلام والسكينة رقي إلى أعلى درجات الصفاء الروحي، وأحس أنه ينخلع من ناسوته ليغرق في غدير الحب الإلهي، وخُيِّلَ إليه أنه يسمع موسيقا علوية تنحدر من مواطن النجوم، وأن الغرفة تغرق في الأنوار السماوية، ويظل على هذه الحالة حتى يسمع وقع خطوات رابعة العدوية في السماء، وعلى ايقاعاتها يبدأ رحلة القصيدة في حالة بين الصحو واليقظة، بعيداً عن أسر الإحساس بالزمان والمكان، والأنا التي أضناها الشوق، والتي تفنى في الصمدية، تنهمر عليه كلمات القصيد وتتشكل أمام عينيه: كوَّتي الغيب، والرؤى الشعرية".

ذكرنا تأثره بمتصوفة ايران وشعرائها (حافظ الشيرازي مثلاً) ، وسيمر معنا جلال الدين الرومي، وأخيراً وليس آخراً، بوسعنا أن نجد تناظراً أو توازياً في الخط العام بين عمل خير الدين الأسدي هذا وعمل متصوف نيسابور الكبير فريد الدين العطار في كتابه «منطق الطير» الذي يتحدث فيه عن رحلة الطير مروراً بسبعة أودية بدءاً بوادي الطلب، وهذا الوادي نجد نظيره عند الأسدي في السورة الأولى من كتابه، وهي «سورة المَدْرَجِ» وهي بدء درب السالك. وسنرى أخيراً كيف ينهي الأسدي كتابه في «سورة الفناء» في حين ينهي العطار رحلة الطير أو تمامها في الوادي السابع، ويسميه وادي الفقر والفناء.

عند هذا الحد نستطيع أن ندلف في دراسة متواضعة لعوالم الكتاب:

(أولاً) وحدة الوجود ووحدة الشهود

يذكر د.بديع محمد جمعة ما يلي: "يرى ابن عربي أن الوجود حقيقة واحدة ذات وجهين الوجه الأول الباطن هو الحق، والثاني الظاهر وهو الخلق".

وعلى هذا النحو فقد ذهب البعض إلى فهم رؤية ابن عربي على أنها وحدة وجود حلولية، في حين دراسة د.بكري علاء الدين تركز على أنها وحدة شهود لا حلولية.

والأسدي قد مال للجانب الحلولي فاعتبر الخلق تشظّي للمطلق، فها نسمعه في نهاية «سورة الشظايا» يقول: "نحن شظايا التنور، نحن أباديد [2] الله، انطلقنا من عقال الزمن، فصلّى الصُّبحُ لنا، وقبَّلَنا مُتُوعُ المساء".

ولكن ماذا لو تأملنا الجمل التي سبقتها، فلنسمع ماذا يقول:

"ترُ حبَّيك المشدودُ على أجواءِ الحياةِ، الوثيقُ بنقطتي الزمن يتناثر من تيار هزاته عارِم الومضات: ومضات مناغمتنا في وحدة الأقنوم".

ربما هنا نستطيع أن نتمثل ما يُعَبَّرُ عنه بوحدة الشهود، فهي وحدة الله في شخصه، وفي هذا السياق فإن وحدة الشهود عند د.بديع جمعة معناها الفناء عن شهود التكثر والتعدد أي الخلق لا نفي هذا التكثر والتعدد في ذاته، ذلك الذي يؤكده مذهب وحدة الوجود. ويستشهد بالدكتور أبو العلا عفيفي على أن وحدة الشهود حال أو تجربة «يعانيها الصوفي لا عقيدة ولا علم ولا دعوى فلسفية يحاول برهنتها أو يطالب الغير بتصديقها»، وهذا ما سنراه في الفقرة الثانية «العقل والقلب».

كما يستعمل الأسدي في السورة لفظة «الجُلَّنار» وهي كلمة فارسية من مقطعين وتعني زهرة الرمان الحمراء، فلنسمع الأسدي ماذا يريد بها:

"الساعةَ الساعةَ: أجبتُ، في ندوةِ شعرٍ مرَرْتُ. وأين؟ يُهِمُّكَ؟ أينَ؟ في الجُلَّنارِ.

ما الجُلَّنارُ؟ تقول: دُنيا كدُنيانا، أخْطأتُ، بل أرشُدُ.

الجُلَّنارُ –رَفِي[3]!– دُنيا كدُنْيانا: تدور حول شمسها، ويدور قمرُ الرَّفاهِ حَوْلَها.

شمسُها –يا رَفِي– تَرامت ترامتْ في قُبَّةِ الوجودِ، فلا تُدْرِكُ العَيْنُ نُقْطَتَها، ولو حَنَتْ عليها حنايا البِلّورِ.

