تريق هذا الدراسة الضوء على واحدة من أخطر الظواهر التي تهدد العراق، وتهدد المجتمع العربي من ورائه، كاشفة عن جذورها ومساراتها ومختلف تجلياتها في الواقع العراقي الراهن.

الطائفية الجديدة في العراق

محمد مظلوم

 

من "المثقف التقليدي" إلى "المثقف الطائفي"

لا شكّ في أنّ تحوُّلَ المعضلة الطائفية من سياقاتها التقليدية المعهودة، واندماجَها بمعضلاتٍ وشؤونٍ تتّصل بمراكز الاستقطاب الإقليمي والدولي، يجعلان من فحص الطبقات القديمة الحاضنة لجذور هذه المعضلة أمرًا ضروريّاً. والهدف من ذلك هو اقتراح توصيفٍ تقريبيٍّ لما يجري، وجعلُه منضبطًا في شرطه الآني، ومن ثم ربطُ ذلك التوصيف بالتحوّلات التاريخية للمعضلة. فعندما ذهب حنّا بطاطو إلى العراق في خمسينيات القرن الماضي، قاصدًا دراسةَ تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، ومأخوذًا بما يسمِّيه "أدبَ الثورات والأصول الاجتماعية للثورات، من البلشفية عودةً إلى الفرنسية والإنكليزية،"(1) خرج ببحثٍ تمهيدي. وهذا البحث لا يبدو أنّه كان مقصودًا بذاته قبل وصوله بلادَ الرافدين، لكنّه سيغدو منذ ذلك الوقت الجذرَ الأساسيَّ، ولعلّه المصدرُ الأهمُّ، لاستقصاء الأصول الاجتماعية القريبة للحركات الثورية في العراق. وإذا كان بطاطو قد جعل من استكشاف الطبقية الاجتماعية قاعدةً أساسيةً لدراسة الحركات السياسية في العراق، فإنّه تقصّى الجذرَ القَبَلي والمناطقي لتلك الأصول الاجتماعية. وقاده ذلك إلى التعرّض للقضية الطائفية، فاتحًا بابَ البحث واسعًا أمام التفسيرات اللاحقة لممارسات تلك الحركات، سواءٌ في وجودها داخل المعارضة، أو في صراعاتها الداخلية، أو في مشاركتها في الحكم، أو في سيطرتها المطلقة على السلطة.

ولذلك، فإنّ ظهورَ جنديّ المارينز الأمريكي ظهيرةَ التاسع من نيسان (أبريل) 2003 وسط بغداد، التي كانت عاصمةَ الخلافة الإسلامية لأكثر من خمسة قرون، قد كان كافيًا لاستنفارِ تاريخٍ محتشدٍ من الصراعات السياسية والخلافات المذهبية والاجتهادات الفقهية المرتبطة بتلك الفترة، دفعةً واحدةً، وبصيغةِ عودةِ التاريخ إلى ما بعد سقوطِ بغداد على يد المغول عامَ 1258م /65 هـ. فالحال أنّ الفترة التي أَعقبتْ سقوطَ بغداد في يد المغول كانت فترةَ ازدهارٍ حقيقيةً للثقافة الطائفية، ورسوخِ صورةِ "المثقف الطائفي."  فقد راح قادةُ المغول، وبينهم هولاكو وأبناؤه وأحفادُه، يقيمون المناظراتِ المذهبيّة بين علماء الطائفتين؛ ولذلك انقسم إرثُ العوائل المغولية في العراق بين التسنُّن والتشيّع. ومن الواضح أنّ هذه المناظرات واعتناقات التمذهب بين أمراء المغول ما هي سوى خلائط مغولية في فنِّ إدارةِ الأهواء السياسية والإمساكِ بزمام الملْك.

ومع ظهور جنديّ المارينز في ساحة الفردوس، كان ثمة جحيمٌ أرضي يجري إعدادُه، مقترِنًا بظهورِ نموذجٍ مستحدَثٍ من المثقفين، مجسَّدًا بـ "المثقف الطائفي الجديد."  وهذا المثقف معبّأٌ من تراثِ شقاقٍ طويلِ الأمد، ترسَّخ في وجدانه بصيغٍ متراكمة؛ وعندما حانت ساعةُ "الحقيقة،" لم يستطع التخلُّصَ من الظلال العميقة لتلك الثقافة المكبوتة وذيولها الملتبسة. ذلك أنّ الانبثاقات الفجائية لممارسات الديموقراطية وأفكارِ التنوير والإصلاح والتعدد، كما تنبثق الأعاجيبُ الخرافية والكراماتُ الدينية التبشيرية, أدَّتْ وبشكل طبيعيٍّ إلى اختلاط الضرورات غير المدركة أو الغرائزية بالمفهوم التنويري.

وحين نتحدَّث عن ظهوريةٍ تأخذ شكلَ ظاهرةَ "مثقَّف طائفي،" فلا بدَّ من استعادة نموذج "المثقف العضوي" لدى غرامشي، كنوع من استحضار القرين النقيض. إذ حين ربط صاحبُ فكرة "الهيمنة الثقافية" مثقّفَه ذاك بالطبقية الاجتماعية، فإنّه حدَّد دورَه بالذهاب نحو تلك الطبقات الاجتماعية، ومعها نحو الأمام. وأما "المثقف التقليدي" فقد وَجَدَ غرامشي أنّه ينفصل عن تلك الطبقات نحو الدولة أو العزلة، أو يَعْمل على شدِّ هذه الطبقات إلى الخلف عبر إنعاش نماذجها الرثّة والسائدة وكفالة ديمومتها. بهذا المعنى، فإنّ "المثقف الطائفي" نتاجٌ تراجعيٌّ وإحباطيّ، من صورة المثقف العضوي إلى صورة المثقف التقليدي الذي يَرْهن آليّاتِ تفكيره ويوظِّفها في إعادة الترويج للطبقات الاجتماعية القديمة والكُتَلِ التاريخية التقليدية، من دون أن يتحررَ منها أو يدفعَها إلى هاويةٍ نهائيةٍ ليمهِّد بذلك الطريقَ نحو الكتل الاجتماعية البديلة.

