وأخيرا تشكل المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي بعد حراك شاق في المغرب شهد العديد من النقاشات والسجالات، ويبدو أنه لن تنتهي مادام تشكيلة المجلس نفسه زادت من تعميق الشرخ هو أهلية البعض وجدوائية آخرين، ومدى ديمقراطية الاختيارات، ويتجه المجلس الى تناول أحد أهم إشكالات المجتمع المغربي اليوم هو منظومته التعليمية وتقربنا كلمة رئيسه في أشغال الافتتاح من خريطة الطريق التي يزمع سلكها في المستقبل..

الدورة الافتتاحية للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي

كلمة رئيس المجلس:

 

السيدات والسادة أعضاء المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي،

نجتمع اليوم في أول لقاء للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، ومشاعر التأثر والغبطة ما تزال تغمرنا بعد أن تفضل صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله بتنصيب هذه المؤسسة الدستورية، تأكيدا من جلالته على انشغاله الدائم بمصير المدرسة المغربية.

وأود في مستهل هذه الكلمة، أن أهنئ السيدات والسادة الأعضاء على عضويتهم بالمجلس، مستحضرين جسامة المسؤولية الملقاة على عاتقنا جميعا، كما أرحب بكم في هذا اللقاء المخصص للتعارف، ولتنظيم العمل الذي ينتظرنا، واقتراح بعض القواعد المنهجية لعمل المجلس، يحدونا أمل صادق في أن نكون عند حسن ظن جلالة الملك، وفي مستوى الثقة التي حظينا بها من أجل الاضطلاع الأمثل بالمهام المنوطة بالمجلس.

حضرات السيدات والسادة،  

يأتي إحداث المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي في سياق تجسيد الأولوية القصوى لإصلاح المدرسة المغربية بمختلف مكوناتها، وتمكينها من الاضطلاع الناجع بوظائفها في التربية والتكوين والتأطير والبحث والتأهيل، بتعليم جيد ونافع وبفرص متكافئة.  

ومن المؤكد أننا مدعوون، ونحن بصدد إعطاء الانطلاقة لمجلسنا هذا، إلى تعزيز الإرث الهام الذي راكمه المجلس الأعلى للتعليم منذ إعادة تنظيمه سنة 2006، والذي يشكل اليوم مكسبا ينبغي توطيده وتطويره.

وبهذه المناسبة، لا بد أن نستحضر الفقيد عبد العزيز مزيان بلفقيه، الذي أسهم بعطاء كبير سواء في اللجنة الخاصة للتربية والتكوين أو بالمجلس الأعلى للتعليم، في خدمة قضايا المدرسة المغربية، والرفع من مردوديتها.

ولقد أفضى هذا العمل الجماعي إلى تحقيق إنتاجات متعددة، نذكر منها على سبيل المثال: الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وتقرير المجلس حول حالة المنظومة الوطنية للتربية والتكوين وآفاقها لسنة 2008، والبرنامج الوطني لتقييم التحصيل الدراسي سنة 2009، وعدد من الآراء والدراسات، التي توجد كلها رهن إشارتكم.

غير أن المجلس الأعلى للتعليم عرف فترة شغور اضطراري في الرئاسة المنتدبة بين سنة 2010 و2013، مما حال دون تمكُّن الهيئات التداولية للمجلس من متابعة اشتغالها، رغم تواصل عمل أجهزته التقنية عبر إنجاز الدراسات والتقارير والأنشطة التي كانت مدرجة في برنامج عمله.

بعد هذه الفترة، تفضل صاحب الجلالة نصره الله، بإعادة تفعيل المجلس الأعلى للتعليم، وتعيين رئيس منتدب جديد له في غشت 2013. ومنذ ذلك التاريخ، تمت مواكبة سيرورة المصادقة على القانون المتعلق بالمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، التي أفضت بالأمس إلى تنصيبه، كما تم إعداد الجوانب التنظيمية لسير المجلس المتعلقة بمشاريع النظام الداخلي والتنظيم المالي والمحاسبي والنظام الأساسي للموظفين.

