يواصل الباحث الجزائري المرموق هنا قراءته المكانية التي بلور أسسها النظرية في دراسته السابقة في مجلة (الكلمة) لرواية أخرى من روايات العشرية السوداء، بصورة تكشف لنا عن مختلف مستويات المعنى الثاوية في الرواية، وتربط تحليلها للمكان فيها بطبيعة الزمان وفق تصور باختين الشهير للزمكان/ الكرونوتوب

تخييل البنى العميقة للعشرية السوداء

تقاطع الأنساق والمصائر في رواية (الورم) لمحمد ساري

عبدالله شطاح

1. على سبيل التمهيد:
ينفرد نص (الورم) لمحمد ساري بطرحه المغاير، وبتناوله المختلف لموضوعة العنف في الحرب الأهلية التي عاشتها الجزائر بداية التسعينيات من القرن الماضي، والتي استمرت لعشر سنين طوال، عرفت في الصحافة والأدب بالعشرية السوداء، ووسم الأدب الذي تناولها بأدب الاستعجال (la littérature de l’urgence)  الذي لا يكاد يخفي الحكم القيمي الاختزالي الذي يموضعه قريبا جدا من التقارير الصحفية الموجهة للاستهلاك السريع.

لقد أخذ الكاتب ما يكفي من الوقت لاستيعاب ما حصل، حيث أصدر روايته سنة 2002، بعدما استقرت الأوضاع ودخلت المصالحة الوطنية حيز التنفيذ، ونزل الإسلامويون من الجبال، وبدت تباشير السلم والأمن تتيح لونا من الصفاء، وكثيرا من الهدوء، ومزيدا من فرص التجرد العقلي القادر على النفاذ إلى عمق الأزمة لمساءلة النسق الإيديولوجي والثقافي الذي أفرز تلك الحرب، وزج بالبلاد والعباد في مأزق تاريخي شاذ، تسلل بخبث، واستقر كـ(الورم) في جسد الوطن الذي أنهكته الخيبات المتتالية وحرب الزعامات والفساد والرداءة.

 لقد كانت العشرية السوداء منعطفا حاسما في سياق الرواية الجزائرية التي ظلت، منذ ظهورها أوائل الخمسينيات، مسكونة بأوجاع وطنية صرف، تبدأ بثورة التحرير وتنتهي بالخيارات الاقتصادية والاجتماعية التي انتهجتها السلطة الوطنية، مرورا ببعض الأحداث العاصفة في تاريخ الدولة الوطنية القصير نسبيا. لم يكن شيء من ذلك التاريخ المنساب بهدوء يعكر صفو المستقر الشبيه بالجمود في المخيلة الأدبية، حتى استيقظ فجأة على وقع الرصاص والقنابل والمذابح الجماعية، والحرب الأهلية الضروس التي أخذت تأكل أبناءها بلا عقل ولا منطق.

 كانت الصدمة شديدة الوطء على الجميع بما فيهم الأدباء الذين كانوا وقودها الأوائل، فقد امتدت النار أول ما امتدت إلى المثقفين المحسوبين على التيار التقدمي والليبيرالي المناهض بطبيعته للإيديولوجيا الإسلاماوية المسحوبة عنوة من أرشيف التاريخ لتتصدر الصراع المحتدم حول السلطة. ولم يكن الكتاب يستطيعون شيئا كبيرا في خضم المعركة غير المتكافئة التي كشفت بسرعة عن عجز (بضاعتهم) على مواجهة الرصاص والخناجر، باستثناء الكتابة المرتجفة التي ألقت بنفسها في المعركة، منددة ورافضة وصارخة في وجه الجريمة والصمت واللامبالاة.

 لم يكن الظرف الاستثنائي يسمح ببلورة الآراء والمواقف، واستغلال الطاقات الخلاقة للإيحاء والتخييل، وسواها من الأدوات الفنية التي تبرر العمل الأدبي وتسيغه، وتشرع وجوده الخاص في وجود المجتمع العام، فأطلق النقد الصحفي المواكب لتلك الحقبة توصيف أدب الاستعجال على ذلك الزخم الجم من النصوص التي تزاحمت في سياق زمني قصير جدا، اشتركت كلها في الاشتغال على موضوعة العنف، تنديدا ورفضا وشجبا، بينما انصرف بعضها إلى بناء نمذجات تخييلية بغية تفسير ما حصل من خلال استقراء التاريخ الجزائري الذي أفرز ما أفرز في غفلة من الجميع، ابتداء بالثورة التحريرية إلى الاستقلال إلى الخيارات الاقتصادية والثقافية والتربوية التي مهدت لظهور الحركة الأصولية في النسيج الوطني، واكتساحها للساحة السياسية تمهيدا لإقامة الدولة الإسلامية والانقلاب العسكري على الخيار الديموقراطي الذي زج بالبلاد في أتون حرب أهلية أكلت الأخضر واليابس، وقلبت القيم، وزلزلت مستقر الثوابت الاجتماعية الجزائرية الموروثة.

 في خضم ذلك كله برزت أصوات روائية اقتحمت العالمية بقوة، واستطاعت بكتابتها المتميزة لمأساة العشرية السوداء أن تلفت الانتباه إلى أصالتها الأسلوبية والتخييلية معا، على النحو الذي ظهر به كل من بوعلام صنصال2 وياسمينة خضرا3، إذ جاء الأول من العمل الإداري في وزارة الصناعة وجاء الثاني من الحياة العسكرية، واشتركا في الكتابة باللغة الفرنسية التي مكنتهما من تجاوز العقبات التاريخية التي كانت بمرصاد الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة الوطنية. واستطاعت نصوصهما، عبر اللغة الفرنسية ودور النشر الباريسية، أن تلفت انتباه الآخر الغربي إلى ما يجري هناك على الضفة الجنوبية من المتوسط أولا، ومن ثم انتباه النقد و وسائل الإعلام الفرنسية إلى نفسها ـ أي النصوص ـ ثانيا، الأمر الذي دفع بالرجلين إلى صدارة المشهد الأدبي الجزائري دون أن ينجزا أي تراكم إبداعي يبرر الشهرة والصيت المنتشر البعيد.

 أما داخل الوطن النازف بالدماء والأشلاء فكانت الأقلام تكتب نكبتها وصدمتها على ضوء الخيبة العميقة، والانكسار الحاد، والصدمة العنيفة المزلزلة، مشغلة أدواتها الذاتية، ومرجعايتها الثقافية واستبصاراتها التاريخية، وحتى يقينياتها الإيديوولجية في كتابة المحنة الملمة، والحرائق، والشتات، وأهوال القيامة. منهم من حمل الجماعات الإسلاماوية المسؤولية كلها، معلنا بصراحة تنديده بالنهج الأصولي ومقولاته ورجاله وخلفياته الدينية من منطلق رجعيتها وبدائيتها ومعاداتها لقيم الحداثة والحرية والديموقراطية وأنوار الحضارة المعاصرة فكرس عالمه التخييلي لتنميط الشخصية الأصولية والاشتغال على بربريتها وحربها المعلنة على الجميع، على النحو الذي نجده في نصوص واسيني الأعرج المواكبة للعشرية السوداء كـ(ذاكرة الماء)4 و (شرفات بحر الشمال)5 و (سيدة المقام)6، وأعمال ياسمينة خضرا المشار إليها آنفا، وبوعلام صنصال الذي أثارت آراؤه الجريئة جدا في روايته (يمين البرابرة) أنتقادات واسعة حتى في اوساط الأنتيليجانسا الجزائرية في الداخل التي تقاسمه تقليديا كثيرا من من المبادئ والقيم والمواقف.

 وانفرد الطاهر وطار بموقف استثنائي من الأزمة، لم يشاركه فيه أحد، ولم يتوقع مثله من كاتب كبير مثله يساري الهوى والثقافة والتاريخ، ذاك أنه بارك المد الأصولي، وأشاد به، واحتفى بقدرته الخارقة على حشد الجماهير، وجعلها تستميت في الدفاع عن يقينياتها بروح ثورية تعجز النظريات كلها عن خلق مثلها في الشعوب العربية الإسلامية التي فقدت توثب روحها وعنفوان إرادتها منذ وقت طويل، واستسلمت في موات مهين للطغيان والاستبداد ونزعات التغريب التي طالت هويتها العميقة، وشخصيتها المميزة، وثقافتها العريقة. ولم يكن المد الأصولي وقتها قد أسفر عن وجهه الدميم، ولم يكن قد أخذ في تذبيح النساء والأطفال الرضع، وإحراق المدارس، واغتيال المثقفين، وتنفيذ المذابح الجماعية التي استأصلت قرى وعشائر وعائلات ومداشر، حتى امتد صداها إلى بلاد العالم الفسيح الذي اكتشف فجأة غول الأصولية وحقيقتها البشعة المقيتة قبل أحداث 11 سبتمبر، وقبل أن ينخرط العالم الغربي في حربه على (الإرهاب) بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في العراق وأفغانستان.