على أنَّ ما يشكِّل بنيةَ المجتمع المدني في المفهوم الغربي، من شركات ومؤسسات ونقابات ومدارس وتجمعات ثقافية ووسائل إعلام بلا رقابة، أضحت في واقعٍ مثلِ الواقع العراقي كنايةً عن مساجد وديوانيات عشائرية وحلقات طقوسية ومنابر للتحريض والتأليب الأهلي. ومن خلال هذه كلِّها، تمارس القياداتُ الكهنوتيةُ "هيمنةً ثقافيةً" تحقِّق لها وصايةً تمثيليةً إضافيةً على المجتمع، تصل بها إلى هيمنةٍ مزدوجةٍ تمكِّنها من قيادة "الدولة" عبر سلطةٍ ديموقراطيةٍ في ظاهرها، رجعيةٍ في جوهرها. وبدلاً من أن يصبح المجتمعُ فضاءً للديالكتيك، كما أراده صاحبُ كرّاسات السجن، تحوَّل إلى مختبرٍ لإعادة إنتاج الكتل التاريخية التقليدية على أسس سياسية محدثة. بيْد أنّ غرامشي كان يَنْظر إلى دور المثقف من خلال انحيازه إلى المجموعات الفلاحية الإيطالية ضدّ طبقات الإقطاع والبرجوازية والإكليروس. وأما الكهنوتية الطوائفية العربية فقد أعادت إنتاجَ المثقف التقليدي بصيغة "المثقف الطائفي،" فيما لم تنجح الثقافةُ العَلْمانيةُ النهضوية طيلةَ قرنٍ من الزمن في فكِّ ارتباط الكتل الاجتماعية الضخمة بتلك الطبقات السائدة.(2)

تاريخ ثقافة الطائفية في العراق

تكاد الطبقاتُ التقليديةُ الثلاث، الإقطاعُ والبرجوازيةُ والكهنوتيةُ، تلخِّص إلى حدٍّ كبير بؤرةَ استقطاب المثقف الطائفي في العراق، وهي تقوده في الوقت نفسه من تلك المناطق السجالية القديمة إلى ساحةِ عنفٍ تمثِّلها اليومَ خريطةُ العراق بكاملها.

وإذا كان غرامشي أولَ مَنْ عالج قضيةَ الهيمنة على الثقافة بوصفها وسيلةً لضمان البقاء في الحكم في مجتمع رأسمالي، فإنّ هيمنة "النخبة الكهنوتية" على البنية المجتمعية لم تكن نتاجًا طبيعيّاً للتنافس في الفضاء الثقافي. فالحقّ أنّ الطائفية السياسية في العراق الراهن هي نتاجٌ لثقافةٍ طائفيةٍ متدحرجة، تولَّدتْ بدورها من ظاهرة خلافية نشأتْ بفعل ممارساتٍ بعيدةِ الأغوار ومتّسعةِ الظلال في وجدان الجماعات المحلية. وجاءت النخبُ الماكرة لتهييج هذا الترسُّب وتوظيفِه في ممارسةٍ موجَّهةٍ في سياق تحقيق مصالحها الذاتية. ذلك أنّ الخلاف السياسي بين الجماعات الإسلامية، بطبقاتها الاجتماعية، تجسَّدتْ أوضحُ صوره في صيغ قبائلية مناطقية، ممزوجةٍ بأسبقيةٍ إيمانية ولائية (إشكالية الإمامة بين المفضول والفاضل)، ورَشَحَتْ تفاعلاتُها على السطح بعد غياب صاحب الدعوة، الرسولِ محمد بن عبد الله. فنشأ الخلافُ الصحابي بين المهاجرين والأنصار، وسرعان ما تحوَّل إلى خلاف متوالد بين المهاجرين أنفسهم، ومن ثم تركّز في خلافٍ قُرَشي داخلي بين البيوت القبلية ابتدأ منذ حادثة السقيفة الشهيرة، التي وقعتْ سنة إحدى عشرة للهجرة. وتُعدّ هذه الحادثة في نظر الشيعة انقلابًا سياسيّاً وردّةً دينيةً مركّبة، في حين تُعَدّ لدى الطرف الآخر "فلتةً وقى اللّهُ شرَّها، فمن عاد لمثلها فاقتلوه."(3) ومن هنا شَكّلت السقيفة مرجعًا تراكميّاً وتفاعليّاً في الآن نفسه لثقافةِ تَحاجُجٍ وتَعارُضٍ ستغدو، بعد حين، نزعةَ تنافُسٍ وإقصاءٍ ومحوٍ تُطْبق على تخوم الإمبراطورية الإسلامية من مشرقها حتى مغربها.