الجُلَّنارُ –رَفِي!– دانَتْ بوَحدَةِ الوُجودِ، وأدْركت سِرَّ السَّعادةِ، فَوَحَّدَتِ الرايةَ واللغةَ والنَّظْمَ والمُلْكَ، كما وَحَّدَتِ القلوبَ.

يا الجُلَّنارُ! يا الجُلَّنارُ يا ندْوَةَ الشِّعْرِ النَّديِّ! نَمْنَمَهُ فَنُّ الإلهِ".

على هذا النحو نجد الأسدي قد مال لوحدة الوجود بمظهرها الحلولي، ويتفق مع شطحات الصوفيين الكبار، مثل الحلاج في قوله: «أنا الحق»، والبسطامي: «سبحاني ما أعظم شأني»، والمنتجب العاني: «ألا فاعلموا أن النقش هو النقاش».

فها نحن نسمع الأسدي في «سورة الفناء» يقول:

"أنا الحق، أنا الهو هو[4]، اعف ربي! عن الخلق، ولا تعف عني، وارحمهم ولا ترحمني".

(ثانياً) العقل والقلب

إن كل صوفيي العالم يتفقون على أن القلب هو مركز الخبرة الروحية لا العقل، فالعقل على هذا النحو يشكل عائقاً كبيراً تجاه حصول هذه الخبرة، لذلك لجأت تقنيات اليوغا فيما يُعْرَف بالتركيز وصولاً به إلى حالة التأمل، ولكن الروحانيين الكبار يشددون على أن هذا لا يكفي، فعلى الذهن أن يدخل القلب، لكي يحصل على الخبرة الروحية الحقيقية، وفي ضوء هذه الخبرة نستطيع أن نلقي ضوءاً على شطحات الصوفيين، ونتفق مع د.أبو العلا عفيفي فيما قاله آنفاً، هذا من جهة ومن جهة أخرى فأحد العارفين يشير لنا إلى أنه «في أعماق الداخل والقلب يجد الإنسان كيانه ويتعرّف عليه ويعبر الحاجز وحدود السر الذي يفصل بين الخالق والمخلوق».

وفي «سورة الإشراق»، نسمع الأسدي يقول:

"العقلُ، ما العقلُ؟ ما هذا الكائن الدهي؟

العقلُ، حسيرٌ جبانٌ، يتقلَّبُ في مُظلِمِ الأحاسيسِ، ولا يجرؤ أبداً أن يقرع باب السّرِّ.

عوالمُ العقلِ كلُّها لا تلقي شعاعاً واحداً على هيكل الحقيقة العظمى، دع ذا، وسَلْ قبله: هل عرف العقلُ نفسَه؟

نحن نقطة التسليمِ، والعقل مع الإشراقِ قطرُ ندى على سطحِ البحرِ.

العقلُ يحاول أن يطل على الأسطُقُسَّاتِ[5] بمنافذ خمسٍ قاتمة، والإشراق يطل على الأغوارِ ببلَّورِ صفاءِ الشعاعِ.

في أرض العقل بصيصٌ من نور السماءِ يجلوه الإشراقُ، وينفذ إلى بعض الرفوفِ من خِزانة الوجود".

وكذلك نسمعه في «سورة البيان» يقول:

"بنقدِ العُمرِ تشرى الرغائبُ، فلا تبع يوسف هناءتك، واشرب الإشراق الضاحك من واحة قلبك".

(ثالثاً) المجاهدة

منذ البداية أشار الأسدي إلى أن شعره المنثور هذا رسالة ووحي، وهو لا يخص شعره فقط بل الشعر بشكل عام في مفهومه رسالة ووحي، ولكن هذه الرسالة وهذا الوحي لا يهبطا إلا على طهر القلوب.

من هنا إذن، لابد من مجاهدة ومكابدة وآهات وحسرات يعانيها السالك وصولاً إلى طهارة القلب من الأهواء. إن هذه المجاهدة أو هذه التوبة، هي كما الخيمياء قديماً التي حاولت أن تقوم على أساس ما تسميه حجر الفلاسفة الذي من خلاله يتم تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، وهو رمز لنفس الإنسان الأمّارة بالسوء والتي تتحول بالحق.

يقول الأسدي في «سورة الحَبْرَةِ»:

"وأنزِعُ عن وجودي نحاسَ الوجودِ، لأغدو ذهب الله بكيمياء حُبِّه".

وفي «سورة الحكمة» نسمعه يردد على مسامعنا:

"معبدُ الأصنامِ والكعبةُ سيَّانِ، إذا لم يُرْفَع في جوانبِ النفسِ معبدُ الرَّشَدِ والطهْرِ.

