يعد الأدب بؤرة التسجيل الفني لخبرات الإنسان في حياته اليومية، وحركة الجماعات التي تسعى لحماية الفرد بلا عقد مبرم. أي أن الأدب و"الرواية في القلب منه" مسئول عن تسجيل التاريخ وصناعته على الوجه الآخر.
رؤية نقدية
إذا كان المدخل النقدي للأعمال الإبداعية في إطار مدرسة دراسة النص في ذاته دون النظر إلى البعد الاجتماعي أو التاريخي (مثل منهج المدرسة الشكلانية الروسية)، فان المدرسة الأخرى هي ضرورة النظر إلى البعد التاريخي والاجتماعي (مثل منهج ماركس أو المداخل الاجتماعية لدراسة الأدب).
ربما يعد لوكاتش من أهم رواد المدرسة الثانية، حيث يرى أن الفن انعكاسا للواقع، ومعبراً عن صراعاته بوسائل محسوسة، والبحث عن الجوهر في الجزيئات البسيطة، وهي تقريباً توجهات جولدمان وهو ما تبدى في كتابه "علم اجتماع الرواية" حيث أبرز فكرة أن تطور الرواية ارتبط بتطور المجتمعات.
وعلى العكس كان أصحاب المدرسة التي عنيت بالنص في ذاته، وأن النص مغلق على نفسه.
وكان المنهج الثالث، فكانت نظريات باختين وتيودور، أدورنو.. وقد حاولوا جميعا المزج بين تطور الشكل اللغوي والتطور الاجتماعي، أو بين دراسة الشكل والدراسات الاجتماعية على اختلافها.
فقد اهتم أدورنو ألا ينحصر النص في معنى واحد يحمل أيديولوجية معينة، بل يؤكد أن بنية النص الأدبي تنفي عنه أي قالب أيديولوجي. وينبع حرصه على نفي الأيديولوجية عن النصوص الأدبية من تخوفه من ضياع الحرية الفردية واستسلام الفرد للأيديولوجيات التي توظف الفرد والنصوص لخدمة أغراضها.
أما باختين فيفسر الصراع بين القضايا والقوى الإجتماعية بأنه صراع لغوي، تعكس وجهات نظر مختلفة. ومن هنا كانت نظريته في التعدد الصوتي داخل النص التي هي بسبب "الكرنفال" المعاش في الحياة والنص.
إلا أنه في الثمانينيات من القرن الميلادي الماضي، ظهرت مناهج أدبية جديدة تدعو إلى الاستفادة من كل المداخل السابقة (لغوية، اجتماعية، جمالية، فلسفية). كلها من أجل كتابة التاريخ الأدبي. ويؤكد زيما أحد الرواد مؤخراً والمؤيد للمنهج الأخير المشار إليه أن التفاعل بين المناهج الأدبية المختلفة أساسي، لأن الموضوعية لا يمكن الوصول إليها إلا "عن طريق الحوار"، وهو الحوار بين الخطابات المختلفة لكل نظرية أو أيديولوجية، على ألا يطغى أحدهما على الآخر.
الرواية والحرية
يبدو مما سبق أن النقد عثر على ضالته، حتى أننا الآن يمكننا القول بأن "الرواية" كفن نثري وثري معبر عن الفرد والجماعة (لكونها رواية)، إلا أن الواقع المعيش يطرح العديد من الأسئلة حول علاقة الرواية بالحرية التي هي أساسية في مفهومها العام (أي الحرية)، خصوصا ونحن نطرح السؤال حول: علاقة الرواية بالتجربة الحربية مستقبلا؟ وكذا ما مستقبل التجربة الحربية بعد كل المنجزات العلمية الجديدة، والطرح الفكري الذي برز وشاع مع مصطلحات بدايات القرن الواحد والعشرين: "ما بعد الحضارة" وقد طرح مصطلح "الإبادة" كمصطلح علمي/ سياسي قابل للتداول والمناقشة وكذا مصطلح "ما بعد الصهيونية" وقد نجح به الفكر الآخر بالالتفاف على قضية "العنصرية والتعصب والعدوانية" التي كثيرا ما رددها العربي!
