بعدما صراع مرير مع المرض نتيجة وضع صحي لازمه ثلاث سنوات الأخيرة، ودعنا الشاعر العربي الكبير سميح القاسم وبرحيله تفقد القصيدة العربية المعاصرة شاعر الثورة والمقاومة، هنا بورتريه مصغر لتجربة هذا الشاعر الكبير والذي طالما تغنى الشعراء والمناضلون بقصائده في المعتقلات وفي الساحات، وقد وسم شاعرنا بتوأم قامة شعرية كبرى أخرى رحلت عنا السنوات الأخيرة، في النهاية سيظل هذا المنجز الشعري حيا يقظا ونبراسا يضيء الطريق للأجيال القادمة وللإنسانية جمعاء.

رحيل شاعر الثورة والمقاومة: سميح القاسم

غيب الموت الشهر الماضي الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم بعد صراع طويل مع مرض السرطان، ليرحل صاحب كلمات "منتصب القامة أمشي .. مرفوع الهامة أمشي ...في كفي قصفة زيتون... وعلى كتفي نعشي، وأنا أمشي وأنا أمشي"، لتبقى القضية الفلسطينية يتيمة من شعرائها إثر فقدانها توأمها الثاني بعد محمود درويش. وبكى العالم العربي رحيل الشاعر الفلسطيني الكبير وأحد أهم وأشهر الشعراء العرب المعاصرين الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والمقاومة بعد صراع طويل مع المرض الذي أصيب به قبل ثلاث سنوات، ليخسر معركته الأخيرة بعدما بقي حتى أيامه الأخيرة واقفا، مقاوما رافع الرأس... كما كان عليه طوال حياته.

وبرحيل سميح القاسم (75 عاما) تفقد القضية الفلسطينية توأمها الثاني الذي طالما وهب شعره وأدبه من أجلها كما فعله رفيقه محمود درويش، حيث كانت كلمات أشعاره كطلقات الرصاص في وجه الاحتلال الإسرائيلي، ظلت طيلة عقود ترددها الأجيال من بينها "تقدموا ..تقدموا براجمات حقدكم وناقلات جندكم فكل سماء فوقكم جهنم... وكل أرض تحتكم جهنم".  وتنشر قصائده بصوته على القنوات العربية والفلسطينية خصوصا هذه الايام على اثر الهجوم على غزة مثل قصيدة "تقدموا ..تقدموا براجمات حقدكم وناقلات جندكم فكل سماء فوقكم جهنم... وكل أرض تحتكم جهنم".

وولد سميح القاسم في 11 أيار/مايو 1939 في بلدة الرامة شمال فلسطين، ودرس في الرامة والناصرة واعتقل عدة مرات وفرضت عليه الإقامة الجبرية من القوات الإسرائيلية لمواقفه الوطنية والقومية وقد قاوم التجنيد الذي فرضته إسرائيل على الطائفة الدرزية التي ينتمي إليها. وكان متزوجا وأب لأربعة أولاد هم وطن ووضاح وعمر وياسر. ويحفظ السجل الأدبي لسميح القاسم الكثير من الإبداعات التي أثرت الساحة العربية بصفة عامة، تغنى بها الكثير في كامل العالم العربي منها قصيدته التي غناها مرسيل خليفة ويغنيها كل أطفال فلسطين وتغنى في كل مناسبة قومية "منتصب القامة أمشي .. مرفوع الهامة أمشي ...في كفي قصفة زيتون... وعلى كتفي نعشي، وأنا أمشي وأنا أمشي".

وتنوعت أعمال القاسم بين الشعر والنثر والمسرحيات ووصلت لأكثر من سبعين عملا. واشتهر بكتابته هو والشاعر محمود درويش الذي ترك البلاد في السبعينات "كتابات شطري البرتقالة". ووصف الكاتب عصام خوري هذه المراسلات بأنها "كانت حالة أدبية نادرة وخاصة بين شاعرين كبيرين قلما نجدها في التاريخ". وشاعر المقاومة كان سميح في رأي البعض، ولم يكن يتقبل الوصف، فحسه الشعري والنقدي يقول إن ذلك ربما تضمن اتهاما لقصائده بالمباشرة.

