نتابع هنا ما بدأناه في العدد الماضي من يوميات الكاتب الفلسطيني عن العدوان على غزة، ويشكل مجموعها رصد ليوميات وتفاصيل العدوان الصهيوني على المدينة. كما يصور وقائع المقاومة الفلسطينية، ويكتب السرديات الأهليّة في الداخل كشهادة على الكيفية التي تعملقت فيها الإرادة والتصميم على البقاء ونصرة الحياة.

غزة تحت النار

مصطفى يوسف اللداوي

غزة تحت النار (47)

تضامنٌ غربي وجحودٌ عربي

تنقل إلينا وسائل الإعلام المختلفة حملاتِ تضامنٍ أجنبيةٍ، تتضامن مع قطاع غزة، وتقف إلى جانب سكانه، تؤيدهم في مقاومتهم، وتنصفهم في شروطهم ومطالبهم، وتؤمن بعدالة قضيتهم، وشرف ونبل مقاومتهم، وتناصر الفلسطينيين عملياً، وتساندهم فعلياً، وتساعدهم بقوانينها الوطنية، وتسهل التعامل معهم، وتؤازرهم في منظمة الأمم المتحدة ومختلف مؤسساتها الدولية، رغم أنها ليسوا عرباً ولا مسلمين، ولا يعيشون قريباً منا ولا في الجوار، بل تفصلنا عنهم بحارٌ محيطات، ودولٌ وآلاف الأميال.

بينما تنتقد وتعارض الحكومة الإسرائيلية، وتصف أعمالها بأنها إجرامية وعدوانية، وبعضهم يصفها بأنها إرهابية ومخالفة للقوانين، وأنها دولة عنصرية فاشية، تجاوزت الأخلاق والمثل الإنسانية، ودعا بعضهم إلى مراجعة الاتفاقيات والمعاهدات التي تربط بلادهم بالكيان الصهيوني، وتنظم مختلف العلاقات معهم.

ودعا آخرون إلى وجوب مقاطعة الكيان الصهيوني، ووقف كل أشكال التعاون معه، بل وفرض عقوباتٍ مشددة عليه، لمنعه من مواصلة عدوانه، وإجباره على الخضوع للقانون الدولي، والموافقة على الشروط والمطالب الفلسطينية، التي يرون أنها مطالب محقة، وهي مطالبٌ إنسانية وعادية، يصعب على المجتمع الدولي أن يرفضها أو أن يتنكر لها، إذ هي حق الشعوب كلها، التي لا يمكن مصادرتها أو السكوت على ضياعها.

وهي حملاتُ تضامنٍ رسمية، تقوم بها أنظمة وحكومات، ويعبر عنها رؤساء ووزراء، وهي بالتأكيد تختلف عن الحملات التضامنية الشعبية، التي هي كثيرةٌ وعديدة، وناشطة وفاعلة، ومؤثرة وضاغطة، إلا أنها لا ترقى إلى مستوى الحملات الرسمية، التي ينشأ عنها تغييراتٌ واجراءاتٌ، ومواقف وسياسات، كما لا يستطيع العالم أن يغض الطرف عنها، أو أن يمتنع عن الاستماع إليها، إذ أنها مهما كانت خافتةً فإنها تبقى قوية، وأياً كانت الدول الصادرة عنها صغيرة أو ضعيفة أو بعيدة أو قليلة التأثير، فإن لها صدىً كبيراً، ووقعاً قاسياً على الكيان الصهيوني، وعلى صناع القرار الدولي، وسيكون لها دورٌ في تحريك الرأي العام الدولي، وتغيير المزاج الشعبي، وكشف حقيقة العدو الصهيوني وفضح ممارساته.

لم تقتصر المواقف الدولية المستنكرة للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، على الأرجنتين والبرازيل والأوروغواي وبوليفيا وتشيلي وبنما وغيرهم من دول أمريكا اللاتينية، وهي التي تبعد عن فلسطين آلاف الأميال، وتختلف عن أهلها لساناً وديناً وشكلاً، وعادةً وتقاليد وأحوالاً، بل سارعت دولة جنوب أفريقيا والهند إلى استدعاء سفرائهم لدى الكيان الصهيوني للتفاهم، وطالبوا المجتمع الدولي بممارسة الضغط على الحكومة الإسرائيلية، لوقف إطلاق النار، ووجوب احترام القوانين الدولية، ولرفع الحصار المفروض على قطاع غزة، وأعربوا عن قلقهم العميق إزاء تدهور الأوضاع الإنسانية، وزيادة أعداد الضحايا المدنيين.

أما في أوروبا فقد سارع وزير خارجية بلغاريا إلى توجيه النقد إلى الحكومة الإسرائيلية، داعياً إياها إلى وقف كافة عملياتها العسكرية، وذكرها بأن العدوان على قطاع غزة لن يجلب لها الأمان، ولن يحل مشكلتها مع الفلسطينيين، وأن ما ترتكبه بحق الفلسطينيين يرقى إلى مستوى الجريمة الإنسانية.

أما رئيس المجلس الرئاسي في البوسنة والهرسك فقد دعا زعماء أوروبا إلى ضرورة التحرك العاجل لإنقاذ الشعب الفلسطيني، وذكرهم بالمذابح التي تعرض لها الشعب البوسني، وأنها تشبه كثيراً ما يتعرض له الفلسطينيون اليوم، وأن المجتمع الدولي الذي كان شريكاً في ارتكابها بصمته وتخاذله وتأخره في التدخل الفاعل في الوقت المناسب، فإنه اليوم شريكٌ في هذا العدوان، ما لم يعجل في التحرك الفاعل.

كثيرةٌ هي الدول الأوروبية والغربية التي استدعت سفراء الكيان الصهيوني لديها، وسلمتهم مذكرات احتجاج رسمية، ومنهم من استخدم مفرداتٍ قاسية في العرف الدبلوماسي، في إشارةٍ إلى رفضهم التام للسلوك الإسرائيلي، وعدم اقتناعهم بالمبررات الأمنية التي تسوقها حكومتهم، وأنهم لا يقبلون بأقل من الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وأولها حقه في الحياة الحرة الكريمة، بلا حصارٍ ولا تضييق.

كما أعلنت أحزابٌ أوروبية مشاركة في الحكم أو معارضة، ومنها إسبانية رفضها التام للعدوان الإسرائيلي، وطالبت المجتمع الدولي أن يقوم بخطواتٍ عملية لوقف العدوان، والانتصار للشعب الفقير المحاصر، واستنكرت الأحزاب الإسبانية بشدة موقف جامعة الدول العربية، واتهمتها بأنها متواطئة وراضية، واعتبرت أن مواقفها لا ترقى إلى درجة الجدية والمسؤولية، وأنهم يعلنون تضامنهم مع الضحايا الفلسطينيين لكن على استحياءٍ شديد، بما لا يغضب الإسرائيليين أو يغير من سلوكهم، وأنهم لا يعملون شيئاً لإنقاذ الفلسطينيين والوقوف معهم.

إنه لأمرٌ محزنٌ جداً أن يجد الفلسطينيون نصرتهم بعيداً وراء البحار، ومن دولٍ وحكوماتٍ لا تعرف العربية، ولا تدين بالإسلام، ولا تعرف الوجوه، ولا تحفظ الأسماء، ولا يربطها مع الفلسطينيين سوى الإنسانية والقيم الثورية، ولكنها تثور على الظلم، وتنتصر للحق، ولا تتردد في استنكار الباطل، وشجب العدوان، ولو جاء من دولةٍ يرعاها المجتمع الدولي، ويكفل وجودها، ويضمن تفوقها، ويرعى عدوانها.

بينما تقف الدول العربية بأنظمتها البوليسية الأمنية، وهي العربية المسلمة، الجارة القريبة، ساكتة صامتة لا تحرك ساكناً، ولا تنطق ولا تشجب ولا تستنكر، ولا تنتصر ولا تساعد ولا تناصر، ولا تغضب ولا تثور ولا تنتفض، ضعيفة مهينة عاجزة، مضحكة مبكية مثيرة للحزن والأسى، وتبعث على السخرية والتهكم والاستهزاء، تتناولها الكلمات بالغمز واللمز والتلطيش، بالتصريح أو التلميح، ولكنها ميتة لا حياة فيها، بليدة لا تحس، غبية لا تفهم، وسفيهة لا تعي، تنتصر للعدو وتقف معه، وتبرر فعله، وتقف ضد أبناء أمتها وتعارضهم، وتحاصرهم وتعاقبهم، وتمنع الانتصار لهم، وتعاقب من يفكر في مساعدتهم وتقديم العون لهم.

الخميس 15:25 الموافق 31/7/2014 (اليوم الخامس والعشرين للعدوان)

* * *

غزة تحت النار (48)

اليوم الأكثر سخونةً والأشد صعوبة

في كل يومٍ يطلع علينا الصحفيون والمراسلون والمصورون، والعاملون في الإعلام، والأطباء والمسعفون والمستشفيات، والمراقبون والمتابعون والناطقون الرسميون والخبراء العسكريون، والأهل والجيران والمعارف في قطاع غزة وخارجه، بأن اليوم كان هو الأكثر سخونة، والأشد صعوبةً، والأكثر قصفاً وتدميراً، وأنه شهد تصعيداً خطيراً، واعتداءاتٍ غير مسبوقة، واستهدف مناطق سكنية ومساجد ومدارس لأول مرة.

ويقولون أن اليوم قد شهد سقوط عشرات الشهداء في مناطق متعددة من القطاع، كما أدى القصف إلى إصابة المئات بجراحٍ في أغلبها خطيرة، نقلوا جميعاً إلى مستشفيات القطاع الفقيرة، التي تعاني من نقصٍ في الكادر الطبي والمعدات والأدوية، فضلاً عن انقطاع التيار الكهربائي، وقصف خزانات الوقود والمولدات الكهربائية الخاصة، الأمر الذي أدى إلى تعطل الكثير من الأجهزة الإليكترونية، وتوقف الحضانات وغرف الإنعاش، وتعذر إجراء العديد من العمليات الجراحية، فضلاً عن توقف برادات حفظ الموتى.

ويضيفون بأن القصف اليوم تسبب في استشهاد وإصابة عددٍ من الصحفيين الذي كانوا يحاولون تغطية الأحداث، ونقل صور المجازر والاعتداءات، رغم أنهم كانوا يضعون شارة الصحافة، التي تبدو على صدورهم وظهورهم بوضوح، ويحملون الكاميرات والسماعات، وهم الذين تحميهم القوانين والاتفاقيات والمعاهدات الدولية من أي اعتداء، وتدعو القوات العسكرية على أرض المعركة إلى احترام صفاتهم، وتسهيل عملهم، وعدم تعريض حياتهم إلى الخطر.

ويقولون استشهد اليوم أيضاً عددٌ من المسعفين والعاملين في الطواقم الطبية، الذين استشهدوا ومن ينقلون، إذ استهدفتهم الصواريخ والقذائف المدفعية الإسرائيلية، رغم علمهم بأنها سياراتٌ صحية، وأنها تحمل مصابين وجرحى، وتقوم بواجبها الإنساني على أرض المعركة، ولا دور لها في العمليات القتالية، ولا تحمل معها أسلحة ولا معدات قتال، ولا يوجد فيها مقاومون، كما تم استهداف بعضهم أثناء فترات الهدنة الإنسانية المعلنة، ووقف إطلاق النار المتفق عليه، كما تم قصف عددٍ من المستشفيات والمراكز الصحية.