الإبداع مصطلح أثير ومثير معا. أثير لأنه يحلو لكل إنسان فردا وجماعة، أن ينسبه لنفسه، دلالة على تميزه، على العكس من التقليد والمحاكاة، لأنها تلغى الذات.
والإبداع مثير، لما ينطوي عليه من احتمالات أن يكون الإبداع في اتجاه الهبوط والاستسلام أو في اتجاه الصعود والمقاومة بالتالي.
ويثار التساؤل حول علاقة السلطة (أي سلطة أو هيمنة) بالحرية، منذ أن كانت دعوة الإنسان في الغرب تدعو إلى التحرر من قبضة الكنيسة هناك. وارتبطت فكرة الوعي بالمصير عند كل المفكرين فيما بعد. إن الوعي بالمصير يجعل الإنسان/ المبدع يطمح لتحقيق ما قد يبدو مستحيلا ولامعقولا.
إذن ربط محور "الحرية والإبداع" ربطا محكما بين الحرية والإبداع، يبدو بديهيا، مع التركيز على أن الحرية فعلا وليست موقفا عقليا. وتبدو الحرية شرطا أوليا للإبداع، ويكون الإبداع بدوره شرطا لكي تصبح أفعالنا حرة. وأن الحرية ليست مجرد فكرة أو مبدأ، بل قوة مؤثرة، وتجاوز أية سلطة كانت (ومنها سلطة الغازي، المحتل، قوة الهيمنة)، والتي قد تتخفى داخل سلطة الفن نفسه أو الدين أو اللغة والثقافة، فالحرية ليست ظاهرة أو واقعة أو حالة، بل هي فعل. بهذا تشترك مع الإبداع في كونه فعلا ينتقل من الإمكانية إلى الوجود. وإذا كان الإبداع فعلا للتحرر، فهو يعبر عن نفسه من خلال صراع المبدع وذاته وأدواته فهو جوهر الحرية.
والحرية شرط أولى للإبداع، كما أن الإبداع شرطا لكي تصبح أفعالنا ذات طابع حر. كما يتناول الفكر المعاصر قضية "الحرية" من خلال التاريخ، فالتاريخ يجسد أفعال الإنسانية في سعيها نحو التحقق، وان بدت الحرية السياسة أكثر أشكال الحرية شيوعا. وهو ما يبرر الصراع بين الجماعات والدول.
نموذج تأثير التجربة الحربية
ربما من المناسب الآن النظر إلى نموذج (وان كان غير عربي) لمتابعة العلاقة بين الآداب والفنون والتجربة الحربية، لتكن إلى الأدب الألماني. فالفترة حتى عام1500م، حيث كان الشعر الغزلي العفيف في البداية، وقد تحول إلى أغاني شعبية يسخر منها العامة في النهاية (حيث كانت عودة جنود الحملات الصليبية) والبحث عن المجون، مع رواج الأدب الديني والصوفي. إلا أن هذه العودة ارتبطت أيضا بملاحم البطولة والروايات الحربية مع مولد أول ملحمة المانية (ملحمة هيلد براند).
أما وقد بدأت مرحلة التحولات الكبرى، والاكتشافات الجغرافية (والصراع مع الآخر الغامض والمجهول، وقد بدت ذروة ذاك الصراع على الأرض الأميركية أو العالم الجديد حيث كانت الإبادة لجنس بشري أبيد عن آخره)، ومهد للعصر الحديث، خصوصاً اكتشاف الطباعة. فكانت النزعة الإنسانية، وترجمة الكتاب المقدس إلى الألمانية، بل لشخصية "فوست" التي أبدعها جوته معبراً عن روح العصر كله. وإن راج الفن الشعبي الساخر، وظهرت شخصية "جحا الألمانية".
مع عصر الباروك ومشارف القرن السابع عشر كانت الفخامة والزخرفة هي السمة المميزة للحياة عامة، بما فيها الأسلوب الشعري والقصصي، فضلا عن العمارة والموسيقى. حتى كانت السوناتة الموسيقية في مقابل القصائد الشعرية المكثفة، ثم الشعر الحسي مع الشعر الديني جنبا إلى جنب (حيث كان الصراع والتجربة الحربية داخليا بين الإقطاعيات الكبيرة).