 تبنت(الشمعة والدهاليز)7 لوحدها هذا الموقف من الأحداث، وألبت على صاحبها المثقفين الجزائريين جميعا، واتهم صاحبها بمحاباة الأصوليين خوفا على حياته، لا سيما وهو لم يغادر الجزائر، ولم يتخل عن رئاسته لجمعية الجاحظية، ولم يغير من روتينه اليومي شيئا، الأمر الذي استغربه الكثيرون في تلك المرحلة الرهيبة التي لم يكن أحد يأمن فيها أحدا، وتوارى الجميع عن الأنظار حتى الغفل من العوام، باستثنائه هو، حتى بدت التهمة أقرب إلى الحقيقة، والشك أشبه باليقين، دون أن يحمله ذلك على التنازل عن وجاهة رأيه، وتمسكه بالتفسير الماركسي التي ارتضاه لقراءة الأزمة وتأمل خلفياتها الاجتماعية والسياسية.

 أما الاتجاه الذي يمكن أن نطلق عليه توصيف الاتجاه الموضوعي فهو الذي وقف على مسافة واحدة من طرفي النزاع، الأصوليين والليبيراليين، واختار الحياد والتجرد، وتبني النزعة العلمية في قراءة الواقع وخلفياته، على الرغم مما يقتضيه هذا المسلك من قدرة على النفاذ إلى ما وراء الوقائع، ومن خصوبة في الرؤية، وثراء في التخييل، وحصافة في استقراء الخطابين المتناقضين والمتشابكين في حرب (قذرة) يصعب معها التجرد والخلاص من النظرة العاطفية والانفعال الذي تمليه الوقائع الصادمة للحس والضمير والوجدان.

 وقد مثل هذا المسلك نص (الورم) لمحمد ساري تمثيلا يكاد يكون حصريا، فلم نعثر في خضم المتن الخصب للعشرية السوداء نصا يجاري طريقته ومنهجه في قراءة الأزمة، ولا أسلوبه في تنميط الواقع الجزائري المتناقض حد الصراع، ودفع الشخوص الملتبسة بخلفيتها الاجتماعية والإيديولوجية إلى حلبة مخبرية تتيح لكل نموذج حرية الفعل والحركة والتفاعل مع المحيط تفاعلا يصرف مصيرها تصريفا يوشك أن يكون حتميا، ويشخص الواقع الجزائري بكثافة نمطية بالغة، تجعل من مأساة العشرية السوداء مصيرا محتوما في سياق التاريخ الوطني الحديث، بالنظر إلى الأخطاء المرتكبة في ماض قريب لم يتصالح تماما مع إخفاقاته وصراعاته، ومآسيه (الصغيرة) التي ما انفكت تتراكم ككرة الثلج لتنفجر في وجه الجميع في منعرج تاريخي لم يحسن الطرفان المتشابكان مفاصلته ببراعة ولطف.

 اختار محمد ساري شخوص (الورم) من نسيج التسعينيات المترع بالإيديولوجيا الأصولية الوافدة على الساحة الوطنية في تيار كاسح، تختصر المسافة بينها وبين السلطة، وتجتذب المحبطين والطامحين والمتطلعين إلى غد أفضل، وتبسط إشكاليات العالم كله في الحلال والحرام، تنظر بلونين أحاديين إلى كل البشر، المؤمن من جهة والآخر الكافر من جهة أخرى. و من جهة مقابلة لنمذجات الشخصية الأصولية يزج بأنماط من الشخصيات المؤثثة للجزائر العميقة، وللبسطاء الذين ألجأتهم الدنيا إلى الانخراط في الجيش والدرك هربا من البطالة، هؤلاء الذين يجدون أنفسهم بين عشية وضحاها منخرطين في حرب ضد أناس يجمعهم بهم الوطن والتاريخ والشطط، ويجسدون فجأة كل إحباطات التاريخ الإسلامي الذي تستدعيه المخيلة الأصولية من أعماق التاريخ السحيقة، فتنقلب الحرب الأهلية التي انفجرت حول السلطة السياسية أساسا إلى حرب دينية مقدسة قوامها الكفر والإيمان، الله والشيطان، الملاك والطاغوت.

 لا ينحاز الكاتب إلى أي معسكر، ويترك لمنطق الحكاية الداخلي ولخيط السرد حرية الحركة الفعالة في بناء المصائر وتشبيكها أو تقويضها، ويشتغل على المأساة من داخلها، ويرافقنا الراوي العليم في النصف الأول من النص إلى جحور (الإرهابيين) ومفرزات الدرك، ويمسرح الأحداث، ويلتزم بالحياد التام، ولا يفصح عن عاطفته تجاه أي طرف، وعندما يسلم خيط السرد إلى الشخصيات الفاعلة في السرد يختار النماذج الفاعلة من الطرفين، ويتيح لها كامل الحرية في البوح بمكنونها ومواقفها ورؤيتها الخاصة للمأساة، بينما يتشبث بالخلفية المظللة للكاتب الفعلي المتفرج على حركية المختبر دون أن يتدخل في توجيه عاطفة المتلقي ولا يستدرجه إلى موقفه الخاص مما يحدث باستثناء تمكينه من جميع المعطيات بحياد تام.

2. فضاءالقبح/ فضاء المأساة:
 جاءت عتبة العنوان المعرفة المفردة (الورم) مقتضبة ومختزلة ومحرضة على التأويل إلى أبعد الحدود، فالمأساة الوطنية ورم خبيث بكل المقايسس، استقر في عمق الجسد الوطني وتواري في تضاعيف كيانه المنهك. والورم يستدعي الاستئصال، ويستوجب الكي، بصرف النظر عن طبيعته ومصدره، لأن الأمر لا يتعلق بالورم في حد ذاته بقدر ما يتعلق بفعله الفتاك في الجسد. والكاتب، في (تعتيب) نصه بهذا التحديد الموارب وهذا الغموض المنصرف عن التعيين، يوعز من طرفي خفي إلى الموقف البدئي الذي سيشكل النص ويقوده، وإلى روح الحياد في الاشتغال على واقع غير حيادي، ينوط بالقارئ وحده أن يأخذ موقفه ويكون فكرته بناء على العالم التخييلي المنسوج من خيوط الأزمة كلها، بكل ألوانها وأشكالها ومكوناتها الخام، وليس يعنيه كثيرا تحديد المسؤوليات ولا القبض على المجرم بقدر ما يعينه بيان التبعات ولفت الانتباه إلى الجريمة.

 يموضع الناص معظم الأحداث الروائية في قرية من قرى سهول المتيجة الخصبة، لا تختلف كثيرا عن قرى الجزائر العميقة في شيء على الرغم من قربها النسبي من حاضرتي المدينتين الكبيرتين: (البليدة) و(بوفاريك). ويطلق عليها اسم (وادي الرمان) المحيل بمفردتيه الزراعتين على خصوبة أرضها وبساتينها الوارفة وحقول الكروم الممتدة على جوانبها. قرية ذكورية مغلقة، لا تتسع للفرح ولا تعرفه ولا تحيط بثقافته، طرقاتها موحلة، وساحاتها متربة ومغبرة كئيبة، لا تغامر النساء بالخروج فيها فرادى غير مصحوبات بعيون الأهل الحارسة، تنفرد المقهى القذرة والمسجد بديناميكية الحركة في فضائها السجني المغلق. في الطرف الغربي القصي منها يقع (حي الغربي) الذي تخرج من ضيق حواريه ومسالكه القذرة المتربة شخصيتان تنظمان إلى الجماعات المسلحة وترتكبان أولى المذابح بين جدرانه بيوتها الواطئة البائسة.

 لا يحيل اسم القرية على مكان مرجعي محدود على الخارطة الجزائرية، بما يجعله مكانا متخيلا احتاز على مكونات مرجعية واقعية لم تفلح اللغة في تخليصها من سطوة البعد المرجعي ذي التضاريس المقتصدة القاحلة عموما، وتفعيلها بخصوبة التخييل الملفع بالمجاز والرمز والاستعارة، حيث اكتفى بنمذجة البؤس والقحط والجفاف الذي زاده صيف الوقائع تصحرا وفقرا، متناسبا تماما مع ضيق الأفق الذي اصطبغت به الشخوص الحاملة للمشروع الأصولي المخترق للفضاء البائس بوعود جنان السماوات وجنان الخلافة الإسلامية المحمولة على أجنحة الحلم والحنين والماضي المشعرن في كل تفاصيله.

 تحيط بالقرية بساتين الكروم الشاسعة التي خلفها المعمرون الفرنسيون بعد الاستقلال عرضة للسلب والنهب ومافيا العقار وعصب الفساد التي راحت تقضمها من أطرافها وتستولي عليها مستأثرة بخيراتها دون الشعب المحروم، زارعة في القلوب الحقد والغضب وراسمة أول التشققات في جسد الشعب الخارج من ثورته مترعا بالآمال والأحلام العريضة والشوق إلى الكرامة والعدل في بلده المستقل: «أحاطوا البساتين بالأسلاك الشائكة. عدنا إلى عهد الكولون. يأتون بالعمال من اماكن أخرى. ورجال وادي الرمان يسندون ظهورهم إلى الجدران ويتفرجون وبصدورهم تراكم الغضب والحقد...لم تعد المزارع ملكا للدولة. بيعت للكولون الجدد الذين سيجوا المساحات بالأسلاك الشائكة وأقاموا عليها حراسا بالبنادق.»8.