وطالت الغارات الإسرائيلية المواطنين المدنيين اللاجئين إلى مدارس ومؤسسات الأونروا، ومراكز الإيواء المختلفة التي فتحتها، بعد أن نسقت إدارة الأونروا مع سلطات الاحتلال، التي كانت تعرف أسماء المدارس ومواقعها، ما يعني أنها كانت تعرف أنها مراكز إيواء إنسانية، إلا أنها تعمدت أن تقصفها أكثر من مرة، ما أدى إلى استشهاد العشرات، وإصابة المئات من الأطفال والنساء والشيوخ.

اليوم لم تتوقف الطائرات الحربية الإسرائيلية المقاتلة، والدبابات المحتشدة على أطراف القطاع، والبوارج البحرية التي تجوب سواحله عن استهداف البيوت الفلسطينية الآهلة بالسكان، فدمرت عشرات البيوت والمساكن ي كل أنحاء قطاع غزة، ما أدى إلى استشهادٍ العديد من سكانها، وهم في أغلبهم أبناء عائلاتٍ واحدة، بينما دفن بعضهم تحت الردم والركام الذي سببه القصف، كما استهدفت المساجد في أوقاتٍ مختلفة، الأمر الذي أدى إلى مضاعفة عدد الشهداء والجرحى، فضلاً عن تدمير المساجد المستهدفة تدميراً كلياً.

وفي ساعات المساء استهدفت قوات العدو الصهيوني سوقاً وسط المدينة أو المخيم، أو تجمعاً للسكان في أحد الأحياء، ما أدى إلى وقوع مجزرة كبيرة، راح ضحيتها عشرات الشهداء والجرحى، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع عدد ضحايا العدوان الإسرائيلي في هذا اليوم.

هذا هو التقرير اليومي للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ خمسة وعشرين يوماً، لم يتغير في شئ ولم يتبدل، اللهم إلا في عدد الشهداء والجرحى، أقل أو أكثر من اليوم الذي سبقه، أو في أسماء المناطق المستهدفة بالقصف، وهي مناطق لا تتبدل ولا تتغير، ولكنها تتبادل الأدوار، وتتناوب على المحنة والابتلاء، فما إن يهدأ القصف عنها حتى يعود إليها، أو يعود إلى غيرها.

فقد استهدف العدو الصهيوني حي الشجاعية شرق القطاع، وحي الزيتون وسط شرق المدينة، ومخيم الشاطئ وسط غرب المدينة، وبلدات خانيونس المختلفة، وإن كانت خزاعة هي أكثر البلدات استهدافاً، وطالت الغارات الإسرائيلية شرق مخيم جباليا وغربه، كما قصفت وسط المخيم المكتظ بالسكان، وامتد القصف ليشمل بيت لاهيا والعطارة والسيفا وبيت حانون، وطال مخيم الشابورة وحي تل السلطان وجحر الديك والشريط الحدودي مع مصر في مدينة رفح، وطال القصف كل المخيمات الوسطى في البريج والنصيرات ودير البلح، وكل شبرٍ مسكونٍ ومهجورٍ في قطاع غزة.

إنه اليوم المتكرر نفسه الذي يعود كل يوم، يحمل معه ذات الجراح، ويقصف ذات الأماكن، ويطال الأهداف نفسها، ويقتل أبناء العائلات ذاتها، ويدمر ما دمره بالأمس ويزيد عليه، ويخرب ما خربه أول أمس ويعيد قصفه، مما يدفع المواطنين وغيرهم إلى وصف اليوم بأنه الأشد والأصعب، وأنه الأكثر دمويةً وقتلاً، وأنه الأكثر قصفاً، والأكثف غاراتٍ، ولكنهم عندما يذكرون أن إسرائيل هي عدوهم، وأنها هي التي تقصفهم، يدركون أن أيامهم معها واحدة، مليئة بالمعاناة والعذاب، وممزوجة بالظلم والقهر، وأنها أيامٌ واحدة تتشابه ولا تختلف، تتفق في دمويتها، وتتشابه في قسوتها، وتلتقي كلها عند عدوٍ واحد، يعرفونه ولا يجهلونه.

الخميس 11:00 الموافق 31/7/2014 (اليوم الخامس والعشرون للعدوان)

* * *

غزة تحت النار (49)

الشركاء في العدوان على غزة

الفلسطينيون في قطاع غزة لا يواجهون جيش الكيان الصهيوني فقط، ولا يقاومون عدوانه وحسب، بل إنهم يواجهون منظومةً كبيرة، وتحالفاً دولياً، على كل المستويات السياسية والعسكرية والإعلامية، التي التقت على كسر إرادة الشعب الفلسطيني، وتحطيم كبريائه، والقضاء على مقاومته، ونزع سلاحه، وتجريده من كل أسباب ومقومات القوة، لمنعه من أن يكون قادراً على صد العدوان، ومنع الاعتداء، وليكون دوماً أمام العدو جبهةً رخوة، وأرضاً سهلة، ولقمةً سائغة، يجتاحها وقت شاء، ويعتدي عليها كلما أراد، فلا يخاف من ردةِ فعلٍ مقاومة، ولا من عملياتٍ مباغتة، ولا مفاجئاتٍ قاتلة.

الكيان الصهيوني لا يقاتل في قطاع غزة وحده، ولا يعتدي على السكان المدنيين بسلاحه فقط، وجنوده المقاتلون ليسوا إسرائيليين وحسب، ومؤسساته الإعلامية الحربية والسياسية ليست محلية، وإنما هي جبهةٌ دولية موسعة، لا تخفي تحالفها، ولا تنكر مساعدتها، ولا تتأخر عن نصرة الكيان ونجدته، ولا تبدي خجلاً من مواقفها، ولا تتردد في سلوكها، ولا يعنيها الرأي الدولي العام، ولا يزعجها عدد الضحايا الفلسطينيين من المدنيين، ولا حجم الدمار الذي خلفه العدوان، بل ما يدفعها فقط هي المصالح الإسرائيلية، وما يقلقها هي الهموم الإسرائيلية، فهي لا تحمل إلا وجهة النظر الإسرائيلية، ولا تدافع إلا عنها، ولا ترى في ممارسات العدو تجاه الفلسطينيين عدواناً، بل هي محاولة للدفاع عن النفس، وصد العدوان، وحماية أرواح ومصالح المواطنين الإسرائيليين، ما يعني أنها عملية دفاع عن النفس مشروعٌ ومباح.

كشف العدوان على قطاع غزة أن الولايات المتحدة الأمريكية شريكة فاعلة في العدوان بالسلاح والمال والسياسة والإعلام، وهو أمرٌ ليس بالغريب ولا بالجديد، فنحن نعلم أن الإدارة الأمريكية لا تتخلى عن الكيان الصهيوني، ولا تتركه وحيداً، ولا تقصر في مساعدته ونصرته، فهذا أمرٌ بات يعرفه الجميع ولا يستغربونه، في الوقت الذي لا تخفيه الإدارة الأمريكية، فهي التي تمده بالسلام والمال، وتعزز ترسانته العسكرية، وتحقن نظامه الاقتصادي، وتحميه من القرارات الأممية التي قد تصدر من مجلس الأمن الدولي، لئلا يدان أو يشجب فعله، وحتى لا يخضع للرقابة الدولية، أو يلزم بتنفيذ بنود الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، خاصة لجهة الأسلحة المحرمة دولياً، وأسلحة الدمار الشامل.

خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة قامت الإدارة الأمريكية بتحويل ملايين الدولارات لتحصين نظام القبة الفولاذية، وتمكينه من صد صواريخ المقاومة، ومنعها من الوصول إلى المناطق الإسرائيلية، فضلاً عن قيامها بإجراءاتٍ عديدة لتعويض الخلل في الاقتصاد الإسرائيلي الذي تضرر بفعل الحرب.

كما سمحت وزارة الدفاع الأمريكية للجيش الإسرائيلي باستخدام المخزون الاستراتيجي للأسلحة الأمريكية الموجودة داخل الكيان الصهيوني، والاستفادة من مستودعات الذخيرة، وهي ذخائر نوعية وخطرة، حيث تشير أغلب التقارير العسكرية الإسرائيلية إلى أن الحرب على قطاع غزة قد أثرت على المخزون الاستراتيجي للسلاح الإسرائيلي، كون هذه الحرب هي الأضخم والأوسع، وقد استخدم فيها جيش العدو كمياتٍ كبيرة من الأسلحة، خلال طلعاته الجوية المكثفة، بالإضافة إلى مدفعية الميدان وسلاح الدبابات والبوارج الحربية، الأمر الذي شكل خطراً حقيقياً على موجودات الجيش الاستراتيجية.

الجيش الإسرائيلي لا يقاتل الفلسطينيين بجنوده فقط، وإنما أصبح في صفوفه المئات من المتطوعين الأجانب والمقاتلين الغرباء، فقد أوردت تقارير صحفية بناءً على معلوماتٍ عليمة ووثيقة الصلة بجيش الكيان، أنه بات يضم الآن مئات المقاتلين الأجانب من الجنسيات الأمريكية والبريطانية والفرنسية والكندية والأسترالية والنيوزيلاندية والأوكرانية والجورجية وغيرهم.

ويقدر مسؤولون عسكريون إسرائيليون وجود آلاف المقاتلين الأجانب في جيش الكيان، ممن جاؤوا إلى فلسطين المحتلة، بنية الالتحاق بجيش الكيان بقصد قتال الفلسطينيين، وهم على درجة عالية من التدريب والتأهيل، وتسكنهم روح الكره والحقد، حيث يبدي غالبيتهم رغبتهم القيام بعملياتٍ قتالية على الجبهة، ويمتاز هذا النوع من المقاتلين الأجانب، الذي يطلق عليهم اسم "الجندي الوحيد"، نسبةً إلى أنه جاء وحيداً، وليس له أهل أو أسرة داخل فلسطين المحتلة، بالتطرف والعنف، والميل الشديد لاستخدام القوة المفرطة في أي أعمال قتالية، حيث يحرص أغلبهم على الالتحاق بوحدات النخبة، كألوية جولاني وجفعاتي وإيغوز، كما أن بعضهم يجد متعته في عمليات القنص، وتسجيل الأرقام القياسية في جرائم القتل.

يعتبر المقاتلون الأجانب في جيش العدو مقاتلين عقائديين، أي أنهم يؤمنون بالدولة العبرية، ويخلصون في الدفاع عنها، ويدعون المجتمع الدولي لنصرتها، ويرون أن العرب يشكلون خطراً عليها، ويعملون على إضعافها أو إزالتها من الوجود، وهم أيضاً أكثر حماسةً وشجاعةً من الجنود الإسرائيليين، ويحرصون على أن يكونوا دوماً في الصفوف الأولى المتقدمة أو المقتحمة، وقد سجل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة مقتل العديد من المقاتلين الأجانب، ولعل أغلب القتلى كانوا من حملة الجنسية الأمريكية.