وصدَرتْ في العالم العربي عدّة كُتب ودراسات نقدية، تناولَت أعماله وسيرته الأدبية وإنجازاته وإضافاته الخاصة والمتميّزة ليحتار النقاد فى إطلاق لقب مناسب على هذا الصوت العربي الشامخ، فبعضهم قال إنه "هوميروس الصحراء" وقال البعض الآخر إنه "قيثارة فلسطين" وبينما لقبه آخرون بـ"متنبي فلسطين" بينما وصفه البعض الآخر بـ"الشاعر القديس" "سيّد الأبجدية"، و"شاعر الشمس". وحظي القاسم بتقدير المثقفين في العالم العربي وخارجه ونال كثيرا من الجوائز من إسبانيا وفرنسا وفلسطين وآخر تكريماته حصوله عام 2006 من القاهرة على جائزة نجيب محفوظ التي يمنحها الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب.

ونعى الرئيس الفلسطيني محمود عباس الشاعر الراحل. ونقلت عنه الوكالة الفلسطينية قوله "الشاعر القاسم صاحب الصوت الوطني الشامخ رحل بعد مسيرة حافلة بالعطاء والذي كرس جل حياته مدافعا عن الحق والعدل والأرض". وأصدر الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب برئاسة الكاتب محمد سلماوي، بيان لنعي الشاعر الراحل، وجاء في نصه "فقدت الأمة العربية شاعرًا من أهم شعرائها المعاصرين، هو الشاعر العربي الفلسطينى الكبير سميح القاسم، الذي جعل صوته الشعري صوتًا لقضيته الوطنية، فكانت قصائده ودواوينه رسائل حق لكل الشرفاء في العالم، تعرفهم بالقضية الفلسطينية، وتضع أيديهم على جراح شعب عظيم". ونعى أدباء ومثقفون وسياسيون الشاعر الفلسطيني.

وعبر الروائي الكبير يوسف القعيد عن أسفه لرحيل سميح القاسم، قائلاً:"جاء رحيل سميح وكأنه يحتج على إبادة غزة التي تمت مؤخرا، وذلك على الرغم من أنه يعيش في الضفة وهو من عرب 48 وليس غزاويا، إنما قصيدته الشهيرة "تقدموا" كانت الراية الموجودة في كل التليفزيونات العربية والعالمية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية". كما أكد الشاعر مسعود شومان رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة أن المقاومة الشعرية العربية فقدت بموت سميح القاسم طائر المقاومة الحقيقي بجناحيه محمود درويش والقاسم. وأضاف شومان: "سميح القاسم ليس شاعرا كبيرا فحسب ولكنه أحد مؤرخي المقاومة الفلسطينية، ففلسطين المنهوبة أرضا والمقتولة بشرا كانت صامدة بأشعار كبار الشعراء الذين ظلت تحتفظ ببلدانها وعاداتها وتقاليدها ومقاومتها من خلال هؤلاء الشعراء الذين أرخوا شعرا لفلسطين".

وافاد الروائي محمد سليم شوشة أن الشعراء العظام مثل سميح القاسم لا يموتون، وإنما يأتي الموت ليكشف لنا أنهم برغم تركهم الحياة في محطة معينة أدوا ما عليهم وعاشوا كما أحبوا شعراء كبارا. وأضاف شوشة: لحظة موت هؤلاء إنما تأتي لتؤكد خلودهم وتسلط الضوء بشكل أكبر على دورهم الأدبي والإنساني". وقد نعاه الكثير من مشاهير الفن من بينهم الممثل المصري نبيل الحلفاوي والنجم الفلسطيني محمد عساف والإعلامي شريف عامر. وقال محمد عساف "محبوب العرب" في صفحته عبر فيسبوك "وحملنا.. جرحنا الدامي حملنا و إلى أفق وراء الغيب يدعونا.. رحلنا".

