تصور القاصة الإسبانية في هذه القصة حياة يتيم في قرية نائية يتركه والده وحيدا وهو صغير فيتكفله جده ليصبح راعيا. ومن خلال الحكاية وسير الأحداث نتعرف على حياة القرى النائية وعلاقاتهم الاجتماعية، والفوارق الطبقية وهي الثيمة التي سعت الكاتبة لإثباتها من خلال خلاصة السرد المتدرج بهدوء وحتى ضربة النهاية المفاجئة.

خطيئةُ إهمالٍ

أنا ماريا مَطُوطي

ترجمة محمد أنقار

 

في سن الثالثة عشرة توفيت أمه، التي كانت آخر من تبقى له. لما أصبح يتيماً كان قد مر على الأقل ثلاث سنوات على تركه الذهاب إلى المدرسة، ذلك لأنه كان يجب عليه أن يبحث عن أجرة يومه من مكان إلى آخر. كان [قريبه] الوحيدُ ابنَ عمِّ أبيه المسمى إِمِـطِرْيو رُويثْ هِـرِدْيَـا. كان إمِـطِرْيو هو العمدة، له دار من طابقين مطلة على ساحة القرية، مدورةٌ وضاربة إلى الحمرة تحت شمس أغسطس. كان إمِـطِـرْيـُو يملك مئتي رأس من الماشية ترعى على حوافي صگرادو، وبنتاً صبية تقارب العشرين، سمراء وقوية، وضحوكاً، وإلى حد ما ساذجة. ولم تكن زوجتُه النحيفة، الصلبة كشجر الحور الأسود، طيبةَ اللسان، كانت تعرف كيف تأمر. كان إمِـطِـرْيُو رُويث متضايقاً من ابن العم ذاك البعيدِ، ولكي يقوم بالواجب ساعد أرملةَ ابن عمه بأن بحث لها عن أعمال أجرة إضافية. وعلى الرغم من أنه تكفل فيما بعد بالولد يتيماً ومن دون ميراث ولا مهنة، فإنه لم ينظر إليه بعين الرضى. ومثلُ ذلك الموقف وقفته عائلة إمِـطِـرْيو.

نام لوپِـي ليلته الأولى تحت مخزن الحبوب في دار إمِـطِـرْيو. أعطوه عشاءاً وقدحاً من النبيذ. وفي يوم آخر، عندما كان إمِـطِـرْيو يُدخل القميصَ في السروال، والشمس بدأت تَشع في خُم ّالديكة؛ نادى عليه من خلال كوة الدَّرج، مثيراً الدجاجات التي كانت تنام بين الكوى:

-لوپـي!

نزل لوپـي حافي القدمين، والعينان ملتصقتان بالعمش. كان يبدو أكبر من سنواته الثلاث عشرة. وكان رأسه الكبير حليقاً.

-       ستذهب إلى صگرادو راعياً.

بحث لوپـي عن حذائيه الجلدين وانتعلهما. في المطبخ، كانت الإبنة فرانثِيسْكَا قد سخّنت البطاطا بالفلفل بسرعة. ابتلعها لوپـي بملعقة الألومنيوم  وهو يقطر بين عضة وأخرى.

 - أنت تعرف المهنة. أعتقد أنك قد ذهبت ذات ربيع بماعز أَوْرلـيُو بِـرْنال إلى روابي سانْطا أَوْرِيـَا.

-       نعم، سيدي.

-       لن تذهب وحدك. إلى هناك يذهبُ رُوكِـي إلْ مِـدْيـَانُو. ستذهبان معاً.

-       نعم، سيدي.

أدخلت فرانثيسكا في قرابه قرصَ خبز، وربعَ ريال من الألومنيوم، وشحم الماعز وقديداً.

-       هيا امش. قال إمِـطِرْيـو رُويث هِـرِديـَا.

نظر إليه لوبي. كانت عينا لوپـي سوداوين ومستديرتين، لامعتين.

-       ماذا تنظر؟ اسرع.

   خرج لوپـي، بالقراب على الكتف. قبل ذلك، أخذ العصا الغليظة اللامعة من فرط الاستعمال، كانت تنتظره مسنَدةً إلى الجدار مثل كلب.

  عندما كان يتسلق ربوة صَگرادو، رآه ضون لورنْـثُـو المعلم. وفي الحانة، مساءاً، فتل ضون لُـورِنْـثُـو سيجارة أمام إمِـطِـرْيو الذي ذهب ليشرب قدحاً من أنيس. قال:

-        لقد رأيت لوپـي. كان يصعد إلى صگرادو. أَسَفٌ على الصغير.

-       نعم. قالها إمِـطـرْيـو وهو يمسح شفتيه بظهر اليد. سيغدو راعياً. أنت تعرف: يجب أن يربح الإنسانُ الرزقَ. الحياة صعبة. أبوه "پِـيرِكُوطي" التعسُ لم يترك له ولا جداراً واحداً ليستند إليه ويموت.

