بدأت الشاعرة المغربية نشر قصائدها في مطلع التسعينات، وتقدم هنا مجموعة من قصائدها الجديدة التي تجرب فيها أكثر من شكل وأكثر من بنية شعرية.

قصائد

مسعودة بن بوبكر

 

1. عند حائط البراق    

حضرة الباطريارك صفرنيوس..

                   هل من نسخة طبق الأصل من " العُهدة العُمَرِيَّة "؟

                    الإمضاء:  نحن المـــازلنا 
مازالوا
ـ حيث امتطى طه النبي ظهر البراق
إلى موعد الربّ ـ يغتصبون ذاكرة الحائط
يؤرجحون نواياهم
في محارق الحقد العتيق
على جباه الحجارة
يغسلون ذيول خطاياهم
يودعون تجاويفها لفافات الأماني .. 
مازال الدّمع الكذوب على صمت الحجارة المهيب،
يحفر حروف الإدّعاء
تعقد الغربان ريشها نسيجا ... لتحجب الشّمس!
الغربان التي تمنسرتْ خارج سفر اليقين
أبِقَتْ عن أمّ الوصايا ... 
مازالوا هنا
طَرْفٌ يبكي ...
وطَرْفٌ ... على اتّساع المدى "هذا ممّا وُعِـدْنَــا "
قالوا ... ومازالوا
يجرّون ذيل السواد على أثر السّنابك
حيث المطيّة خبّت
فاشهدي يا ليلة الإسراء.. 
مازالو هناك يبكون...
ويصخون قسرا لترنيمة الملكوت تسجد للمصطفى ...
مازالت
ريح خطاه  تضوع إلى أجل مسطور
على شرفات المقام
على بيوت الصّلاة
على درب المسيح
مازالوا يحشون جوف الحجارة بالأمنيات.. 
ونحن المـازلنا
نجادل بني خيبر في وعدهم
مـازلنا
نراكم  جماجم موتانا
ونحصي ثقوب الرصاص على أجساد أطفالنا
مـازلنا
نُعِدُّ مواكب الشّهداء لسكنى التراب والذّاكرة
ونَعُدُّهُمْ... رقما جديدا لنشرات أنبائنا المسائية
مــازلنا
نطهّر جراحاتنا بجراح أخر
نقرع أجراس القيامة بين الضّلوع
نستنهض حسّنا الغافي ...
يا حسّنا الغافي!
يخلد  إلى نزهة في الأقاصي
بين حين وحين
يسجّل عبر "الميسنجرْ "
إرسالية احتجاج
وعبر الهواتف الرحّالة .
لأصحابها الذين انتجعـوا
بين المجالس المكيّفة على عهد بني خيْبر..
مازلنا
نجادل بني خيْبر في وعدها
ومازال الباكون ... عند حائط البراق ..
يدسّون بين شقوق الحجارة أماني العشيرة
ينفضون الأيادي من دماء المسيح 
مازالوا هنا ...
ومازلنا ...
ومازالت مجالسنا حول خوان السّلام
تبحث عن  "حـُنـِيــْنْ "
لتعيد إليه خفّيه واللعنة
لم يعثروا عن " حُنَيْــن ْ"
ولج التاريخ... حافي القلب..
ولأنّنا أهل أمانةٍ...
تلك الأمانة التي اسودّ من وزرها  وجه الغراب
حفظنا الخفّين و....اللعنةَ
وكنّا
إذا ما دعينا إلى مجلس للتّفاوض...
نمضي..نعود....
نمضي ...نعود
                 بخفّي حُنَيْنْ.

*  *  *  * 

2. نشيد للعائد

ظلّلي
يا شجرة اليقطين
العائد عبر اللج من بطن الحوت
ينفض عن جرحه ملح الوحشة
ظلّليه من وهج الدّرب الضّاربة في الغيب
تحترق فوق لظاها خطى نسله
تحفّ به أسماك القاع مودّعة
والشمس
متهيّبة تتخفّى خلف الغيمات
حباب الماء يرجّع صدى التسبيح
وتخرّ الرّيح
تجفّف أقدام المرتجف
تتهجّى ذاكرة الموج..نشيد وداع
يمشي
يستعيد وجه الكون
يا وزر التوبة!
يمشي يتهجّى فيض النّور
بين يقين ويقين.

*  *  *  * 

3. لا نجم هذي الليلة يدعونا إلى السّهر
يتعهّد السلوان  صداقات ذوتْ
لك أن تخزّن ـ يا قلب ـ أصفى عهودها
وفى الصّديق
أم لم يف!
لا عتب
في الأموات لا يجدي عتابْ
لا نجم هذي الليلة يدعونا إلى السّمر
ستمكثين يا شرفة الليل على ظمئ
لا عتب
إن تكبو بنا الأحلام
عند الفجر
يغشى عيونها ضوء اليقين! 
هذي التباريح لمن هذي المواجد أنكرتنا
كلّ هذا القحل في الأعماق المفرغة
يضع المفاتيح على أعتاب من؟
هذي أنا
ملاّح يدعوه الشّراع
يا هرج الأبواب
في قصر النهارات
حين همّ بي الرّحيل
لا صوت خلف سكونها
يجيب طرقا..  للوداع.

*  *  *  *

4.  فلنجترح ضلع الحقيقة
محمّلة أسفارنا بالخطايا
مجلّلة بالوزر
رايات الجهاد التي ترفع فوق السيوف
ضلّ الهتاف عن مداه
           فلنجترح ضلع الحقيقة!
هامت....
وهمنا....
بانت..
وبنّا..
حيثما بانت ثنايا
ما عادت تحيي موات القلوب معجزة
وألف ذبيح....
حَرَنَتْ بعزائمنا ـ كي نثأر من جلاّديهم ـ كلّ المطايا .