توأم محمود درويش الشعري عاني من تدهور صحي غير مسبوق نتيجة سرطان كبد اصابه منذ ثلاث سنوات ولم يشف نهائيا منه. تداعى الكتاب والمبدعون واتحاداتهم لنعي الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم الذي وافته المنية الثلاثاء الموافق التاسع عشر من أغسطس 2014 الماضي. بعد صراع مع مرض السرطان الذي ألم به منذ سنوات. ويعد القاسم واحداً من أهم الشعراء العرب والفلسطينيين المعاصرين الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والمقاومة من داخل أراضي 48.

بيان الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين وبيت الشعر الفلسطيني وصف رحيل القاسم بأنه خسارة للحركة الثقافية في فلسطين، وفي الوطن العربي، والعالم الحرّ، وجاء فيه: نستذكر بمزيد من الفخر الدور الذي لعبه الشاعر الكبير، إلى جانب الراحلين الكبيرين توفيق زيّاد ومحمود درويش، في التأسيس لمدرسة المقاومة الشعرية، والتي انطلقت شرارتها الأولى من داخل الدائرة الضيّقة التي أغلقها الغاصبون بالنار والحديد على ذلك الجزء العزيز والغالي من وطننا، وليكسر الشعراء الثلاثة، ومن جايلهم من مثقفينا هناك، تلك الدائرة السوداء محلقين في الفضاءات العالية.

كان الراحل الكبير واحداً من ذلك الجيل المؤسس للكلمة المقاتلة على طريق تشييد مدرسة شعرية ثورية محكمة الأساسات والبنيان، كانت فلسطين، وشعبها، وقضيتها، وأحزانها، وآلامها، وأحلامها، وتطلعاتها بوصلتهم، ورؤاهم، فاستحقوا بجدارة أن يكونوا أساتذة، وأن تتربى في مدرستهم أجيال شعرية، وتتعلم منهم الكثير، والكثير.  لقد كان شاعرنا الكبير سميح القاسم متواجداً في ساحات فلسطين الثقافية والكفاحية، وفي مقدمة الرّكب شاعراً فذا ومجددا ومبدعا، ومناضلا عنيداً، وإنسانا شعبيا استطاع أن يتلمس أوجاع أبناء شعبه وأمته والمقهورين في هذا العالم المتوحش، وأن يكون دائما إلى جانب المظلومين، والمتطلعين للحرية والعدالة. لقد كان باختصار صرخة مدوية في وجه الظلم أيا كان شكله ومصدره.

وأضاف البيان: يجيء رحيل الشاعر الكبير سميح القاسم عن عالمنا وغزّة تغرق بالدم على أيدي الوحش الصهيوني الذي يوغل في دمنا يوما بعد يوم. وكان القاسم وهو يصارع مرضه اللعين تحدّق عيناه في ما يجري لأبناء شعبنا في تلك البقعة الغالية من وطننا، وكأنّه يريد أن يوصل وصية غير مكتوبة لنا، وهي أن الشعراء، الشعراء، لا يموتون، وأن الكلمة المقاتلة يجب أن تواجه هذا الموت، سواء كان موتا فرديا، أو جماعيا.
لقد ترك سميح القاسم إرثا ثقافيا نعتزّ به، ونعلن انحيازنا التام له. كما وترك سيرة نضالية نفتخر بها، ونتعلم منها، وفي هذه المناسبة يتطلع الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، بل ويطالب الجهات الرسمية في السلطة الوطنية الفلسطينية، وفي منظمة التحرير الفلسطينية، إلى أن تلتفت، ليس فقط لتراث الراحل الكبير، وإنما لوصاياه التي سنجدها في كل جملة شعرية كتبها، وأن تولي ثقافتنا الوطنية المقاتلة ما يمكنها من الصمود، ويشحذها بمقومات الصمود والمزيد من المقاومة. وإذ يودع الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين بحزن بالغ هذه السنديانة الثقافية الفلسطينية العالية، الضاربة جذورها في أعماق الأرض، والمحلقة أغصانها في عنان السماء، فإنه يتوجه لعائلة الراحل الكبير، بأصدق مشاعر العزاء، كما ويتوجه لأبناء شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية والإنسانية جمعاء بأحر التعازي.