هدية الروحِ من يدِ الطهرِ تسلَّمتُها، وسأردُّها نقيَّة، لا رين[6]، كلا، ولا تأثيم".

إلا أننا في هذه السورة نفسها، نرى حضور أبو العتاهية قوياً من حيث نبرة الزهد واستذكار الموت، ولعلّنا نجد خلاصة حكمة الأسدي في هذه السورة. نسمعه يقول:

"قوافلُ الأعمارِ عُرضةٌ لكمينِ الأيامِ، ولئن سَلِمْتَ –وهيهات– غالَك في النهاية الكمين الأعظمُ.

وادي الصامتين غنيُّ الجنابِ، سنيُّ الرجاءِ، سكوته بيانٌ، ورُبَّ سكوت أبلغ من كلامٍ.

تاريخُ الدنيا رُفاتُ الأحلامِ في مقبرةِ النسيان: يبتدئ في التراب وينتهي في التراب".

لقد قلنا أن في مجاهدة السالك مكابدة وآهات وحسرات وصولاً إلى طهارة القلب، وعلى هذا النحو فالسالك يختبر دموعاً، ولكن من نوع آخر، فهنالك الدموع الدنيوية وهنالك الدموع الروحية، وهي تتعلق «بمستوى آخر في كيان الإنسان» كما يقول العارفون: "الدموع الروحية مرتبطة بتذكار الله الدائم، وبأسفنا، بل بحزننا العميق الموجع لانفصالنا عنه، الدموع الروحية تطهّر الإنسان من أهوائه المميتة، وتحييه بالكلية".

نسمع الأسدي في «سورة التُّفَّاحَةِ» يذكر هذه الدموع، يقول:

"جَوْهِرِي النفسَ يا دموع! واغسلي غبار الأسى، كما يغسِلُ الضوء أواسيَّ الظنونِ.

غرقتُ في أسايَ، وغدا طِلابي من الدنيا أن تحملني أمواج دمعي إلى ضفافِ رضاكَ.

أغوصُ في لججِ دمعي طلباً لجواهرِ وصالِكَ، وسألقي بضريمِ قلبي في عبابِ بحرِكَ".

(رابعاً) العشق الإلهي

لعل أجمل تعبير عن العشق الإلهي نراه في تجربة رابعة العدوية التي تغنّت بأجمل عبارات العشق الإلهي، لذلك انفرد الأسدي في سُوْرةٍ كاملة باسم «رابعة» ويذكر عبارتها الشهيرة: "إلهي! وعِزَّتُكَ، ما عبدتُكَ خوفاً من نارِكَ، ولا رغبةً في جنانِكَ، إنما عرفتُ مذاقَ جلالِكَ، فامتلأ رَحْبُ حِسِّي حبّاً".

ومن خلال العشق الإلهي نرى الموقف من الجنة والنار يصبح واحداً فالعذاب من العذوبة، ها نحن نسمع الأسدي يقول عن رابعة:

"إلى أينَ؟ وفي إحدى يديكِ نارٌ، وفي الأخرى ماءٌ، تُسرِعين إسراعة قفزِ الذنوبِ في وادي الصلاةِ.

قالت: إلى السماء، حيث أضرم النار في خمائل الجنان، وحيث أنضحُ الماء على جمر الجحيمِ، فلا يعبدُ الله إلا على شرع الغرامِ".

حتى الطقوس والشرائع تفقد معناها أمام نار العشق الإلهي، يقول الأسدي:

"الوضوءُ، ما الوضوءُ؟ أنتِ طهرٌ، أنتِ عطرٌ وجلالٌ، يا عروسُ.

الكعبةُ، أين الكعبةُ؟ الكعبةُ نَسَمُ الصوتِ: خَفَّتْ إلى حجيج رابعة، اِسْمَعْهَا ترحِّبْ بمَقْدَمِهَا:

تكرِمَتي تحتفي بهذي الضُّلُوعِ المُدَمَّاةِ: تَقَلَّبَتْ على الصُّخورِ سبعَ سنين تُريدُني.

وهنا مَسَحَ جَدُّنا الأعلى دُمُوعَهُ بِرَاحَتِهِ، ومضى يقولُ:

أعْرَضَتْ سرورُ الله[7] عن البيتِ، ونادتْ: مِا ليَ وللكعبة؟ أنا لَبِنَةٌ[8]، والكعبةُ حَجَرٌ: أُريدُ رَبَّ الكعبةِ، أُريدُ سُبُحاتِ وَجْهِ رَبِّي".

والعشق الإلهي الذي غايته الاتحاد بالخالق حباً وهياماً، يصبح الحج إلى الكعبة رمزاً للمسيرة الروحية نحو الاتحاد بالخالق الذي يصبح عريسُ النفس.