مخطئ من يظن أن الإدارة الأمريكية تسعى جاهدةً لفرض تهدئة ووقف إطلاقِ نارٍ بين الجانبين لصالح الفلسطينيين، لتمنع آلة القتل الصهيونية من ارتكاب المزيد من المجازر والجرائم بحق المدنيين الفلسطينيين، أو أن المجتمع الدولي قلقٌ على الفلسطينيين، وخائفٌ على مصيرهم ومستقبلهم، بدليل أنهم يقاتلون معه بالسلاح والمال والرجال، ولديهم الجاهزية لتعويضه دوماً عن أي نقص، وتلبية أي حاجة طارئة عليه.

الحقيقة أنهم شركاء مع العدو في عدوانهم علينا، وأن الذي يدفعهم للتدخل الفاعل والمباشر، هو أنهم جميعاً خائفين على مستقبل الكيان الصهيوني، ويرون أن هذه المعركة مختلفةٌ عن كل الحروب السابقة، وأن الجيش الإسرائيلي لا قِبَلَ له على مواجهة الجيل الفلسطيني المقاوم الجديد، الذي يصر على النصر، ويرفض الهزيمة، ولا يؤمن بالتفوق الإسرائيلي، ولا يعتقد بدوام قوته، واستمرار هيبته، بل يرى أن زمن صعوده قد ولى، وزمان انكساره وسقوطه قد حل.

الجمعة 11:30 الموافق 1/8/2014 ( اليوم السادس والعشرون للعدوان)

* * *

غزة تحت النار (50)

وقاحةٌ إسرائيلية وسفاهةٌ أمريكية

وقاحةٌ إسرائيلية فجةٌ غريبة، ليس لها تفسير سوى أنهم أغبياء، يريدون أن يعيشوا في واقعٍ ماضي، وتاريخٍ سقيم، وجوارٍ ضعيفٍ مهزومٍ، وأن يحتكموا إلى مفاهيمهم القديمة، وأن يطبقوا سياساتهم التي اعتادوا عليها، وكأَنَّ الزمان قد جَمُد ولم يتغير، وأن معايير القوة ما زالت حكراً عليهم، لا ينازعهم فيها أحد، ولا تنافسهم عليها أمة، وأن التفوق قد خلق لهم، وأن التميزَ علامةٌ لكيانهم، وأن عدوهم قد استناخ لهم وإلى الأبد.

فهم يريدون أن يقتلوا الفلسطينيين، وأن يدمروا بيوتهم ومساكنهم، وأن يرتكبوا في حقهم كل الموبقات والمحرمات، بينما لا يحق للفلسطيني أن يردع قاتله، ولا أن يصد المعتدي عليه، ولا أن يحاول قتله أو أسره، رغم أن قاتله يركب دبابةً ويقصف، ويجلس على مربض مدفع ويرمي، ويحمل رشاشه ويطلق رصاصه عشوائياً يصيب به من يشاء، لكن لا يجوز في عرفهم للفلسطيني أن يقاوم المعتدين، ولا أن يصد غارات العدو، وإنما عليه أن ينتظر مقتله، وأن يقبل هدم بيته، وتشريد أهله، وغير ذلك يكون خروجٌ على المألوف، وشذوذٌ عن القاعدة والأصل، ومخالفة للقيم والقوانين، وخرق للأعراف والمواثيق.

كيف يستغرب العدو الإسرائيلي أن تقوم المقاومة الفلسطينية بأسر ضابطٍ عسكري، كان على أرض المعركة في الميدان، يصدر الأوامر، ويوجه الجنود، ويحدد مناطق القصف، والجهات المقصودة، ويوزع بسلاحه الموت والدمار والخراب على الفلسطينيين، ولا يبالي أين تقع قذائفه، وعلى من تسقط حممه.

هل كان العدو يريد من المقاومة أن تربت على ظهر الجندي أو الضابط، وأن تشيد به وبجهده، وأن تتقدم له بالشكر والعرفان أنه يقتل شعبنا، ويخرب بلداتنا، ويدمر بيوتنا.

أم أنه كان ينتظر منا أن نعيد من تاه من جنودهم إلى ثكناتهم ووحداتهم، وأن نحسن إليهم ولا نسيئ معاملتهم، وألا نعيقهم أو نتأخر عليهم، أم أنه يريد منا أن نستنيخ لمن يقتلنا، وأن نصطف على الجدران، أو نستلقي على الأرض ليأتي جنديٌ منهم، ليطلق النار على رؤوسنا، ويردينا جميعاً على الأرض قتلى.

لا تتوقف الوقاحة عند العدو الصهيوني فقط، بل امتدت إلى الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة بان كي مون، الذي حمل المقاومة الفلسطينية مسؤولية خرق الهدنة، وأنها اعتدت على حياة جندي إسرائيلي، وأسرته من الميدان، بينما كان يلبس بزته العسكرية، ويحمل على كتفه بندقيته، وطالبها بسرعة إعادة الجندي الأسير، وتسليمه إلى قيادة جيش العدو، ليعود إلى وحدته من جديد، ليواصل القتل مرة أخرى، ويستأنف القصف الذي قطعه الأسر، وإلا فإن المقاومة تتحمل مسؤولية مقتل المدنيين ونسف بيوتهم.

أما الرئيس الأمريكي باراك أوباما فقد نسي آلاف الشهداء والجرحى الفلسطينيين، وتجاهل أن الجيش الإسرائيلي هو الذي استهدفهم بصواريخه وقذائفه، واعتبر أن المقاومة الفلسطينية هي المسؤولة عن تدهور الأوضاع، وتراجع فرص وإمكانيات التوصل إلى تهدئة، قد تحمي المدنيين وتحقن الدماء، وتقود إلى هدنةٍ طويلةٍ الأمد، وطالب المقاومة إن كانت حريصة على مصالح شعبها، وتريد أن تتوصل إلى وقفِ اطلاق نارٍ دائمٍ، أن تفرج عن الجندي الأسير، وأن تطلق سراحه ليعود إلى أسرته وعائلته التي تنتظره، وإلا فإن الأوضاع ستسوء أكثر، وسيصعب مطالبة الحكومة الإسرائيلية بأن تهدأ.

غريبةٌ هي هذه الأفكار ومستنكرة، ولا يمكن فهمها إلا إذا سلمنا بأن العدو وحلفاءه مرضى، ومصابون بالعمى، ولا يحسنون التمييز، ويرون أنهم وحدهم الذين يستحقون الحياة، بينما لا مكان لغيرهم إن عارض إرادتهم، أو اختلف مع توجهاتهم، أو شكل خطراً على حياتهم، أو حاول أن يكون قوياً ليحمي شعبه.

إنهم يريدون أن يمتلكوا وحدهم كل سلاحٍ فتاك، وأن يستخدموا كل إمكانياتهم وقدراتهم في تأديب وردع خصومهم، بينما لا يحق لخصومهم أن يدافعوا عن أنفسهم، ولا أن يمتلكوا سلاحاً لردعهم ومنعهم، أو ليخلقوا من خلاله توازناً يصنع الأمن، ويحول دون الغدر والاعتداء.

هل يتوقعون من الشعب ومقاومته أن يسلم بمواقفهم، وأن ينزل عند إرادتهم، فيتنازل لهم عن سلاحه، ويفكك صواريخه، ويردم أنفاقه، ويسلم صُنَّاعَه وفنييه، ويبلغ عن الخبراء والعلماء، ويلغي عقيدة المقاومة وإرادة الصمود، ويقبل بأن يعيش طالباً للأمان، وساعياً للعيش والعمل، ينتظر الإحسان، ويعيش على المساعدات والمعونات، تفرحه الهبات، وترضيه الهدايا والحسنات، إكراماً للعدو ليسعد، ونزولاً عند إرادته ليرضى.

هذا الشعب بات يدرك أنه لا يحميه من عدوه سوى سلاحه، ولا يقاتل نيابةً عنه سوى سواعد أبنائه، وأن العدو ينتظر ساعة ضعفه، ويتربص به في يوم غفلته واستراحته، ليعتدي عليه وينال منه، وأنه لا يجوز الصمت عليه، ولا الاطمئنان إليه، بل ينبغي مباغتته، والعمل على مفاجئته، وأن نأتيه من حيث لا يحتسب، ونضربه من حيث لا يتوقع، وأن نهاجمه بقوةٍ تخيفه، وبسلاحٍ يردعه، ومفاجئة تربكه، لئلا يقوى على الصد أو المقاومة، ولا المهاجمة والمبادرة.

هذه هي القاعدة الذهبية التي يجب أن يفهمها العدو، وأن يدركها الحليف، ليغير بها قناعاته السابقة، ومفاهيمه البالية، فلا ينتظر من الفلسطيني أبداً أن يفرط في حياة شعبه، وأن يستهين بدماء أهله، وأن يسكت عمن يقصف وطنه، ويخرب بلاده، ولا يتوقع يوماً أن هذه المقاومة ستعيد إليه تائهاً، أو ستفرج عن جنديٍ قاتل، أو أنها ستسلم له من أسرت واعتقلت، إلا إذ دفع الثمن، وأدى الضريبة، ونزل عند شروط المقاومة، ولعله قد تعلم من ماضيه، وأخذ عبرةً من درس شاليط، فهذه مقاومة فلسطينيةٌ عزيزةٌ أبية، تختلف عمن خبرهم، ولا تتشابه مع من تعاون معهم، ولعله على يقين بأنه قد عرفهم، وخبر بأسهم، وتأكد من صدقهم، فما عليه إلا أن يخضع لهم، ويستجيب إلى مطالبهم، وينزل عند شروطهم.

السبت 23:25 الموافق 1/8/2014 ( اليوم السادس والعشرون للعدوان)

* * *

غزة تحت النار (51)

منهجية المجازر وعقائدية الصمود

لم يغير العدو الإسرائيلي من منهجيته العدوانية منذ أن بدأت عصاباته الصهيونية في ارتكاب المجازر الدموية ضد الشعب الفلسطيني، إنها ذات السياسة التي اتبعها منذ سبعين عاماً، وما زال إلى اليوم يحاول تطبيقها، ويتعمد القيام بها، دونٍ خوفٍ من رادعٍ دولي، أو مساءلة قانونية، أو محاسبةٍ سياسية، وكأن مناحيم بيغن ويتسحاق شامير ما زالا هنا، ينفذان ما تعهدا به واعتادا عليه، يوم أن كانت عصابات شتيرن والأرغون والهاغاناة ترتكب بالسلاح البريطاني وغيره مذابح ومجازر بشعة في حق سكان البلدات الفلسطينية، وقد تعمدوا حينها قتل النساء والأطفال، وجمع الرجال في أماكن عامة، وقتلهم بالجملة.

وهو يأمل أن يحقق من وراء مجازره البشعة ذات النتائج التي حققها في سنوات التأسيس وما قبلها، إذ كان يرتكب المجازر المروعة بحق السكان الأصليين للبلاد، ليحملهم على الهجرة والنزوح، ومغادرة البلدات والقرى، والتخلي عما لهم فيها من حقوقٍ وممتلكات، فراراً بحياتهم، وحرصاً على مستقبل أطفالهم، ليتسنى لليهود بعدها أن يغتصبوا أرضهم، ويستحلوا بلداتهم، ويستوطنوا في بيوتهم ومنازلهم، ويستولوا على أموالهم وممتلكاتهم، وكل ما كان لهم فيها من مدخراتٍ ومقتنيات.