مع إطلالة القرن الثامن عشر انعكست طموحات التجديد بفضل الحركة البروتستانتية الدينية (والصراع الديني للمذهب الجديد في تلك الفترة)، فكان الشعر الذي يمجد الحياة والحب، وترجمات من التراث المختلف مثل "ألف ليلة وليلة" وشكسبير، وظهور فن اليوميات مع مفهوم الاعتراف.
ثم كانت إطلالة "التنوير" حيث "كانت" في الفلسفة وغيره، وانعكاس ذلك على التناول الشعري والأدبي. كما ظهرت الصحف والمجلات ثم القواميس كملمح لنشر الفكر التنويري والثقافة. وإن بقى المسرح متأثرا بالفهم المسرحي الفرنسي، إلا أنه صنع المسرح الألماني الخاص به فيما بعد معبرا عن الطبقة المتوسطة الجديدة. وقد راجت الرواية التعليمية في تلك الفترة.
وقد ظهرت جماعة أدبية "العاصفة والدفع" هدفت إلى نزعة في التجديد الأدبي والفنى، حيث أعلنت أنها تخلصت من كل القيود التقليدية بالتوجه إلى فن الشعب ولغته، والتخلص من تأثير النموذج الفرنسي في الأدب والفن. وقد راجت فنون المسرح والرواية والشعر خلال تلك الفترة .
مع النصف الآخر من القرن الثامن عشر كانت عمالقة الفن والأدب، حيث بزغت شمس العصر الكلاسيكي (جوته، شيلر). فكانت الأسس التربوية للفن، الاعتدال في العقلانية، الوحدة العضوية بين الفن والطبيعة، بروز القيم الإنسانية العليا، وحدة الكل والتجانس .. الخ.
كما بدت بشائر الرومانسية التي امتزجت مع التراث والأدب الشعبي.
ثم رسخت الرومانسية وحلقت بطيور الخيال والعاطفة إلى آفاق جديدة. وتجمع الشعراء والأدباء حول الفيلسوف المثالي فيشته.
أما مع أفول الرومانسية توجهت الأقلام الثقافية إلى التراث الشعبي، مع إعادة صياغته، وهو ما جعل أدب الطفل محورا من محاور اهتمام المثقف الألماني، بدون إدعاء أوافتعال الحركة نحو موجة جديدة، كما وضح تأثير الف ليلة وليلة العربية والهندية.
خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، راجت مفاهيم الإرتباط الأسرى، والامتزاج بالطبيعة والدعوة إلى الهدوء والاستقرار. وإن بدا المسرح خاليا من الأنشطة. وقد راجت الواقعية في الكتابة والفن بعد (الأحداث الدامية وفشل الثورة الألمانية في عام 1848م).
فكان الشعر النقدي، مع الروايات التاريخية (نظرا للتأثر بأحداث الثورة الفرنسية والبولندية). فكانت الرواية النقدية، وان توارى الشعر السياسي بعد فشل ثورتهم.
وعندما انتهى القرن التاسع عشر، يكون العلم قد قال كلمته! مع سيطرة النزعة الوضعية حتى على العلوم الإنسانية. وان بدت مساحة واسعة للفلسفة والتعامل الفكري مع الواقع الجديد. ومع ذلك بدأت النزعة التشاؤمية عند الفلاسفة في نهاية القرن على يد شوبنهور ونيتشه.
وانطلقت النزعة التعبيرية على أطلال الطبيعية في الفن والأدب، ربما بسبب غلبة نزعة التشاؤم. وكان القرن العشرين (بكل ما يحمل من أحداث ومخاطر) حيث ربما كل عقد فيه له ملامحه وانعكاساته على الفن والدب بل والثقافة الألمانية.
