ما إن أعلن عن وفاة الشاعر سميح القاسم حتى عادت إلى الواجهة كلماته حول تحديه الموت «أنا لا أحبك يا موت.. لكنني لا أخافك.. وأعلم أن سريرك جسمي.. وروحي لحافك.. وأعلم أني تضيق عليّ ضفافك»، وها هو يواجه الموت بشجاعة، فليس هناك شيء أصعب من الموت وحتمية لقائه القريب، ولكنه بدا قويا متماسكا تجاهه، موقنا أنه سيعيش أكثر مما توقع له الأطباء، فيصرّ على أن تسير الحياة بشكلها الطبيعيّ، وهذا ما يلاحظه القارئ للحوار الأخير الذي نشرته جريدة الأيام الفلسطينية على صفحتها الثقافية مع الشاعر بتاريخ: 2-9-2014، ولم يمنعه شبح الموت المترائي أمامه من أن يداعب حفيده ويحتفي به، فيلتقط له معه فيلما صغيرا يحتفظ به على جهازه المحمول!
لقد كان لهذا الموت الكبير للشاعر الكبير الأثر الأكبر في نفوس جمهور المثقفين العرب قاطبة، فقد كان فاجعة ثقافية كبرى، لاسيما وأن الشاعر سميح القاسم شاعر مختلف عن غيره في المواقف والرؤى والناحية الفنية، إنه صوت نفسه، وجرّب في شعره وأدبه كثيرا، ولعل أبرز علامة تركها الشاعر في شعرنا العربي المعاصر هو "سربياته" تلك القصائد/ النصوص الطويلة، التي يحتل كل نص منها مساحة ديوان كامل، على ما في تلك النصوص من تجريب في البناء الشعري الكلي والدراما والتشكيل اللغوي والبلاغي.
وعلى سبيل الشكل الفني للقصيدة العربية أيضا، فقد جرب القاسم كذلك القصيدة الومضة، وبث منها نصوصا كثيرة في دواوينه، ما شكل علامة أخرى مهمة في مسيرة الشاعر المقاوم ، ليس فقط للاحتلال وآلاته التعسفية، ولكنه مقاوم للجمود في الحياة الثقافية العربية، عدا أن قصائده تزخر بالإشارات المعرفية والثقافية التي تدل على وعي إنساني وثقافي متقدم، فقد نهل القاسم من مشارب فكرية وثقافية متعددة، ما أهله أن يكون شاعرا كبيرا وعميقا وقريبا للنفس والجمهور في ذات الوقت.
ولم يكن القاسم فقط شاعرا، ولكنه كان ناثرا أيضا، فقد ترك للمكتبة العربية مجموعة من الكتابات النثرية السردية من قصص وروايات ومسرحيات، ولعل أهمها كتابه "إلى الجحيم أيها الليلك" الذي يعده النقاد رواية!
لم يأت الموت فجأة، ولكنه احتفى بالشاعر عبر طقوس من الانتظار المتوقع لجمهور المثقفين والكتاب والمحبين، فلعل ركوده الأخير وتردي حالته منحت الكتاب لأن يعدوا له كلمات الرثاء؛ فتحدث كثير من الأدباء والمثقفين في هذا الغياب الفادح، فقد قالت الناقدة الفلسطينية «أماني أبو رحمة»: يمكنني القول إن خصوصية الراحل سميح القاسم تكمن في جملة قضايا، أهمها أن الشاعر فضّل البقاء في الأرض المحتلة ولم يغادرها حتى وافته المنية، وكانت كل قصيدة تصدر له أو كل مجموعة شعرية تذكر بأهلنا هناك.
ويقول الشاعر "سلطان القيسي" «بموت قاسم رحل آخر العمالقة الشاهدين على اغتصاب البلاد»، فهو صوت المقاومة والثورة الفلسطينية قائلًا: منذ أن كنتُ طفلاً تربيتُ على أغنية «منتصب القامة أمشي»... أسميه عملاقاً لأنه إنسان ذو جوهر كلما حككته فجر أنهارا من الحب والشعر والأخلاق.
واكتفى الكاتب الفلسطيني «يامي أحمد» راثيا القاسم بما رثى به صاحبه ورفيق دربه محمود درويش: “خذني معك” ونحن من بعد وزر موتك أين نذهب، سنقول مثلما تقول: خذنا معك، الموت لا يصطفى إلا من على القلب اصطفى الخيول ترحل، والقلوب تترحم، والسماء ما زالت تُمطر موتًا، وأينما حط الموت لا يختار إلا أنتم صفوة دروبنا".
ويرى الشاعر التونسي «منصف المزغني» أن سميح القاسم سيظل أعمق من الخطابة حتى في شعره وفي غنائيته العالية. لقد تفطّن سميح مبكرا إلى الدراما التي كان يبنيها في صمت، في ما أسماه «سربيّات» بعيدا عن النقد والغوغائية. ويبقى سميح القاسم في نظري شاعرا من العيار الكبير، وظاهرة إنسانية من ظواهر الحب في حياتنا الشعرية العربية، وابنا وفيا لم يكفّ يوما عن احتضان الأمل... وترويض الألم... وتدخين الحياة.
رحل الشاعر سميح القاسم وقد رفد المكتبة العربية والعالمية بمجموعة من المؤلفات الشعرية والنثرية، وبرحيله يكون قد اكتمل رحيل مثلث الشعر الفلسطيني الإنساني المقاوم ، الذي بدأ برحيل توفيق زياد ثم بدرويش، ليلحق بهم في عالم الخلود الشاعر سميح القاسم الذي سيتطاول عمره أبعد من خمس وسبعين سنة إلى ما شاء الله أن تطول الحياة، فالشعراء خالدون، وهل يموت الشعراء؟!
ومع كل فاجعة لموت أديب كبير من أدبائنا الكبار في كل البقعة العربية المترامية الوجع، يثور في نفسي السؤال "من سيملأ الفراغ أيها الشعراء؟" ويعوض تلك الخسائر الثقافية، فهل سيكون هناك سميح جديد أو درويش أو زيّاد؟ مع اليقين أنني لا أبحث عن تكرار الأصوات، ولكنني أتمنى أن أشهد ولادة شاعر كبير كهؤلاء، له سحره الخاص وصوته الخاص، وحضوره الذي سيملأ الدنيا ويشغل الناس!!