ولعل ذروة العشق الإلهي عند رابعة يعبر عنه الأسدي في هذه الزفرة على لسانها:

"غفرانك –ربي– من استغفاري الأثيمِ.

إلهي! نوّرتِ النجومُ، وغفتِ العيونُ، وأوصدتِ الملوكُ أبوابَها، إلا بابَكَ: مَشعَّ الرَّجاءِ والحَنانِ.

إلهي! خَلا كُلُّ حَبيبٍ بحبيبِه، وهذا مُصَلاّيَ بَيْنَ يديكَ يُناجيكَ، أحبُّكَ، أحبُّكَ، فالمعي يا (نعم) بَيْنَ أجفانِ العريسِ:

ليسَ لِي عَنْكَ ما حَيِيْتُ بَرَاحٌ[9]

أنتَ مِنّي مُمكَّنٌ في السّوَادِ[10]".

(خامساً) إياز

تأثر الأسدي بالشيرازي الذي كان أستاذه الكبير، وحسب الأستاذ جميل منصور فقد استوحى الأسدي من القاموس الشعري لهذا الأستاذ العظيم في «أغاني القبة» عبارات مثل: "«ساقي الشراب» (ويرمز إلى المرشد الحقيقي إلى الله)، وشيخ المجوس (أي شيخ الطريقة)، ومرآة الإسكندر (رمز المعرفة)، وماء الخضر (رمز الخلود)، وببغاء الحضرة (رمز الكلمات الإلهية العلوية)». وردد الأسدي أيضاً كلمات حافظ نفسها في أغانيه مثل: «نهر رُكْنابادَ، والخرابات، وشجر السرو، ورقص المسيح، وفرهاد وشيرين، ومحمود وإياز».

إذن، سوف نرى شخصية إياز قد ترددت ليس مع الشيرازي فحسب بل مع النيسابوري فريد الدين العطار، وكذلك فالأستاذ جميل منصور يشير إلى تأثر الأسدي أيضاً بغيره من متصوفة وشعراء الفرس، وفي مقدمتهم جلال الدين الرومي صاحب المثنوي الشهير، الذي جعل معشوقه ذكراً في ديوانه الشهير «شمس تبريز». وقد صرَّح باسمه، وعبَّر في الأبيات التالية عن تعشقه لقدِّه السَّرَوي حيث يقول:

"ها قد التزمتُ الصمتَ فانهضوا كلُّكمْ

فإن القدَّ السَّرَوي لحبيبي يقول: تعالَ"

يا خَسْرُو تبريزَ الشَّهْمَ! يا شمسَ الدينِ!

أغلقتُ شفتيَّ، فتعالَ وافتحْ[11]».

ومن جهة أخرى، هناك ما يُعرَف بالأوساط الصوفية في تركيا بـ«شاه باز» (أي شاهد اللعبة) كما يذكر د.بكري علاء الدين، وهو يشير إلى أن شاهد اللعبة هو الذي يسمح لرؤية الجمال الإلهي والانجذاب للحب الصوفي أياً كان المصدر حتى ولو كان ذكراً.

وعلى هذا، يجد د.بديع محمد جمعة في دراسته لمنطق الطير لفريد الدين العطار النيسابوري أيضاً أنه «يشرح فكرة فناء المحب في محبوبه وارتقائه إليه حتى يصبح هو ذاته، بقصص دنيوية، والمثال الكلاسيكي المألوف دائماً هو المجنون وليلاه، ولكن العطار أضاف إلى هذين العاشقين القديمين عاشقين أحدث عهداً هما "محمود" و"إياز».

وهكذا، نستطيع أن نلمح حضور إياز في عمل العطار في عدة أماكن، خصوصاً في الحكايات التي تعبر عن الوادي الثاني أي وادي العشق.

ففي حكايته (ص 3057–3081) ينال إياز من السلطان العرش والمُلْك ليسيطر على البر والبحر. إلا أن إياز ينخرط في بكاء كله حرقة من فعلة السلطان هذه، وإذ يستغرب الجميع بكاءه، يبادرهم قائلاً: «كم أنتم عن طريق الصواب بعيدون، فقد أعطاني منصباً حتى أشغل بالجند بعيداً عنه، فلن أغيب عنه لحظة واحدة، حتى ولو جعل مُلْكَ الدنيا بأمرها تحت إمرتي، وكل ما يأمر به يمكنني تنفيذه، إلا أن أبعد عنه لحظة، وماذا أصنع بملكه فكفاني طلعته من ملك».

وعلى هذا يقول العطار النيسابوري: «إن كنت طالباً ولله عارفاً، فتعلم كيف تكون العبودية من إياز».