 هذا الحقد والغضب المتعاظم مضافا إليها صراعات الأجنحة في السلطة الحاكمة وتراكمات متزايدة من الفساد والقهر والحرمان ستفجر انتفاضة 05 اكتوبر 1988 الحاسمة في سياق الدولة المحكومة باستبداد الحزب الواحد وقبضته الأمنية، فاتحة المجال أمام التعددية الحزبية والإعلامية، التي سيخرج من سياقها المفتوح على كل التيارات، حزب جبهة الإنقاذ المستقطب للتيار الإسلامي المضطهد منذ السبعينيات، والذي سيكتسح الساحة السياسية اكتساحا مذهلا بخطابه المفارق للسائد وبإيديولوجيته المستدعية لمعاني مرتبطة ارتباطا وثيقا بالذاكرة الإسلامية الأولى وإنجازاتها وفتوحاتها الباهرة.

 ينفتح السرد على شخصية (كريم بن محمد) وخواطره المتضاربة وهي في طريقها إلى تسجيل حضورها في سجل الدرك الوطني بعد الإفراج عليه من معتقل (رقان). معلم مدرسة ابتدائية التحق مبكرا بحزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحلة، وناضل في صفوفه عن قناعة ويقين قبل أن يزج به رفقة الكثيرين من مناضلي الحزب في معتقلات الجنوب بعد توقيف المسار الانتخابي الذي فازوا فيه بالاغلبية الساحقة. ونتعرف من خلال تأملاته على فضاء القرية والأحداث الجارية ووقائع القتل الذي بدأت الجماعات المسلحة بارتكابه، وتمكننا نظرته المحايثة للقرية من الولوج إلى حميمية الفضاء الذي خرجت من رحمه أعتى الشخصيات الدموية التي حملت لواء الجهاد وزرعت الرعب والذعر والخراب في أنحاء الفضاء المتيجي المتجسد عبر بؤرة قرية (وادي الرمان) الصغيرة.

 ويجسد طويلا، في القسم الأكبر من النص، روح البحث والسؤال عن (شرعية) العمليات الإرهابية التي يقوم به المسلحون ضد الأبرياء والدرك والشرطة والجيش، يستعرض محفوظه من القرآن والحديث، ويستقرئ بنظرة شاملة وقائع الصعود الكاسح للحزب ثم حظره الذي زج بهم في المعتقلات والسجون. يرافع طويلا ضد السلطة التي منعت حزبا قانونيا معترفا به، كان زعماؤه، إلى وقت قريب، يطلون يوميا على الناس من واجهة التلفزيون وتكرس لهم الجرائد صفحاتها الأولى.

 يتردد طويلا، ويرفض القتل والبطش والدماء والجهاد الذي أعلنته الجماعات المسلحة، وينتقد السلطة والنظام القائم والاستبداد والفساد من منظور إيديولوجيته الإسلامية الرافضة لمقولات الحداثة والمعاصرة وسواها من القيم الغريبة عن الخلفية الثقافية والحضارية للمنظومة الإسلامية، ويظل وفيا للمعاني الأخلاقية المنسجمة مع توجهه الأصولي ومستواه المعرفي والثقافي الذي لم يؤهله طوال سيرورة السرد لطرح الأسئلة النقدية والفلسفية الوجودية المربكة لمنظومته المعرفية المتواضعة، على الرغم من انحداره القاتل إلى عمق الحيرة والضياع بعد تكليفه من قبل الأمير (يزيد لحرش) بقتل صديقه وأخ خطيبته الصحفي التلفزيوني ومفخرة القرية.

 نتعرف، في خضم صراعه النفسي الممض، على تفاصيل الفضاء الذي كان كل شيء فيه يهيئ أصحابه لاحتراف الجريمة. والناس ثمرات بيئاتهم في نهاية المطاف، والمكان يكيف أصحابه على نحو يربو على تكييفه إياهم، ولم يكن في (وادي الرمان) ما يصرف السوء المتربص، ويزيل القبح من مظاهر الحياة ومن حميمياتها معا، ولم تكن الوسط بمنأى عما يعتمل في غيابات النفوس الناقمة، فاتشح بالكآبة منبئا عن غد كريه ومستقبل فاجع:" ورق الكروم مصفر وحب العناقيد يكاد يجف قبل أن ينضج. الأرض جرداء والحشائش النادرة تحولت إلى تراب من كثرة الغبار المتراكم فوقها. أشجار التشينة قصرت قامتها وذبلت أوراقها. إنها على وشك الانقراض. "9.

 لا يخفى الإغراء بالتأويل البعيد الذي يمارسه المقبوس السالف على التلقي، فالحشائش المصفرة المغطاة بكتل التراب والأشجار المثمرة الموشكة على الانقصاف، كلها عناصر تستحيل بسهولة إلى مكونات رمزية بالغة الدلالة على فضاء كل ما فيه يحيل بقوة على نقيض الحياة والخصب والنماء والخضرة، ويلوح بالمسخ الذي اعترى المكان والتشوه الذي أحاط بقاطنيه ومتخذيه موئلهم من العالم، والموات الذي تسلل بخبث إلى مظاهر الحياة التي كانت. فالخضرة، في نهاية المطاف، لون الجنة في كل الديانات، توحي بالطمأنينة والأمن والطهر والقداسة، حتى في علم النفس السريري الذي أدرجه ضمن أدواته العلاجية على حد تعبيرر جيلبير ديران الذي جعله رمزا " للطمأنينة والسكينة وأحضان الأم. "10، بما يجعل التشوهات التي أصابت هذا الحقل الدلالي في النص وفي الواقع معا انعكاسا منطقيا للشروخ التي أصابت المحيط والفضاء والبشر.

 في موطن آخر من تأملات الشخصية المرتحلة في فضاء القرية يتولى الراوي العليم القابع خلفها رسم شذرات وصفية مفصلة لأهم مكون مكاني في القرية الذكورية المنغلقة هما المسجد والمقهى، المكانان المحوريان في عموم الفضاء العربي، اللذان يخرجان عن دورهما الوظيفي عادة لتقمص دور البؤرة الديناميكية الفاعلة، على الرغم من السمة السكونية الغالبة على المسجد بحكم انتمائه إلى السياق الديني المتعالق بقيم السماء، والقداسة، والرغبة في التطهر، والتواصل مع المطلق والمقدس، بيد أنه في الفضاء الجزائري التسعيني الذي أصبح فيه الدين محور الجدل الإيديولوجي والسياسي، فتحول المسجد عن وظيفته الروحية الخالصة إلى ممارسة غريبة عن كيانه تكرر التنديد بها في معظم النصوص التي وقفنا عندها:" كان المسجد شبه فارغ. الشيئ الذي لاحظه منذ عودته هو أن المسجد لم يعد مكتظا بالناس مثل السابق. يفضل المصلون إقامة الصلاة في بيوتهم. لم يعد المسجد مكانا للعبادة بل أضحى حلبة للمناوشات الحزبية والنقاشات البيزنطية العقيمة حول مسائل بدت لعامة المصلين عجيبة غريبة لا تقدم ولا تؤخر في شيئ. "11.

 فراغ المسجد من (عامة) رواده هربا من التحول الذي طرا على وظيفته هو دلالة على عمق الخيبة التي أصابت المصلين من النتيجة المرعبة التي تمخضت عنها الإيديولوجيا الأصولية التي وظفت الدين توظيفا سياسيا وانتخابيا بالدرجة الأولى، حيث لم تكن الدعوة إلى العودة إلى الأصول واحتضان القيم الإسلامية العليا سوى تشغيل للجهاز القيمي ذي القدرة الفائقة على حشد الجماهير والعوام، بيد أن التكوين الشائه الذي تمخضت عنه تلك الإيديولويجا وتلك الجماهير كان مناقضا تماما لتوقعاتها الأولية، وصادما لحسها الديني المتورع من حيث تكوينه الأساس عن سفك الدماء وإزهاق الأرواح.

 عل الطرف الآخر من المسجد يقبع المقهى في وضع تقاطبي لا يخلو من تناقض، فالمقهى، في الفضاء العربي، يلتبس بمعنى الحميمية التي يتقوقع الناس داخلها للثرثرة وتزجية الفراغ والتدخين واللعب، دون اختصاص طبقي ديني أو دنيوي، ودون شرط سابق أو تعلق خاص، يبدو هو الآخر في جزائر التسعينيات شائها وفاقدا لدوره الحيوي المعروف:" المقهى أيضا كان فارغا. الذباب وحده احتل الطاولات المتسخة. يطن ويقفز متنقلا بين بقايا الحليب والقهوة والسكر والليموناد. فيما ارتخى القهواجي على كرسي جانبي ناعسا وغير مبال بحشد الذباب الملتف حوله. "12.