ربما يمكن الإشارة السريعة إلى بعضها: ارتفاع صيحات التحذير من التحلل والانهيار وفساد الأخلاق، بروز التجربة الداخلية في الأعمال الفنية، الدعوة إلى الثورة على التقدم التكنولوجي الذي يهدد العالم بالفناء، فواجع الحرب على الفنون، تقدم العلم الطبيعي بعد الحرب العالمية الأولى، سقوط التعبيرية ورواج التحليل النفسي في الرواية وغيرها، التعبير عن ضياع الإنسان وخصوصا بعد ترجمة أعمال كافكا، فرار بعض الأدباء بسبب النازية، الكتابة المقاومة في مقابل النازي المستبد لأدباء المانيا في الخارج، توقف بعض الأدباء في الداخل، هزيمة المانيا والانتقام من النظام النازي المهزوم بالعديد من المسرحيات والروايات والأشعار، تزايد الاهتمام بالهم اليومي في الشعر، ظهور الرواية الوثائقية، الاهتمام بالأدب التسجيلي، الاهتمام بالأدب النسائي، مع الثمانينات زاد التخوف من (الحرب النووية) وعبر المسرح والقص عن ذلك، الشعر عبر عن الغربة والتشتت الذي يشعر به الألماني. ثم كانت الآداب والفنون في المانيا الشرقية وحتى التوحيد وكلها تعبيرا عن التماثل التقليدي بلا انفعال وحيوية.
ما سبق محاولة لاستشراف حال الرواية في علاقاتها المتشابكة مع أدواتها ومع الكاتب في إطار من مؤثرات عامة وخصوصا "الحرية" و"التجربة الحربية"، وكليهما يكادا لا ينفصلان عملياً.
مستجدات التجربة الحربية
والآن ماذا عن علاقات "التجربة الحربية" في إطار مفاهيمها، وتأثير المستجدات عليها (العلمية والأيديولوجية وخلافه)؟
كان القتال قديما من أجل المجد الإلهي، ويعتبر ميكافيللى في كتابه "الأمير" أول من ميز بين "المصالح" والاختلافات العامة والخاصة، فقال بالحرب العادلة التي هيمنت على المصطلح السياسي الغربي، وربما حتى الآن. (أما الحرب العادلة فهي تلك التي تشتعل لأي سبب بعد اتخاذ قرارها بمعرفة أصحاب القرار، ولأية أسباب كانت). كما يلاحظ المتابع أن فكرة "الحرب الشاملة" أو العالمية ربما أصبحت تاريخا، فالنزعة الإنسانية الآن ترفضها بالإضافة إلى عوامل أخرى كثيرة. فقد ضعف احتمال اشتعالها أثناء فترة الحرب الباردة بين أكبر قوتين في العالم (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي)، وأيضا مع أية قوة عسكرية أخرى، وربما من أسباب ذلك ما شاهدته البشرية من آثار التدمير الخرافي للقنابل النووية، والتجربة أكدت عدم احتمالها في وقت الصراعات المحدودة في مناطق مختلفة من العالم، فلم تنفذ أية قوة تفجيرا نوويا.
إلا أنه على الجانب الآخر لا يمكن التأكيد على استحالته وان قلنا بعدم حتميته، فقد أنتجت الآن "القنابل الذرية المحدودة والتي قد تصل قوتها إلى نسبة واحد إلى ثلاثين من قوة تلك التي فجرت على هيروشيما باليابان. وأيضا يوجد ما نشر حول احتمال استخدامها (أي القنبلة الذرية) حسبما أعلن من أن إسرائيل أخرجت قنبلتين ذريتين استعدادا لاستخدامهما في حالة الهزيمة النهائية لها أثناء معارك حرب أكتوبر73.
في الثمانينيات من القرن العشرين أعلن للمرة الأولى عن مصطلح "ما بعد الحضارة"، وهو الذي يروج لفكرة "أن الإنسان الجديد، إنسان ما بعد الحضارة مع بدايات القرن الواحد والعشرين، هو واحد من ثلاثة: إنسان السيلينيوم وهو الإنسان الآلي، أو الإنسان الكربوني وهو المعدل جينيا، ثم الإنسان الطبيعي الذي بلا عاطفة. وفى ضوء هذا الفهم الجديد للإنسان، طرحت فكرة "الإبادة" كعملية محتملة لفض المنازعات وكف الصراع بين الدول.
