يرى الكاتب أن لشخصيات الروايات حيوات تتجاوز مساحة النص وزمانه ومكانه. وشخصية زكي نداوي في رواية «حين تركنا الجسر» لعبد الرحمن منيف، لا تزال حية، فينا ومن حولنا، دائمَة التجلي والتجول في الزمن، لا تكاد تختفي حتى تعاود الظهور مذكّرة بفداحة واقعنا المهزوم.

زكي نداوي لا يزال حيّاً

رائد وحش

لشخصيات الروايات حيوات مستمرة، تتجاوز مساحة النص وزمانه ومكانه. ومن هذا المنطلق، لا ينتهي عمر "زوربا" عند الصفحة 454 من الرواية التي تحمل اسمه، كما لا ينقضي أَجَل "فلورنتينو إرثا" مع طي الورقة الأخيرة من رواية "الحب في زمن الكوليرا". كيف يقوى الموت عليهما، وعلى "جان باتيست غْرُنوي" و"الزين"، وقد جعلناهم تمائم ضد الموت أساساً؟

هؤلاء أحياء في خيالنا يرزقون.

نسوق هذا الافتراض لأننا طالما عايشنا شخصية (أو شخصيات) زكي نداوي. من المؤكد أن رواية "حين تركنا الجسر" كانت عمره، لكنّ هزائمنا المتتالية جعلته دائمَ التجلي، كما لو أنه كائنٌ يتجوّل في الزمن.

عبد الرحمن منيف صنعه من الفائض القاتل لليأس، ولهذا بالتحديد تغيّرت معادلة الخلق. فبعدما كانت نفخاً ناعماً للروح، حسب تأسيسنا الأسطوري، أصبحت إخراجاً للقيح الداخلي. منيف أخرج ذلك الصياد على الورق، وبدوره واصل الأخير ذلك السخط بإخلاص فتلّبسنا، لأنه جاء بالقوة ذاتها التي كان يشعر فيها أنه هزأةٌ، وأن كل شيء يسخر منه.

لم تجعله الروايةُ صياداً هائماً على وجهه في البراري، مع كلبه "وردان"، وراء ذلك الطائر السحري، كي تحكي عجزه وخصاءه وهزيمته؛ بل أمعنت، ببصيرة استثنائية، في جعله يواصل انسحاقه فينا، لنواصل انسحاقنا فيه.

رغم أن هناك صياداً وكلباً حاضران، وبطة وهزيمة غائبتان، تتمحور الرواية حول شخصية وحيدة، هي شخصية الصياد والجندي السابق، زكي نداوي، التي نتعرّف إليها من خلال الحوار، الذي يأتي مرة داخلياً، ومرةً خارجياً، بين الصياد ونفسه، وبين خارج الصياد وكلبه. وخلال الرحلة وراء البطة يمران قرب الجسر الذي شهد هزيمة زكي جندياً، فيندلع الاسترجاع المرير للهزيمة التي يبدو أنها لم تنته، بل لا تزال تتحكم بعقل ووجدان حاملها، وستستمر عبر موت الكلب، وعدم الظفر بالصيد الموعود.

التمثيل الروائي الأبلغ لإنسان هزيمة حزيران 1967، هو في جعله لعنة ننوء بعبئها، ونصطدم بها، فزكي نداوي موجود في قرانا وعشوائياتنا ومخيماتنا. ولدته الهزيمة، لكن ما تلاها أصر على الاحتفاظ به.

كانت "حين تركنا الجسر"، ككل روايات عبد الرحمن الصغيرة، أكثر دسامة وقوة. فمن المعروف أن هذا الكاتب المميّز، حامل المشروع التنويري، كان يأخذ استراحات من مسؤولياته الأخلاقية الكبرى، تلك التي تحتاج إلى العقل الهادئ والبصيرة المتأنية، كي يطلق العنان للكاتب التجريبي، الهاوي، الشاب، الذي فيه، ليكتب الرواية وهو يدمج المسرح والشعر، قصيدة النثر والمونودراما على وجه التحديد.

فعلها هنا وفي "قصة حب مجوسية" و"النهايات"، من دون أن يتخلى عن برنامجه واستراتيجياته، في تفكيك السلطة الأمنية والمؤسسة القمعية، وفي إرجاع الهزيمة إلى أسّها، ضمن منظوره العروبي الديمقراطي. لهذا حملت الروايات الصغيرة ملامح تجديدية أكثر بكثير من رواياته الكبرى، وحفلت بالغنى السردي واللغوي، رغم قلة شخصياتها، وقصر الزمن الذي تعالجه.

زكي نداوي لا يزال حياً. إنه فينا ومن حولنا، لا يكاد يختفي حتى يعاود الظهور مذكّراً بفداحة هذا الواقع المهزوم، والمبدع في إعادة إنتاج هزيمته في الآن ذاته.