من الخليج العربيّ حيث الثّقافة البحرينيّة تحتفي ببرنامج (الفنّ عامنا) وحتّى المغرب العربيّ، وتحديدًا مدينة أصيلة الشّهيرة باسمِ (مدينة الفنون)، يحيك منتدى أصيلة الثّقافيّ الدّوليّ السّادس والثّلاثين حواراته ولقاءاته، متّخذًا من الفنّ المعاصر ذريعة للحكاية والبحث والتّواصل، ومتسائلاً عن القضايا المتّصلة بالفنّ في العالم العربيّ خصوصًا في سياق التّطوّرات الحاصلة في العقدين الأخيرين والانزياح من التّجارب الفرديّة المتجاوزة للمألوف إلى شبكات من الفنّانين الشّباب المجدّدين وبدورهم جيل الرّوّاد المؤسّسين أيضًا. كلّ التّساؤلات والإشكاليّات المتّصلة بالفنّ العربيّ المعاصر تناقلتها مجموعةٌ من النّقّاد التّشكيليّين، الفنّانين، الباحثين الأكاديميّين ومتابعي الحركة التّشكيليّة الفنّيّة وتاريخها، وذلك من خلال ندوة (الفنّ التّشكيليّ العربيّ المعاصر: الرّهانات والتّحدّيات) التي انعقدت على مدى يومين (يوافقان 17 و18 أغسطس الجاري) في مركز الحسن الثّاني بمدينة أصيلة المغربيّة، بحضور عددٍ من الفنّانين البحرينيّين، الذين مثّلوا البحرين في المنتدى الذي فيه البحرين ضيف شرف لدورة هذا العام 2014م.
وقد شارك النّاقد الفنّيّ البحرينيّ د. محمّد الخزاعيّ في سياق هذه النّدوة، وذلك خلال جلستها الأولى التي تناقش (الفنّ العربيّ بين حرّية الإبداع وحرّيّة المبدع)، مقدّمًا مملكة البحرين مثالاً، وأشار فيما طرح إلى أنّ الحضارات الإنسانيّة على مرّ العصور قد عرفت وزاولت مختلف الفنون التّشكيليّة التي تمثّلت في فنون النّحت والرّسم، إذ لا تكاد حضارة من الحضارات تخلو في حقبها المختلفة من نماذج للفنّ التّشكيليّ، مبيّنًا أنّ فنّ النّحت كان له نصيب الأسد من هذه الفنون. وأوضح أنّ الحضارات القديمة كالهنديّة واليونانيّة والمصريّة خلّفت لنا آثارًا لا تُعدّ ولا تُحصى من التّماثيل، منها ما هو في حجم جسم الإنسان ومنها ما هو من الضّخامة بحيث تثير الدّهشة عن كيفيّة تمكّن الفنّان القديم في تلك الحضارات من إنجاز أعمالٍ بهذه الضّخامة.
وخلال حديثه، توّجّه د. الخزاعيّ إلى رصدِ الارتباط ما بين الفنون التّشكيليّة والدّيانات القديمة من خلال دور العبادة، متسائلاً عن العلاقة التي تجمع الأديان بالفنون، خصوصًا فنّ النّحت، مستدلّاً في ورقة عمله المطروحة بالكنائس في العصور القديمة والعصر الوسيط وعصر النّهضة التي كان لتشجيعها أبلغ الأثر في بروز الفنّانين وانتشار الفنّ التّشكيليّ بين أروقة وجدران الكنائس وسقوفها من خلال لوحاتٍ مستوحاةٍ من الكتاب المقدّس. ومن عصر الكنيسة إلى العصر الكلاسيكيّ وعصر النّهضة في أوروبا، أشار النّاقد الفنّيّ البحرينيّ إلى تطوّر فنون النّحت والتّصوير، التي كان الهدف منها تخليد الأباطرة والقادة والمشاهير من النّساء والرّجال. وقد بقيت تلك الأعمال شاهدًا على عظمة وبراعة وموهبة أولئك الفنّانين.
واستتبع ذلك بعبورٍ وملامسةٍ علميّة للفنون المتّصلة بجزيرة البحرين، استعرض في بدايتها ارتباط الفنون بحضارة دلمون التي ازدهرت في إقليم البحرين القديم والتي كانت البحرين الحاليّة حاضرة لها في الألفيّة الثّالثة قبل الميلاد، موضّحًا أنّ فنونها تمثّلت في تصميم وصناعة ما يُسمّى بالأختام الدّلمونيّة، وأردف: (هذه الأختام كانت تُستَخدم لتوثيق المعاملات وكعلاماتٍ تجاريّة وشخصيّة، لا بدّ أنّها كانت من إنتاج فنّانين وحِرَفيّين مَهَرة بإمكاننا أن نطلق عليهم تسمية الفنّانين القدماء). وتابع الخزاعيّ ملاحظاته الفنّيّة المرتبطة بتاريخها في البحرين، مشيرًا إلى أنّ الفترة التي سبقت ظهور الإسلام، كانت البحرين – كما الحال في الجزيرة العربيّة – تمارس نمطًا من الفنون التّشكيليّة تمثّل في صناعة التّماثيل أو الأصنام التي اتّخذها السّكّان أوثانًا يعبدونها، مؤكّدًا أنّ فنّ النّحت كان متطوّرًا في ذلك الوقت. أمّا المرحلة اللّاحقة فقد شهدت اندثار صناعة الأصنام، وذلك تبعًا لظهور الإسلام وتحريم عبادة الأصنام، وقال: (هكذا اختفت إحدى ظواهر الفنّ التّشكيليّ نتيحة إحجام النّحّاتين عن ممارسة هذا الفنّ).