 يتمكن المقهى مكانيا من تحقيق الكرونوتوب الباختيني أحسن تحقيق، حيث يتوحد الزمان والمكان في بؤرة دالة على خصوصية اللحظة، فاللامبالاة والقذارة والذباب والحرارة المرتفعة تتشابك وتتضافر مع المكان العربي الفاقد لديناميكية الحياة وحيويتها وفاعليتها العابرة للزمان والمكان والمتحدة بالفعل لا الانفعال، وبالتأثير لا التأثر السلبي، واستغلال الزمن لا معاناته في جمود. إن الأمكنة، على نحو ما يؤكد جوستاف فيشر، هي حوامل لثقافة الذين صنعوها والذين يعيشون فيها: " ...كل هذا يؤكد إلى أي مدى يكون الفضاء حاملا للثقافة، وإلى أي حد يتغير بحسب المجتمعات والأنظمة القيمية والاجتماعية. "13.

 إن المحمول الثقافي الذي توحي به الشذرات المكانية التي أسلفنا، تغري بقراءة النسق الثقافي المتحكم، لا في فضاء النص فحسب، بل في المجتمع برمته، و من ثم قراءة النص كله كجملة ثقافية حاملة لشبكة القيم الثقافية المتصرفة في تلك الحقبة التي أفرزت غول الأصولية الشائه، إفرازا بدا حتميا في أكثر من مفصل من مفاصل التاريخي الوطني. وإلا فإن القذارة المحتلة للمحيط والغبار والذباب والكسل، تظل قبل كل اعتبار، تمظهرات أولية وقريبة لشخصية مستلبة ومنفعلة تعيش حياتها بسلبية وإذعان وخمول، تحيل على أيمان راسخ باللاجدوى، وبالاحتجاج السلبي على الحياة والسلطة المنظومة الاجتماعية برمتها، لأن الشارع، على حد تعبير شاكر النابلسي، كثيرا ما يتماهى في الثقافة العربية مع السلطة: " فالشارع العربي كما هو معروف، ماديا ووتقعيا، شارع قبيح المنظر، سواء أكان هذا الشاررع في المدينة أو القرية، ومرد هذا القبح، من هذه الفوضى التي تحكمه: فوضى الناس وفوضى الحكام. ومرد هذا القبح أيضا يأتي من جراء عدم الانتماء إلى الشارع، الذي يشعر بع الإنسان العربي، كذلك فإن مرد هذا القبح يغةد إلى اعتبار الشارع شارع السلطة، وشارع الحاكم الذي هو على خلاف مع الإنسان العربي في كثير من أموره وقضاياه. "14.

 هل يمكن تفسير القبح الفاشي في تفاصيل المكان العربي على ضوء المعارضة السلبية للسلطة فحسب؟ أم أن وراء القضية أسبابا أخرى لاشعورية تقبع في الخلفية المظلمة من اللاوعي الجمعي المنتظم للشخصية العربية في تصرفاتها، ومنطقها، وطريقة تشكيلها لفضائها الفردي والعام جميعا؟. الواقع إن هذه الأسئلة تلامس عمق الهوية العربية، وثقافتها، وحضارتها، وتكويناتها العقلية العميقة، ومنظومتها الفكرية الممتدة إلى الجذور التاريخية البعيدة. ولم يكن ذلك القبح، وذلك التشوه، مقصورين على المكان فحسب، بل تعدياه إلى الأعماق، إلى الروح والفكر والرؤية الإيديولوجية التي استباحت الدماء والأرواح وأشاعت في الأرض الفساد.

 هاهو الحذر والصمت والرعب والحيطة تغشى الفضاء وتلفعه بالسواد والكآبة والحداد:" اندهش كريم من الصمت والخوف السائدين في وادي الرمان. أمه وحدها وعبر همسات لا تكاد تسمع روت له ما جرى من فواجع وهي تنصحه بالابتعاد عن الهول الذي أصاب البلاد والعباد...أصبح الموت يحصد الناس مثل الذباب، دون تمييز بين المذنب والبريء...تذكر حكايات أمه الهامسة، المليئة بالأحداث الدموية والجثث المخيطة بالرصاص أو المذبوحة والملقية على حافة الطرقات مثل جثث القطط والكلاب والخنازير البرية. "15.

 هذا الفضاء المليء بالموت، والرؤوس المقطوعة، والجثث المرمية كجيف الحيوانات هو فضاء جزائر التسعينيات المهيمن، جزائر الحرب الأهلية التي كان التيار الديني طرفا أساسا في تحريك خيوطها وناسج المسوغات الإيديولوجية لإبادة الآخر/الخصم والتنكيل بالشعب الذي لم يجد نفسه معنيا بصورة استثنائية في الصراع الدائر بين رصاص السلطة وخناجر الأصوليين فاستسلم للقتل استسلام الخراف المستضعفة.

 وفي خضم هذا الفضاء العابر للقرية والمدينة والوطن برمته لم يرصد الناص فضاءات المدينة والريف والبيوت على النحو الذي يجعله ناطقا بالخراب الفاشي في أنحاء البلاد، باستثناء بعض الشذرات المتصلة اتصالا وثيقا بالأحداث الجارية، دون أن يتمكن من الارتفاع بها إلى مستوى الشخصية الناطقة والفاعلة، والقادرة على إنجاز دلالتها العميقة دون الحاجة إلى خرقها بفعل الشخصية في حد ذاتها، باسثناء (المقهى) الذي فعله الناص إلى أقصى حد وهو يؤسس للشروط الذاتية والموضوعية التي ستدفع بالفتى، صبي المقهى، إلى الالتحاق بالجماعات المسلحة على خلاف أفرادها الذين دفعوا إليها بحكم انتمائهم إلى الحزب الإسلامي المحل، وتشبعهم بمبادئه، وقيمه وإيديولوجياه وتعرضهم، من ناحية أخرى، إلى المطاردة من طرف قوات الأمن.

 في ذلك المقهى القذر سيلتقي (كريم بن محمد) بصديقه وضحيته الأولى في سلسلة العمليات التي سينجزها بمهارة رغبة الإمارة على الجماعة السلحة، وفيه سيتحدد مصير فتى بريئ تقوده خيباته الأولى إلى الالتحاق بالجماعة المسلحة هربا من واقع مأساوي إلى أبعد الحدود:" كان الهوجي المكرش يقف خلف الكونطوار، منشغلا بتحضير القهوة...في الجهة اليسرى، قرب المرحاض، طاولة فارغة، جلس الصديقان. كانت رائحة كريهة تنبعث من المرحاض."16.

 وبعدما يتولى خيط السرد في الصفحات الأخيرة من النص، يكون قد التحق بالجماعات المسلحة وغدر بصديق طفولته الصخفي الذي جلس معه جلسته الحميمة تلك في المقهى، ثم يروي تفاصيل الغارات التي كان يقوم بها على القرية صحبة الأمير (يزيد لحرش) لجمع المال من التجار وابتزاز المواطنين المذعورين، حيث يلتقي صبي المقهى، تلميذه القديم المطرود من المدرسة، الذي يرغب فجأة في الالتحاق بهم بعدما أوصدت أمامه كل الأبواب، بما فيها باب الهجرة من القرية ومن المقهى القذر وصاحبه البذيء:" لاحظت بان النادل، تلميذي القديم...يرمقني باهتمام بالغ، لا يحول نظره عني، كأنه يريد أن يكلمني، أن يبوح لي بسر ما. خرج يزيد غاضبا مغمغما: ماهذه الروائح النتنة؟ ألا تنظفون خراءكم؟..قذفت بنفسي داخل المرحاض..المكان متسخ وكريه الرائحة. المزراب منسد وقطع الخراء تعوم فوق ماء أصفر اللون...وجدت التلميذ النادل ينتظرني في البهو المعتم. مسك ذراعي. حدق في بنظرة متوسلة وقال مرتبكا، متلعثما: خذةني معكم...أريد أن أصبح مجاهدا..."17.

 وعندما يشير إلى صغر سنه، يذكره بأن مجاهدي ثورة التحرير المجيدة كان منهم من هو أصغر منه سنا، وهنا ينتهز ( يزيد لحرش) حماسته الساذجة ليعده بأن يصنع منه مجاهدا كبيرا وبطلا عظيما. و سنفاجأ به في سيرورة السرد التي يقودها الناص وقد كلفه الأمير باغتيال أحد الدركيين قبل أن يسمح له بالالتحاق بهم نهائيا، من باب الاحتياط وغلق باب العودة أو النكوص أو التجسس.

 الواقع إن دراما الفضاء الجزائري التسعيني كانت مؤثثة بكل تفاصيل المأساة التي كتبتها أحداث الرواية على النحو الذي يجعل هذه الأخيرة تستحيل إلى عملية (رقن) وتطريس لفاجعة سابقة عليها، سابقة على العين الرائية واللغة الناقلة، لأن الفضاء قد كتب قبلها كل شيئ بصورة بليغة البيان.

