ينطلق عبد الوهاب المسيري في مؤلفه "اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود" من سيادة الاعتقاد القائل بأن مهمة الصور المجازية يتمثل في ربط الإدراك الإنساني بالظواهر الإنسانية المجردة. فالإنسان برأي الكاتب يدرك العالم انطلاقا من صور مجازية تعبر عن نماذج إدراكية تفصح عن رؤى معينة للكون عبر ثلاثة محاور مترابطة ومتشابكة (الإله-الطبيعة -الإنسان) تعتبر وجوها من وجوه التعبير عن نفس الظاهرة. وما التسميات والتعريفات والمصطلحات والمفاهيم إنما هي تعددية تشير إلى إحدى النماذج المعرفية، التي ترادف كل منها رؤية ما للعالم.
حاول الكاتب بداية، أن يحدد معنى المجاز وأقسامه. ٳذ يشير إلى أن وظيفته لا تختصر في إضفاء بعد جمالي على مستوى التعبير، بل تمتد لتكون مجال فاعليته، بالانتقال من العلاقات اللغوية الداخلية (الدال) إلى العلاقات اللغوية الخارجية (المدلول). ويتحقق ذلك ضمن مجموعة من الاختيارات التي يرتبها ترتيبا يسمح له بتقريب المسافة بين الدال والمدلول، عبر الاشتراك القائم على علاقة تسمح بالانتقال من مستوى المعنى اللغوي إلى مستوى الإحالة المجازية. وبذلك يتم الانتقال ضمنا من مستوى ما وراء المعنى إلى مستوى ما وراء الطبيعة. في هذا السياق المزدوج يتم التأكيد على تكافؤ النقلتين معا، الأولى: نقلة استعارية من الحرفي إلى المجازي، والثانية: نقلة ميتافيزيقية من الحسي إلى ما وراء الحسي. من هنا يصرح الباحث أن هناك تواقتا بين النقلة من الطبيعة إلى ما وراء الطبيعة، والنقلة المصاحبة لها من المعنى الظاهر إلى ما وراء المعنى، يصبح عندها المجاز وصورهُ "أداة الإنسان للتعبير عن أفكار ورؤى مركبة لا يمكن التعبير عنها إلا بهذه الطريقة"(ص18).
على هذا الأساس تعقب المؤلف تتابع الصور المجازية وتتاليها بالانطلاق من لحظة الولادة المزدوجة لمصطلح (Logos). فالمصطلح يحيل من ناحية على معيار عقلي خالص، قائم على البرهان كذلك الذي يستعمله الرياضي فتكون النتائج مستنبطة بطريقة برهانية لا تتنافى مع المنطق. وقد أعطى التحول الكبير في مسيرة العقل -القرن 17م- خاصة في وجهته العلمية: الحداثة. إن توجه (Logos) نحو العالم ليعيد تشكيله وتنظيمه وفق مبادئه الخاصة بصفته ذاتيته مكن من فهمه تمهيدا للسيطرة عليه، وهذا التوجه يرادف برأي الكاتب النموذج الآلي. أما من ناحية أخرى، فيحيل مصطلح (Logos-spérmaticus) على تلك الكلمة -بمنزلة البذرة أو المني- التي من شأنها أن تصب إكسير الحياة في العالم محدثة نموا وتغيرا. وخلف هذا التعريف يتوارى العقل ليحل محله اللاوعي والشعور والعاطفة. فهذه العناصر الأخيرة، تجسد لحظة ولادة الحركة الرومانسية في بدايات القرن 19م (هيجل، شليجل..) وترادف النموذج العضوي الشمولي. ويرى الكاتب أنه مع بداية القرن 19م حتى الآن، بدا وكأن النموذجين السابقين (العضوي الشمولي والآلي) قد امتزجا: فالعقل يقرأ الطبيعة ويحاول ضبطها حتى تتوافق مع الإنسان، ويقرأ بالطريقة نفسها المجتمع ويعيد إنشاءه تبعا لمقاصده. ولم تفلت الذات من هذه القراءة ومن أن تكون موضوعا قابلا للضبط وفق مقتضيات العقل. فقد كشف الفلاسفة عن ميول الإنسان العارف إلى السيطرة والنفوذ، فرأوا هذا الائتلاف بين دوافعه اللاعقلية والعقل نفسه (أمثال هيجل وماركس).
أما بخصوص صور فلاسفة اللاعقلانية (نيتشه، شوبنهاور..) الذين فضلوا الانفعال والشغف والإرادة على العقل، فقد دفعوا بالفكر نحو الحياة باعتبارها حركة متطابقة مع الكون. ومعنى هذا الأخير، يجب البحث عنه في العالم المعطى أي في الحياة. فعبرها ومن خلال التجربة الفعلية يتم تشييد صلاحية الكون في العالم. الأمر الذي يطرح سؤال العودة الجذري إلى الذاتية التي تؤدي إلى بلوغ المعنى النهائي للكون في العالم. أي وجود تعاقب دوري يسمح بالانتقال من العضوية المطلقة إلى الآلية، وكلاهما يخفي إنكارا لمقدرة الإنسان. وتعتبر البنيوية مزيجا تاما للنموذجين، فالبنية كل عضوي خاضع للقوانين التي تفرضها العلاقات بين العناصر المكونة له. غير أن هذا التناسق الداخلي يدرك بناء على نموذج هندسي خارجي عنه يهدف السيطرة.