بالتالي فالشكل المتوقع للتجربة الحربية خلال النصف الأول من القرين الجديد (على الأقل)، هو ما تم بالفعل على الأرض العراقية في العشرين من مارس وحتى التاسع من إبريل عام2003م. ربما يمكن إيجاز شكل الصراع: حرب تقليدية (اسما، فقد استخدمت قنابل مسماة أم القنابل ولها قوة تدميرية هائلة، وعدد محدود منها لا يصل إلى المائة قنبلة يكون له أثر القنبلة الذرية التي استخدمت في اليابان) –تتسم عمليات تلك الحرب بالسرعة في تحقيق الهدف التدميرى (وبأكبر قوة نيران ممكن وبكل الأسلحة المتاحة من طيران وصواريخ أساسا)– سيناريو قابل للتحقيق يتسم بالليونة وحرية الحركة والتعديل من أجل تحقيق الهدف (بأي وسيلة وبكل المتاح الممكن) –وضع فكرة "الإبادة" محل التنفيذ إذا اقتضى الأمر (خصوصا أنه تم إنتاج قنابل ذرية محدودة يمكن استخدامها لتدمير المدن الكبيرة فقط دون بقية لمدن!)- تجاوز السلطات الشرعية الدولية موضع التطبيق العملي (وكأن التاريخ البشرى بكل معارفه وخبراته وثقافاته لم يضف جديدا أو حتى تعديلا يذكر على هوية المغول في القرون الوسطى). ذلك كله في إطار خط حربي آخر وموازي للحرب المشتعلة "هي الحرب الإعلامية" (مع الاستفادة بكل المنجزات التكنولوجية في مجال الاتصالات والإعلام بالتالي).
لم تكتمل الصورة بعد، فعلى الطرف الآخر سوف تقل هيمنة "الدولة" وتصل إلى حد التلاشي، وتقل هيبة المؤسسات الدولية. وتبرز فكرة الشك في وجود كيانات متكافئة تتحارب (تدريجيا) أي دولة في مواجهة أخرى، وسوف تحل الأشكال الإدارية على هيئة "كيانات" من وحدات عقائدية أو عرقية أو غير ذلك (نظر لضعضعة أحوال الدول) وبروز الانتماءات الخاصة.
ولأن الحروب والتجارب الحربية من أكثر الأنشطة الإنسانية التي يقلد فيها البشر بعضهم البعض، لن تختفي! وربما تصبح على شكل مجموعات (كبيرة أو صغيرة) أشبه بالمجموعات الإرهابية الآن.
وهذا النمط الجديد والمتوقع سيجعل تنفيذ المعارك وادارة الحروب في يد أفراد انفعالية غير حكيمة وغير محنكة، وقد تكون أكثر شراسة وقسوة من قيادات الدول المتهورين! (تشير كتب الدراسات العسكرية أن قيادة الجيوش وادارة الحروب كانت من مهام الملوك وحدهم، وقد تنتهي المعركة بهزيمة الجيوش بموت القائد/ الملك وحده، واستمر الحال إلى قرون قريبة، إلا باستثناء نابليون الذي قاد جيشه بنفسه. ثم أصبحت القيادة اعتبارا من القرن ال16 في يد أهل الثقة التي يختارها الملك من ذوى الخبرة العسكرية. فيما ستصبح القيادات المتوقعة على الطرف الآخر، من هؤلاء القائمين على شئون تلك الكيانات الغامضة –بعد تحلل الدولة- أكثر خطورة وأقل إدراكا للمسئولية، فقط يملكون الرغبة والطموح لإنجاز عمليات عسكرية ما!
نماذج تجريبية للتأمل
المتابع للتجربة الفيتنامية وجنوب لبنان العربية، يلحظ أن استخدام القنبلة الذرية غير وارد، حتى من تلك الأنواع الصغيرة المحدودة. وأن الحرب التقليدية مازالت محل نظر، ولها توظيفها على الرغم من كل التطورات التكنولوجية. ومع ذلك فالتوجه الغالب هو توظيف لون آخر من الحروب لا يقل تأثيراً وفتكاً الحرب الاقتصادية، أو حرب المخدرات وكل ما من شأنه زعزعة ركائز تلك المناطق (حرب بيولوجية، كاستخدام الميكروبات الممرضة والغامضة للكائنات الحية، أو حتى بنشر الفئران بصورة مؤثرة على اقتصاديات الطرف الآخر).
لم يعد الهدف من الحروب هو القضاء على العدو قضاء مبرما كما كان قديما، أصبحت "الهيمنة" هي البديل العملي، والذي يمكن أن يحقق أهداف المعارك، ويقوم عن المحتل طرف آخر، ربما تثق فيه الشعوب المحتلة أكثر.