أما الحكاية الأخيرة التي تُظْهِر إياز فهي في التعبير عن الوادي الخامس أي وادي التوحيد. وفيه نرى التماهي ووحدة الحال، فالسلطان هو إياز وإياز هو السلطان.

فلنسمع ماذا يريد الأسدي أن يقوله لنا من خلال شخص إياز، ففي سورة «الأسميذ» يقول:

"ومن ذا علَّم إيازَ؟ إيازُ خلقَ نفسه بنفسه، وأستاذه منه وفيه، وذرَّةٌ من موسوعة علمه لا تحيط بها الظنون.

لو قُدِّرَ لكل شعرةٍ نبتتْ على جسدٍ أن يُرَكَّبَ فيها عقلٌ حكيمٌ لأخذتُ جميع العقولِ، ورميتُ بها على أقدامِ إيازَ".

إذن، نستطيع أن نقول أن إياز لدى بعض الصوفية هو ما يعبر عنه الشيخ الأكبر بحقيقة الحقائق أي الإنسان الكامل، أصل العالم، أصل الجوهر الفرد، العقل الأول، الإنسان الأزلي، وفي أقصى تعبير له في الحقيقة المحمدية كما تشير الدكتورة سعاد الحكيم في معجمها الصوفي حيث تقول:

«الإنسان الكامل: هو الحد الجامع مع الفاصل بين الحق والعالم: فهو يجمع من ناحية بين الصورتين: يظهر بالأسماء الإلهية فيكون حقاً، يظهر بحقيقة الإمكان فيكون خلقاً. وهو يفصل من ناحية أخرى بين وجهي الحقيقة فيمنع الخلق من عودة الاندراج في الغيب الذي ظهر منه، إنه حد بين الظاهر والباطن يمنع الظاهر من اندراجه في البطون، كما أن الإنسان الكامل هو علة وجود العالم والحافظ له».

فلنسمع غزل الأسدي الصوفي لشخص إياز أيضاً في سورة «الأسميذ»:

"أيكون لي – يا حبيبي!– بعد صبريَ وأسايَ أن أُشْعِلَ شموعَ العينِ في محراب حاجبِكَ؟

أيكون لي – يا حبيبي!– أن أشمَّ فوحَ الخلودِ من خِزانةِ ملابِ قلبكَ؟

ماذا يضيرُ لو أنني قطفتُ من مجاني[12] بستانِكَ؟ ثم ماذا لو تظلَّلْتُ في حرقتي بظِلِّ سَرْوَتِكَ؟

نسماتُ الرياضِ – يا أيها الأسميذُ!- غادَرَتِ الورْدَ والصفصافَ حنيناً إلى عارِضِكَ وقامتِكَ.

يا مصحفَ الخلودِ! في معبد الوجودِ. رتِّل سنيَّ الآيِ[13]، فالرَّكْبُ[14] في حنينٍ.

يا هامشَ الكتابِ! يا جبينَ الحبيبِ! جَلِّ لي غامضَ الأساريرِ في ديباجةِ[15] أُخَذِ[16] الجمالِ.

إن رياضَ الجنّة، وظلال السِّدْرةِ[17] ورحيقَ الكوْثَرِ، لا تعدِل يقيناً موطئ أقدامِك".

لقد رأينا في شرح د.سعاد الحكيم للإنسان الكامل الذي يُطلِق عليه الشيخ الأكبر، اسم الحقيقة المحمدية، فنستطيع أن نفهم لماذا أطلق الأسدي على إياز «الأسميذ» فهو في مقدمة شرحه لبعض ألفاظ السورة يقول: «أسميذ نحت من الأستاذ والتلميذ، لمن هو هما معاً، وإن خلت منه المعاجم».

وللإفاضة فلنسمع الحلاج في هذه الأبيات:

"سبحانَ من أظهر ناسوته

سر سنا لاهوته الثاقبِ

ثـم بـدا لخلقه في

صورة الآكل والشارب

حتى لقد عـاينه خلقه

كلحظة الحاجب بالحاجب".

إذن، كانت د.سعاد الحكيم قد قالت إن الإنسان الكامل يظهر بالأسماء الإلهية فيكون حقاً، ويظهر بحقيقة الإمكان فيكون خلقاً، وعند الحلاج فهو الذي يجمع الصفتين معاً اللاهوت والناسوت، وإذن فالأسدي حين أطلق على إياز اسم الأسميذ أراد من جمعه صفتيْ الأستاذ والتلميذ أن يعبر عن حقيقتين معاً هما اللاهوت والناسوت في كمالهما.

(سادساً) أسرار الحروف

يذكر د.عبد الحميد صالح حمدان أن الحروف في اصطلاح الصوفية هي الحقائق البسيطة في ساحة العلم الإلهي قبل انصباغها بالوجود العيني.