لكنه اليوم يقف عاجزاً أمام الفلسطينيين المتمسكين بأرضهم، والمتشبثين بترابهم، والثابتين على مواقفهم، الذين يرفضون كل دعوات المغادرة والرحيل، وترك البيوت والتخلي عن القرى والبلدات والمخيمات، رغم محاولاته المتكررة لإجبارهم على المغادرة، إذ تلقي عليهم الطائرات آلاف المناشير، التي تدعوهم لترك بيوتهم والخروج منها، وإلا فإنهم يحذرونهم من عاقبةٍ وخيمةٍ، ومصيرٍ أسود إن هم أصروا على البقاء، وتمسكوا بحقهم في الإقامة في بيوتهم رغم القصف والتدمير.

كما وجه العدو الإسرائيلي آلاف الرسائل النصية والصوتية المسجلة، لتحذير السكان من خطورة البقاء، ودعاهم فيها لضرورة الخروج حمايةً لأنفسهم وأموالهم، خاصةً سكان البلدات الحدودية على امتداد الحدود الشرقية لقطاع غزة، وفي شماله المتاخم لبلدات بيت حانون وبيت لاهيا ومخيم جباليا.

إلا أن الفلسطينيين قد وعوا الدرس جيداً، واتعظوا من التجربة القديمة، فما عاد أحدٌ يصدق الإسرائيليين أو يؤمن لهم، فلا يسمع أحد نداءهم، ولا يستجيب إلى تعليماتهم، ولا يخاف من تهديداتهم، فقد أقسموا ألا يهاجروا من جديد، مهما كان حجم المعاناة وعدد الجرحى والشهداء، فتراهم يقولون بصدقٍ وإيمانٍ، أنهم لن يتركوا بيوتهم ولو نسفت، وأنهم سيبقون يعمرون ما دمره العدو منها، ولو دمرها ألف مرةٍ فإنهم سيعيدون بناءها، فهو يبني ونحن نعمر، بل إن بعضهم يهدد الإسرائيليين بالعودة إلى القرى والبلدات الفلسطينية التي هُجِّرُوا منها في العام 1948، وسيبنون في أرضهم الأصلية بيوتهم، وسيعمرون منازلهم، وستعود إليهم قراهم وبلداتهم التي دمرها وخربها الإسرائيليون.

لا وجه للمقارنة بين المجازر التي ارتكبها العدو الصهيوني بحق أهلنا الفلسطينيين في الأعوام 1948، 1956، 1967، لا لجهة حجم الخراب والدمار، ولا لجهة عدد الشهداء والجرحى، ولا من ناحية الأسلحة المستخدمة في القصف والعدوان، فقد أصاب منطقة الشجاعية زلزالٌ مدمرٌ، أتى على بنيانها من القواعد، ودمر بيوتها ومدارسها ومساجدها والجوامع، وهاجم أسواقها وتجمعات السكان فيها والمدارس، ولكن سكانها عند أولِ هدنةٍ عادوا إليها، فتفقدوا بيوتهم، وشاهدوا ما حل فيها وما نزل بها، فتعالت أصوات النساء بالوعد، إنا ها هنا باقون، سنبقى في بيوتنا ولو أنها مدمرة، وسنعيد بناءها وإعمارها من جديد.

هو الحال نفسه يتكرر مع كل سكان قطاع غزة، الذين آلوا على أنفسهم أن يكونوا جزءاً من المقاومة، وسنداً لها، ودرعاً يحميها، وحصناً يقيها، فلا يضعفوا أمامها، ولا يصرخوا لإضعافها، ولا يدفعوها للتنازل والتسليم، استجابةً لهم، وحرصاً عليهم، وخوفاً على حياتهم.

فما أصاب الغزيين في خزاعة لهو أكبر من التصور، وأبلغ من الخيال، وأعظم مما كان يتوقعه أحد، ولكن سكان بلدات خانيونس قد عادوا إليها، بينما بقي سكان خزاعة والمناطق الحدودية الشرقية، يقفون أمام الدبابات الإسرائيلية، وفي مواجهة آلة القتل الصهيونية، يحاولون الدخول إلى بلداتهم، والعودة إلى بيوتهم، ولا يردعهم عن العودة ما يتناقله العائدون من كثرة عدد الشهداء، وأن الكثير منهم ما زال تحت الركام وبين الأنقاض، وأن العدو يقتل كل من يحاول العودة إلى بيته، وفعلاً قتل بعض العائدين، وقنص من نجح في الوصول إلى بيوتهم، ولكن زحوف العائدين، المتمسكين بالبقاء في بيوتهم، والحالمين بالعودة إلى بلداتهم، تؤكد للعدو الإسرائيلي أن ما يقوم به لتهجير السكان، وتفريغ الأرض، ليست إلا أضغاث أحلام، وأماني مهووس، وتطلعات مجنون.

وكذا كان حال سكان بيت حانون شمالاً، وإلى جوارها بيت لاهيا وجباليا، ورفح التي اجتاحها العدو جنوباً، فقد هال السكان ما رأوا وشاهدوا، إذ ضلوا الطريق وتاهوا عن بيوتهم، فقد تغيرت المعالم وتبدلت الملامح، واستوت البيوت بالأرض، واحترق الشجر وغاب الزرع، وقتلت البهائم والدواب، فلم يعد أحدٌ يعرف بيته، وإن كان يعرف بعض حدوده، إلا أنهم وعلى الرغم من هول ما لاقوا، وفظاعة ما خلفه العدو وراءه، إلا أنهم، نساؤهم قبل رجالهم، يعلنون بصوتٍ عالٍ صاعقٍ واضح، أننا سنبقى في أرضنا، ولن نكرر مأساتنا، ولن نبرح مناطقنا، ولن نفرح عدونا، ولن نحقق له ما تصبو إليه نفسه، وما تتطلع إليه قيادته.

الأرض في عرفنا باتت عقيدة، لا نفرط فيها ولا نتخلى عنها، وسلاحنا بين أيدينا يحميها ويحفظها، ورجالنا يذودون عنها بالأرواح والمهج، ويضحون في سبيل البقاء فيها بما يملكون، فلا يحلم العدو أن مجازره ستجبرنا على الرحيل، أو أن مذابحه ستدفعنا للبكاء والعويل، فما كان قديماً لن يتكرر، وما سيرونه منا سيكون جديداً وذا عجب، وليعلموا أننا هنا ها هنا باقون، وعلى أرضنا ثابتون، كبقاء الزيت والزيتون، والتين والزعتر والليمون.

السبت 17:20 الموافق 2/8/2014 (اليوم السابع والعشرون للعدوان)

* * *

غزة تحت النار (52)

رسالة إلى المفاوضين في القاهرة

رغم حالة الحزن والأسى الكبيرة التي يعيشها الفلسطينيون نتيجة المجازر الدموية التي يرتكبها العدو الإسرائيلي في حقنا، الذي دمر ما بقي لنا في الوطن، وأتى على ما عمره شعبنا بالوهن، إلا أننا نشعر بأننا قد قطفنا أولى ثمرات المقاومة، وخطونا الخطوة الأولى في طريق العزة والكرامة، عندما اتحدت قوانا كلها واتفقت على المقاومة، فأيدتها وساندتها، وساهمت فيها، وبذلت معها، وتنافست فيما بينها، كلٌ بالقدر الذي يستطيع، وبما أمكنه من قوةٍ وقدرةٍ، بالسلاح والكلمة، وعلى الأرض وفي السياسة، فأصبحنا فريقاً واحداً، وذهبنا وفداً مشتركاً، برأسٍ واحدٍ، يتحدث باسمنا، ويؤمن بأهدافنا، ويعتقد بمعاناتنا، ويتبنى مطالبنا، ويتمسك بشروطنا، ولا يفرط بحقوقنا، ولا يتنازل عن شيءٍ حققته المقاومة، ولا عن أملٍ يتطلع إليه الشعب.

إنها المقاومة وحدها التي استطاعت أن تحقق هذا الإنجاز، فهي التي تمكنت دون غيرها من جمع شتات الشعب الفلسطيني وتوحيد كلمته، ورص صفوفه وتنسيق جهوده، إذ عليها يلتقي الفلسطينيون، ومن أجلها يتنازلون لبعضهم، ويغضون الطرف عن خصوصياتهم، وقبلها كانت الخلافات بينهم شديدة، والتباينات كبيرة، والاتهامات متبادلة، الأمر الذي يعني أن الثابت الوحيد الذي يلتقي عليه الفلسطينيون هو ثابت المقاومة، وأن ما سواه يفرق ولا يوحد، ويشتت ولا يجمع، ويعمق الخلافات ولا يخفف منها، وهو ما أدركه الكثيرون من القادة والمسؤولين، ممن كانوا يؤمنون بخياراتٍ أخرى، ويعملون ضمن برامج مختلفة، إلا أنهم وجدوا أن خيار المقاومة هي الإطار الجامع والقاسم المشترك.

لا يخفي الفلسطينيون في الوطن والشتات فرحهم أنهم ولأول مرةٍ يتحدون في وفدٍ واحد، ينتظرون بعضهم، وينسقون لأنفسهم، ويركبون طائرةً واحدة، وينزلون منها إلى أرض المطار وفداً موحداً، فلا يقوى أحدٌ على الوقيعة بينهم، أو استمالة بعضهم، أو التأثير على آرائهم ومعتقداتهم، أو تمرير ما شاء من خلال بعضهم، فهم اليوم موحدون في موقفهم، يحملون هموم الشعب ومطالبه، ويظهرون أمام العالم بأنهم شعبٌ متحضرٌ واعي، صادقٌ ومخلص، ومتفاهمٌ ومتعاونٌ، وأنه بهذا يستحق الاحترام والتقدير، ويستأهل النصرة والمساندة، ويستوجب على العالم كله أن يقدر نضاله، وأن يؤيد مقاومته، وأن يقف إلى جانبه في قضيته العادلة وحقوقه الإنسانية المشروعة.

لكن الشعب الفلسطيني لا يريد من قيادة السلطة وقادة الفصائل، أن يكتفوا من الوحدة بالصورة، ومن الاتفاق بالشكل والخبر، بل يأملون منهم أن يكونوا على قدر المسؤولية، وبمستوى المرحلة، وأن يؤكدوا على الثوابت التي بينهم، والأواصر التي تجمعهم، وأن يكونوا أمناء على آمال الشعب الذي يتطلع إليهم، وقد أودعهم شروطه، وأمنهم على مطالبه، وقد سبقهم بالدم والشهداء، مضحياً معطاءً، ليكونوا على الأرض بمقاومته أقوياء، وأن يفاوضوا بصلابةٍ وشدة، فلا يقدموا تنازلاً، ولا يفرطوا في حق.

وليعلموا وهم في القاهرة اليوم، يفاوضون باسم الشعب، ويتحدثون نيابةً عنه، أنهم أقوياء بأهلهم، وأن المقام الذي هم فيه اليوم إنما هو بتضحيات ودماء شعبهم، فهو الذي قدمهم وأكرمهم، وهو الذي استأمنهم واستوثقهم، وهو الذي أعطاهم الحق لأن يكونوا ناطقين باسمه، ومعبرين عنه، فلا يجوز لهم أن يخذلوا من استوثقهم، ولا أن يفرطوا في حقوق من استأمنهم، وليكونوا صادقين وأمناء، وليركنوا بعد الله إلى قوة شعبهم الذي ثبت في الميدان ولم يستسلم، وقاتل ببسالةٍ ولم يتراجع، وهاجم العدو وكبده خسائر كثيرة، وما زال على الأرض صامداً ثابتاً، لا يئن ولا يصرخ، ولا يستجدي ولا يستغيث، ولا يبدو عليه أنه يأس أو مل، أو تعب وكَلَ، رغم عظيم ما أصابه، وشديد ما لحق به ونزل.