ربما يلزم الإشارة إلى تحقيق "المصالح" هو الهدف وراء كل الحروب قديما وحديثا، وان وجدت بعض الأسباب الأخرى، إلا أنها أقل أهمية حتى تكاد تتضاءل حديثا لتنفرد "المصالح" على قمة أسباب الحروب.
وفى المستقبل ستصبح "المصالح" هي السبب الوحيد، وهو ما تنبأ به هيجل حيث قال:
"الحرب هي الوسيلة الأساسية لترقى دولة ما على أخرى باستغلال ممتلكاتها وبناء هياكلها الداخلية".
نظرة مستقبلية
ربما يجب التوقف قليلا أمام القوة الأحادية في العالم الآن لمتابعة السؤال عما ستكون عليه الصورة مستقبلا كيف ستكون "التجربة الحربية"؟ "وكيف ستعبر الرواية عنها؟".
يقول بول كنيدي الأمريكي في كتابه "صعود وهبوط القوى العظمى" أن المجتمع في الولايات المتحدة الأمريكية تغلبه "البيكلوجية" حيث السمة العامة (كل واشرب وامرح)، وأن المجتمع تغلبه ثلاث محاور: الاستثمار، الاستهلاك، وإنتاج السلاح.
وبمقارنة الولايات المتحدة الأمريكية سواء بالاتحاد السوفيتي القديم (الذي كان ينفق على التسليح 17 أو18%) بينما الأمريكان ينفقون 7%، كما أن الولايات المتحدة تتمتع بثلاثة أبعاد هامة وهى الإنجاز التكنولوجي، والتحالف الدبلوماسي، جاذبية أيديولوجية، في مقابل الاتحاد السوفيتي الذي يملك بعدا واحدا.
مع ذلك فالولايات المتحدة الأمريكية تتراجع على المستوى الاقتصادي مقارنة باليابان وأوروبا، ومع غلبة الروح الاستهلاكية. وفى المقابل لها دورا قياديا في العالم، وأن التحدي ليس من اليابان بل من أوروبا.
إجمالا يمكن إبراز المتغيرات التالية والتي لها تأثيرها على مستقبلية الأحداث: سقوط الحرب الباردة -سقوط الحروب بين الدول المتقدمة– إنتهاء تاريخ بشرى أيديولوجي انتصرت فيه الليبرالية الديمقراطية الغربية.
وقد علق المفكر "فوكوياما" على تلك المتغيرات قائلا:" إن انتصار الليبرالية الديمقراطية الغربية لا يدعو للابتهاج، لأن الزمن المقبل يدعو للملل، وهو زمن حزين لأن الصراع من أجل إثبات الذات، واستعداد المرء للمخاطرة بحياته من أجل هدف مجرد، والصراع الأيديولوجي العالمي يدعو إلى الجسارة كالاقدام ويثير الخيال والمثالية. ربما تحل محله الحسابات الاقتصادية ومحاولات حل المعضلات التكتيكية والاهتمام بشئون البيئة والرضا بإشباع الحاجات الاستهلاكية، وبذا يولد عصر جديد (عصر ما بعد التاريخ) الذي هو بلا فن ولا فلسفة.
"ما بعد الصهيونية" خلال العقد الأخير من القرن الماضي، وتحت شعار "السلام" الذي راج في تلك الفترة، نجحت إسرائيل في تحقيق ثلاثة منجزات هامة وخطيرة، ويلزم التوقف أمامها. فقد نجحت في جعل الجمعية العمومية للأمم المتحدة تصدر قراراً بأن "الصهيونية" ليست حركة عنصرية. ثم احتفلت منظمة "اليونسكو" التابعة للأمم المتحدة أيضا بمرور مائة عام على انعقاد مؤتمر "بال" بسويسرا، والذي تقرر فيه إنشاء وطن قومي لليهود. وأخيرا افتتاح جامعة "عبرية" تدرس فيها العلوم المختلفة وباللغة العبرية، حيث أن العلوم تعد يهودية/ عبرية طالما كان المخترع أو المكتشف أو العالم يهوديا (أيشتين مثلا ونظرية النسبية)!