بيْد أنّ التعصُّب "السُنّي" والغلوَّ الشيعيّ بلغا أعلى مستوييْن لهما خلال عهد الخليفة العبّاسي العاشر، المتوكّل، والإمام العاشر، علي الهادي. ويُمْكن توصيفُ تلك المرحلة بأنّها مثّلت المفصلَ الأساسيَّ بينَ عهد التمهذب الفقهي والتعصب الطائفي. وتحت هذه الوطأة سنجد الثقافةَ الطائفيةَ تنحو إلى ترسيخ نمط جديد من النزاع يختلف عن السياق المعهود في الصراع السياسي خلال العهد الأموي. فبينما كان الأخطل، مثلاً، أمويَّ الهوى، والفرزدقُ علويَّ الرأي، فإنّ كلاً منهما حرص على أن يوظِّف خلافَه مع الآخر في إطار الصراع السياسي لا التحريض الطائفي والتنابز المذهبي؛ فالأخطل لم يكن سنيَّاً ولا شيعيَّاً بل مسيحيّ، والفرزدق كان متهتِّكًا مُتساهلاً في الدِّين. كما سنَرْصد في هذه الحقبة بروزَ نقائض من خطابٍٍ أدبي جديد لا يمتُّ إلى الخلاف السياسي بصلة، بل يترعرع في دِمَنِ الطائفية ورمادِ فتنتها المنطوي على نار كامنة. وتشكِّل نماذجُ المطارحات والمماحاكات الشعرية بين عليّ بن الجهْم الذي يعرِّف عن نفسه بأنه "المتوكليُّ هوًى ورأيًا،" ودعبل بن عليِّ الخزاعي "هجّاءِ الملوك العباسيين ومادح العلويين،" وابن الرومي "شاعرِ العزلة والاعتزال،" نموذجًا مناسبًا لتمثيل تلك الحالة: فقد تحوَّلتْ لغةُ الاحتجاج السياسي والاحتجاج المضادّ، التي عرفناها لدى كلٍّ من جرير والفرزدق والأخطل، إلى لغةِ تنابزٍ وتلامزٍ تُنْبِئ عن ثقافة ذلك العصر. أما في الجانب الثقافي فإنّ التمايز بين التَّسنُّن والتشيُّع نشأ مع التمذهب الفقهي، لكنه اكتسب صيغةً من التباين الاجتماعي والفئوي في الممارسات الدينية الطقوسية من عبادات ومعاملات في الرسائل العملية.

وهنا من المهمِّ الإشارة إلى مقاربة الدكتور علي شريعتي لنموذجيْن من التشيُّع، وذلك في كتابه التشيُّع العَلوي والتشيع الصفوي. فقد رَصدَ انتقالَ التَّشيُّع من صفائه إلى التباسه، عبر مراحل تحوّله من ثقافة عقائدية وممارسة خلافية تتّصل فيها الرؤيا بالسلوك إلى طقوسيةٍ ومستودِعِ خرافاتٍ يَحْشد الجماعاتِ المحليةَ خلف مطامحَ لا ترتبط بأحلام هذه الجماعات قَدْرَ ارتباطها بطبقةٍ أوليغارشيةٍ ذاتِ مآرب سياسيةٍ محدّدة. وهكذا نجد أنّ التشيُّعَ السياسي الثقافي بصيغته المتقدِّمة المعروفة تحوَّل إلى تشيُّعٍ طقوسيٍّ بنكهة صوفية ذاتِ طبيعةٍ إشاريةٍ في المعتقدات المستحدثة. وعلى حمَّى هذه الحلولية الطقوسية نشأتْ نزعاتٌ مقابلةٌ تدعو إلى العودة نحو "الإسلام الصافي،" ومحاربةِ الثقافات "القبورية" والتوسُّلات الكهنوتية، وإعلانِ الجهاد عليها. ومن هنا أضحت "الطائفيةُ" نوعًا من التصادم بين الثقافات الليتورجية،(4) بعد أن كانت اختلافًا إيديولوجيّاً. وهذا هو أكثرُ الجوانب تخلُّفًا في الطائفية، لكنّه الأخطرُ انعكاسًا على المجتمع: ذلك أنّ الممارسات الطقوسية، ونزعاتِ التأليب المضادةَ لها، ستغدو "هويةً جماهيريةً" لطبيعة المباهلة الاجتماعية اليومية التي هي أكثرُ تماسّاً مع يوميات الإنسان من حزمة الأفكار والاعتقاد المضمَر، وبخاصةٍ أنّها تَخْرج هنا عن الأصل اليوناني العملي الخاصّ بالتواصل الشعبي، وكذلك تنحرف عن المنحى التطهيري والوعظي المسيحي، نحو تكوينِ مفهومٍ مشحونٍ بجرعة خرافية زائدة؛ مفهومٍ سيتحوّل إلى حفلٍ للتعبئة وكرنفالٍ للتحشيد لعملٍ من جنس آخر.

ولعلّ الطقوس الحسينية على سبيل المثال هي التمثيلُ الأوضحُ لذلك المشهد الأكزوتيكي، الذي لم يعد مجردَ ليتورجيا شموعٍ وبخورٍ وتراتيلَ، كما هي الحالُ في الليتورجية المسيحية، وإنما نحن في صميم لحظةٍ تاريخيةٍ يوميةٍ مكثّفة من العرض الدامي للممارسات العنفية في الشوارع (مواكب التطبير، ضرب الرؤوس بالسيوف، اللطم، ضرب الصدور بالكفوف، ضرب الزناجيل، جَلْد الظهور بالسلاسل الحديدية). واستدعى ذلك نشوءَ طبقةٍ من العائلات الليتورجية الراعية لمواكبِ عاشوراء وعموم الطقوسيات الشيعية، ودفع ذلك بدوره إلى بروز الأوليغارشية السياسية متناسلةً من تلك الرعاية الطقوسية الشعبية، وأدّى من ثمَّ إلى قوامةٍ عن الشعب. هذه الأناشيد الحزينة هي في الواقع ترجيعٌ لأراجيز مقدّسة في حروب إيرانية ـ تركية، أو مطامع فارسية ـ عثمانية تحت رايات الصفوية والسلجوقية. أما مواسمها وأمكنتها فصارت عنوانًا مفصليّاً لبداية الصراع الطائفي المسلّح على العراق بين تركيا وإيران. وشيئًا فشيئًا كان التمايز ينحو منحًى اطّراديّاً نحو التنابز. وراحت المراكزُ الثقافية الناشئة، كمدارس التفسير والحديث والفقه والنحو في المدينة والكوفة وبغداد والبصرة، تتحوّل إلى أماكن أخرى ومراكز ومدارس مختلفة تعمل على الاستقطاب والتنافر: فظهرتْ مدارسُ شيراز ومرو مع تنازع السلاجقة والبويهيين، وظهرت الأستانة وأصفهان في حمّى التجاذب العثماني ـ الصفوي.