وتنفيذا للتوجيهات الملكية السامية، تم الانكباب، بصفة خاصة، على إنجاز مشروع التقرير التقييمي حول تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين بين 2000 و 2013. مما تطلب القيام بعدد من الأشغال أفضت إلى إنجاز هذا المشروع من قبل الهيئة الوطنية للتقييم لدى المجلس، مدعومة بلجنة علمية، مع نهج مقاربة تشاركية شملت الاستماع للمسؤولين الحكوميين الحاليين والسابقين، والفاعلين التربويين المباشرين، والخبراء من مختلف المشارب، والفاعلين الاقتصاديين والسياسيين والنقابيين، والآباء والتلاميذ والطلبة والمجتمع المدني.

كما تم استطلاع رأي عينة واسعة من المدرسين والمدرسات، وإنجاز استشارة مفتوحة أمام المواطنات والمواطنين عبر البوابة الإلكترونية للمجلس، بالإضافة إلى مساهمات مكتوبة من لدُن عدد من الأحزاب السياسية والنقابات التعليمية وهيئات المجتمع المدني والخبراء.

وكل هذه الأعمال التحضيرية مكَّنت اليوم من توفير المشاريع الأولى لبداية اشتغال الجمعية العامة للمجلس.

حضرات السيدات والسادة،

يمثل تنصيب المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي طفرة مؤسساتية نوعية، بالنظر لاختصاصاته الدستورية الجديدة، التي تخوله إبداء الرأي في كل السياسات العمومية والقضايا الوطنية التي تهم التربية والتكوين والبحث العلمي، والإسهام في تقييم السياسات والبرامج العمومية ذات الصلة بهذه الميادين.

وبفضل هذه الاختصاصات الوازنة والموسعة، وبحكم الاستقلالية الدستورية للمجلس، وبغنى تركيبته التعددية التي تزاوج في عضويته بين مسؤولين حكوميين، وصفوة من الخبراء والكفاءات، وبين عدد من الفاعلين الممثلين للمؤسسات والهيئات والفئات المعنية بالشأن التربوي، ستتمكن هذه المؤسسة، بحول الله، من إذكاء النقاش البناء، وحفز الذكاء الجماعي، وحشد التعبئة المجتمعية حول إصلاح المنظومة التربوية والرفع من جودتها.

حضرات السيدات والسادة،

إن مجلسنا مدعو للتعاطي مع فضاء تربوي متعدد المكونات، يتميز بالتعقد والتشعب والتداخل، كما يتسم بتنوع المتدخلين؛ الأمر الذي يتطلب توضيح تموقع المجلس ضمن هذا الفضاء، ويستوجب تحديد العلاقات بين مختلف المتدخلين وتنظيم التكامل المؤسساتي والتعاون البناء. لذا، فمن الضروري التذكير بأن الاشتغال في الشأن التربوي يتم من زوايا مختلفة، لكل زاوية أهميتها الخاصة في أداء المهمة التربوية النبيلة:

                الزاوية الأولى، تحيل إلى التعاطي مع المشاكل اليومية التي تواجهها المنظومة التربوية؛ وهو ما يندرج ضمن مهام المدرسين والمؤطرين والإدارات والأجهزة المسؤولة عن المؤسسات التعليمية والتكوينية والجامعية محليا وإقليميا وجهويا؛

                الزاوية الثانية، تتمثل في حكامة المنظومة التربوية على المستوى الوطني، وإعداد وتدبير وتنفيذ السياسات العمومية؛ وهو ما يشكل الدور الأساس للقطاعات الحكومية المعنية؛

                الزاوية الثالثة، تهم إرساء الترسانة القانونية والتنظيمية لمختلف قضايا التربية والتكوين والبحث العلمي؛ وهي المهمة التي يتقاسم فيها العمل الجهاز الحكومي والجهاز التشريعي.

                أما الزاوية الرابعة، فتحيل إلى التحليل والتفكير الشمولي الاستراتيجي بمنهجية تقييمية وببُعد استشرافي، في المكانة الاجتماعية للمدرسة ووظائفها، ودور الجامعة ومهامها، ووظيفة البحث العلمي ومكانته، وفي مساءلة المنظومة التربوية عن أدائها وقيمة مردوديتها وجودتها.

وهنا بالضبط، يكمن دور المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، ويبرز الطابع النوعي لمهامه وإسهامه في تحقيق التكامل والتناسق مع مهام المؤسسات الأخرى المعنية.