من هذه المنطلقات، اختصر الكاتب صيرورة التحولات في الحضارة الغربية -داخل نموذجين (عضوي وآلي)- رمز إليها بأسطورة بروميثيوس، باعتبارها صورة مجازية للعلمانية. فبروميثيوس رمز الإنسان الذي انعتق من ثقافة المغيوب عن طريق العلم والنزعة الموصوفة بالعقلانية التي تربط عمل العقل بالنفعية أو العلمية المترتبة عليه٬ فتمكن من استعباد الطبيعة واسترقاقها حل معها الإله الإنسان محل الإله الميت. غير أن الأمر لم يدم طويلا، فتحول بروميثيوس إلى فرنكنشتاين الآلي ثم سيزيف.
ونود لفت الانتباه ٳلى ظهور صورة مجازية جديدة فقد معها العالم مركزه، ولم يعد بوسع الذات أن تقيم تفرعا ثنائيا بل أن تصل إلى وحدة أعلى من الازدواجية أو التحدد التضافري. بل أصبح العالم سديما، ليس للتعددية ذات أو موضوع إنما فقط تحديدات أو أحجام وأبعاد لا يمكن أن تزداد دون أن تتغير طبيعتها. ويمكن تسمية مثل هذا النظام ؛ جذمورا (Rhizome). وهو نبات له تعدديات أي كائن عضوي لا يتبع أي نمط.
بعد هذه اللمحة التاريخية للإشكالات الفلسفية المرتبطة بالصورتين المجازيتين في الحضارة الغربية (الآلية والعضوية). حاول المؤلف دراسة وتحليل الكيفية التي تولدت بها صورتان مجازيتان جديدتان (الجسد والجنس) من رحم الصورتين السابقتين. ولعل أول خطوة قام بها المؤلف هو الحفر في المتون والأسس الفكرية التي تفتقت عنها الصورتان، ناحتٌا في الآن ذاته مصطلحا معبرا عن هذه النزعة: (الجنينية). إذ تختزل تعددية العالم في مبدأ واحدي بسيط، فهي حركة اختزالية حددها المؤلف في الجسد والجنس. ومنطلقه في ذلك فلسفة شوبنهاور التي آثرت الانفعال وفضلت إرادة الحياة على العقل. فما عاد له الكلمة الفصل في الحقيقة والعالم بل دخل الجسد الذي تم استبعاده طويلا خارج الحقل المعقود للعقل. إن رفض شوبنهاور موضعة الجسد في الإطار الهامشي جعله يدفع بهذا الجسد للإفصاح عن عملية إٍرغامه للصمت طويلا بموجب الفصل الثنائي الحاد. من هنا أصبح الجسد المعادل الموضوعي لإرادة الحياة، اتخذت شكل ثورة جنسية تعلن تمردها على الجذر الأصم للوجود المتمثل في الموت.
إن هذا الافتعال الدرامي للجنس، هذه القناعة بأن للجنس قوة جذرية بقدر ما هي سرية تقهر الموت من جهة، وتنهي كل أشكال القمع التي فرضتها رقابة العقل (الثنائيات) من جهة أخرى، جعلا الكاتب يفصح عن بعض جوانب التفكير الفلسفي، يطفو عبرها الجسد باعتباره صورة مجازية نجملها في النقاط التالية:
Ãاختزال الكائن الإنساني في جسد مادي طبيعي تحكمه الأهواء والنزوعات بعيدا عن حضارة القيم والهوية.
Ãانطلاق الفلسفات العضوية ذات النزعة الجنينية من فكرة أن الجسد صورة مختزلة ومصغرة للعالم، حيث تكاد المسافة بين الاثنين تنمحي.
Ãمركزية الجسد في العديد من الفلسفات الحديثة حتى ليبدو أن حدس الحياة في إطار الحواس الخمس هو مصدر كل واقع تبدأ عنده المعرفة. فالإنسان هنا يعرَّف برغباته وحاجاته، وتزداد هذه المركزية في الفرويدية.
Ãبروز الجسد كصورة مجازية في الفلسفة الفينومينولوجية خصوصا عند ميرلوبونتي. تفصِحُ دعوته عن مقاربة الأشياء والعالم ليس فقط من وجهة نظر الذهن، إنما الجسم الإنساني بكامله وبكل ملكاته. هذا الكل من الكائن الذي يأتي كوننا الخاص ليندرج فيه في كل اللحظات، بمعنى في كل ما يمكننا أن نكون عليه ونقوم به، والذي لن يكون كذلك من غيرنا، بل يحتاج لينمو لكوننا الخاص. من هنا تحمل علاقتنا به معنى مزدوجا، الأول: بناء عليه نحن نخصه والثاني: بناء عليه هو يخصنا. إنها دائما علاقة متبادلة بين الكون في جملته ونحن، ويتحقق ذلك (برأي الكاتب) انطلاقا من مفهوم الجسد المعيشي عند ميرلوبونتي.