فمن الأستانة نشأ نظامُ المِلَل العثماني الذي يقوم على تحديث ديوان الجزية "لأهل الذمّة" في الحضارة الإسلامية في بداية نهوضها، ويُعنى بضبط تراتبية الجماعات الدينية المحلية المتعايشة في دار الإسلام أو ضمن حدود الإمبراطورية. وكان النظام السلطاني العثماني شغوفًا، على ما يبدو، بخلق تراتبيات متعددة الأصناف؛ فإضافةً إلى تراتبية الجماعات الدينية، هناك التراتبية الطبقية داخل هذه الجماعات نفسها: الباشا والبيك والأفندي... ومن المهمّ الإشارة إلى أنّ ثمة تراتبية عثمانية مضمرة كانت تمارَسُ مذهبيّاً وطائفيّاً. فالتسنُّن الحنفي الذي يعتنقه السلاطينُ العثمانيون كان المذهبَ الرسمي للدولة والقضاء والأوقاف والمدارس الدينية ودواوين الحكومة. وكان الشيعة يأتون خلف أهل السُّنَّة بمذاهبهم الأربعة على وفق تلك التراتبية، التي تَظْهر تجلّياتُها في منظومة الجيش التركي باعتماده على العنصر السُّني في القيادات المحلية في العراق. ولقد بقي الشيعة أشبهَ بالكتلة الحائرة بين "نظام المِلل،" الذي يَكْفل رعايةَ الجماعات الدينية المحلية، وبين منظومة التسنُّن الرسميّ في بلادٍ ليستْ سُنّيِةً في طبقاتها الاجتماعية.

ومثلما لم يكن العراق بلدًا سُنيّاً في فترة الحكم العثماني، فإنّه لم يكن في كل مراحل تاريخه، منذ دخول الإسلام وتحوُّلِه إلى مركز الخلافة، مرورًا بالحقبة العثمانية، بلدًا شيعيّاً خالصًا أو بلدًا سنيّاً تَشَيَّع، وإنما ظلَّ طيلة هذه المراحل حاضنةً لمدارس الفقه ومذاهبه، ومختَبَرًا لتجريب ثقافة الاختلاف، ومَصْهرًا لاشتباك الثقافات وتداخلها. وفيما كانت الكوفة مركزًا للخلافة، فإنّها لم تتحولْ حاضنةً ثقافيةً للتشيُّع إلاّ بعد مئات السنوات. ولم تكن بغداد، وهي مركز الإمبراطورية، عاصمةً سنّيةً، ولم تصبح كذلك في أية فاصلة من تاريخها. ولذلك حين قامت الدولةُ العراقية الحديثة على أساس استعادة شيء من روح الخلافة الهاشمية، بدت وكأنّها أعادت إلى العصور الحديثة معضلةً عمرُها أكثرُ من ثلاثة عشر قرنًا. ولم تعد معضلةُ السقيفة ثابتةً في ذلك المكان، بل أصبحتْ تجوب أحياء عدةً من بغداد وعواصم أخرى، وأضحت بيوتاتُ النقيب والهاشمي والجعفري ودارُ المس بيل والمندوب السامي البريطاني سقائفَ جديدةً تنبعث منها أدخنةٌ مختلفةٌ لمطابخَ متعددةِ الثقافات تعمل على إعادة تركيب فتنةٍ ثقافيةٍ قديمة. ومن هنا، مثلاً، أكّدت المس بيل أنّ السلطة النهائية للدولة العراقية يجب أن تكون "في أيدي السنَّة على الرغم من أقليتهم العددية،" بل أوصت بضرورة "الاحتفاظ بالموصل السُّنية ضمن الدولة العراقية من أجل تنظيم التوازن."(5)

الطائفية بعد الاحتلال الأميركي

تشكَّلت الدولةُ العراقيَّة طائفيَّاً، وانشقَّت الأحزابُ القومية والأممية متفرِّعةً عن هذه "البنية التحتية" وهي في معمان نضالها العقائدي، وفي صلابة عودها التنظيمي والقيادي. وانشقَّت كذلك المؤسساتُ بشكلٍ غيرِ مرئيّ، وفي خفاءٍ مُحْكم. وحين انهار البناءُ المؤسساتي للدولة بعد الاحتلال الأميركي للعراق، لم تتقوّضْ معها البنيةُ التحتيةُ القديمة. وهذا ما سَهَّلَ إعادةَ صياغة الأطروحة السياسية بنكهة جديدة تأتلف في العمق مع أطروحات الاستشراق القديم والبحث السياسي في مستهلّ القرن الماضي مع "لورنس والمكتب العربي" وتنقلب عليها داخليّاً. فقدَّم پول بريمر صيغةً منقّحةً للإرث الأنكلوسكسوني الغابر الذي لم يَصمدْ لقرن كامل. فجاءت تركيبةُ "مجلس الحكم" تركيبةً مصنوعةً من قِبل الحاكم المدني للعراق خلال الاحتلال، لم تُفْرزها انتخاباتٌ ولا شورى، ولم تُقِرّها توافقاتٌ ولا استقراءٌ موضوعي لمزاج النخب والجماعات العراقية. وإذا كان هذا هو إرثَ الكولونيالية، منقَّحًا ومستعادًا بطريقة انقلابية، فما هي الأرضيةُ التي أنشاتْها النخبُ العراقية المنفية لتمضي عليه خطوطُ الموازنة الأميركية الجديدة؟