إياكم أن تقبلوا في القاهرة من العدو أو الراعي، ومن الولايات المتحدة أو المجتمع الدولي، أن نسكن الجراح، ونهدئ النفوس، وتسكت المدافع، وتعود الطائرات إلى قواعدها، على أن نبادلهم بهذا هدوءً وصمتاً، فلا مقاومة ولا صد للعدوان، إذ لا يجوز بعد كل هذه التضحيات أن تعود الأمور إلى سابق عهدها، وإلى ما كانت عليه قبل العدوان.

بل نريد رفعاً واضحاً وصريحاً ودائماً للحصار، فلا عودة إلى إغلاق المعابر والبوابات، وأن يفتح الطريق التجاري بين الضفة الغربية وقطاع غزة، فيكون بينهما تبادلٌ تجاري، وتكاملٌ اقتصادي، وألا يكون خاضعاً للشروط الإسرائيلية، ولا لأنظمة الجمارك والضرائب، بل تكون تجارة بينية فلسطينية خالصة، تخضع للقوانين الفلسطينية، التي تنظم العمل فيها بما ينشط الاقتصاد الفلسطيني، ويعود بالنفع على الشعب.

وحتى يتحقق رفع الحصار كلياً، ويتمكن الفلسطينيون في قطاع غزة من إعادة اعمار ما دمره العدوان الإسرائيلي المتكرر، لا بد من تشغيل ميناء غزة، بعد إعادة بنائه وتطويره، ليربط القطاع بالعالم الخارجي، ويكون بوابةً حقيقية لإدخال المؤن والأدوية والحديد والاسمنت ومختلف مستلزمات البناء والإعمار.

ولا بأس أن يكون الميناء برعايةٍ وإشرافٍ دولي، أو أن يكون خاضعاً للأمم المتحدة، خاصة أن بناءه يحتاج إلى ميزانياتٍ كبيرة، وكلفة عالية، الأمر الذي يوجب أن تتعاون بشأنه الدول، لتوفر الميزانيات الكاملة لبنائه وتشغيله، فضلاً عن تحقيق الضمانات الأمنية المطلوبة.

أما بالنسبة إلى معبر رفح، فنحن نعلم أنه معبرٌ مصري فلسطيني، ويخضع بالكلية للسيادة المصرية، ولكن هذه المعابر البرية بين الدول الداخلية تخضع لاتفاقياتٍ دولية ضابطة، تنظم عملها، وتضمن دوام فتحها، حتى في ظل الحروب والمعارك، ولما كان معبر رفح هو بوابة الفلسطينيين الوحيد إلى العالم، فينبغي أن يُعاد فتحه بالاتفاق الودي مع الحكومة المصرية، على أن يكون معبراً للأفراد والبضائع معاً.

كما يجب أن يلزم العدو الصهيوني بضمانةٍ مصرية ودولية، بعدم الاعتداء على قطاع غزة مجدداً، فلا يجتاز الحدود، ولا ينشط جيشه على الأطراف، ولا تغير طائراته على أهدافٍ في القطاع، ولا تعتدي اغتيالاً لأشخاص، ولا تدميراً لبيوتٍ ومساكن، في الوقت الذي لا يتدخل فيه أبداً في الشؤون الفلسطينية الداخلية، فلا يحق له فرض شروطٍ أو وضع عقباتٍ، ولا أن يضيق على الصيادين في البحر داخل المياه الإقليمية، أو على المزارعين وأصحاب الحقول في المناطق الحدودية.

كما أن عليه أن يطلق سراح جميع الأسرى والمعتقلين الذين اعتقلهم بعد اختطاف المستوطنين الثلاثة في مدينة الخليل، وأن يفرج عن الأسرى المحررين الذين أعاد اعتقالهم، وأن يتعهد مجدداً أمام الراعي المصري بألا يعود إلى اعتقالهم من جديد، أما بقية الأسرى والمعتقلين، فأمرهم منوطٌ بمن أسرنا من جنود العدو وضباطه، وللحديث عنهم بعد المفاوضات بقية.

تلك هي أبجديات وأولويات وأساسيات التفاوض والحوار، وهي شروطٌ ومطالب إنسانية للشعب الفلسطيني، لن يقبل التنازل عنها، ولا التفريط فيها، فليحذر المفاوضون أن يخدعوا شعبهم، أو أن يخونوا أمانته.

السبت 23:30 الموافق 2/8/2014 (اليوم السابع والعشرون للعدوان)

* * *

غزة تحت النار (53)

غراس المقاومة جنى السياسة

لا اعتراض أن يقوم السياسيون بجني غراس المقاومين، وحصاد ما زرعته المقاومة، فهذا هو الشئ الطبيعي والمفترض أن يكون، وهو ما اتبعته كل الثورات السابقة، وعلى نهجه مضت كل الانتفاضات، والتزم به المقاومون جميعاً، فكان الجزائريون يفاوضون الاستعمار الفرنسي في باريس بينما ثورتهم قائمة، ومقاومتهم متقدة، لا تقف ولا تتراجع، وكذا كان حال الفيتناميين الذين كانوا يفاوضون تحت النار، وبيوت الصفيح في أرضهم تحترق، وأرواح الآلاف من شعبهم تزهق، ولكن بندقيتهم بقيت مشرعة، ومخازن سلاحهم بقيت عامرة، وأنفاقهم كانت تلهب الأرض لهيباً تحت أقدام الأمريكيين، فتفاجئهم كبركان، وتدمر وحداتهم كزلزال، وغالباً كان النصر حليف المقاومين، والغلبة للمفاوضين الوطنيين في ظل النار.

لا قيمة للمقاومة إن لم يكن لها نتائج سياسية، ولا نفع منها إن لم تتبعها تغييراتٌ حقيقية، تحقق المطالب، وتحصل على ما انطلقت من أجله، كله أو بعضه، وإلا استحالت ضرباً أعمى، وعنفاً أهوجاً، وممارسة للقوة على غير هدى، ومجالاً رحباً للعدو أن يمارس فيه هواية القتل والتدمير، والقصف والتخريب، ويكون الشعب هو الخاسر الأكبر فيها، بفقده لأرواح أبنائه، وتدمير مقومات وطنه، فلا يوجد شعبٌ يحب القتال لأجل القتال، وإنما يضطر إليه عندما تنعدم أمامه كل السبل الأخرى، وتضيق الخيارات التي بين يديه، ويتعنت العدو ويتصلب، ويرفض ويتمنع، فلا يكون أمام الشعب غالباً إلا خيار المقاومة المسلحة، التي تتكفل دوماً بإرادة الشعب وصموده، بتحقيق الكثير مما تصبو إليه الشعوب المحتلة.

لا اعتراض البتة على الفريق الفلسطيني المفاوض في القاهرة باسم المقاومة، فهو قد خرج باسمها، ليكون معبراً عنها، وناطقاً باسمها، ليشرح موقفها، ويعرض شروطها، ويبين حاجتها، وليؤكد على استمراريتها إذا أصر العدو على عدوانه، ومضى أكثر في سياساته، وأغمض عيونه عن شروط الشعب وحاجاته، وطالب أن يعود إلى سابق عهده، فيحاصر دوماً، ويعتدي إذا شاء، وليحمل المجتمع الدولي كامل المسؤولية الأخلاقية والسياسية عن الجرائم والمجازر الوحشية التي يرتكبها جيش الاحتلال بسلاحه ضد الإنسانية.

ليتذكر المفاوضون الفلسطينيون في القاهرة أن شعبهم ما زال تحت النار، وأن الطائرات الإسرائيلية تقصفهم على مدى الليل والنهار، وأن آلة القتل البشعة تمارس نشاطها، وتوزع حممها، وتقتل مع كل قذيفةٍ العشرات من أبنائنا، وتبيد عائلاتٍ فلسطينية بأكملها، صغاراً وكباراً، ورجالاً ونساءً، وأن طفلاً فلسطينياً على الأقل يقتل كل ساعة، وأن نصف الشهداء أطفالٌ ونساء، وأن كل الشهداء مدنيون ومواطنون مسالمون.

ليتذكر المفاوضون أن أرضهم تشتعل، وبيوتهم تدمر، وحياة أهلهم باتت صعبة إن لم تكن مستحيلة، ولكن راية مقاومتهم ما زالت عاليةً خفاقة، تثخن في صفوف العدو، وتلتف خلف خطوط النار، وتخرج له كل وقتٍ وحينٍ من جوف الأرض جبارة، تقتل وتجرح، وتدمر وتنسف، وتأسر أحياناً، وتقصف عمق الكيان وشماله، وترعب وسطه وجنوبه، ما يجعل المقاومة بخير، وإرادة الصمود في صعودٍ وسعود.

على المفاوضين الفلسطينيين أن يعكسوا في حواراتهم روح العزة والكرامة التي صنعتها المقاومة، وأن يرفعوا الرأس عالياً في مواجهة مفاوضيهم، وألا يظهروا أمامهم ضعفاً ولا عجزاً، ولا ذلاً ولا خنوعاً، فهم لا يمثلون أنفسهم، ولا ينطقون بلسان حالهم، إنما يعبرون عن مقاومةٍ صعدت ألسنة نيرانها إلى عنان السماء، وعانقت صواريخها سماء الوطن، ووحدت بإرادتها كل فلسطين، وجمعت حولها كل الأمة، فلا ينبغي أن يظهروا عجزاً، أو أن يبدوا ضعفاً، أو أن يخفتوا صوتاً، أو أن يجبنوا خوفاً من عدوٍ، أو تجنباً لغضب صديق، أو عقاب حليف.

فأنتم أيها المفاوضون لستم أصحاب الغرس، ولا ملاك الزرع، فلا حق لكم في التفريط فيه أو التنازل عنه، إنما مهمتكم فقط أن تجنوا الثمار، وتحصدوا السنابل، وتجمعوا الغلال، دون أن تتركوا وراءكم شيئاً، أو تتخلوا عن بعضه أو جزءٍ منه لعدوكم، ولا حتى لصديقكم، فأنتم لستم أصحاب حقٍ في التصرف، فكونوا على قدر الأمانة، وأبدوا لشعبكم كما مقاومتكم بسالةً وشجاعة، وقوةً وصلابة، وإرادةً وصموداً، واعلموا أن شعبكم سيكون سعيداً بثباتكم، راضياً عن صمودكم، ومؤيداً لعنادكم، وإن كانت طائرات العدو الحربية تغير عليه، ودبابته تقصف بيوته، وتقتل رجاله وأبناءه، وتحاول الضغط عليكم من خلاله، إلا أنه لا يريد أن يفقد بالسياسة ما قد حققه بقوة المقاومة.

أيها المفاوضون في القاهرة أروا الله وشعبكم اليوم قوة مقاومتكم، وعدالة قضيتكم، وإنسانية مطالبكم، وشرعية شروطكم، وصدقية مواقفكم، وتسلحوا بعد الله عز وجل بإرادة شعبكم وصمود مقاومتكم، وكونوا لشعبكم خير رسل، ولمقاومتكم أفضل رواد، واعلموا أن الرائد لا يكذب أهله، وأن الرسول لا يخدع شعبه، وإياكم والغرور والتكبر، والتفاخر والتعالي، بل كونوا لبعضكم متواضعين، وفي مواجهة عدوكم كباراً أعزة، فما أنتم إلا أسماءً سمتها المقاومة، وأرادها الشعب.