نتيجةً لهذا التّحوّل في الدّيانة والذي نتجَ عنه تحوّلٌ موازٍ في الفنون، استطاعت البلاد الإسلاميّة أن تجد ضالّتها في فنّ الزّخرفة المعروف بالأرابيسك، والذي كان يتّخذ من الأشكلال الهندسيّة موتيفات زخرفيّة. وأشار الخزاعيّ إلى أنّه وبالرّغم من انغلاق الحضارة العربيّة على الفنون التّشكيليّة، إلّا أنّها انجذبت بالمقابل للفنون المعماريّة، وخصوصًا عمارة الجوامع والقصور، كما هو الحال بالنّسبة للمعمار المسيحيّ للكنائس والكاتدرائيّات. وأوضح أنّ الفرق يكمن في استخدام الزّخارف بدلاً من الأيقونات والتّماثيل والزّجاج المعشّق الجميل، والاستعاضة عن كلّ ذلك بالخطّ الجميل للآيات القرآنيّة التي زيّنت الجدران، مبيّنًا أنّ ذلك جعل من الخطّ العربيّ أداةً من أدوات الفنّانين التّشكيليّين، وأنّ تطوّر الخطّ العربيّ بحروفه الجميلة أوجدَ أجيالاً من الخطّاطين والنّاسخين في مختلف البلاد العربيّة.
وعن الفنّ التّشكيليّ بمفهومه الحديث، أكّد د. محمّد الخزاعيّ أنّ البحرين عرفته منذ فترةٍ تُقارب قرنًا من الزّمن، وذلك مع إدخال مادّة الرّسم والأشغال اليدويّة كإحدى النّشاطات الصّفّيّة في التّعليم النّظاميّ الحديث بالمملكة، مشيرًا إلى أنّ هذه المادّة كان لها الفضل في اكتشاف الكثير من المواهب من بين طلبة المدارس التي كانت تقيم المعارض الفنّيّة لأعمال الطّلّاب الموهوبين. وأوضح أنّ انتشار المدارس وجمعيّات الفنون التّشكيليّة وصالات العرض الخاصّة والعامّة ساهم في أن تكون الفنون التّشكيليّة رافدًا مهمًّا من روافد الثّقافة في البحرين. وبيّن أنّ العديد من الطّلّاب توجّهوا إلى التّعليم الجامعيّ والتّخصّص الفنّيّ، ممّا أثرى الحركة التّشكيليّة في البحرين، كما أنّ الجيل الأقدم لم يكن بمعزل عن تقنيّات المدارس الفنّيّة المختلفة، بل قام بتقليدها ليكون له موطئ قدم على السّاحة الفنّيّة.
وكشف النّاقد د. الخزاعيّ المشهد الفنّيّ البحرينيّ قائلاً أنّ البحرين تعيش ظاهرةً جديرةً بالاهتمام تتمثّل في كون هذا البلد العربيّ الصّغير يضمّ عددًا كبيرًا من الفنّانين التّشكيليّين بالنّسبة لعدد السّكّان. ومع تنوّع إبداعات الفنّانين التّشكيليّين منذ العقد الثّالث من القرن الماضي انتشرت ظاهرة المعارض الفنّيّة، مشيرًا أنّه لا يكاد أنّ يمرّ أسبوع إلّا وتشهد البحرين افتتاح معرضٍ لفنّانين مواطنين أو زائرين أو وافدين.
وفي ورقته العلميّة، أكّد الخزاعيّ أنّ فكرة الرّهانات والتّحدّيات أمام الفنّ التّشكيليّ العربيّ تتمثّل في الاعتراف بإنتاج الفنّانين العرب وعرضها في جاليريهات وصالات الفنون في العالم، وبناءً عليه فإنّ أحد التّحدّيات التي تواجه الفنّان العربيّ تتمثّل أساسًا في ظاهرة الانتشار عبر الآفاق العالميّة الرّحبة، والذي يتحقّق من خلال مشاركة الفنّانين في معارض عالميّة بشكلٍ منتظم وعبر اختراق صالات العرض الخاصّة من جهة أخرى. إلى جانب ذلك، طرح النّاقد البحرينيّ مسألة تسعير الأعمال الفنّيّة التي ترتبط أيضًا بانتشار الفنّ، وأشار إلى أنّ التّشبّه بالفنّانين العالميّين في طلب أسعارٍ عالية قد يكون عائقًا أمام انتشار الفنّ العربيّ على جميع الأصعدة. وفي مقارنةٍ بين فنّاني هذا العصر وفنّاني القرون الماضية، أوضح د. محمّد الخزاعيّ أنّ السّابقين لم يستطيعوا أن يجنوا أموالاً طائلة لأعمالهم، بل عاش الكثير منهم عيشة الكفاف والعوز، وأنّ ما نشاهده الآن من بيع أعمال في المزادات العالميّة تصل إلى عشرات الملايين من الدّولارات ناتجٌ عن عدّة أسباب لها علاقة بطبيعة إدارة تلك المزادات وتكالب بعض المتاحف العالميّة على اقتناء هذه الأعمال.
وفي ختام المشاركة، وجّه التّحيّة إلى القائمين على منتدى أصيلة الذي يشهم بدورٍ فعّال في نشر وترويج الفنّ العربيّ، وإتاحة الفرصة أمام الفنّانين العرب للاحتكاك بزملائهم من الأقطار الأجنبيّة من خلال معارض وورش الفنّ بموسم أصيلة.