أ ـ لقد كان مؤتمرُ فيينا للمعارضة العراقية، المنعقدُ في العاصمة النمساوية فيينا بين 16 و19 حزيران (يونيو) 1992 من العام الأخير من ولاية بوش الأب، وبتمويل من إدارته، وحضره ممثِّلون عن الإدارة الأميركية ووزارة الخارجية البريطانية، هو المؤتمرَ الأولَ للمعارضة الذي يُعقد تحت وطأة نعرةٍ طائفيةٍ تعالى صياحُها بعد سحق النظام العراقي لانتفاضة الشيعة في الجنوب وسقوط آلاف الضحايا، وإثرَ فشلِ مؤتمر بيروت عامَ 1991 في استثمار تخلخل الأوضاع في العراق في أعقاب حرب "عاصفة الصحراء." وكانت فيينا، التي اشتُهرتْ بالمؤتمر الذي عقده المنتصرون على ناپليون لبحث مصيره وإعادةِ تنظيم التوازن في أوروبا، مناسبةً لاختلاق طبقة الطائفيين العراقيين الجدد من أجل توظيف "المقابر الجماعية" في إعادة تنظيم التوازن الطائفي في العراق. ولم يكن "ليبراليو" الطائفة الجدد من أصحاب العمائم، وإنما من ذوي ربطات العنق. وللمرة الأولى اندرجتْ أحزابٌ وحركاتٌ قوميةٌ ويساريةٌ علمانيةٌ في صيغة التوزيع الطائفي، كالحزب الشيوعي العراقي وتنظيم الناصريين المستقلين والحزب الاشتراكي العربي.

وعلى إيقاع هذه المنظومة جاء "إعلانُ شيعة العراق"(6) ليَحْمل إشارةً صريحةً للمرة الأولى إلى الهوية المذهبية داخل الهوية الإسلامية للمجتمع العراقي، ولينتهي إلى مطالبة الدستور بحريات طقوسية وحَوْزَوِيّة. وجاء الدستور "الجديد" ليتبنّى تلك "الحقوق" بالفعل، ويعتبرها حقّاً شخصيّاً، في حين أنّها في الواقع اختزالٌ للحق الشخصي وربما تغييبُه بقناع الطائفية. فأصبح الفردُ العراقي مجردَ كنايةٍ جماعيةٍ في هويةٍ طائفية، لا مواطنًا في وطن.  ولعلّ أوضحَ صور الفزع من كفالة الهوية "الطائفية" قد تمثّلتْ دستوريّاً في تلك الموادّ التي تجعل من "ممارسة الطقوس والشعائر الدينية" بندًا يثبَّت كحقّ جماعيّ في إطار التوجه الطائفي، بدل أن تجعله من سمات ممارسة الحرية الشخصية والحق الفردي. هذا وقد أَفرز "إعلانُ شيعة العراق" طبقةً أوليغارشيةً تتمثّل في عدد من الأسماء التي تولّتْ أرفعَ المناصب بعد الاحتلال, ومن بينها: رئيسُ الوزراء السابق إبراهيم الجعفري، ونائبُ رئيس الجمهورية عادل عبد المهدي، ومستشارُ الأمن القومي موفّق الربيعي، إضافةً إلى عدد من أعضاء البرلمان عن "قائمة الائتلاف الموحّد،" وأعضاء في مجلس الحكم، ووزراء في الحكومة المعيّنة من قِبل بريمر، وسفراء ووزراء في الحكومات السابقة والحكومة الحالية.

ب ــ إذا كان إعلانُ "شيعة العراق،" الذي صيغ وأُعلن ووُقِّع بأغلبيةِ موقِّعيه في لندن، عاصمةِ الكولونيالية القديمة، لا يكتفي بالتحدث عن هوية طائفية تستدعي اعترافًا دستوريّاً ونصّاً واضحًا في سياق تكريس الطائفية، بل يتّخذ أيضًا من عنوانه العريض تعبيرًا صريحًا عن طائفيته، فإنّ ثمة أقنعةً أخرى تتلطّى خلفَها نزعاتٌ طائفيةٌ وتترعرع في مناخ من التمويه، وكأنّ ثمة جماعةً سريةً لا يمكن أن تنشأ إلا عبر الاستعارة المتلبّسة لهويةٍ متّسعةٍ في المبنى البلاغي وضيقةٍ في حدود المبنى التبليغي. ولأجل تفكيك هوية هذه الاستعارة الملتبّسة، استثنينا الإشارةَ إلى الحركات الطائفية الكلاسيكية المعروفة، كـ "تنظيم القاعدة في بلاد الرافديْن" وملحقاته الحركية التي أَعلنتْ صراحةً عن مشروعها لإعادة إحياء نموذج الخلافة في آخر دارٍ للخلافة القرشية، بغداد. كما استثنيْنا، على الجانب الآخر، "المجلسَ الأعلى للثورة الإسلامية في العراق،" و"حزبَ الدعوة،" وتفرُّعاتهما التنظيميةَ التي ينطوي مشروعُها على إقامة دولة إسلامية، تكون فيه المرجعيةُ "رشيدةً،" إن لم تكن "ولايةَ فقيهٍ" صريحةً.