أما د.سعاد الحكيم فتذكر في معجمها الصوفي عن ابن عربي في الفتوحات أن «الحرف: ما يخاطبك به الحق من العبارات».

وعن «ورد الورد» للنابلسي: "حرف إلهي من الانحراف وهو التوجه، والحروف كلها انحرافات إلهية بمعلومات كونية لها وجهان وجه إلى الرب، ووجه إلى العبد".

وفي هذا السياق يشير الصوفية إلى أن قيوم الحروف هو الألف.

"فكل شيء يتعلق به ولا يتعلق هو بشيء، فأشبه الواحد لأن وجود أعيان الأعداد يتعلق به ولا يتعلق الواحد بها، فيظهرها ولا تظهره".

وابن عربي في رسالته في سر الحروف نسمعه يقول: "ولتعلموا أن العلم بالحروف مقدم على العلم بالأسماء تقدم المفرد على المركب، فلا يعرف ما ينتجه المركب إلا بعد نتيجة معرفة المفردات التي تركبت منها".

على هذا النحو فإن كل حرف هو حقيقة إلهية يشير إليها، أوَ لم يقل الشبلي أنا النقطة تحت الباء مشيراً بذلك إلى العبودية العليا، ناهيك عما تعنيه الباء في سر الحروف من حقيقة الحقائق أو العقل الثاني.

وأيضاً الأسدي قد دلا بدلوه في بحر الحروف، ففي سُورَة «الزُّنّار» نسمعه يقول:

"دائرة هاءِ (هُو) إنسان عينه المحيطُ، والعالمُ هذا الخلاءُ في أحضانِ الدائرةِ".

وفي سُورَة «القَدْرُ» يقول:

"لتكن قاماتُ الحسانِ محنيةً كالنونِ أمام ألِفِ إيازَ".

وأيضاً:

"هذه الواو –تبارك من كوَّرها، وكنجمٍ مذنبٍ صوَّرها– جناحٌ رؤومٌ، يبسطُ الدفءَ والأمانَ والحنانَ.

الواوُ جمعٌ وضمٌّ وعطفٌ، ولفظُها ناعمُ الدغدغاتِ إنها قبلةُ الشفاهِ".

وفي سُوْرَةِ «الأسميذ»:

"لم يعلِّمني أُستاذيَ إيازُ غيرَ ألِفِ قدِّه".

وأخيراً وليس آخراً، يبقى أن نشير إلى أن الأسدي قد جعل عدد سُوَر الكتاب سبعاً وعشرين سورة بعدد الحروف الأبجدية العربية مستثنياً بذلك حرف الألف متفقاً بذلك مع الشيخ الأكبر على أن الألف ليس حرفاً بل قيوم الحروف كلها.

(سابعاً) فلسفة الأسدي الصوفية

لكل تجربة صوفية أو إيغال في التصوف فلسفته الخاصة، ونستطيع أن نلمح طيفاً من فلسفة الأسدي في سورته «الليسية»، وفي تحقيق الكندي (ت بعد 250هـ/بعد 850م) فإن الأيس وهي باللاتينية «Esse» تعني الوجود، وعند الأسدي فإن ما يقابل الوجود هو العدم، وبالتالي فالليسية إشارة إلى العدم إلا أنه يقف موقف الرافض من الخلق من العدم ويعتمد نظرية الفيض التي أتى بها أفلوطين، وتأثر بها أغلب المتصوفة، وعلى رأسهم الشيخ الأكبر ابن عربي الذي عالجها من منظور دقيق ومختلف نوعاً ما له خصوصية تجربته الشهودية.

نسمع الأسدي يقول في نفس هذا السياق:  "حوضُ العدم لا يفيضُ بالوجودِ: فالحياةُ الوليدةُ في مدفن الجسمِ صدورٌ وانبثاقٌ من حوضِ الوجودِ، يحدُّها – ولا حد لها – قطب الأزل، وقطب الأبد".

وحين يقول: "أنا زفرةُ اللهِ: لا حدود لحبِّي، ضنَّ الزمان بها، ثم أرسلها ومضةً خاطفةً، في سماء الوجودِ".

إننا نستطيع أن نفهم أنه ما يشير إلى ماهية الروح وأصل التسمية تأتي من كونها زفرة الله، إلا أن الأسدي يرفض فكرة الخلق من العدم، وهي فكرة تراوح قريباً من الحلولية حيث يقول: "كنتُ مع اللهِ، ولم يكن معنا شيءٌ، بل كان كل الوجود يحيا، ويدِبُّ فينا.