3. شخوص الحواضن الدلالية:
إن الحفر في جسد النص بحثا عن المعنى، والدلالة، ومقولة النص النهائية، يشكل، على نحو من الأنحاء، بحثا في الثقافة المنتجة للمعنى وللخطاب، إلى جانب الثقافة المتشعبة داخل الظاهرة وخلفها وفي شرايينها وتفاصيلها المغيبة عن النظرة المستعجلة، بما يجعل الأثر يحيل، في جانب هام من جوانبه، إلى المرجع الواقعي الحي، بنسب متفاوتة وغير محسومة، على النحو الذي يظهره الفضاء الروائي في تمثيله للبنى الواقعية ومكوناتها المادية، ومن ثم " فالبحث عن[حقيقة] حقبة تاريخية، أو عصر من العصور، أو ظاهرة ما، يجب أن يتجع إلى الخطاب الذي تمثلت فيه روح تلك الأشياء ومعانيها وليس هي. وعليه، فإن الحفر المعرفي يتجه إلى الخطاب مباشرة لسبب رئيس، هو، أن الخطاب مثل لغويا البنية الثقافية لتلك الحقبة، أة ذلك العصر."18.

 يغري النص، كما أسلفنا الإشارة، بالقراءة الثقافية لحقبة من أشد حقب التاريخ الوطني إثارة للجدل، رأيناها تتكرر، بما يشبه العود الأبدي، في فضاء العالم العربي بصفة خاصة، و المجتمع الإسلامي بصفة عامة، ونعني بها الأصولية الإسلامية ومشروعها الإيديولوجي الذي قلب الموازين المستقرة واستثار المشاعر الفاترة والهمم المنصرفة عن المجتمع إلى خصوصياتها الثقافية والذاتية في أكثر من بلد عربي19. حيث يبرز الخطاب الروائي بمكوناته النوعية المميزة قادرا على استيعاب الجدل الثقافي والإيديولوجي المحتدم في فضاء العالم العربي المأزوم في مختلف تجلياته.

 لقد تمكن نص (الورم) من تكوين (أيديولوجيم) مستقل بحسب التصور الباختيني لتعالق النص والإيديولجيا، بمعنى انبنائه وفق رؤية التحمت في تضاعيفها جزئيات الخطاب الإيديولوجي السائد، ومنظومة القيم التي حكمت سيرورة المجتمع وسيرورة السرد معا، في ما يشبه الوحدة الصماء الجامعة لمختلف الجزئيات والتفاصيل، تاركا للقراءة مهمة فك الشفرات وجمع الدلالات الجزئية لتكوين صورة نهائية شاملة دونما حاجة لمعرفة موقف الكاتب وتفسيره الشخصي ورؤيته الخاصة للأحداث.

 من أجل ذلك انفتح النص بتوظيف شخصية أصولية ملتبسة بالطرح الإسلامي، مناضلة وملتزمة، تنمذج الشخصية الأصولية في أكثر من منحى، في المستوى التعليمي والوظيفة والبيئة والشرط الطبقي، التي وظف المكان القروي العاري، والبيت العائلي الضيق الذي ينحشر فيه رفقة أخيه الشاب، والمدرسة، والشارع الذكوري والمسجد، والمقهى، لكشف تركيبته النفسية العميقة، وشرطه الإنساني ذي الكزازة والتشوه والقبح البالغ. بينما ينصرف المكان الصحراوي المعادي، الذي اعتقل فيه رفقة مناضلي الحزب الإسلامي الممنوع، لكشف العوار المذهبي والزيف الأخلاقي المميز لطبقة القادة، فقد اكتشف فجأة، في إحدى ظهيرات المعتقل الحارقة وهو يدلف إلى خيمتهم خطأ، استئثارهم بلذيذ الطعام والشراب عن بقية المعتقلين: " ومنذ تلك الظهيرة. أضحى كريم يدقق النظر في سلوك الأمراء ليكتشف الامتيازات الهائلة التي منحوها لأنفسهم مثل عدم المشاركة في تنظيف المعتقل، وعدم غسل ملابسهم، وتأثيث خيامهم بأفخم انواع الزرابي والأقمشة. "20.

 سيلعب هذا (الاكتشاف) المفاجئ دورا حيويا في تطور الشخصية، حيث يكتسب بمعية المعتقل الآخر ـ الشاعر " الذي لا يتحدث في أمر إلا ووجد له العيوب السبعة."21 ـ مهارة نقدية لم يكن حماسه الديني وتكوينه الأصولي القائم على (التسليم) الطلق يسمح ببلورة إمكاناتها العقلية، واستثمار الحس النقدي اللازم لقراءة الواقع والخطابات الإيديولوجية التي حسمت مصيره مبكرا.

 بدا (كريم بن محمد) طوال الفصل الأول المكرس لرؤيته الخاصة متذبذبا ومفعما بالروح النقدية التي أشاعها مرافقه الشاعر في تكوينه، وشاكا في الأسس الشرعية التي أسند إليها المسلحون فتاواهم المبيحة لقتل الأبرياء العزل وذبح الأطفال والشيوخ والنساء وحرق المؤسسات وسياسة الأرض المحروقة التي أعلنوها على البلاد والعباد. وقد بدا أقرب إلى رفضها وشجبها في معظم السياقات المونولوجية التي انحدر إليها بعد خروجه من المعتقل، واكتشافه هول المنحى الذي أخذته الجماعات المسلحة في حربها على السلطة، وتعقدت وضعيته النفسية والفكرية أكثر وهو يدفع إلى اغتيال صديقة وأخ خطيبته الصحفي.

 وفي صحبة هذا الأخير، كما في صحبة الشاعر، يبدي قدرة فائقة على قراءة الأحداث قراءة نقدية متبصرة، ممحصة ومراجعة وعميقة في أكثر من موقع، تسترجع التاريخ الوطني الحديث، وتتوقف عند معظم محطاته المحورية التي انتهت بالمأساة، حيث أخطأ القائمون على الوطن مواعيد مذهلة مع التاريخ، ويبدي حسرة عميقة على مقتل (بوضياف)، الرئيس الجزائري الذي جيء به من منفاه الذي أختاره طواعية فجر الاستقلال احتجاجا على سلوك قادة الثورة، ليحمل وزر الانقلاب الذي قام به العسكر على الشرعية الشعبية التي عبرت عن نفسها بالاكتساح الانتخابي المذهل الذي حققته الجبهة الإسلامية للإنقاذ في أول انتخابات تعددية تعرفها البلاد. يتعاطف مع بوضياف وتاريخه الثوري العريق باعتباره من الثمانية الأول الذين فجرو الثورة، ولكنه في الوقت نفسه ينقم عليه قبوله باللعبة القذرة التي زج به العسكر فيها، ويتساءل بحرقة كيف أمكن لرجل عاش الظلم والتهميش وغمط الحق أن يكرر ما فعله معه خصومه فجر الاستقلال مع أناس لا ذنب لهم سوى الإيمان بمبادئ حزب إسلامي معتمد، التزم بقوانين اللعبة الديموقراطية وحقق الفوز الذي يحلم به كل حزب مهما كان توجهه، ثم الزج بهم في غيابات المنافي والمعتقلات اللاإنسانية في أعماق الصحراء الجزائرية، وحل حزبهم، ودفعهم إلى حمل السلاح دفاعا عن النفس والعرض في مواجهة الآلة العسكرية التي خلعت عليهم كل صفات الإجرام والعنف والخيانة.

 الواقع إن هذه الشخصية التي حملها الناص مهمة التعبير عن الإيديووجيا الأصولية المعتدلة، منظورا إليها طبعا في موقعها المتقاطب مع شخصيات أخر أكثر راديكالية وتزمتا وانغلاقا، تنجح إلى حد بعيد في خلق لون من التعاطف والإقناع في نفسية القارئ الحيادي الذي يتلقى النص في معزل عن تجربة حياتية عايشت أحداث المأساة الوطنية، وحتى هذه الأخيرة لا تقاوم طويلا قوة الحجج التي تسلسلها الشخصية بترتيب وهدوء ومنطق، حتى يبدو الناص بدوره في هذا القسم من السرد متبنيا للطرح الذي تنجزه الشخصية في تلك اللحظة الحميمية الهادئة التي تجمعها في زاوية المقهى مع ضحيتها المستقبلية.

 ويمعن الناص في خلق التعاطف مع شخصيته في كل تفاصيل الفصلين المكرسين له في بداية الرواية، إذ على الرغم من انتمائه إلى الحزب الإسلامي المحل، وتعرضه للاعتقال، وفصله من العمل وتشبعه بالطرح الإسلامي، يطل علينا، في غمرة ذكرياته وحنينه إلى ما قبل الأحداث، ممتلئ المشاعر بزميلته المعلمة، أخت الصحفي الذي يواجهه الآن في زاوية المقهى عارضا مساعدته، ومبديا استعداده للوقوف معه في محنته حتى يسترجع منصبه. فالصحفي صديق طفولته، وأخ حبيبته وخطيبته في الوقت نفسه، كلفه (يزيد لحرش) أمير الجماعة المسلحة وابن حيه بقتله، وسلمه المسدس لتنفيذ المهمة، لكنه لم يجد القوة على فعل ذلك خصوصا وهو يسمع الرجل يعرض عليه مساعدته، ويبدي له مواساته وتفهمه، ولم يلفظه لفظ الناس جميعا للأصوليين في تلك المرحلة الحرجة من الحرب الأهلية.