ففي مناخ الاستعارة هذه نشأتْ حركاتٌ "إسلامية سنّية معارضة" للمرة الأولى منذ تراجُعِ حركة الإخوان المسلمين، المحدودةِ أساسًا، في العراق خلال الستينات. فتشكّلتْ "هيئةُ علماء المسلمين" بعد بضعة أيام من سقوط بغداد تحت الاحتلال. والملاحظات البارزة حول هذه الهيئة تتلخّص في كون قيادييها من منشإ مناطقي واحد (محافظة الأنبار)، ولونٍ طائفي واحد (سُنّة حنفيون). وقد عقدوا اجتماعَهم الأولَ في حضرة الإمام أبو حنيفة النعمان، الرمزِ السنّي الأبرز في بغداد، والذي تقوَّض جانبٌ من مئذنته خلال الحرب. كما أنّ أغلبهم ينحدرون من فصيلة نخبوية واحدة (أساتذة كليّة الشريعة الإسلامية في جامعة بغداد وطلاّبها). وفي ظلّ ظروف الاحتلال أيضًا نشأت "الحملةُ العالميةُ لمقاومة العدوان،" وما هي في الواقع سوى مجموعات إسلامية عُلَمائية "سُنيّة" تسعى إلى تنظيم نفسها في إطارٍ عامٍّ يدّعي العالميةَ في عناوينه الخارجية، بينما تنطوي في واقعها وممارساتها في قوقعةٍ طائفيةٍ، وتضع الهويةَ الوطنيةَ بين حدَّي هوية الأمة الإسلامية وهويةِ الطائفة المحلية، ولها ممثِّلون منخرطون في "العملية السياسية" التي تقودها الولاياتُ المتحدة. وفي سياق نشاطات هذه الحملة، عُقد في إسطنبول بين 13 و 14كانون الأول/ ديسمبر 2006 مؤتمرٌ تضامني مع "الشعب العراقي" تحت عنوان رسمي هو "مؤتمر نصرة الشعب العراقي." لكنّ تسميةَ المؤتمر سرعان ما تحولتْ إلى "مؤتمر نصرة أهل العراق،" التي أصبحتْ بدورها مجردَ شعار خارجي وتسميةً حركيةً لمنظمة داخلية تعرِّف نفسَها تحت اسم "مؤتمر نصرة أهل السُّنة في العراق،" حتى بدا "الشعبُ العراقيُّ" مجردَ اسمٍ حركي وكنايةً مضمرةَ الدوافعِ للنعرات "الأهلية" المحلية والنزعات "الطائفية."

والحقّ أنّ اختيار استانبول "الأستانة القديمة" مكانًا للمؤتمر ليس مجردَ دلالةٍ تأويليةٍ تتولّد عن قرائن متاحة في السياقات الإقليمية لعقد المؤتمر، بل إنّ وقائع المؤتمر نفسَها تشير إلى مكامن قديمة يجري استنفارُها في "حملة عالمية" لمواجهة العدوان. ولكنْ، أيّ عدوان؟ التوصيف هنا يَخْضع لاختبار الخطاب الثقافي للبحوث والمداخلات التي تضمّنها "مؤتمرُ نصرة الشعب العراقي." ففي خلاصة أحد البحوث المقدَّمة يجري التحذيرُ "من خطر الهيمنة الشيعية على القرار السياسي في العراق"؛ ذلك أنّ "سيطرةَ الشيعة على العراق ونشوءَ محور شيعي قوي في المنطقة سيغريان العلويين في تركيا بالتحرّك وتصعيدِ مطالبهم بما يهدد الأمنَ الوطني التركي."

والواقع أنّ بحوث المؤتمر الأحد عشر انشغلتْ بمشكلات متفرِّعة عن العدوان أكثرَ من تركيزها على العدوان نفسه. فباستثناء بحثيْن هما "الإستراتيجية الأميركية ومتّكآتها الفكرية" و"أبعاد المشروع الأميركي في المنطقة،" انشغلتْ بقيةُ البحوث التسعة في محنة المجموعة السُّنّية والمخاطر المحلية والإقليمية التي تُهدِّدها. فكانت عناوينُ البحوث من قبيل "الوضع الإنساني والإغاثي لأهل السُّنّة في العراق،" و"الإعلام بين محنة أهل السُّنّة ومحنة العراق،" و"المشروع الإيراني الصفوي في العراق،" و"واقع أهل السُّنّة في العراق ومستقبلهم وانعكاس ذلك في المنطقة،" إلى متابعات وشهادات تتعلّق بانتهاكات حقوق الإنسان من جانب الحكومة والجماعات المحلية بميليشياتها وأحزابها التي يشكِّل عددٌ من المحاضرين والمشاركين في المؤتمر زعماءَ لبعضها. الدكتور عدنان الدليمي، رئيسُ "جبهة التوافق العراقية" والأمينُ العامّ لـ "مؤتمر أهل العراق،" كان أولَ مَنْ دعا خلال المؤتمر إلى استبدال اسم الشعب العراقي بأهل السنّة، لأنّهم هم مَنْ يتعرّضون للتنكيل. يُضاف إلى ذلك التركيزُ على إظهار اللون الإسلامي الطائفي للمقاومة العراقية، عبر بثِّ كلماتِ متحدثين باسم فصائل ذاتِ لونٍ طائفي محدّد. وبالرغم من أنّ المؤتمر جرى التحضيرُ له تحت عنوان "مقاومة العدوان،" وعُقد تحت لافتة "مؤتمر نصرة الشعب العراقي،" إلاّ أنّ التوصيف العامّ لطبيعة المؤتمر يتحدّث في مدخله عن "أهل العراق" ليصل في الخلاصة إلى نتيجة مؤدّاها أنّ المؤتمر في حقيقته شعبي لا رسمي، ويهدف في الأساس إلى "إطلاق رسالةٍ إعلاميةٍ لإبراز وتوثيق مأساة أهل السُّنّة في العراق."