قال ضون لُورِنْـثُـو  وهو يحك الأذن بظفره الطويل المصفرّ:

- المصيبة أن الولد يصلح [لشيء]. لو كانت لديَّ إمكانات لاستطعتُ استثماره. إنه فَـطِنٌ. فَـطِنٌ جداً. في المدرسة...

قاطعه إمِـطِرْيو، رافعاً اليد أمام عينيه:

-       طيب، طيب! أنا لا أنكر ذلك. ولكن يجب أن يربح قوته. إن الحياة في كل يوم تبدو أسوأ من اليوم الذي يمضي.

طلب قدحاً آخر من أنيس. قال المعلم نعم برأسه.

وصل لُوپـي إلى صَگرادو. واعتماداً على الصياح لقي رُوكِـي إِلْ مِـدْيَانُو. كان روكـي يعاني بعضَ التخلف العقلي، قضى حوالي خمس عشرة سنة يرعى لصالح إمِـطِرْيو. كان يبلغ قرابة خمسين سنة ولم يكن يتكلم إلا نادراً. كانا ينامان في نفس الكوخ الطيني الصغير، تحت أشجار البلوط مستغلين تعانق الأغصان. كانا لا يتسعان في الكوخ الصغير،  إلا وهما مضطجعين، ومن أجل دخوله كانا يحبوان كالقطة، ينجرّان تقريباً. لكن جو الكوخ يكون في الصيف منعشاً، وفي الشتاء دافئاً بما فيه الكفاية.

   مر الصيف. ثم الخريف والشتاء. لم يكن الرعاة ينـزلون إلى القرية، ما عدا في يوم العيد. وعلى راس كل خمسة عشرة يوماً كان يحمل لهم راع المؤونة: خبزاً، وقديداً، وشحماً، وثوماً. وفي بعض المرات قربةَ نبيذ. كانت قمم صگرادو جميلة، ذات لون أزرق، عميق، رهيب، وأعمى. كانت الشمس، العالية والمستديرة كمقلة ثابتة تهيمن هناك. كان لوپـي قد تعود الاستيقاظ في ضباب الفجر، والسقف الطيني فوق عينيه، لمَـَّا لم يكن يُسمَع بَعْد دويُّ الذباب، ولا أية قرقعة. كان يظل ساكناً لحظة، وهو يشعر بجسم روكِـي إلْ مِدْيَـانو في جنبه كحزمة تتنفس. بعد ذلك ، يخرج إلى الزريبة وهو ينجر. في السماء، كانت تضيع الأصوات عديمةَ الجدوى وقويةً، متداخلة كنجوم هاربة. الله يعلم في أي مكان ستسقط. كما الأحجار. كما السنين. عام، اثنان، خمسة.

بعد خمس سنوات من ذلك، أَرْسل إِمِـطِرْيو مرة يطلبه مع راع. جعل الطبيب يفحصه، ورأى أنه كان معافى وقوياً، ونامياً كشجرة.

-       قال الطبيب الذي كان جديداً:

-       يا له من شجرة بلوط!

   احمر لُوپـي ولم يعرف كيف يجيب.

كانت فرانثِـيسْكا قد تزوجت، ولها ثلاثة أطفال صغار، يلعبون في بوابة الساحة. اقترب منه كلب بلسانٍ يتهدل. ربما تذكره. حينذاك رأى مَـنْويل إِنْـريكِـثْ، زميلَ المدرسة الذي كان دائماً يأتي خلفه. كان مَـنْويل يلبس بذلة رمادية وربطة عنق. مر أمامه وحياه بيده.

علقت فرانثِـيسْكا:

-       ذاك له مسيرةٌ دراسية جيدة. أرسله أبوه ليدرس والآن ها هو يغدو ليصبح محامياً.

عندما وصل إلى النبع عاد ليلتقيه من جديد. في لحظة، أراد [لوپـي] أن يناديه. ولكن النداء بقي محبوساً في حنجرته كالكرة.

اكتفى بالقول:

-       إيه! أو شيئاً شبيهاً بذلك.

عاد مَـنْويلْ لينظر إليه فتعرَّفَـه. أمر لا يُصدَّق لقد تعرَّفـه. كان يبتسم.

-       لوپـي!، يا رجل، لوپـي!...

   من يستطيع أن يفهم ما الذي كان يقوله؟ يا لها من نبرة غريبة لدى الرجال، يا لها من كلمات غريبة تخرج من الفتحات القاتمة لأفواههم! كان الدم الخـثِـرُ يملأ شرايينه وهو يسمع مَـنْويل إنريكِثْ يتكلم.

  فتح مَـنْويلْ علبة صغيرة مسطحة، ذات لون فضي، بسجائر لم ير في حياته أبيض منها ولا أكثر أناقة. مدها إليه مَـنْويل، وهو يبتسم.