 لكن الأحداث تأخذ منعرجا غير متوقع على الإطلاق، وتتحول هذه الشخصية الوديعة التي خلقت كثيرا من التعاطف في ذهن المتلقي، العاشقة المرتبكة، إلى مجرم خطير لا يحد جنونه الدموي حد، وينتهي القسم المكرس له بقيامه باستغلال علاقته الحميمة بالصحفي، حيث يطرق عليه الباب ليلا مصحوبا بالجماعة المسلحة وقائدها، وفي الوقت الذي كانت خطيبة الصحفي تتوقع أن يتكلم حبيبها وخطيبها مع أخيها في تفاصيل زواجهما، كان (يزيد لحرش) وجماعته يقودون الصحفي، متسترين بالظلام، إلى عمق الغابة وذبحه ذبح الخراف.

 فجأة يتحول (كريم بن محمد) إلى شخصية إشكالية مثيرة، شخصية لم يكن شيء فيها ينبئ عن الخاتمة الإجرامية التي انتهى إليها، فقد وجدناه في الفصل الأخير الذي يتولى فيه السرد بضمير الأنا يقتل الأطفال والنساء بدم بارد. وقبل ذلك لا يجد المتلقي أية إشارة إلى هذه النهاية، ولا أي مبرر مقنع يمكنه من استيعاب قيامه باستدراج صديقه الصحفي إلى الذبح، ولا التحاقه بالجماعات المسلحة، لا سيما أنه تولى بنفسه التأسيس لطرح إسلامي متكامل لتحريم قتل النفس. فما الذي حصل لتنقلب هذه الشخصية فجأة على مكوناتها التي عرضها الناص منذ البداية ضحية للعسكر والسلطة؟

 ينجح الناص في تعليق السؤال حتى الفصل الأخير من الرواية، لنتعرف على الدوافع الحقيقية لالتحاقه بالجماعات المسلحة، ونتعرف في خضم ذلك على الميكانيزمات النفسية التي جعلته يقدم على قتل الأطفال والشيوخ والنساء في الوقت الذي يتورع فيه عتاة مرافقيه عن القيام بذلك.

 لم تكن الإهانات المتلاحقة التي يتلقاها يوميا من طرف الدرك هي السبب، ولم تكن الإقامة الجبرية التي فرضت عليه هي السبب، ولا حتى كان تسريح أخيه الضابط من الجيش بسببه هي السبب، ولا حتى فصله من العمل، ولا فقر عائلته وضيق ذات يده. لقد كان التحاقه بالجماعات المسلحة ثورة على ضعفه النفسي وهشاشته الشخصية وانتقاما من خضوعه واعتداله والتزامه بالحلول الوسطى طوال حياته. كان تمردا على شخصيته الممسوحة ومزاجه الفاتر، وانقلابا على طبيعته المسالمة التي فوتت عليه متع المراكز الأولى ورعشة التطرف ونشوة المغالاة. لقد اكتشف وسط الجماعة المسلحة التي انتمى إليها بأن الأمير لا يحتاز على قدرات خاصة تميزه عن الآخرين باستثناء جرأته على الدماء والقتل والبطش والفتك بالآخرين دون تردد.

 هناك اكتشف خصائص السبق ومقومات التفوق فراح يضاهي (يزيد لحرش) وينافسه حتى تفوق عليه أخيرا عندما أقدم على قتل شيخ كبير كل ذنبه أن ابنه التحق بالجيش لأداء الواجب الوطني، عندها فقط بشره الأمير قائلا:" هنيئا لك يا كريم. اليوم أصبحت مجاهدا حقيقيا نعول عليه في المهمات الصعبة. ابتداء من هذه الليلة فأنت نائب الأمير الأول بلا منافس. نلت رتبتك بجدارة. "22. عندئذ يحث الخطى في ليل القرية البهيم، بعدما نفذ جريمته ببرود، محمولا على أجنحة الطموح والأمل في السبق والتقدم:" أنني مسرور جدا بهذه الترقية. إنها البداية. أنا أيضا أرغب في رتبة أمير يقود جماعة من الرجال الأشداء. ينصاعون لأوامري. قريبا إنشاء الله."23.

 بهذه الروح (المتفائلة) ينتهي النص سردا، بينما ينفتح دلالة على فضاء لا نهائي من الدماء والدموع، مشرعا أفق الطموح الإنساني الذي لا تحده حدود العقل والقيم والمثل العليا على دهاليز الظلام والقيم المقلوبة والارتكاس في نزوات البشر وهي تنزل إلى حضيض حيوانيتها التي لم تهذبها الأديان والمعارف والحضارة إلا قليلا.

 وقبل أن يختتم الكاتب نصه بجملة المخرج المخيفة تلك، يكون قد أستعرض مأساة العشرية السوداء استعراضا ملما بكل تفاصيل المشهد، بحيث تأتي تلك الجملة المرعبة لتعبر عن المستنقع الدموي القذر الذي انحدرت إليه الجماعات المسلحة التي رفعت في البداية راية العدل والثورة على الطغيان والاستبداد، والعمل على إشاعة القيم الإسلامية التي احتضنتها الجماهير، في البداية، مدفوعة بنوستالجيا عميقة، وحنين جارف إلى بعث المجتمع الإسلامي الأول الذي ما انفك يداعب نفوس المجتمعات التي أرهقها الطغيان والفساد والعنت. بيد أن الجماعت المسلحة تحولت فجأة إلى عصابات تحترف الإجرام، وتشيع القتل المجاني وتحولت تدريجيا إلى جماعات مدفوعة بروح الانتقام، والتعويض عن كسور عميقة، وتشوهات عنيفة أصابت الروح في منعرج لم تحسب له حسابه، فأعلنت الحرب على كل شيئ، واستباحت المقدس، وهتكت الأعراض، وأبادت قرى وعائلات، ولغمت الأجساد، وذبحت الصبيان الرضع، وأشاعت في العالم المتحضر أسوأ صور الجهل والتخلف والجريمة التي ينحدر إليها المحسوبون على الأصولية والجهاد والإيديولوجيا الإسلاماوية بصفة عامة.

 ولكي ينجز الكاتب الملتزم بحياديته المطلقة مقولة النص هذه، عمد إلى تنميط الشخصيات الأصولية تنميطا جامعا لشتى تياراته وأفكاره وتكويناته وبناه العميقة المحركة لثورته (الجهادية)، فزج أولا بشخصية (كريم بن محمد) التي استطاعت أن تحتاز قدرا معينا من تفهم القارئ وتعاطفه قبل أن يكتشف عمق دناءتها وخستها وصغارها وهي تغتال أحد أصدقائها المخلصين، وتلتحق بجماعة أمير أمي، جاهل وبائس، ثم سرعان ما تجاريه وتسعى إلى التفوق عليه في ارتكاب الفضائع واستباحة الدماء طمعا في الإمارة التي ليست، في نهاية المطاف، سوى اعتراف علني بخروجه النهائي من دائرة الإنسانية إلى الحيوانية الصرف.

 ولم يكن اسمه الذي اختاره له الناص دالا عليه بأي شكل، فلم يكن حميدا ولا كريما، على النحو الذي كان أميره (يزيد لحرش) يفيض بدلالة قساوته المتزايدة مع الأيام، و رفيقه (بوشاقور) متماهيا مع منحاه الشخصي وأسلحته البدائية ( الشاقور، الشفرة، القادوم، الجنجر) وغيرها من الأدوات التي بعثتها الجماعات المسلحة من حروب القرون الوسطى إلى الألفية الثالثة لتنجز بها الذعر والرعب والإرهاب، على نحو لا تثيره الرشاشات والمسدسات التي تبدو أكثر رحمة بالقياس إلى تلك الأسلحة البدائية، بالإضافة إلى (الأفغاني)، منظر الجماعة ومفتيها وواعظها:" يملك الأفغاني أجوبة لكل المسائل. فينطقها بيقين لا يتزعزع. أجوبة واضحة. قاطعة كالشفرة المشحوذة."24.

 لقد كانت المأساة الوطنية مسرحا للحرب التي أعلنتها اليقينيات الحادة كالشفرة على الجميع. أليست الأصولية في أبسط تعريفاتها هي اليقين الذي يعضده التعصب والإقصاء والتركيز المضي على الذات والهوس والجنون؟ ماذا يصنع الناس لمواجهة الممتلك للحقيقة العالية؟. لم يكن أمام رجال الدرك الذين نصبهم الناص لتجسيد الصوت الآخر، صوت السلطة والحكومة وكثير من الصامتين الذين اكتشفوا وجه الأصولية البشع فجأة وبلا مقدمات، لم يكن أمامهم بد من مواجهة غول الأصولية بالسلاح، في معركة لم يكن أحد مهيئا لها، خصوصا (رابح بن سالم) الذي رسم النص تفاصيله بوحي من واقع الدرك الذي لم يكن قبل المأساة سوى جهاز أمن يدخله الفقراء من أبناء الشعب، يقصدونه هربا من البطالة وطلبا لوظيفة قارة.