واعلموا وأنتم تلبسون الحلل الفاخرة، وتضعون ربطات العنق الأنيقة، وتتنقلون في السيارات الفارهة، وتسكنون الفنادق العامرة، وتأكلون ما لذ وطاب من الطعام، وتنامون آمنين ملء جفونكم، وتضحكون ملء أشداقكم، أن المقاومة لن تغفر لكم أي تقصير، ولن تقبل منكم أي تنازل، فما أعطاه الشعب كبير، وما تتمناه الأمة أكبر، وما زرعته المقاومة في عمق الأرض عظيم، وإن ثماره ليانعةٌ، فاعملوا ليومٍ يحسن فيه الشعب استقبالكم، ويخرج برجاله ونسائه للترحيب بكم، وتوجيه التحية إليكم.

الأحد 02:25 الموافق 3/8/2014 (اليوم الثامن والعشرون للعدوان)

* * *

غزة تحت النار (54)

المقاومة صدقٌ وإرادة قبل العدة والسلاح

يتبجح العدو الصهيوني أمام شعبه وفي وسائل الإعلام، أنه دمر أكثر من ثلثي مخزون المقاومة الفلسطينية من الصواريخ والأسلحة، وأنه اكتشف ودمر أغلب الأنفاق المؤدية إلى البلدات الإسرائيلية، وأن البنية التحتية لفصائل المقاومة قد تضررت كثيراً، وأنها تلقت ضربةً موجعة، طالت مخازن السلاح، ومنصات الصواريخ، والعقول المصنعة ومطلقيها، وأنه أصبح من الصعب عليها أن تستعيد عافيتها بسهولة، أو أن ترمم قدراتها بسرعة، كما يستحيل عليها في ظل إغلاق الأنفاق من الجانب المصري أن تعيد ملأ مخازنها، ولهذا فإن على المجتمع الدولي أن يبادر إلى اجتماعٍ مسؤول للتأكيد على نزع سلاح المقاومة الفلسطينية، وجعل قطاع غزة منطقة منزوعة السلاح، قبل المباشرة في مشاريع إعادة إعماره، وفتح معابره، وتحسين ظروفه الاقتصادية، لئلا تتكرر مأساة السكان مرةً أخرى.

يعلم العدو الصهيوني أنه يكذب على شعبه ويخدعه، وأنه يخفي عنه الحقيقة كلها أو بعضها، أو يقسطها عليه على مراحل، لئلا يصدم ويحبط، أو يخيب في حكومته رجاؤه، ويفقد في جيش كيانه أمله، كما أنه يفرض على وسائل الإعلام رقابةً شديدة، لئلا تسرب خبراً، أو تؤكد نبأً، وهو إذ يكذب على شعبه، فإنه لا يصدق نفسه، وإنما يحاول أن يطمئن شعبه، ويمني نفسه، بأنه قد انتصر وحقق أهدافه، وأنه يمضي وفق الخطة التي وضعها، وأن بنية المقاومة في قطاع غزة قد تضررت، وأن الخطر المتوقع منها قد تراجع.

إلا أن قادة جيش العدو لا يستطيعون إخفاء قلقهم، أو إنكار خوفهم مما لقيه جيشهم على أيدي المقاومة، وأنهم عندما يطمئنون الشارع الإسرائيلي فإنهم يتطلعون إليه ليمنحهم المزيد من الصبر والاحتمال، وأن يكون مهيأً لتلقي أي خبر، وتوقع أي نتيجة، فهم يواجهون صعوبة كبيرة في مواجهة المقاومة الفلسطينية، التي يبدو أنها مدربة ومهيأة، وأنها قد استعدت جيداً لهذه المواجهة، وأنه لديها ما تفاجئ به الجيش، الذي لم يكن لديه الخبرة الكافية على خوض حروب الأنفاق، فضلاً عن فنون حرب العصابات التي أتقنتها المقاومة، بتكتيكاتٍ جديدة، وأسلحةٍ متطورةٍ، خطيرة وفتاكة.

إنها الحرب الرابعة التي يشنها العدو الإسرائيلي على قطاع غزة في غضون أقل من عشر سنواتٍ، وكان أرئيل شارون قد بدأها بعنفٍ شديدٍ، فجزأ القطاع، وعزله عن بعضه، ومنع تواصل سكانه، ودك مدينة رفح، وحفر أطرافها، وجعل عاليها سافلها، ودمر بلدات خانيونس وعاث فيها فساداً، ونصب على طرقاتها الحواجز، وواصل الحرب من بعده أيهود أولمرت ومن جاء بعده، ولكن هذه الحروب وقد كانت جميعها قاسية وصعبة، واستخدم العدو فيها كل أسلحته المدمرة، ولم يدخر جهداً في القسوة على السكان، لم تستطع أن تضع حداً للمقاومة، أو أن تنهي روح التحدي لدى السكان، بل إن كل جيلٍ كان يسلم الراية لجيلٍ أشد وأقوى، وأصلب وأكثر ثباتاً.

ذلك ليعلم العدو الصهيوني وأقطاب حكومته المتشددة المتطرفة، أن الفلسطينيين لن يتخلوا عن المقاومة، ولن يقبلوا بالضعف، ولن يستسلموا لمحاولات القهر، وأن مساعيه لتجريدهم من سلاحهم، والقضاء على روح المقاومة عندهم ستبوء دوماً بالفشل، ولن تؤدي النتيجة المرجوة، ولن تحقق لهم الأمل المنشود، ولن يكون من بين الفلسطينيين من يقبل بموت المقاومة، ويسلم بعجزه أمام قوة العدو، ويقبل منه لضعفه ما كان يرفضه دوماً، ذلك أن المقاومة روحٌ تسري، وعقيدة تسكن، ودماءٌ تجري، ووعيٌ كامن، وإرادة باقية، لا يمكن للقوة العمياء أن تقضي عليها، ولا للعنف الأهوج أن ينهي وجودها.

السلاح ضرورة، ولعله كان العامل الأهم في هذه الحرب، إذ فاجأ المقاومون العدو بأنهم كانوا على أعلى درجات الجاهزية والاستعداد، وأنهم قد تدربوا جيداً، واستعدوا كثيراً، وامتلكوا من السلاح ما لم يكن يتوقعه، وصنعوا بأيديهم ما عجزوا عن إدخاله، وقاتلوه ببسالةٍ منقطعة النظير، وشجاعةٍ عزَّ أن تكون لغيرهم، وأنهم كانوا يخرجون له من جوف الأرض فجأة، بهيئاتٍ مخيفة، وأسلحةٍ قاتلة، ووجوهٍ صلبةٍ، وعيونٍ واثقةٍ، وخطىً ثابتة، وكأنهم أشباحٌ تنشق عنهم الأرض تباعاً، ثم تعود فتبلعهم من جديد، ولكن بعد أن ينفذوا بدقةٍ تامةٍ، ويقينٍ بالنجاح، ما قد خرجوا من أجله.

لكن ما خفي على العدو الإسرائيلي وغيره، أن مقاومة الفلسطينيين في قطاع غزة، بكل أشكالها وأطيافها، وبشعبها الحاضن الصابر العظيم، ما كانت سلاحاً فقط، ولا عتاداً فتاكاً، ولا أنفاقاً جديدة، بل كانت قبل هذا كله إرادةً من حديد، وتصميماً لا يلين، وعزماً جديداً لا يعرف المستحيل، ويقيناً بالنصر واثقاً لا يتزعزع، وثباتاً على الأهداف لا يهتز ولا يتردد، وصبراً عجيباً يصنع المعجزات.

إنها إرادة الشعب الذي صنع السلاح، وحفر الأنفاق، وواصل إطلاق الصواريخ، واجتاز الحدود، والتف خلف خطوط النار، واقتحم المعسكرات، وتسلل إلى الثكنات، واشتبك مع القواعد والحراسات، وقاتل العدو من نقطة الصفر، ونال من هيبة الجيش والشعب، وهزأ الحكومة والقادة، وفضح الأنظمة والسادة، وكشف زيف الجمهوريات الممالك، وبين غدر الرؤساء والملوك، إنه لشعبٌ قادرٌ دوماً أن يكون الأقوى بإرادته قبل سلاحه، وبيقينه قبل عتاده، وبصدقه وإخلاصه قبل صواريخه ومعداته.

فلا يفرح العدو وهو الكاذب، ولا ينتشي وهو الخاسر، ولا ينفش ريشه وهو المنتوف ريشه، والمهزوم جيشه، والراحلة حكومته، والمحاكمة قيادته، ذلك أن المقاومة أقسمت أن تنتصر، وستنتصر دوماً بإذن الله، وسيرون منها ما لا يتوقعون، وأكثر مما كانوا يظنون.

الأحد 23:25 الموافق 3/8/2014 (اليوم الثامن والعشرون)

* * *

غزة تحت النار (55)

جيش الدفاع الفلسطيني

ألا ترون أن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وتخلي الأنظمة العربية عن نصرة الفلسطينيين، ونفض أيدي البعض من المسؤولية، وتآمر آخرين مع العدو، وحالة التلاحم البطولية التي سادت بين الفصائل الفلسطينية والكتائب العسكرية المقاتلة، والأداء العسكري المقاوم المذهل الذي قام به المقاومون، والقدرات الإبداعية التي كشفوا عنها، والجاهزية العالية والكفاءة القتالية التي تمتع بها المقاتلون في الميدان، واعترف بها العدو بعد أن اكتوى بها، تفرض علينا أن نؤسس لجيش دفاعٍ وطني فلسطيني، يكون في مواجهة جيش العدوان الإسرائيلي، ليضع حداً لتوغلاته، ويصد اعتداءاته، ويجبره على احترام الاتفاقيات والتعهدات، فلا يخترقها ولا يتجاوزها.

وأن يكون لجيشنا قائدٌ عام، وهيئة أركان، وفرق وألوية وكتائب، وجنودٌ وأسلحة ومعدات، ومعسكراتٌ وثكنات، وكليات وأكاديميات، ومناهج عمل وبرامج تأهيلٍ، ودورات تدريب وبعثاثٌ دولية لاكتساب الخبرة ونيل الأهلية، على أن يكون لهذا الجيش قبل هذا كله عقيدة قتالية، وفلسفة نضالية، تقوم على  قاعدة المقاومة، وتتبنى العمل العسكري خياراً أساسياً لتحرير فلسطين، وعودة اللاجئين واستعادة الحقوق، واستقلال الدولة وبناء الوطن، فلا يتعطل دوره، ولا ينشغل بغير مهمته، ولا يلتفت لغير وظيفته، ولا يرتهن قراره، ولا يوظف قدراته، ولا يأتمر بغير إرادة شعبه، ومصالح وطنه.

