شرايينه تتمزق، وغضب يتملكه حتى كاد يُسقطه أرضاً، لولا استناده إلى الجدار، إلى أن استعاد توازنه مجدداً. طويلة هي اليوم، هذه المسافة التي تفصل باب المجمع السكني عن باب بيته.
خطواته متثاقلة، تبعد المسافة أكثر وأكثر.
سحقا للنسوة اللعينات. إنهن يسترقن السمع والنظر من خلف شقوق النوافذ. إنه يسمعهن يتهامسن، وكلماتهن رافقته حتى عتبة بابه، لكن لسانه لا يسعفه للرد عليها.
عيون حمراء تستقر خلف الستائر، وتجفف الدم في أوردته. طأطأ رأسه أكثر فأكثر، وهو يحس بكرامته ومروءته تسحقان، مثلما سحقت دراجة نارية تحت عجلات سيارة مسرعة كما ورد في أخبار التلفزة صباحا.
يلطم خذه، و مع كل لطمة تنجرح فيها نخوته.
"لماذا فعلت اللعينة بي هذا ؟"..
"لماذا كانت تمتطي الدارجة مع غريب؟"
كانت برفقة شاب وقت الحادث، ومعهما بعض المأكولات وقنينة مشروب كحولي.
هكذا قال الشرطي، وهو ينهي محضر الحادث، ويمده إليه لتوقيعه.
فلتتعفن هي كما تعفنت رجولته. لن يوقع المحضر، ولن يحضر جثمانها، ولن يقبل عزاء. ذلك هو قراره الأخير.
وشوشات الجيران صارت تعمق جروحه...
أدار مفتاح باب منزله، لتستقبله زوجته بنظرات تدمي العين. تكتم ألماً وجروحاً أكثر منه، لكن شفقتها على حاله هَدَّأت من روع عذابها. بعد ثوان معدودة ضاقت بصدره الدنيا وارتمى في حضنها. انتحب على نفسه وعلى زوجته، وانتحب على ابنته.
أعاد ذاكرته إلى ما قبل ست عشرة سنة، حين كانت تجعل من ذراعيه عرش مملكتها، ومن حِجره مضجعاً تقر فيه عينها.
أجهش بالبكاء وحبال صوته يمزّقها الألم:
"ليتني مت قبلك... ليتني لم أشهد هذا اليوم"..