ينتصب (أحمد بن سالم) في الفصل التالي للفصول المكرسة لـ(كريم بن محمد) صوتا نشازا في معركة لا ترحم، رجل على أبواب التقاعد، أمي لا يقرأ ولا يكتب، بسيط ومتواضع، من رعيل الاستقلال الأول الذي كون الدرك، والذي كان في معظمه على قدر ضئيل جدا من التعليم، ألقي على عاتقه فجر الاستقلال أن يكون درك دولة فتية لا تمتلك الكثير من الإطارات، ولا ما يكفي من العتاد والوسائل، قال لأحد زملائه الشباب الملتحق حديثا بالدرك: " أنت محظوظ لأنك تحسن القراءة، أنا حينما التحقت بالدرك في السنوات الأولى للاستقلال لم أكن أحسن إلا فك الحروف. خربشة اسمي على الورقة وقليل من الحساب. مع بعض السور القرآنية التي بقيت راسخة من الطفولة الأولى...أٌول دائما بأن أطفال الاستقلال أكثر حظا منا نحن أطفال الحرب والاستعمار."25.

 وإلى جانبه يقف (بلقاسم عرقاوي) الفتى الذي التحق بمفرزة الدرك حديثا تحت قيادة (أحمد ين سالم)، مدفوعا هو الآخر بالفقر والحاجة وضيق ذات اليد، من أسرة معدمة، لم يوفق لاستكمال مساره التعليمي، ولم يضفر بعمل لائق في الحياة المدنية، فلم يجد سوى الدرك ملاذا من البطالة ومكانا للرزق. يشترك مع رئيسه في الخلفية الاجتماعية والطبقية، ويختلفان في غيرهما اختلاف جيلين لا يجمعهما شيء باستثناء الانتماء إلى مهنة تسلتزم عليهما التعاون والتآزر خصوصا في ظرف كل ما فيه ينذر بالويل والثبور والنهايات المفجعة.

 يورد الناص شخصيتي الرجلين تنميطا لأغلب عناصر الأمن الذين وجدوا أنفسهم مدفوعين إلى حرب لم يكونوا يتوقعونها ولم يكنوا يريدونها، لكنها تطحنهم في معتركها وخبطها الأعمى، كما تنصبهم المسلحة عنوانا لجنود (الطاغوت) الذين يجب قتلهم والبطش بهم، متجاوزين عن حقيقتهم البدئية وموقعهم الطبقي الذي يجعلهم، بالقوة، في صف الأصوليين المنتفضين ضد الظلم والهوان ومصادرة الحق في الاختلاف وفي الوجود.

 عندما يقع الفتى الدركي تحت رصاصات الاغتيال التي وجهها له صبي المقهى، تكون المأساة قد حلت بالاثنين وإن بشكل معاكس، فالقاتل والمقتول، في نهاية المطاف، هما أبناء الطبقة الدنيا من الشعب الذي أخذ يقامر بدمه الخصمان المتعطشان للسلطة ولهيمنة. كان كل منهما ضحية لوضعه الطبقي وسلمه الاجتماعي، الأول بفقره الذي اضطره إلى الالتحاق بالدرك، والثاني بفقره أيضا وعجزه، بحكم وضعه المتدني، من تحقيق حلم الهجرة إلى الشمال الخلاب، فاضطر إلى قتل الدركي ليقدم لأمير الجماعة المسلحة عربون وفاء أبدي يمكنه من الالتحاق بالجبال تعويضا عن الخيبة في الالتحاق بأوروبا.

4. نوستالجيا الفضاء. جدل الضيق والاتساع:
 كان (أحمد بم سالم) الذي تعرفنا على سيرته المفصلة في الفصل الذي كرسه له الناص نموذجا للرجل الشعبي البسيط الذي لا يمتلك الكثير من الخيال والطموح، ينتظر نهاية خدمته ليلتحق ببيته الذي بناه طوال حياته المهنية بصبر واقتصاد، هو كل ثروته من الدنيا إلى جانب سيارة رونو 12 قديمة ومتهالكة، يجد نفسه قبل أيام قلائل من التقاعد مجبرا على خوض حرب كريهة لم يكن مهيئا لها على الإطلاق، يتولى السارد العليم سرد بعض التفاصيل المتعلقة بأيامه الأولى في صفوف الدرك، مستغلا إطار النافذة (الوسط الشفاف) الذي سمح له بتأمل سماء الصيف الصافية وليها المقمر ليسافر به الحنين بعيدا في فضاءات رومانسية حالمة هي الأولى من نوعها في فضاء الحاضر المهيمن ببؤسه وضراوته:" كان رابح بن سالم يجلس قبالة النافذة ويشاهد جزء من الطريق وأديما واسعا من السماء الصافية، قابله البدر في عليائه...انتابته سكينة ملأت صدره حنينا، ذكرته بتلك الأيام التي قضاها في هضاب الجلفة الواسعة، المكسوة بالحلفاء والشيح وإكليل الجبل بروائحها الطيبة."26.

 يستغل الناص إطار النافذة لأداء فعل الرؤية المكانية المستندة إلى نظام الوسط الشفاف الذي حدده ج. ب. جولدنشتاين27 عبر مجموعة من الشروط التي تمكن من النفاذ من الضيق إلى السعة، ومن المحدود إلى اللامحدود، على النحو الذي نفذت به رؤية الشخصية من ضيق المفرزة وظلامها، وجوها الخانق المسكون بالخوف والتربص إلى شساعة الفضاء، ورحابة السماء، لتسافر عبر الحلم والحنين والذكرى إلى مواطن الصبا والانطلاق والمرح العابث واللهو والحرية، وفي أثناء ذلك تعرفنا على الفضاء البدوي الحالم، فضاء رعوي يستدعي مخزونا هائلا من المماثلات المستقرة في الوجدان العربي المسكون بالصحارى العربية وبادية الشعراء الجاهليين ومنازل العذريين الغزلين، ولا يخلو المقبوس السالف من تقاطع مهم على مستوى مكونات الفضاء وأشيائه المجسدة في نباتات البوادي وأعشابها وروائحها البرية النفاذة

 بيد أن الناص لا يستغل استدعاء الوسط الشفاف للقمر والذكريات التي سالت مع أشعته الفضية التي انسابت وادعة وحالمة على سماء المفرزة المأزوم، إذ سرعان ما تترى الذكريات محملة بإدانة صريحة للنظام العسكري الذي حكم الجزائر فجر الاستقلال، " بعد نهاية فترة التدريب، عين في مركز حاسي بحبح. حيث بقي بضعة أشهر قبل أن يستدعيه رئيس المفرزة ويعلمه بأن الكولونيل نفسه اختاره ليهتم بقطيع غنمه. في يوم الغد. نقلته سيارة الاندروفر إلى هضبة لا متناهية وأنزلته قرب براكة من الزنك. محاطة بمساحة مسورة. تتجاوز الهكتار. ويبدو الكل نقطة ضائعة وسط الفلاة الذي يمتد على مدى البصر. "28، و بهذه المهنة الجديدة التي اختارها له الكولونيل " تحول إلى راع. هو الذي حلم يوم جاوزت قدماه عتبة سياج ثكنة التدريب بأنه سيغادر نهائيا الريف ومشاغله المتنوعة من رعي الماعز والنعاج والأبقار والحرث والبذر والحصاد. "29.

 والكولونيل واحد من كبراء السلطة الجزائرية في السبعينيات، كان إبان الاحتلال عسكريا في الجيش الفرنسي ثم التحق بالثورة وأصبح قائدا أوحد لجهاز الدرك لعشرات السنين، تروى عن قيادته لهذا الجهاز الأمني أعاجيب وغرائب تشبه الخيال لفرط ما فيها من شذوذ، ليس أقلها تسخيره لجنود الدرك في خدمة قصوره وأراضيه وحقوله الشاسعة، ورعي قطعانه الضخمة على نحو ما بين المقبوس السالف متصاديا مع الأخبار التي تناقلها الناس عن الكولونيل، وما زالوا يتناقلونها، مستغربين تارة، ومنزعجين تارة أخرى، شأنهم شأن العالم المعاصر وهو يتناقل عبر وسائل الإعلام المختلفة مفارقات الكولونيل معمر القدافي ونزواته وأمزجته الغريبة.

 يروي (رابح بن سالم) لرفيقه الفتى تلك المرحلة الغريبة من حياته في جهاز الدرك، كيف كان يزوره والد الكولونيل:" شيخ أنيق. أشبه بالقياد أيام الاستعمار. "30. و(القياد) فئة بغيضة في الوجدان الاجتماعي الوطني، عرفت بتفانيها في خدمة الاستعمار وتواطئها الوضيع في استعباد البسطاء وسلب ممتلكاتهم، ولاحقا، زمن الثورة التحريرية، كرسوا جهودهم وممتلكاتهم لقمع الثورة. وعلى هذا الأساس يبدو التشبيه الذي أورده الناص، في سياق الحديث عن استبداد الكولونيل وتسخيره لأبناء الوطن الأحرار الذين حرر آباؤهم ترابه بالأرواح الغالية، مدا لأسباب من الشبه الوثيق بين الأمس واليوم، بين ليل الاستعمار ونهر الاستقلال، وتأكيدا على التشوهات التي لحقت آمال الثورة العظام، والخيبات التي لحقت جيل الاستقلال، والأحلام المصادرة، والكرامة المسلوبة.