حضرات السيدات والسادة،

إذا أردنا تحديد الأولويات التي تُمليها المرحلة الحالية، علينا أن نستحضر التوجيهات الملكية السامية، ولاسيما:

أولا: التوجيهات المتضمنة في خطاب 20 غشت سنة 2012، الذي دعا فيه جلالة الملك، إلى تقوية إصلاح المنظومة التربوية عبر ضمان تعليم موفور الجدوى والجاذبية٬ وملائم للحياة التي تنتظر الأطفال والشباب، وتحقيق تغيير في نسق التكوين وأهدافه، وإضفاء دلالات جديدة على عمل المدرس٬ وتحويل المدرسة من فضاء يعتمد منطق شحن الذاكرة ومراكمة المعارف٬ إلى منطق تفعيل الذكاء وصقل الحس النقدي، علاوة على التركيز على النهوض بالمدرسة العمومية، إلى جانب تأهيل التعليم الخاص في إطار من التفاعل والتكامل.

وثانيا: التوجيهات الواردة في خطاب 20 غشت 2013، الذي أثار فيه جلالته بقوة انتباه الأمة إلى الاختلالات العميقة التي تعاني منها المدرسة، داعيا إلى إجراء وقفة موضوعية مع الذات، لتقييم المنجزات، وتحديد مكامن الضعف والاختلالات، ومذكرا بأهمية الميثاق الوطني للتربية والتكوين، بوصفه الإطار المرجعي للإصلاح التربوي، ومنبها في نفس الوقت، إلى التراجع الذي همَّ على الخصوص، تجديد المناهج التربوية، والانسجام في لغات التدريس، وبرنامج التعليم الأولي، وثانويات الامتياز، وإلى سلبيات اعتماد منطق القطيعة بدل منطق توطيد التراكم وتطوير المكتسبات.

 ضمن هذا المنظور، نحن مقبلون على مجموعة من الأعمال المترابطة والمتكاملة، منها ما يهم إرساء هياكل المجلس ومباشرة اشتغاله وسيره العادي، ومنها ما يتصل بالإعداد لبداية تقديم أجوبة عن انتظارات المجتمع المغربي في ميدان التربية والتكوين والبحث العلمي.

تنتظم هذه الأعمال في ثلاث محطات أساسية:

     محطة أولى تبتدئ من هذه اللحظة إلى أواخر يوليوز 2014، تستهدف إرساء النصوص والهياكل التنظيمية للمجلس وتقديم التقرير التقييمي، ويتعلق الأمر بالأعمال التالية:

ü       دراسة مشروع النظام الداخلي للمجلس والمصادقة عليه؛

ü       انتخاب أعضاء مكتب المجلس، وأعضاء اللجان الدائمة ورؤسائها ومقرريها؛

ü       مباشرة مكتب المجلس لمهامه؛

ü       تقديم التقرير التقييمي حول " تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين 2000 – 2013: المكتسبات، التعثرات، التحديات".

     محطة ثانية، ستنطلق ابتداء من الأسبوع الأول من شتنبر 2014، وتهم أساسا:

ü       التداول في مشروع التقرير التقييمي المشار إليه سابقا، والمصادقة عليه؛

ü       تدارس العروض التي تتضمن الرؤية المستقبلية لمشاريع الإصلاحات التربوية المرتقبة على المدَى القريب والمدى البعيد، سيتفضل السادة الوزراء المشرفون على قطاعات التربية والتكوين والبحث العلمي وتكوين الأطر والتعليم العتيق بتقديمها أمام الجمعية العامة للمجلس من أجل التداول في شأنها.  

ü       تنظيم لقاءات جهوية لتقاسم التشخيصات التي انتهى إليها المجلس، واستخلاص آراء وتوصيات مختلف الفاعلين، وتمكينهم من المشاركة في بلورة المداخل الاستشرافية الكفيلة بإصلاح المنظومة التربوية؛

ü       التداول في كل من مشروع برنامج عمل المجلس، ومشروع تنظيمه المالي والمحاسبي، ومشروع ميزانيته السنوية، وأيضا مشروع النظام الأساسي للموظفين العاملين به.

     محطة ثالثة، تخصص بالأساس لإعداد مشروع التقرير الاستراتيجي للمجلس. وهو تقرير نحن مدعوون إلى تعبئة اجتهادنا الجماعي من أجل بلورته واعتماده، على نحو يجعله متضمنا للمداخل الكبرى لخارطة طريق الإصلاح الشامل للمنظومة الوطنية للتربية والتكوين والبحث العلمي، مع الحرص على التنسيق، في هذا الشأن، مع القطاعات الوزارية المعنية، ونهج مقاربة تشاركية لضمان التملُّك الجماعي لمضامين وأهداف هذا الإصلاح، وتعبئة الطاقات البشرية والوسائل المادية والتنظيمية اللازمة لإنجاحه.

