يشدد الكاتب على أن شبكة التواصل الاجتماعي أصبحت سمة لعصر النص المفتوح والانتقاء العشوائي، واندرجت في يومياتنا، وانفعالاتنا، العاطفيّة والحسيّة والروحيّة. ويتسائل عن إمكانية استخدامها في التوعية بديمقراطية تحافظ على الكرامة وتصون الحرية من التجاوزات.

عالم الانترنت .. بين الاغتيال والتشهير والضبابية

مأمون شحادة

"من ينصب لك رمحاً، فانصب له قوساً"، عبارة التصقت بجدار المحفل الالكتروني وتواصله الاجتماعي، في دلالة على استفحال المناكفة والتربص بين ثنايا وحيثيات صفحات جمهورية الانترنت، فما هي المشاهد الضبابية التي تخفيها تلك الجمهورية؟

الانترنت والاغتيال الالكتروني

حينما تكتسي الأرض حلتها البيضاء شتاء، تبدأ الفرحة متراشقة ومتطايرة ككرات ثلجية صغيرة لا يتعدى حجمها مقبض الكف وحبة البرتقال.

الواضح أن فرحة لقاء الزائر الأبيض تمثل طبيعة حقيقية لا يختلف عليها اثنان، وإن جاء الاختلاف يكون متعلقاً بتوقيت الهطول.

أما في عالم الإنترنت وما تحويه مواقع التواصل الاجتماعي من صولات وجولات وتقسيمات وتشعبات وتراشق بالسب والذم والاتهام والتحريض والقذف والتهديد والوعيد إلى غير ذلك من بطولات التقمص الالكتروني؛ تبيّن أن هذا العالم أصبح مرتعاً تعبيرياً يتجه مؤشره نحو انحرافات تؤثر مستقبلاً على أخلاقيات ونهج الشعوب.

الصورة وفقاً لذلك لم تعد طبيعية، وهي بعيدة كل البعد عن طبيعة "الثلج الأبيض" وسمات المشهد ونقاوته، فشتان بين وصف المجهول والحقيقة.

اللافت أن هذا الفضاء الالكتروني أصبح سمة لعصر النص المفتوح والانتقاء العشوائي، وما على المتصفح إلا ملاعبة لوحة المفاتيح بأصابعه المفعمة بالنزوات الايجابية والسلبية، حتى الإيجابيات –في بعض الأحيان- تُستغل بطرق ملتوية، لتحقيق مآرب سلبية.

القارئ ربما يجزم ويفسر ما ذكر أعلاه بأنه هجوم ضد التطور والتحضر، ونحن نؤكد أننا مع الرقي الحضاري، وضد استغلال الانترنت لبث سموم تحرق الأخضر واليابس تحت مسميات ثقافة الفوضى والانحراف الأخلاقي.

إن ثقافة الاغتيال الالكتروني أصبحت متاحة للصغير قبل الكبير، وما عليك إلا اتباع أسلوب الفبركة والإشاعة لتصبح قائداً لـ"امبراطورية النزوات" من وراء شاشة صغيرة تتحكم بعقول الناس.

صفحات التواصل الاجتماعي والإدمان التصاعدي

لم تعد مواقع التواصل الاجتماعي مجرد صفحات إلكترونية يتداولها زوار الإنترنت بين الفينة والأخرى على مدى 24 ساعة، بل تحولت إلى حالة إدمان وكسر موسع لكثير من المرجعيات السابقة.

الناظر إلى أيقونة الإشارة الخضراء لكثير من زوار الفيسبوك، يدرك جلياً أن تلك المواقع اختطفت العلاقات الاجتماعية المباشرة ووضعتها بين أربعة جدران بعيداً عن ملامح وإيماءات تلك العلاقة.

فالعلاقة المباشرة بين الأسرة النووية الواحدة أصبحت تضمحل مقارنة بتطور مواقع التواصل الاجتماعي، فعلى سبيل المثال، إن تعرض احد أفرادها لمشكلة اجتماعية من محيطه الخارجي، يسارع على الفور فتح "صفحة التواصل" ليكتب عليها "عبارات لوم وعتب ووعيد وربما تصل الى التهديد"، بدلاً من بوحها ضمن إطار الوحدة الأسرية، لإيجاد حل مناسب بعيداً عن ثقافة نشر الغسيل على الاحبال الالكترونية.

أما علاقات الحب والغرام، فقد استطاعت السيدة “الكترونيكا” التغلب على قصص عنترة وعبلة وروميو وجولييت واستبدلتها بعلاقات الكترونية، حتى أصبح العشاق يتنافسون بين دهاليز الأسماء المستعارة والوهمية.