 ويمعن الناص، في صفحات طويلة خصصها لحياة الشخصية في هذه المرحلة المتقدمة من الاستقلال، في فضح التصرفات (الكولونيالية) التي يقوم بها سادة الوطن الجدد أنفسهم، مكررين حذو النعل بالنعل، تصرفات المستعمر القديم وصلفه الذي أدانته الذاكرة الشعبية وأدبياتها منذ القدم. يؤكد " بأنه حمل على كتفيه كلاب الكولونيل. كلاب الصيد من جنس السلوقي. في فترة لاحقة. نقل إلى فرقة المرافقة والحراسة الخاصة للكولونيل في ضيعته الشاسعة. ومن عادة الكولونيل تنظيم تنظيم رحلات صيد الغزال في الغابة المجاورة. بمشاركة شخصيات أجنبية. أغلبها من أمراء وأعيان الخليج العربي. وأثناء العودة. يشفق الكولونيل على كلاب الصيد التي يراها لاهثة ولسانها متدليا. فيلتفت حوله. يبحث عن الدركيين الذين يرافقونه راجلين ويصيح بصوته الجهوري: [أيها الكسلاء. ألا ترون بأن كلابي العزيزة ستموت من التعب...يا الله...كل واحد منكم يحمل واحدا على كتفيه. ليسترجعوا أنفاسهم.]. يحرك جواده ويستخرج حزامه مهددا إياهم...بعد دقائق تراهم في رتل متتابع. يركب كل فرد سلوقيا على كتفيه...يتسلى الأمراء. مندهشين. مقهقهين. متغامزين. "31.

 أوردنا المقبوس بطوله على الرغم التصرف في الصفحات الطويلة التي عقدها الناص لتصوير مشهد الدركيين المتقافزين تحت سياط الكولونيل لحمل الكلاب، في مشهد يبدو فانتاستيكيا وغرائبيا إلى أبعد الحدود، إذ يصعب، في واقع الأمر، تصديق هذا التصرف المهين لهيأة نظامية رسمية هي هيأة الدرك الوطني، وتسخير أفرادها في تسلية ضيوف الكولونيل.

 الواقع إن ثورات الربيع العربي قد تولت الكشف عن هذا النمط الغرائبي الذي كان يطبع حيوات الزعماء العرب، من مبارك إلى زين العابدين بن علي إلى (الكولونيل) معمر القدافي، فالحاكم العربي، في نهاية المطاف، عاجز عن التفريق بين الدولة والملكية الخاصة، بين أفراد الشعب المواطنين ورعايا السلطان وخدمه أو حشمه، بين المال العام والملكية الخاصة.

 لا تخلو الصورة من تقاطع حاد مع ملوك الطوائف وأمراء العصور الوسطى من جهة، ومع التصرفات الاستعمارية القائمة على طبقية بغيضة في توزيع المواطنة بين الممتازين والأنديجان les indigenes32 من جهة أخرى. تقاطعات تظهر، في واقع الأمر، فساد السلطة الوطنية التي أعقبت الاستعمار تشيعها آمال المقهورين، وأحلام القوافل الطويلة لأرامل الشهداء وأبنائهم وبناتهم، قبل أن تنقلب إلى كابوس جاثم، وديكتاتورية عاتية لا سبيل إلى زحزحتها سوى الأساليب الراديكالية التي عبرت عنها عصابات التكفير والهجرة والجماعات المسلحة التي لم تميز، في حربها على (الكولون) الجدد، بين الجلاد والضحية، بين البريء والمتهم، بين الواقف في خندق السلطة والفساد والذي وضعته الظروف القاسية إلى جانبهم طلبا للقوت وقليلا من الكرامة.

 مهما يكن فقد أنجز الناص بذكريات (رابح بن سالم) الغرائبية وبخطابه الاستراجاعي ذي الحنين الجارف إنجازين متضافرين ومتحايثين في الوقت نفسه: التنديد بالفساد المستشري في رجالات السلطة من الضباط الكبار، ومن ثم تحميلهم مسؤولية المأساة الوطنية شانهم شان الجماعات المسلحة نفسها التي انتدبت نفسها، في البداية على الأقل، لحرب مظاهر الفساد والطغيان قبل أن تفقد روحها وتتقمص روح الشيطان نفسه في حربها الملعونة تلك.

 ومن جهة أخرى، السردية الأدائية بالتحديد، فقد تمكن الناص من تفعيل الوسط الشفاف ونظام الاسترجاع من فتح الأفق الضيق لفضاءات القرية ومفرزة الدرك على امتدادات السهوب، والبوادي والصحارى، ومغامرات الشخصية مع مواخير المدينة القريبة وتهويماته، في ليالي وحدته الطويلة، ساهرا مع ليالي البادية الهادئة ونجومها البراقة، وسمائها الصافية.

 هذا الانفتاح المباغت في فضاءات النص الضيقة لم يحدث إلا مرتين في سيرورة النص المتطاولة كلها، المرة الأولى مع شخصية (رابح بن سالم) والثانية مع شخصية مرؤوسه الفتى (بلقاسم عرقاوي)، هذا الأخير الذي يشترك مع رئيسه في الموت غيلة تحت رصاص الجماعات المسلحة، وفي الخلفية الاجتماعية الفقيرة التي لم وجدت في سلك الدرك موئلا عن الفقر والبطالة، دون خلفيات إيديولوجية تذكر، ودون أوهام سلطة ما، بحيث يشكل مقتلهما تعميقا لظلال المأساة التي لحقت بالبلاد، وشرخا حادا في نظام القيم الذي يحمل الضحية مسؤولية قاتلها، والبريئ مسؤولية المتهم.

 لقد تمكن النص من الوفاء بتعهده القرائي المقترن بعتبة (الورم)، حيث المأساة الوطنية، في نهاية المطاف، ليست سوى ورم خبيث استقر في جسد الوطن، ورم متغضن متناسل الخلايا، يسهل تشخيص صنفه الوبائي وأسبابه وبداياته، ولكن من الصعب تحميل فريق ما كامل المسؤولية، لأنها، النهاية، مسؤولية الجميع، كما أنها مرضهم معا.

 

جامعة البليدة 2

 

الهوامش:

1.            منشورات الاختلاف، ط/1، سنة/2002، الجزائر.

2.            اشتهر بروايته الشهيرة

ED : Gallimard, Paris/1999. le serment des barbares,

3.            مشير إلى نصيه الذين اشتغل فيهما على موضوعة العنف أول ظهوره على الساحة الأدبية وبعد التقاعد من الجيش:

ـ A quoi revent les loups,Ed :JULLIARD,Paris/1999

 ـL’impousture des mots,Ed :JULLIARD,Paris/2202

4.            منشورات الفضاء الحر، سنة/2001، ط/1، الجزائر.

5.            دار الفضاء الحر، سنة/2001، ط/1، الجزئر.

6.            منشورات الفضاء الحر، سنة/2005،الجزائر.

7.            الشمعة والدهاليز، موفم للنشر والتوزيع، سنة/2004، الجزائر.

8.            الورم، مصدر سابق، ص: 09.

9.            المصدر نفسه، ص: 08.

10.          Gilebert DURAND ,les structures anthropologiques de l’imaginaire, bordasnp : 250.

11.          الورم، ص: 11.

12.          المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

13.          La psychosociologie de l’espace,Gustave nicholas FISHER ,1er ed,1981,PUF,p :20

14.          جماليات المكان في الرواية العربية، شاكر النابلسي،ص:67. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، سنة/1994،ط/1، بيروت/ لبنان.

15.          الورم، ص: 12/13.

16.          المصدر نفسه، ص:51.

17.          المصدر نفسه، ص:201.

18.          الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة، عبد الله إبراهيم، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط/1، سنة/2010، ص:139، بيروت،لبنان

19.          نشير، بهذا الصدد، إلى الانقلاب الذي قاده المشير عبد الفتاح السيسي على الرئيس محمد مرسي الإخواني والآثار التي ما زالت تطالعنا بها وسائل الإعلام عن الواقع المصري الذي ما زال لم يكشف نهائيا عن تبعات ذلك الانقلاب في المجتمع المصري المفتوح على كافة الاحتمالات بما فيها الأكثر تشاؤما.

20.          الروم، مصدر مذكور، ص:20.

21.          المصدر نفسه، ص: 21.

22.          المصدر نفسه، ص: 294.

23.          المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

24.          المصدر نفسه، ص:90.

25.          المصدر نفسه، ص: 100.

26.          المصدر نفسه، ص: 109.

27.          J .P. GOLDENSTEIN , pour lire le roman, Ed : Duculot, 06eme édition, Paris, 1989, p : 94 .

28.          الورم، مصدر سابق، ص: 109.

29.          المصدر نفسه، ص: 110.

30.          المصدر نفسه، ص:112.

31.          المصدر نفسه، ص:112/113.

32.          توصيف كان يطلقه الاستعمار الفرنسي على السكان الأصليين لمستعمراته، يحمل ظلال الاستهانة والاحتقار.