ج ــ ذلك شأنُ حركات الإسلام السياسي الغارفة من تراثها التقليدي في البنية الطائفية، والعارفةِ بفنّ إدارة الطوائف. ولكنْ ماذا بشأن أعرق حركة سياسية علمانية في تاريخ العراق: الحزب الشيوعي العراقي؟

بعد احتلال العراق نشطتْ قاعدةُ الحزب في مناسبتين خلال أسبوعين. فبينما كان موعدُ الاحتفال بعيد الطبقة العاملة التاريخي، المكلَّل بالأحمر، يومَ الأول من أيار/ مايو، فإنّ ثمة مناسبةً "للطائفة" قبل ذلك بالحساب الهجري في العشرين من صفر1424 هـ / 22 نيسان 2003 م. وهكذا كان ثمة لونٌ أسودُ للافتةٍ شيوعيةٍ يرتفع في شوارع عدة من شوارع بغداد، بينها شارعُ الثقافة "شارع المتنبي": فقد رفع الحزبُ الشيوعي العراقي لافتةَ تعزيةٍ سوداءَ في ذكرى أربعينية الإمام الحسين في وقتٍ كانت فيه الملايينُ من الشيعة تحجُّ إلى كربلاء سيرًا على الأقدام في أول مناسبةٍ بهذا الحجم منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وكانت مناسبةً لاستعراض الحجم الطائفي البشري بل والسياسي أيضًا. لقد رفع الحزبُ الشيوعي العراقي لافتته تلك، وهو الذي جرى تكفيرُ المنتسبين إليه من قِبل المرجعية الشيعية ذاتَ يوم بتوصيفٍ قاسٍ يتلخّص في أنّهم "كفرةٌ وملحدون،"(7) الأمرُ الذي سَهَّلَ هدرَ دمائهم. فكأنّ القيادة الشيوعية الجديدة، وهي تتخذ قرارَها برفع تلك اللافتة السوداء قبل الراية الحمراء، مارستْ نوعًا من الندم على شكلِ تقيّةٍ سياسيةٍ سوداء، لا لإخفاء أحلام الراية الحمراء فحسب، وإنما أيضًا لحجبِ دماءٍ قانيةٍ سقطتْ في خضمّ الصراع السياسي بعد شباط 1963بأدواتها النوعية. غير أنّ المكمن الأخطر في تلك اللافتة أنّها كانت تعبيرًا مبكّرًا عن سياق جديد للعمل الحزبي، ووضعِهِ في أول الطريق نحو تكريس الطائفية. ولذلك حين جاء تعريفُ حميد مجيد موسى البيّاتي، سكرتيرِ الحزب الشيوعي العراقي، في قائمة پول بريمر لمجلس الحكم، بأنّه "شيعي،" وحين تمّ اختيارُ وزيرٍ "شيعي شيوعي" آخر هو مفيد الجزائري لشغلِ منصب وزارة الثقافة ضمن توزيع حصصي طائفي، فذلك كلُّهُ قلَّل من إمكانية توهُّم "الخطإ الطباعي" بين "شيعي" و"شيوعي" في تعريف كلٍّ من البيّاتي والجزائري. فسقوطُ حرف الواو من كلمة شيوعي هو ما عَطَفَ حميد مجيد موسى سكرتيرَ الحزب الشيوعي العراقي في تشكيلة "مجلس الحكم،" ومفيد الجزائري في وزارة الثقافة، وانعطف بهما في الوقت ذاته عن شيوعيتهما وأمميتهما.

د ـ وإذا كان الشيوعيون قد اشتقُّوا الطائفةَ من جِناس التسمية، فإنّ الليبراليين جعلوها بيتَ استراحةٍ في طريقٍ ليست شاقّةً نحو البرلمان. هكذا جرى الإعلانُ عن قيام "البيت الشيعي" في وقتٍ كان فيه مرقدُ الإمام علي بن أبي طالب يتعرّض للقصف خلال معارك النجف في ربيع العام 2004. ولعلّ من اللافت أنّ هذا "البيت،" الذي أُنشئ حين كانت بيوتُ فقراء الشيعة في مدينة الثورة / الصدر تتقوّض تحت وطأة القصف الأمريكي، غدا أشبهَ بالكنيسة السياسية، بالمفهوم الكاثوليكي، بحيث إنّ التمرُّد عليها يعدُّ تمرُّدًا على "الجماعة الطائفية." ومن اللافت كذلك أنّ زعيمًا من الثيوقراط الراديكالي هو مقتدى الصدر رَفَضَ في وقتها، وهو تحت الحصار الأمريكي وابتزازِ مذكرة الجلب القضائية، الاعترافَ بفكرة "البيت الشيعي،" داعيًا إلى بيتٍ إسلامي يجتمع فيه الجميع. من هذا "البيت" التنظيمي الشيعي كان دخولُ زمرةٍ من الطائفيين الجدد العراقَ إلى العملية السياسية، التي كانت انتخاباتُ كانون الثاني 2005 أولَ "فصولها الديموقراطية."