الفلسطينيون يستحقون أن يكون لهم جيشٌ وطني، يدافع عنهم، ويقاتل من أجلهم، ويصد بقدراته عدوهم، ويحقق الانتصار بإرادته عليه، إذ لا شيء يصد العدو غير القوة، ولا يوجد ما يمنعه غير الخوف من الخسارة، ولا ما يردعه غير السلاح الذي يخلق الهلع، ويزرع الفزع، ويصنع معادلة الرعب، فيخيف مستوطنيه، ويقتل جنوده، ويعطل حياته، ويخرب اقتصاده، ويجفف منابع الهجرة إليه، ويجعل الحياة العامة في كيانه صعبة، والاستقرار فيه مستحيل، ويجبر الوافدين على المغادرة، والحالمين على العودة، فهذا ما كابده الكيان الصهيوني خلال عدوانه على قطاع غزة، وما زال يكابد منه ويعاني، ولن تنتهي تداعيات هذا العدوان أبداً، بل ستبقى آثاره قائمة تلاحقه وتقض مضاجعه، وتترك آثارها على سكانه والقادمين لزيارته.

الفلسطينيون لديهم الرغبة الجامحة لأن يكون لهم جيشٌ وطني، قويٌ وعنيد، وصلبٌ وشديد، وشابٌ وجلدٌ، وصبورٌ ومتفاني، ويتمتع بعقيدةٍ صادقة، وله قيادة رشيدة، تتقدم الصفوف، وتضحي قبلهم، وتقدم أكثر منهم، وتكون مثالاً للجنود، وتجعل من نفسها لهم نموذجاً ومثالاً، يحتذون بهم ويتعلمون منهم، ويزرعون فيهم عقيدة الوطن، ويؤكد في رسالتهم اليومية أن الكيان الصهيوني هو عدو الشعب الفلسطيني، وأنه المحتل لأرضنا، والغاصب لحقوقنا، والمنتهك لحرماتنا، والمدنس لمقدساتنا، وأن على الجيش مهمة تحقيق أماني الشعب وطموحاته، فضلاً عن حمايته والدفاع عنه، وأنه لا سلام مع العدو ولا اتفاق معه، ولا تسليم بتفوقه، ولا إقرار بقوته، وأنه ينبغي العمل بجدٍ واجتهاد لنكون نحن الأقوى والأقدر، والأكثر تسليحاً والأفضل تنظيماً.

إنه ليس حلماً ولا خيالاً، بل هو أملٌ حقيقي وطموحٌ واقعي، يمكننا الوصول إليه بالإرادة الصادقة، والإخلاص والتجرد، والعمل الجاد المسؤول، ولعل شباب فلسطين ورجالها، يتطلعون في الوطن وفي الشتات، أن يكونوا جزءاً من هذا الجيش، وأن ينالهم شرف المقاومة، وفخر الدفاع عن الشعب والوطن، والأرض والمقدسات، بل إنهم يتسابقون للانتساب إليه، والانتماء إلى صفوفه، وحمل عقيدته، وسيجد المخلصون في سعيهم، والماضون إلى هدفهم، من شعبهم كل حماسةٍ ورغبة، واقبالٍ واقدام، ذلك أنهم ما عادوا يثقون بعد الله بغير سواعدهم، ولا يؤمنون بغير ظفرهم يحك جلدهم، وسلاحهم يحرر أرضهم، وقوتهم تضع حداً لعدوهم، وقد أثبتوا أنهم في صُبُرٌ في الحرب، وصُدُقٌ عند اللقاء، وأنهم والشجاعة صنوان، وفي القوة والجرأة فرسا رهان.

قد أصابنا من العدوان الإسرائيلي البغيض على أهلنا في قطاع غزة أذىً كبيراً، ولحقت بنا خسائر عظيمة، فسقط منا الجرحى والشهداء، وهدمت بيوتنا ومساكننا، وخربت مخيماتنا وبلداتنا، ولكننا خرجنا من هذه الحرب العدوانية نؤمن بقدسية الوحدة ووجوبها، ونتمسك بها ونحرص عليها، فمضينا موحدين متفقين، في المقاومة وفي المفاوضات، فكنا في القتال صفاً واحداً، لا نلين ولا نضعف، ولا نتراجع ولا نتقهقر، بل نتقدم ولا نتأخر، وفي المفاوضات خرجنا وفداً واحداً، واثقين لا نتردد، وثابتين لا نتنازل، بل نشعر بالقوة إذ أننا نركن إلى مقاومةٍ بقيت واقفة، واستمرت حتى اللحظة الأخيرة مقاتلة، رغم رهان العدو على ضرب منصات صواريخهم، وقصف مخازنهم، أو انتهاء مخزونهم، ولكن رهان العدو ذهب أدراج الرياح، وخاب فأله، وأخطأت حساباته وتوقعاته، وبقيت المقاومة سيدة الموقف، وصاحبة القرار.

العدو الصهيوني يحلم بنزع سلاحنا، ويجأر إلى العالم كله صارخاً مستنجداً أن يجرد الفلسطينيين من سلاحهم، وأن يجعل قطاع غزة منطقةً منزوعة السلاح، ويطالب الأمم المتحدة أن تتدخل فيه بقواتٍ أممية كي تضمن القيام بهذه المهمة، لعلمه أنها صعبة إن لم تكن مستحيلة، إذ بات يقيناً لديه أن هذا الشعب إن امتشق السلاح انتصر، وإن هو صمم على اقتناء السلاح نجح، وإن فرض عليه الحصار وأغلقت دونه البوابات والمعابر، فإنه قادرٌ على الخلق والتصنيع، والإعداد والتجهيز، كما أدرك أنه كلما حاول القضاء على المقاومة غدت أقوى وأصلب، وأشد وأقسى، وأصبحت أعمق جذراً وأكثر فرعاً.

إن كان العدو يحلم بنزع سلاحنا، فإننا نحلم ببناء جيشنا، وتجهيز أنفسنا، وبناء قدراتنا، وتدريب شبابنا، والاستعداد إلى معركةِ الفصل، وحرب البقاء، فإنَّا وإياه على موعدٍ، قد ضربناه نحن وحددناه، وأقسمنا بالله أن نفي بوعدنا، وأن نرفع ألوية جيشنا الوطني، وبيارق كتائبنا المقاتلة، وإنّا على ذلك بإذن الله لقادرون.

الاثنين 17:30 الموافق 4/8/2014 (اليوم التاسع والعشرون للعدوان)

* * *

غزة تنتصر (56)

جيش العدو ينسحب من غزة

ما إن انبلج الفجر ولاح نور الصباح حتى كانت آخر عربات جيش العدو تنسحب من قطاع غزة، وتجتاز الحدود الشرقية والشمالية للقطاع، إذ ما إن دخلت الهدنة الإنسانية الأخيرة حيز التنفيذ، حتى أتم جيش العدو انسحابه التام من كافة المواقع والمناطق التي احتلها خلال أيام العدوان الثلاثين، فلم يعد له وجودٌ على الأرض، فقد أدارت الدبابات مقودها وعادت أدراجها، وغيرت العربات العسكرية اتجاهها ورجعت من حيث أتت، وخمدت النيران، وتوقفت المدافع، وسكتت الدبابات، وغابت أصوات القصف، وحل في غزة هدوء وسكون، وصمتٌ إلا من زحوف العائدين، وأفواج الراجعين.

الفلسطينيون فرحون بالانسحاب، سعداء برحيل العدو، وغياب دباباته وعرباته، وغروب جنوده وضباطه، وهم راضون عن أداء المقاومة، وفخورون برجالها، وسعداء بأنهم تمكنوا من إزاحة العدو عن صدورهم، ودحره من أرضهم، وإجباره على التراجع عن مواقفه، والانكفاء على ظهره، متخلياً عن أهدافه، ومتراجعاً عن تهديداته، ليسلم بالواقع، ويرضي بحقيقة الحال، ويعترف أن الشعب الفلسطيني حرٌ ويقاوم، وشريفٌ ويناضل، وأنه على استعداد للتضحية من أجل كرامته، والعطاء في سبيل عزته، وأنه لم يتخلى عن مقاومته رغم عظم البلاء، وشدة القصف ومساعي الفناء.

اليوم يتفقد الفلسطينيون أنفسهم وبعضهم البعض، يتنادون ويتهاتفون، فالغائب من بينهم ليس شهيداً فقط، بل من الغائبين من هم ما زالوا تحت الأنقاض، ولا أحد يعرف مكانهم، أو أين قصفوا، وهل استشهدوا أم ما زالوا من الأحياء، ومنهم الذي نقل إلى المستشفيات ودور العلاج، ولا يعرف بهم أهلهم وذووهم، وكثيرٌ من سكان قطاع غزة قد هجروا بيوتهم، وتفرقوا بين العائلات في مختلف البيوت، تجنباً لقصف العائلات وقتلها بأكملها، إذ بدا واضحاً من قصف العدو المستهدف، أنه يسعى لإبادة عائلاتٍ بأكملها، وشطب سجلات أسرٍ، واستئصالها من جذورها وأطرافها، لئلا يبقى منهم بعد الحرب أحد، ولا ننسى أن العدو قد اعتقل العشرات من أبناء قطاع غزة، ونقلهم إلى أماكن مجهولة، ولا يوجد ما يضمن أنه سيطلق سراحهم ولن يقتلهم، إن لم يكن قد قتلهم بالفعل.

اليوم يتلاقى الفلسطينيون في قطاع غزة، ويلتئم شملهم من جديد، ويجتمعون معاً في الحي الواحد، وفي البيت والمنطقة، بعد أن شتتهم العدو ومزق جمعهم، يلتقون على بقايا دور، وبين ركام أحياء، وتحت أنقاض مباني، ورائحة الموت تنبعث من كل مكان، لكنهم يلتقون جميعاً في الوطن والشتات، يصافحون بعضهم، ويتبادلون التهاني والتحيات، ويحمدون الله عز وجل أنه أكرمهم بالعزة، وأنه سبحانه أبقاهم فوق الأرض مرفوعي الرؤوس، منتصبي القامة، شامخي النفس، لم تنكسر إرادتهم، ولم تنحِ قامتهم، وأن الغائبين منهم قد رحلوا واقفين، وسقطوا رجالاً في مواقفهم خالدين.

اليوم أيضاً استراح العدو الإسرائيلي واسترخى، واطمأن جنوده وفرحوا، وسعدوا بأنهم ما زالوا أحياء، وأنهم سيعودون إلى أسرهم وأهلهم، وأن نيران المقاومة لم تأتِ عليهم، فلم تحصد أرواحهم، ولم تصب أجسادهم، كما نالت من أصدقائهم ورفاقهم، الذين كانوا معهم في الحرب، يشاركون في العدوان، ويساهمون في القصف، فعادوا في صناديق مغلقة، أو إلى المستشفيات والمراكز الصحية.

أما هم فقد نجو من الموت، وفرح بهذا أهلوهم وأسرهم، وانهالت الاتصالات عليهم منهم، ليتأكدوا من أن أولادهم سيعودون سالمين، وأنهم لم يقتلوا في المعركة، ولم يصابوا بجراح، وأنهم سيعودون مشياً على أقدامهم، لا محمولين في توابيت، ولا جالسين على عجلاتٍ وعرباتٍ متحركة، خاصةً أنهم باتوا لا يثقون في تقارير جيش كيانهم، ولا يصدقون تصريحات قادته وضباطه، في حين أنهم يصدقون أخبار المقاومة، ويثقون في معلوماتها، ويرون أنها صادقة لا تكذب.