Ãحلم أنصار ما بعد الحداثة في التحام الذات بالعالم وكلية الحياة، بحيث لا مجال للشرخ بين الفكر والواقع أو الدال والمدلول (النزعة الجنينية).
Ãالمعرفة السابقة كانت تتوخى إضفاء نوع من المعقولية والتنظيم على الواقع، بخلاف المعرفة الحالية التي تهدف اللعب والرغبة حسب ميشيل فوكو.
Ãالانفلات من قبضة السيطرة الذكورية والاحتفاء بأدب نسوي يمثل فيه النص جسد امرأة والتناص حركة أنثوية.
Ãالإيمان بالحتمية والنسبية أي النزعة الجنينية التي تضعف الهوية وتزيل عن الإنسان عبء الاختيار الخلقي.
Ãانهيار مؤسسة الزواج التي فصلت النشاطات الجنسية المشروعة عن غيرها، أدى إلى ثورة جنسية أنهت كل أشكال الثنائيات لتعلن ميلاد الحالة الجنينية.
بعد التأسيس النظري والتتبع الدقيق للصورتين المجازيتين في الحضارة الغربية الحديثة، يتم الخفر في صورة الجنس المجازية انطلاقا من الأسس الثيولوجية في الحضارة الغربية.
على هذا الأساس، يعالج الكاتب الصورة المجازية الجسدية والجنسية انطلاقا من الثيولوجيا اليهودية التي تصل ذروتها في كتب الفكر القبَّالي. وهو فكر صوفي قائم على الشطحات والسبحات الباطنية الماورائية، ينزع نزوعا حلوليا نحو تقريب المساحة بين الخالق والمخلوق وبين الإله والكون. ٳذ تعكس كتب القبَّالاه مجموعة من التفسيرات والتأويلات الصوفية التي تنزع نحو تضييق المسافات بين الثنائيات، بدعوى الامتزاج والاتحاد بين الإله والقبّالي حتى يتسنى لهذا الأخير الحصول على المعرفة التي تمكنه السيطرة على العالم. وعلى الرغم من أن هذا النمط من التفكير أو التدين يخالف تقاليد العهد القديم إلا أن بذوره الجنينية تعود إليه. تتخذ هذه البذور شكل صورة مجازية جنسية تُشبه تماسك أجزاء العالم بالجماع ٬ حيث الذات الإلهية تحوي عناصر الذكورة والأنوثة ما دامت علاقة الإله بالإنسان تتخذ شكل ذكر وأنثى في وضع عناقي.
ضمن هذا المنظور ٬ يرصد عبد الوهاب المسيري التجليات العشر الصادرة عن النور الذاتي الإلهي والتي أوجدت العالم٬ حيث التجليان الثاني والثالث يدخلان في علاقة جنسية خاصة تتحقق بواسطة التجلي التاسع عضو التذكير (القضيب). من هنا تناسلت صورة الابن والابنة المنفصلان. تتحدد دلالاتهما في تفسيرات التوراة والتي تعتبر جماعهما (الجنسي) إصلاحا للخلل الكوني. وقد شاع هذا التفسير القبَّالي في بداية العصر الحديث موازاة مع تصاعد العلمانية. إذ أصبح صورة مجازية محيلة على الحداثة بينما الجنس صورة مجازية لما بعد الحداثة.
بعد إبراز الأساس الثيولوجي والفكري لصورة الجنس المجازية يورد الكاتب تجليات هذه الصورة في الحضارة الغربية نختصرها في النقاط التالية:
- تساوي الإله والمادة وبروز الجنس كصورة مجازية في الفلسفة الحديثة.
- اكتساح الجنس للنظرية الأدبية بتمركز النظرية النقدية حول الأنثى: إذ يربط مفكرو ما بعد الحداثة بين اللغة العقلانية والذكورة من جهة، واللغة المجازية والأنوثة من جهة أخرى.
- تغيير مفهوم النص، أصبحت فيه الصورة المجازية هي اللذة الجنسية والرغبة.
- تعويض قيم الحب بمفهوم اللذة أصبح حينها الجنس يستخدم في بيع السلع.
انطلاقا من هذه التجليات يميز الكاتب بين المادية الصلبة المتجسدة في عبادة الجسد، والمادية السائلة المتمثلة في عبادة الجنس.
من هذه المنطلقات التحديدية ٬ نعاين بجلاء وجود نوع من الترابط بين اللغوي والديني والنفسي ينبغي عبره دراسة الظواهر في تشابكها وتركيبها بعيدا عن الرؤية الاختزالية التي تسقطنا في التفسير الأحادي الذي يختزل الثنائيات في الطبيعة والمادة أو في التفسير العلمي الموضوعي الذي يفصل بين المجالات المختلفة للنشاط الإنساني حيث يستدعي كل مجال قوانينه ومعاييره الخاصة.
(المغرب)