*  *  *  *

ما الذي أفزع بنات القمر 
دنون من نهود الأرض الرجراجة
تراشقن بالضّوء
ألقين على البحيرات أوشحة الفضّة
على ألق خطواتهن
استوت الفراولة وتوت البراري
طلع النّخيل وفاكهة الصّبوات
من فؤا د المحار
انفلق اللؤلؤ أعلنت مواسم الخصب في ملكوت المياه  
ما الذي أفزع بنات القمر
جئن كعادتهن
إذا ما انتشى البدر 

6. الوقوف على المسامير

سمّر عينيك بعيدا عنّا

                          عن مدن يكتب فيها موت الجيل

                          رأسي محنّي حتّى القاع

                          والعار كأدغال الغابة

                          وسقطتنا تدرج في شدق الغول"

                                               آمال الزهاوي 
 

تأملنا ـ هل يكفي ـ صراع خيوط الحرير تشدّها الريح في قسوة إلى أشجار الشّوك الكريهة وأبصرنا ـ ألا يكفي ـ بشاعة ما ترسل القنوات الإخبارية من هدر للدماء، للطمأنينة، للأمن،  للصبا،  لبراءة الطفولة.. للحقّ،  للعدل،  للبساطة وللرجاء في مآق الشيخوخة ... للنبض في أذرع الفتيان، للبذرة في جوف الطينة؟

أنصتنا ـ ألا يكفي ـ للآه...لصلاة الغائب ترفع  على امتداد النهارات.. للويل .. للدمار يئن من هوله؟

تابعنا ـ ألا يكفي ـ ما تيسّر من لقاءات عبر عواصم العالم... تابعنا تراكم القرارات. و اختلج ألف معنى حول جراح الروح. فلو رصّفنا من عميق الألم حجرا حجرا لشيّدنا خلف الكواكب كوكبا. ولو من الكلام بنينا الجسور لتجاوزت معابرها دارة القمر..

آه من الكدر.. من الوجع.. من القهر.. من العجز..

آه ممّا سمعنا.. وممّا رأينا ومما على دروب الجمر خبرنا.

آه من صخب الهتافات والاحتجاجات والمظاهرات ...كلّت القلوب التنديد والأجساد تصلب على الحجر والنّار !  

في حلقي الشوك... يخزني وأنا صامتة ويخزني وأنا أتكلّم.. فسحقا للصمت وليكن الكلام وخزا على وخز.. جرحا على جرح.

يموت الفرح دون ضجّة.. تتلاشى نشوة قصيرة تملّكتني إطرافة عين.. أعجب لمَ أنا على هذا القدر من السذاجة؟ إذ أتصوّر أنّ الدّمى المتحركة لا تعيش إلاّ في عيون الأطفال و خلف ستائر مسارح العرائس وأفلام الكرتون!

*  *  *  *

أنتظر...أنتظر.. مازلت أنتظر تصريحا قد يأتي وقد لا يأتي . تصريحا بأن أنهض وأغادر فقد سقط الظلام.. ولكني أصرّ على الانتظار... هي عادة حذقتها  جيناتنا الوراثية..فلا حول لي ولا قوّة.
قد أهذي أحيانا وأنا في حمّى الانتظار.. انتظار حدث ما...  كيف لا ادخل في حالة هذيان والشنفرى يعدّون له مقصلة ! وعنترة العبسي على مدارج الوداع الأخير! ودموع الخنساء بلّلت وسائد التاريخ!  فقرّر "حماته " أن يحرقوا الوسائد القديمة وأن يستبدلوها بوسائد من حرير صناعي... ستصطفّ فراخ المداجن البشرية بزيّ موحّد  لتشيّع طرفة بن العبد إلى مثواه الأخير فنرتاح ونستريح " من حقّنا أن ننعم براحة البال " هذا ما يطالب به المسؤولون عن فراخ المداجن.
ما زلت أصرّ على الهذيان.. المحرار أطلق زئبقه وأنا مازلت أصرّ على الهذيان.. 
فواجع النكسات يئست من الإقامة المطوّلة  في مساحات التأثّر.. نفوسنا باتت مساحات ملساء تسمح بانزلاق سريع.
صوت يحاول أن يعلو في الضجة العامة العارمة.. صوت يلعلع من بركان الشعر الخامد: " لا تصالح ولو توجوك الذّهب"(*) المصالحة  بروتكول هام يقدّم في مقبّلات أطباق التفاوض.. فاصمت أيّها الشاعر.... أي هذيان!
أيتها الأحلام المسجاة على وسادة اليقين عليك أن تغيّري فنجان القهوة...  وكلّ طقوس الصباح وطقوس العصر وما بعد المغرب.. هو ذا الوقت الجديد.. وللزمن جدّة .. ولكلّ زمن دجا...عفوا رجال.
حدّثني البحر عن  زمننا هذا  قائلا: ستصبح دنياكم بطعم واحد مثل مياهي التي تصطخب في العمق وتزبد عند الشواطئ.
قلت  " فإمّا أن  نقبل أو... نشرب من مياهك!"
ضحك الموج.
ضحكت الريح...
ضحك الفلك السّابح..
ضحكت منارات المواني وحجارة المرافئ وذؤابات المدن البعيدة ضحكت جبال الصلصال والرصاص..
" قهر الأيّام " أوّل عبارة منذورة في المشاريع القادمة للمحو.
" الشجن" محطّة كانت رحيمة تنتجع النفس على ضفافها لتغتسل من أدرانها... بذخ لم يعد مسموح به..
فماذا عن الهذيان؟ 
ــــــــــــــــ
(*) من قصيد لأمل دنقل.