فأنا الظِّلُّ الممدودُ، وأنا الخطُّ المشدودُ بين كان ويكونُ.

فنِيَ الفنا، ونادى الحق: يا أنا ليسيَّة بدايتكَ كليسية نهايتِكَ: وجود عدمٍ، وعدمُ وجودٍ".

ولما كان مع الله قبل أن يُخلق الخلق، وهذه الفلسفة التي تأثر بها كثير من الصوفية، نراها في «كتاب الميثاق» لشيخ الصوفية الأول الجنيد مشيراً إلى آية الميثاق كما يذكر د. بكري علاء الدين، ففي فلسفتهم الروح لم تُخْلَقْ مع الجسد، بل سبقت الجسد وكانت مع الله قبل الوجود، ثم فيما بعد عانت الغربة وأصبح الجسد سجناً لها، يقول الأسدي في هذا السياق:

"تغرَّبَتِ الروحُ، لَدُنْ فُصِلَتْ عن عالمها الأولِ، وكانتِ الغربةُ طليعةَ البلاءِ.

ثم سُجِنَتْ في غياهِبِ الجَسَدِ، وحُرِمَتْ طَوْلَ الألوهيةِ، وكان السجنُ أدهى بلاءٍ.

وسُلِّطَتْ عليها –سحابةَ[18] الحياةِ– ضروبُ الأسقامِ والآفاتِ تصوِّحها[19]، وتُذْوِي نُضْرتَها.

فوا رُوحاه! وواروحاه! يالله لغُربتاهُ، لغُربتاهُ!".

أسلوبه الأدبي

لعل الأسدي كان من أوائل الذين طرحوا قصيدة النثر على نحوٍ غنائي يصدح بالموسيقى والأنغام العلوية فسماها أغاني القبة، وهي نموذج حقيقي على قصيدة النثر من حيث ارتباطها بالشعور وغنى التجربة، والمحتوى، والموسيقى الداخلية التي تفيض بها الألفاظ الفصحى الرنّانَة التي تسكب ألحانَها في جرسٍ خفي يحمل النفس إلى عوالم الجمال الأدبي وسحر العبارة.

فلنسمع الأستاذ جميل منصور وما يقوله فيها:

"إن "أغاني القبة" أغاني بديعة، وقصائد منثورة، تذهل المرء بتحليقها في أجواء نورانية، فتشعره بعلوها وسموها. وحين تترنم بقراءة سورها، وتستمتع بتلاوة أناشيدها، تتلذذ بخمرةٍ معتقة تروّي عظامك حتى بعد أن تغادر هذه الحياة.

صدِّقني أيها القارئ العزيز أنني لم أتذوق طعماً مثل طعمها، ونكهةً مثل نكهتها لذلك كنت أقرؤها نهاراً، وأعيدها ليلاً إنها فريدةٌ في الأدب العربي نثره وشعره، ولم أعثر على مثل لها في الآداب العالمية كلها".

مختارات من «أغاني القبة»

سُوْرَةُ الحَبْرَةِ

أنَّى لكَ، يا حافِظُ! هذا القَفَصُ: قَفَصُ الجَسَدِ، وأنْتَ الحَبْرَةُ [20]: ذَلِكَ النَّغَمُ الحَالِمُ على شَفَةِ الخُلودِ؟

مِنْ خُيوطِ الأنسامِ الحَيْرَى تَخِذْتُ أوتارَ عُودي، لِتَهيمَ مَلاحِنِي [21] في تِيهِ اللهِ، حيثُ أفلاذُ الحِكْمَةِ، وحيْثُ أَمَمُ النُّورِ.

إزاءَ عَمودِ الصَّباحِ يُطاوِلُ عمودَ شِعْري: سارِيَتَانِ مِنْ نورٍ وبَهاءٍ، يَتَمَطَّى فَوْقَهُما بُرجُ الجمالِ.

فمُضِيّاً، يا رُوحُ! يا جَناحَ الطُّهْرِ! وزَحْمةَ الإلهامِ! في مَطافِ العالَمِ القُدسِيِّ،

مُضِيّاً إلى نَبْعِ الشَّمسِ الصَّادِحِ المُكَوْثَرِ الغارِقِ المُغرِقِ، لأغْسِلَ بِبَهائِهِ أواسِيَّ رِدائي،

وأَفْتَحَ بابَ قَلبي بِمِلءِ القِوَى، ليستقبِلَ نَسِيمَ الشُّعاعِ مِنْ مَهَبِّ الحياةِ،

وأكْحُلَ حِنْوَ نَجْمِ العَيْنِ بترابِ الحانَةِ، فلا أكتُبُ أرقاماً خاطئةً في لَوْحِ المَعْرِفَةِ،

وأنْزِعَ عَنْ وجُودي نُحاسَ الوُجودِ، لأغْدُوَ ذهَبَ اللهِ بِكِيمْياءِ حُبِّهِ.