وسبق لوزارة الثقافة القطرية أن أصدرت كتابا نقديا عن تجربته بعنوان: توظيف التراث في شعر سميح القاسم في إطار الاحتفال بالدوحة عاصمة الثقافة العربية 2010.  مؤلفة الكتاب الباحثة القطرية لؤلؤة حسن العبد الله استهدفت بيان مدى عمق التجريب في شعر سميح القاسم في استخدامه للتراث ومكانته على خريطة الشعر العربي في أربعة فصول وتمهيد درست فيه دراسة مصادر التراث في شعر سميح القاسم في أبعاده الدينية والأسطورية والشعبية الفلكلورية والتاريخية والأدبية. وعالجت المؤلفة في كتابها موضوعات «أشكال توظيف الشخصية» في شعر سميح القاسم هذه الأشكال التي توزعت علي ثلاثة محاور «الشخصية القناع والقناع البسيط والقناع المركب» و«البناء الدرامي للشخصية التراثية» و«أنماط توظيف الشخصية» ليناقش التوظيف المباشر والتوظيف غير المباشر والتوظيف الكلي والتوظيف الجزئي والتوظيف العكسي للشخصية التراثية في شعر سميح القاسم.و «التناص» ويشتمل على تمهيد يتعرض للتناص ومفاهيمه المتنوعة ومصطلحاته المستخدمة لدى النقاد الغربيين أمثال باختين وتودوروف وجوليا كريستفا وجيرار جينيت وما قدمه النقاد العرب من ترجمات ودراسات. ثم تتناول الدراسة أشكال «التناص» و «معمارية التناص» ويختص بمناقشة تداخل الأجناس الأدبية في النص الشعري عند سميح القاسم والتكنيكات التي استعارها من هذه الأجناس. ثم موضوعات «النص الموازي» و "التعالق النصي".

ولد القاسم في مدينة الزرقاء الأردنية في الحادي عشر من مايو عام 1939 لعائلة عربية فلسطينية من قرية الرامة، وتعلّم في مدارس الرامة والناصرة، وعلّم في إحدى المدارس، ثم انصرف بعدها إلى نشاطه السياسي في الحزب الشيوعي قبل أن يترك الحزب ليتفرغ لعمله الأدبي. وقد سجن الشاعر الكبير أكثر من مرة، كما وضع رهن الإقامة الجبرية والاعتقال المنزلي، وطرد من عمله مرات عدّة بسبب نشاطه الشعري والسياسي، وقاوم التجنيد الذي فرضته إسرائيل على الطائفة الدرزية التي ينتمي إليها. وترأس القاسم اتحاد الكتاب العرب والاتحاد العام للكتاب العرب الفلسطينيين في فلسطين منذ تأسيسهما، وصدر له أكثر من 60 كتابا في الشعر والقصة والمسرح والمقالة والترجمة، وصدرت مجموعة أعماله في سبعة مجلدات، وترجم عدد كبير من قصائده إلى لغات عدة. ومن أشهر دواوين الشاعر سميح القاسم: مواكب الشمس، أغاني الدروب، دمي على كفِّي، دخان البراكين، وسقوط الأقنعة.
من قصائد الشاعر سميح القاسم
طائر الرعد
ويكون أن يأتي
يأتي مع الشمس
وجه تشوّه في غبار مناهج الدرس
ويكون أن يأتي
بعد انتحار القحط في صوتي
شيء.. روائعه بلا حدّ
شيء يسمّى في الأغاني
طائر الرعد
لابد أن يأتي
فلقد بلغناها
بلغنا قمة الموت.
من أجــل
من أجل صباح!
نشقى أياماً وليالي
نحمل أحزان الأجيالِ
ونُكوكِبُ هذا الليل جراح!
من أجل رغيف!
نحمل صخرتنا في أشواك خريف
نعرى.. نحفى.. ونجوع
ننسى أنّا ما عشنا فصلّ ربيع
ننسى أنّا..
خطواتٌ ليس لهنّ رجوع!!