لكن طائرات العدو الحربية، وتلك التي بدون طيار، والتي يطلق عليها المواطنون الفلسطينيون في غزة اسم "الزنانة"، ما زالت بأنواعها المختلفة تحوم في سماء قطاع غزة، تراقب وتتابع، وتصور وتسجل، وتبحث عن أهداف وتعاين مواقع، وترصد حركة الناس وعودة السكان، وتحاول أن تعرف نتائج عدوانها، وحصاد قصفها، والآثار التي خلفها وراءه، خاصةً لجهة المقاومة.

حكومة الكيان تدعي أنها ألحقت بالمقاومة خسائر كبيرة، وأنها أضرت ببنيتها التحية، وضربت مخازنها، وقصفت منصاتها، وقتلت عناصرها، ولكنها حتى اليوم ما زالت تتخبط وتتعثر، لا تعرف شيئاً عن المقاومة، ولا تدرك حقيقة نتائج العدوان عليها، وإن كانت تحلم وتتخيل، وترجو وتتمنى، أن تكون ضرباتها قد أصابت، وقصفها قد نال من عديد المقاومة وعتادها، وأضر بتجهيزاتها ومخزونها، وأن المقاومة أصبحت عاجزة عن النهوض والمواصلة، وأنها لن تتمكن من استعادة قدرتها وتعويض ترسانتها من جديد.

العدو ما زال خائفاً يترقب، وإن هو انسحب وتقهقر، وغادر ورحل، ولم يعد له وجودٌ على الأرض في القطاع كهدف، إذ أن هاجس الأسر كان يضنيهم أكثر من الموت الذي كان يلاحقهم، إلا أن انسحابه لا يحقق له الأمن، ولا يجلب له الطمأنينة، لأنه يعرف أن المقاومة لن تسكت على غدره، ولن تجبن عن الرد عليه إن اخترق الهدنة، وعاد إلى القصف والإغارة من جديد.

ولعله يعرف أن المقاومة ما زالت تملك أنفاقاً تدخل منها، وتلف خلف مواقعه وثكناته، وتهاجم جنوده وتجمعاته خلف خطوط النار، رغم ادعائه بأنه دمر الأنفاق وخربها، ولكن المقاومة التي خرجت إليه من نفقٍ معروفٍ ومدمر، تنبؤه أن مستقبله في خطر، إن هو كذب وغدر، ولعل الخوف يسكن مستوطنيه أكثر، إذ أنهم رغم وقف إطلاق النار، إلا أنهم خائفين قلقين، لا يفكرون في العودة، ولا يجرؤون على القيام بها، حتى يتأكدوا أن الحرب قد وضعت أوزارها، ولا يكون هذا إلا إذا أعلنت المقاومة أنها ستلتزم بالهدنة.

أما المقاومة الفلسطينية العزيزة الغالية، التي لا يعرف العدو عنها شيئاً، فنحن نعرف عنها كل شيء، نعرف أنها قاتلت بصدق، ونافحت عن عقيدة، وقاومت بعناد، وثبتت في الميدان، وكبدت العدو خسائر كبيرة، سيتعلم منها وأجياله، نعرف أنها لن تنام، ولن تركن ولن تغفل، ولن تصدق العدو ولن تأمن جانبه، بل ستبقى عيونها على العدو، تراقب الحدود وتحرس السماء، ويدها على الزناد، لترد على الغدر، وتصد عدوانه إن فكر أن يعتدي ويضرب.

الثلاثاء 14:00 الموافق 5/8/2014 (اليوم الثلاثون للعدوان)

* * *

غزة تحت النار

الغدر طبيعة إسرائيلية وجبلة يهودية

لا يغير الإسرائيليون شيئاً من طباعهم، ولا يبدلون عاداتهم، ولا يحاولون الارتقاء بأخلاقهم، وتصحيح الاعوجاج الذي يسيطر على نفوسهم، ويطغى على سلوكهم، ويتحكم في مسار حياتهم، وينعكس عليهم سلباً في محيطهم، ويلحق ضرراً وأذى في جيرانهم.

إنهم جميعاً سواء في سوء الخلق، وفحش التعامل، وبذاءة اللسان، فهم جبلة واحدة، وطبيعة لا تتغير، وكأنهم قد تواصوا على السوء، وتعاهدوا على توارث الشر، فلا يزيغ عن هذا الإرث يهوديٌ في مشارق الأرض أو مغاربها، إلا قلة نادرة جداً، ممن ترى عوجاً في سلوك أتباع دينهم، وانحرافاً في أخلاقهم، وتجنياً في سياستهم، وظلماً وعدواناً على غيرهم، إلا أنهم لقلتهم لا يؤثرون، ولضعفهم لا يغيرون، ولانعدام نفوذهم لا يبدلون القاعدة، ولا يشكلون الاستثناء، فصوتهم خافتٌ وإن علا، وحيلتهم قليلة وإن بدوا أنهم على الحق في تميزهم ومخالفتهم.

إنها طبيعتهم المنكرة، وسياستهم المستقبحة، يغدرون ويخونون، وينكثون وينقلبون، وينكصون ويتراجعون، ويخرقون ولا يلتزمون، ويكذبون ويفترون، ويدعون ويزورون، ويختلقون ويدعون، ويعتدون ويشتكون، ويجادلون ويمارون، وينافقون ويداهنون، ويتمسكون بالباطل ويحيدون عن الحق، ويعرفون الخير ويرفضونه، ويميزون الخبيث ويتخذونه، لا يصدقون مع ربهم، ولا يخلصون لأنفسهم، ولا يحبون الخير لغيرهم، وإن اتبعهم وصار منهم، وآمن بما يؤمنون به، واتبع ما يخرصون ويكذبون، واتخذوا آيات الله هزواً وضلوا بها عن السبيل، وعاثوا في الأرض فساداً وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً.

إنها طبيعتهم منذ أن عمروا الأرض، يخدعون الله عز وجل في يوم سبتهم، ويكذبون عليه سبحانه في صيدهم، ويغدرون أنبياءهم، ويقتلون رسلهم، ويخونون الأمانات، ويفرطون في العهود، ولا يحفظون الود، ولا يلتزمون بالعهد، يبدلون كلام الله ويحرفونه عن مواضعه، ويعصون الله ما أمرهم ويشركون به، ويعبدون من دونه عجلاً جسداً له خوار، ويخالفون أمر ربهم، ويشربون مما منعهم منه، ويحرمون ما أحل الله لهم، ويحللون ما حرم عليهم، ثم يدعون أنهم الأفضل والأكثر خيرية، وأنهم شعب الله المختار، وأبناؤه وأحباؤه، وأنهم الفئة الوحيدة التي أنجاها الرب وباركها، وجعل الأرض المقدسة مسكنها، وسخر الخلق حميعاً لها، بشراً ودواباً، ليكونوا لهم خدماً وعبيداً.

إنهم اليهود الذين غدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، وتآمروا عليه وأرادوا قتله، وجمعوا أمرهم على الغدر به وهو الذي جاء إليهم مسالماً، ودخل بيوتهم آمناً، ولم يكن يحمل عليهم غضباً، أو يحقد عليهم كرهاً، بل كان يحفظ عهدهم، ويصون كلمته لهم، ويحفظ دماءهم وهم جيرانه في المدينة، وشركاؤه في الأرض، إلا أنهم اعتادوا على خيانته، وتواصوا على محاربته، فدسوا له السم في طعامٍ أحبه، وما أنجاه منه إلا رب العالمين الذي أعلمه ونبأه.

هؤلاء هم اليهود أنفسهم الذين نكثوا الهدنة الأخيرة، وانقلبوا على الاتفاق، واخترقوا وقف اطلاق النار، عندما عَنَّ لهم هدفٌ كبير، وصيدٌ سمين، فأردوا أن يحققوا كسباً، ويسجلوا نصراً، بتصفيتهم لقائدٍ في المقاومة كبير، ومقاتلٍ صنديد، وقد ظنوا أنهم قد وصلوا إليه، وحددوا مكانه، وعرفوا عنوانه، فحددوا ساعة الصفر للتنفيذ، رغم أنها كانت تدعي التزامها الهدنة، وتنكر نكثها لشروطها، واختراقها لبنودها.

فادعت كذباً أن المقاومة الفلسطينية أطلقت من قطاع غزة ثلاثة صواريخ باتجاه بلدات الغلاف الإسرائيلية، واتهمتها بأنها التي اخترقت الهدنة ونكثت الإتفاق، لتبرر لنفسها الغارة، وتدافع عن نفسها أمام الراعي والوسيط، والحليف والعدو والصديق.

لكن المقاومة الفلسطينية على اختلاف كتائبها، التي تفخر بمقاومتها، ولا تخجل من أفعالها، ولا تنكر ما قامت به، ولا تدعي زوراً فعلاً لم تفعله، فهي مقاومة صادقة، وثق به شعب العدو، وعهد صدقها، وتأكد من أنها لا تكذب ولا تدعي، ولا تتبرأ مما تفعل، قد أعلنت أنها لم تخترق الهدنة، وأنها حافظت على كلمتها، والتزمت الهدنة، إيماناً منها بحفظ العهود، واحتراماً للوسيط المصري الضامن للاتفاق.

الأحداث التالية أيدت صدق المقاومة، وأثبتت كذب الإسرائيليين حكومةً وجيشاً، ورئيس حكومةٍ ووزير دفاع، إذ تبين يقيناً أن المقاومة لم تخترق الهدنة، ولم تطلق صواريخها تجاه البلدات الإسرائيلية، ولكنه العدو، هو الذي اخترق ونكث، وعاد إلى طبيعته الغادرة، وجبلته المريضة العفنة، عندما حاول النيل من محمد الضيف القائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسام، ليدعي النصر، وينتشي بالفوز، إلا أن سهمه قد طاش، وأمله قد خاب، فأصاب بصواريخه نساءً وأطفالاً لم يتموا العام الأول من عمرهم.

أما المقاومة الفلسطينية التي اعتادت الصدق، والتزمت بالمصداقية، فقد ردت على الخرق، وقصفت العدو بالمثل، ووعدت بالمزيد والجديد، وأكدت أن لديها مفاجئاتٍ كثيرة، وأخرى لا يتوقعها العدو ولا يتصورها، ولن يفلت منها، فضربت في عمق البحر قبالة شواطئ غزة، منصة النفط الإسرائيلية، العائمة فوق مياهنا، والتي تسرق نفطنا، وتنهب ثرواتنا القومية من الغاز الطبيعي، معلنةً بدء مهاجمة الأهداف البحرية، وهي بالنسبة لها أسهل وأقرب، وأكثر ألماً وأشد خسارة.

أما آن لهذا العدو الصهيوني الغدار في طبعه، والخبيث في أصله، والمريض في سلوكه، أن يقبل بالحق ويلين، وأن يستجيب للمقاومة ويخضع، فنحن أصحاب الحق وملاك الأرض، لن نخضع ولن نلين، ولن نستسلم ولن نستكين، ولن نفرط في حقوقنا، ولن نتخلَ عن سلاحنا، ولن نقبل بهدنةٍ تريح العدو وتعيدنا إلى قديم معاناتنا، وشديد حصارنا، وأننا قد تعاهدنا على مواصلة المقاومة، ونصرة رجالها، وقد أخذنا على أنفسنا موثقاً أمام الله، أن نكون مخلصين أوفياء، وصادقين أصفياء، نحفظ شعبنا ونصون حقوقه، ونقدر التضحيات ولا نفرط بها، وأن يكون صمودنا في الحوار كثباتنا على الأرض وفي الميدان.