قدَّم لوپـي يده. حينذاك أدرك أن يده كانت خشنة، وغليظة. كقطعة من القدّيد. كانت الأصابع تفتقر إلى الطواعية، والقدرة على مهارة اللعب. يا لها من يد عجيبة تلك، يد الآخر: يد رقيقة، بأصابع كديدان كبيرة، أصابع خفيفة، بيضاء، ذات طواعية. يا لها من يد عجيبة تلك: بلون الشمع، وبأظافر لامعة مصقولة. يا لها من يد عجيبة: حتى النساء لم يكن لديهن مثلها. لاحظ لوپـي أن يده كانت شنيعة. في النهاية تناول السيجارة، البيضاءَ، الهشةَ، العجيبة بين أصابعه الصلبة: كانت شيئاً تافهاً، وعبثياً بين أصابعه. جمد دم لوپـي بين الحاجبين. كانت بين حاجبيه كرة من الدم تتجمع، ساكنة، مختمرة. سحق السيجارة بأصابعه ودار نصف دورة. لم يستطع أن يتوقف، حتى أمام  دهشة السيد الصغير مَـنويل الذي كان لا يزال يناديه:

- لوپـي! لوپـي!

   كان إمِـطِرْيو جالساً في الدهليز، بقميص ذي كُـمّين، ينظر إلى أحفاده. كان يبتسم، وهو يرى حفيده الأكبر. يستريح من العمل، مع قربة الخمر التي كانت قريبة من يده. مضى لوپـي مستقيماً نحو إمِـطِرْيو ورأى عينيه المتسائلتين الرماديتين:

-       هيّا، يا ولد، عد إلى صگرادو، فقد حان وقت...

   في الساحة كان هناك حجر مربع مائل إلى الحمرة. واحد من تلك الأحجار الكبيرة الشبيه بالبطيخ، ينقلها الأولاد من جدار مهدم. أخذ لوپـي الحجر بين يديه بتُـؤَدة. كان إمِـطِريو، مستلقياً، ينظر إليه ببعض الاهتمام. كانت يده اليمنى مندسة بين مشدّ البطن والمعدة. لم يجد الوقت حتى لإخراجها: الضربة الصماء، دمه الذي لطخ صدره، الموت والمفاجأة، صعدا إليه  سوياً، كأختين، هكذا، من دون زيادة.

كان لوپـي يبكي لـمَّا ذهبوا به مكبلاً. وعندما كانت النساء يردن ضربه، وهن ذاهبات وراءه بخُمُرهن المرفوعة فوق الرؤوس علامة على الحزن، والغضب؛ كن يعوين كذئبات:

«إلهي، [إمِطِـرْيو] هو الذي تكفل به. إلهي، هو الذي جعل منه رجلاً. إلهي، كان سيموت جوعاً لو لم يكن قد كفله..»

كان لوپـي يكتفي بالبكاء ويقول:

- نعم، نعم، نعم...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولدت أنا ماريا مَطُوطِي Ana María Matute في برشلونة سنة 1926. تعد واحدة من أشهر كتاب القصة القصيرة في تاريخ الأدب الإسپاني، كما أنها روائية بامتياز، وكاتبة ماهرة للأطفال.  تنتمي إلى الجيل المسمى "الأطفال الدهِشين Niños asombrados". أعمالها تصور أجواء ما بعد الحرب الأهلية في إسپانيا (1936-1939)، ورواياتها لا تخلو من مسحة اجتماعية، لكن من دون أن تنتمي إلى أي حزب سياسي بعينه. ويمكن القول إن أعمالها هي حصيلة جامعة ما بين التنديد الاجتماعي، والخطاب الشاعري، مع تكييف كل ذلك بالسمات التي طبعت الطفولة والشباب فيما بعد الحرب الأهلية. من أعمالها في مجال القصة القصيرة:

-                  الزمن El tiempo (1956)

-                  قصص أرْطايْـلا Historias de Artàila (1961)

-                  بعض الصبيان Algunos muchachos (1968)

-                  عذراء أنْطيُـوكِـيا La virgen de Antioquía y otros relatos (1990)

حصلت أنا ماريا مطوطي على عدة جوائز أدبية منها:

-                  جائزة مقهى خيخون Café Gijón Premio (1953)

-                  جائزة پـْلانيطا Planeta Premio (1954)

-                  جائزة النقد Crítica Premio (1954)

-                  الجائزة الوطنية للآداب الإسپانيةLetras Españolas   de las Premio Nacional (2007)

-                  جائزة ثربانطس Premio Cervantes (2010)

   أما قصة "خطيئة إهمال Pecado de omisión"  التي اخترناها للترجمة فقد نشرت أولاً ضمن مجموعة "قصص أرطايْـلا" سنة 1961 الصادرة عن منشورات Destino، ثم أعيد نشرها ضمن مجموعة "بعض الصبيان، وقصص أخرى" الصادرة عن دار النشر Salvat، سلسلة Libros Rtv, n 47 ، سنة 1970. ومن هذه الطبعة الأخيرة اخترنا النص المترجم.

توفيت أنا ماريا مَطُوطِي في يونيو من العام الحالي عن عمر تجاوز ثمانية وثمانين عاماً.