وفيما يخص حالات المناجاة والدعاء والروحانيات، يعمد زوار مواقع التواصل الاجتماعي الى الاكتفاء بوضع أدعية إيمانية على حائط الموقع بدلاً من الاصل الطبيعي لمعنى الخشوع والتذلل للخالق.

الأدهى من ذلك، أن السرية الأسرية أصبحت "عالمكشوف"، جراء التهور واللامبالاة في استخدام تلك المواقع، ناهيك عن نشر الصور وأسماء وجبات الطعام التي نتناولها، ولم يتبق إلا نشر صور استخدام بيت الراحة.

مروراً بما ذكر أعلاه، يتضح أن زوار الإنترنت أصبحوا أسرى تطور تلك المواقع، حيث استبدلت العائلة والعشيرة وكل العلاقات الاجتماعية المباشرة بشاشة الكترونية تعمق الانزواء الشخصاني.

رغم كل هذه السلبيات، ألا تساعد تلك المواقع "مستقبلاً" على إنشاء قاعدة فردانية تبعد الفرد عن إطار الجمعانية المرتبطة بالعادات والتقاليد ورقابة المجتمع؟ لاسيما وأنها أوجدت شخصية مستقلة بمقدورها التعبير عن أفكارها الذاتية، التي لم تجد مكاناً لطرحها بين أطر المجتمع.

الانترنت وتضخيم الأحداث

صحيح أن النملة صغيرة بحجمها، إلا أنها ربما تصبح كبيرة بحجم الفيل وفقاً للتطورات الزمانية والمكانية وارتباطاتها بالمخيال والخيال والرؤية.

إن مجتمعاتنا اليوم تعاني من بروباغندا تجعل من النملة فيلاً لتضخيم الحدث والأهداف، فالثرثار سيد هذا المصطلح، فإن أعطاك الأخير سراً، فكن على قناعة بأنك لست أول من يعلم، ذلك لأن الفكر المجيّر يساوي الوعي المفقود.

النملة مشابهة لحجم الفيل تبريراً، فالفشل السياسي يبرر بدواع إقليمية، والفشل الطبي يبرر بالخطأ، والنميمة والغيبة تبرر بالسمر وجلسات المودة، واستخدام الصفات الطيبة بوجه مغاير قد يفسرها البعض بصورة خاطئة.

ومن مفارقات البروباغندا الاجتماعية، أنك حينما تكون قوياً يصفق لك كل صاحب منفعة ويجعل لك الأسود كالأبيض، وحينما تنهار قوتك تصبح مرتعاً للطعنات والتأويلات ويصبح الأبيض كالأسود، فالناس مثل الأعمدة الفخارية، كلما نقشت عليها شيئاً ازدادت خبرتك وترنحت بين الألم والأمل.

أما سياسياً، من ينظر الى العالم، يعرف أن النتيجة أصبحت 4+9=77، وربما تتطور إلى 2+8=1000، وكذلك سيل الحروف والأرقام وصولاً إلى كل الاحتمالات، حيث نسينا أن الفكر والجوهر كالحرف والكلمة، كلما ازدادت الفكرة اتساعاً كلما نضج الجوهر الفعلي وليس الوهمي.

القارئ ربما يطرح سؤالاً متأدلجاً، هل المشروع الإعلامي العالمي عبر وسائله الالكترونية يتجه نحو الاستفسار الحقيقي وتنمية التوعية؟

الجواب ربما يتقمص دور المسطرة التي تستطيع قياس الخشب والحديد وغير ذلك، وليس قياس العقول، فالتنمية لا تقاس بطول المسافة الزمنية، بل برجاحة الفكر التنموي الذي يرسم معالم تلك المسافة، والإنسان يخطئ حينما يقتبس المخيال لتأويل الخيال.

أمام هذا، نتذكر ما قاله الكاتب والمفكر الصيني سون أتزو: "إن مزج الالوان معاً يخرج لنا تدرجات لونية بأكثر مما يمكن رؤيته".

فهل ينطبق ما قاله الكاتب أتزو على الحالة الاعلامية الالكترونية؟ أم أن تقمص الدور السوريالي أصبح ظاهرة تخيّم على كل أروقة الخماسية الاستقصائية لمعنى الصحافة؟

إذن، نلخص نظرية النملة والفيل بما قاله الدكتور إبراهيم الفقي رائد التمنية البشرية: "إن 80% من تفكير الإنسان سلبي، والخوف والقلق من سمات هذا الزمان".

خلاصة المشهد، بما أن الديمقراطية نهج يحافظ على كرامة الإنسان وصون حريته من أي اعتداء وتطاول وغير ذلك، أفلا يتنافى هذا المصطلح مع التجاوزات "الاجتماعية والسياسية" لاستخدام الإنترنت في يومنا هذا؟

 

(كاتب صحافي ومحلل سياسي من فلسطين)