خلاصة

في الخلاصة سنجد أنّ صورة "الرفيق الحزبي" في النظام التوتاليتاري قد اهتزَّتْ تحت تأثير رياح التغيير الديموقراطية، فسقطتْ مخلِّفةً شظايا لصورٍ متناسلةٍ عنها، وتحوّلتْ كبديلٍ للتراتبية الاجتماعية القديمة ومقسومة هذه المرة: إلى سيِّدٍ وشيخٍ وكاكا ["الأخ" بالكردية]. ومثلما شقَّت الطائفيةُ البنيةَ الاجتماعيةَ لجماعةٍ دينيةٍ واحدة، فإنّها شقَّت كذلك أقدمَ حاضنة اجتماعية في البلاد، القبيلة. فمعظمُ قبائل العراق يتوزعُ أبناؤها بين التَّشيُّع والتسنُّن، تبعًا للواقع الديموغرافي المناطقي. وهكذا نجد أنّ الطائفيين الجدد هَيَّجوا مستوى الصراع الطائفي على ضفتين: الأولى في صراعٍ فوقيّ من أجل هوية "الدولة الطائفية،" والثانية في صراع تحتيّ من أجل إعادة تعريف البنية الاجتماعية وحواضنها التقليدية (كالقبيلة والمنطقة) طائفيّاً. على أنّ أخطرَ ما في هذا الجهد المزدوج هو إمكانيةُ تحويله الطائفيةَ إلى بنية تحتية لتزييف الوعي، تتفرّع عنها سائرُ البنى التي تَحْكم المجتمع. فعندما تتحوّل الطائفيةُ إلى معيارية اجتماعية، بمعنى تحوُّل المعيار إلى فرزٍ ومسافةٍ وثقافةٍ وتقاليد، وتحوُّلِها كذلك من مجرد توصيفِ جماعةٍ ما إلى حكمٍ "شرعيّ" على جماعة أخرى، فإنّها لا تعود مجردَ مرضٍ اجتماعي يصيب الجماعةَ، وإنما يُمْكن وصفُها هنا "بالهيمنة الثقافية الخطيرة" التي تستند إلى معطيات راسخة تقوم "النخبُ" بتوفيرها في سياق خطةٍ معلومةٍ، خاصةً حين تجد هذه البنيةُ تعضيدًا دائمًا من قِبل مؤسساتٍ كبرى تغذّي الروحَ الطائفيةَ على حساب فكرة الوطن.

دمشق

1 ـ راجع حنّا بطاطو، "عودة إلى الطبقات الاجتماعية،" ترجمة فالح عبد الجبّار، مجلة الثقافة الجديدة، العدد 298.

2 ـ انطونيو غرامشي، كرّاسات السجن، ترجمة عادل غنيم (القاهرة: دار المستقبل العربي، 1994).

3 ـ كتاب السقيفة للشيخ محمد رضا المظفر، طبعة قم، 1415 هجرية. وراجع سيرة ابن هشام، وفي صياغات أخرى في المعنى ذاته لدى الطبري في تاريخ الأمم والملوك، وابن كثير في البداية والنهاية.

4 ـ الليتورجيا مصطلحٌ يونانيٌّ مركّبٌ معناه "عملُ الشعب،" أي الواجبات الملقاة على عاتقه بموجبِ نظامٍ محدد. وتحولتْ في المسيحية إلى واجبات طقوسية تؤدَّى في الكنيسة للتعبير عن الإيمان، حتى غدت وكأنّها الطريقُ الوحيدُ إلى الإيمان، لا العكس. وثمة في بعض الشعائر الحسينية في عاشوراء ما يجعلها تكاد تبدو نوعًا من الطغيان الطقوسي على الإيمان الديني، والفكرِ السياسي كذلك.

5 ـ رسائل المس بيل، ترجمة جعفر الخيّاط (الدار العربية للموسوعات)، ص 212. تُنظر رسالتُها المؤرَّخة في 3 تشرين الأول 1920، أيْ بعد ثورة العشرين التي تتّهم المرجعياتِ الدينيةَ في النجف بإثارتها. ويبدو أنّ توصيتَها هذه جاءت، وبنصائح داخلية، عقابًا لمن يتمرّد على الإنكليز. والمس بيل هي الآنسة غروترود بيل، التي عملتْ سكرتيرةً للمندوب السامي البريطاني للعراق بعد احتلاله عامَ 1917، ولعبتْ دورًا أساسيّاً في الحياة السياسية، وتوفيتْ ببغداد عام 1926 وهي في الثامنة والخمسين.

6 ـ نشرتْ جريدةُ النهار نصَّ الإعلان في 22 حزيران 2002. والملاحَظ أنّ الإعلان موقَّع في 17 كانون الثاني 2002، أيْ قبل خمسة أشهر من تاريخ نشره.

7 ـ فتوى المرجع الشيعي محسن الحكيم (1889 - 1970)، وقد نُشرتْ خلال حكم عبد الكريم قاسم، وتحديدًا عامَ 1959.

ينشر هذا المقال باتفاق خاص مع مجلة (الآداب) التي ظهر في عددها الأخير

محمد مظلوم

شاعر وباحث عراقي مقيم في دمشق منذ العام 1991. له ستة دواوين شعرية، من بينها: أندلسٌ لبغداد واسكندر البرابرة. وله أربعة كتب نقدية، منها: عراقُ الكولونيالية الجديدة والفتن البغدادية.