لقد سُقِيتُ السِّكينةَ في رِحابِ الجَنابِ [22]، وخُتِمَ على شفتيَّ، فَشرِبْتُ دمَ قلبي في صَمْتٍ وسُكونٍ،

وَأوْلانِيَ حبيبُ الأزلِ كَنْزَ الحُزْنِ والرِّضا والطَّرَبِ، لأكونَ المَعْنَى المُبْهَمَ الحُلْوَ الصّدَّاحَ يدورُ في خَلَدِ الزَّمانِ.

ونادانيَ الصَّوْتُ: بِعَيْنيَ أنتَ، لأسقِيَنَّكَ شَرابَ الصِّدْقِ، وَلأكْشِفَنَّ لكَ عن وَجْهيَ الكريم،

وَلأُطْلِعَنَّكَ على لُغاتِ الصَّمْتِ في الطَّيْرِ والزَّهْرِ، وفي كلِّ رفيفٍ[23].

فأنا النُّقطةُ تحتَ الباءِ، أنا سُلْطانُ مَمْلكةِ النُّورِ، أنا رُبَّانُ بحرِ التّمجيدِ، أنا قَيّومُ الزَّمانِ والمكانِ.

شَهِدْتُ عهدَ أنْ كانتِ النُّقطةُ دائرةَ عوالمِ الحُروفِ، وَنَظَرَ الحقُّ إليها بالهَيْبَةِ فَسَالَتْ وكانتْ ألِفاً.

أنا طائرُ بُستانِ اللهِ، أنا تطْريبةُ السَّماءِ، أفْلَتُّ مِنْ شِبَاكِ الدُّنيا على نداءِ الحَبيبِ.

أنا مَزاميرُ مِحْرابِ الزَّمَنِ، أنا بَبَّغاءُ الحَضْرَةِ، أُرَدِّدُ ما يَنْفُثُ [24] في مِنقاريَ أُسْتاذُ الأزَلِ.

أنا قُمْريُّ الفَجْرِ، أهِيمُ بِتَسابيحي من مَرْفَهٍ [25] إلى مَرْفهٍ، وأُشْعِلُ فَوانِيسَ المَرَحِ في ضِفافِ الحَيَاةِ.

نَسَمَتْ مِسامِعُ مَشَامِّي ومَشَامُ مَسامِعي تَراتيلَ العِطْرِ من قُمْقُم اللهِ.

اِدَّغَمَتِ الحواسُّ، يا عبابيدَ [26] الدِّيارِ! فلا يُسَمِّرني في أرضِكُمْ سَبَبٌ ولا وسيلٌ [27]، وَهِمْتُ في أوْداءِ [28].

الهَوَى، تَنُوءُ بي أحلامُ السَّماءِ، فأزجوها[29] شِعْراً غريبَ النَّغَمِ.

فَقُلْ لِرِضْوانِ الجِنانِ: هذا تُرابُ مَجلِسِ حافظٍ، اِجْعَلْهُ بَخوراً في مَجْمَرَةِ فِرْدَوْسِكَ.

أفْتَحُ ممالِكَ القُلوبِ، وأُغْرِقُ ساحةَ الكونِ بالنَّشوةِ للصَّفْوَةِ المَطَارِيبِ [30]، وأسوقُ بإسْعادِ الحَبيبِ هذهِ الدُّنيا في هُدُوءٍ.

أَرْعَى رَوَاسِخَ أَعْضَادِ عَهْدِيَ حَتَّى دَيْجُورِ الأبَدِ، كما رَعَيْتُهُ مُنْذُ تَنَفُّسِ فَجْرِ الأزَلِ:

مُنْذُ أنْ لَفَّنا النُّورُ في مَجالي السُّعُودِ، ولَجَّ بنا الهَوَى، فَافْتَرَقْنَا على مِيعادٍ.

المراجع

(1) العلامة خير الدين الأسدي: حياته وآثاره، تأليف: عبد الفتاح رواس قلعه جي

(2) أغاني القبة، تأليف: خير الدين الأسدي، إعداد: جميل منصور.

(3) منطق الطير، تأليف: فريد الدين العطار النيسابوري، دراسة وترجمة: د.بديع محمد جمعة.

(4) معاينة الله كما هو، تأليف: سخاروف، ترجمة: هدى فؤاد زكا.

(5) المعجم الصوفي، تأليف: د.سعاد الحكيم.

(6) رسالتان في أسرار الحروف، تأليف: محي الدين بن عربي.

(7) ديوان الحلاج.

 

(نقلاً عن اكتشف سورية)