السيدات والسادة الأعضاء،

هذه الأعمال الوازنة تستلزم، في هذه المرحلة الدقيقة، تعبئة استثنائية من قبل كافة أعضاء المجلس، ومن ثَمّ عقد دورات متلاحقة في مدى زمني قصير.

لذلك، تتمثل أول خطوة في إرساء المجلس، في تنظيم عمله، وضبط منهجية اشتغال هيآته التداولية وأجهزته الداعمة.

في هذا الإطار، سيشكل التداول في مشروع النظام الداخلي للمجلس والمصادقة عليه لبنة أساسية لتأليف مكتبه ولجانه الدائمة، وكذا هيكلة الهيئة الوطنية للتقييم، وإرساء الأجهزة الإدارية للمجلس، وكيفيات سيره.

لهذا الغرض سيتم، ضمن أشغال هذه الدورة الافتتاحية، تقديم عرض مركز حول مشروع النظام الداخلي الذي توصل كل واحد منكم بنسخة من نصه، في أفق المصادقة عليه خلال الدورة الأولى للمجلس التي ستنعقد يومي الإثنين 21 والثلاثاء 22 يوليوز 2014، وقد تستمر إلى غاية يوم الأربعاء.

وإذا كان من السمات المميزة لمجلسنا أنه فضاء للتشاور وتبادل الرأي وإعمال الذكاء الجماعي، فإننا مدعوون لتنظيم عملنا وفق عدد من القواعد المنهجية، سواء تعلق الأمر بالاشتغال الداخلي للمجلس، أو بالتعاطي مع قضايا المنظومة التربوية، وفي مقدمة هذه القواعد:

§                    الاقتناع المتقاسم بأن الإصلاح ممكن، رغم كونه سيرورة معقدة ومتشعبة، ويندرج في مدى زمني ممتد، يتطلب نفسا طويلا، مع عدم استعجال النتائج قبل أوانها؛

§                    اعتماد منهجية قوامها الحزم والتدرج وترصيد المكتسبات، من أجل إحداث التغيير المتوخى، ولاسيما باستهداف الفصل والقسم والمتعلم والمدرس؛

§                    نهج مقاربة تشاركية، ببعد استشرافي، تكون غايتها تعزيز الإصلاح التربوي، وإذكاء التعبئة المجتمعية حول سبل إنجاحه؛

§                    ترسيخ فضيلة النقاش المفتوح على تعدد الرؤى واختلافها حول قضايا صعبة ومعقدة؛

§                    حرص كل واحد منا على التجرد من موقعه الشخصي واعتباراته الفئوية، ومن الأحكام الجاهزة في مناقشة القضايا المطروحة على المجلس، وجعل المصلحة العامة فوق كل اعتبار؛

§                    عدم حصر التفكير في قضايا المدرسة المغربية في نطاق محلي منغلق، بل فتحه على أفق أرحب، قوامه الاستئناس بمقارنة نجاحات وإخفاقات المنظومات التربوية لبلدان العالم، قصد استخلاص العِبَر من تجاربها، في منأى عن أي تقليد لأية أنماط جاهزة.    

ولا شك أن استحضارنا لهذه المقومات المنهجية، والتزامنا بواجب التكتم حيال أعمال المجلس إلى حين المصادقة النهائية عليها من قبل الجمعية العامة، سيمكِّننا من جعل المجلس نموذجا للاجتهاد الجماعي المبادِر والمبتكر، ومثالا للديمقراطية التشاركية التي هو جزء من مؤسساتها الدستورية.

ذلكم، في تقديري، هو التصور العام الناظم لهذا المشروع، والمؤطر لاشتغال المجلس في هذه المرحلة، والموجِّه لعملنا جميعا في إطار القيام الأمثل بالمهام المنوطة بنا، بهدف تحقيق القيمة المضافة المنتَظرة من المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، من أجل مدرسة مغربية جديرة بمجتمعها وعصرها، قادرة على تكوين المواطن النافع لنفسه ولمجتمعه، مدرسة تقع في صلب الإسهام في كسب رهانات مغرب المواطنة والديمقراطية والتنمية المتواصلة.    

                           

                        والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.