المفاجأة أن خرجت علينا في السنوات الأخير بمصطلح جد خطير، ألا وهو "ما بعد الصهيونية". خصوصاً إذا أضفنا إليه مصطلح "ما بعد الحضارة". فكليهما يتم تطبيقهما على الأرض سواء وعى الناس بها أم ذابوا في همومهم الذاتية الضيقة.
بتلك المقولة تدعى إسرائيل أنها تجاوزت مرحلة سابقة، وعلى التاريخ أن ينساها، وهى مرحلة إنشاء وطن قومي لليهود، ثم بناء دولة عصرية، مع كالتابع تلك المرحلة من سلبيات وضحت لحقوق العرب، خصوصا عرب فلسطين. وهو بالضبط ما عبر عنه أحد مفكريهم بأنه يأسف لكل ما حدث لكن ما حدث قد حدث!
والمصطلح يعنى "الحركة القومية للشعب اليهودي" (وهو التعريف الذي قدمه جلال الدين عزالدين علي، مجلة العربي، العدد530/ يناير 2003م). ومع ذلك فالجميع يعلم أن اليهودية ديانة سماوية يعترف بها المسلم، وليست قومية تربط بين شتات اليهود في العالم كله.
نجح الفكر الصهيوني في تقديم البديل الفكري لمشاكل إسرائيل الداخلية والتناقضات بين يهود الداخل (بإسرائيل) على إختلاف جنسياتهم وتوجهاتهم، بل ومذاهبهم الدينية، وبين يهود الداخل والخارج (حيث أن نسبة يهود إسرائيل تمثل 35% من جملة يهود العالم).
بينما فترة "الحداثة" تبنت الفكر المحدد للاشتراكية والرأسمالية، تتبنى فترة "ما بعد الحداثة" أفكار غائمة ومفاهيم أكثر غموضا مثل :"حقوق الإنسان"، "محاربة الإرهاب"، "الديمقراطية الليبرالية" وغيرها. وبذلك تتجاوز إسرائيل (حسب ظنها) كل ما كان من سلب ونهب لحقوق عرب فلسطين، بطي صفحة من التاريخ وفتح أخرى يفرضون فيها أفكارهم وحدهم.
إن الواقع المعاش اليومي للشعب الفلسطيني يجعل المتابع على حذر من كل المقولات المطروحة، وان بدت براقة وملفتة. كيف تتقابل مع التوسع اللاأخلاقي الذي يتابعه الجميع؟ وإن كانت من إجابة واستنتاج، فالتجربة الحربية مازالت هي المحور الأساسي الذي يشكل الأدب العبري، فضلا عن تشكيله لكل مناحي الحياة هناك. مازالت الحقيقة:
"أن التجربة الحربية هي أساس ومدخل أية دراسة لحركة المجتمع الإسرائيلي".
ترى هل ستعبر الرواية عن التجربة الحربية المتوقعة؟
يمكن النظر إلى تصنيف القص في التجربة الحربية على عدة أسس (تفصيليا بكتاب الحرب: الفكرة-التجربة-الإبداع) للسيد نجم منها بالنظر إلى الكاتب، حيث الكاتب المشارك في التجربة على أرض المعركة، ثم المراسل الحربي الذي يعايش الحياة العسكرية والمدنية، ثم المدني الذي يعيش في المدينة أو القرية إلا أنه على تأثير وتأثر بأجداث جبهة القتال.
كما يمكن النظر إلى تلك الأعمال الإبداعية بالنظر إلى زمن كتابة العمل الأدبي أثناء أو بعد المعارك (والرواية تحديدا في حاجة إلى فترات أطول لتمثل الواقع المعاش).
أما بخصوص التجربة، فالحرب المستقبلية تتسم بسرعة الإيقاع، التدمير، وإن بدت باستخدام أسلحة تقليدية إلا أنها شديدة الضراوة، مع تحقيق الهيمنة وعدم ضرورة بقاء القوات المنتصرة على صور الاستعمار القديم. كل ذلك في ضوء الحرب الإعلامية التي لا تقل أهمية وضرورة. وكل ما سبق في إطار البعد الأيديولوجي الجديد "ما بعد الحضارة" الذي يضع "الإبادة ضمن مقولاته المباحة.
ولا يمكن إغفال اتفاق القوى الكبرى على عدم محاربة بعضهم البعض، مع شبه استحالة الحرب النووية! (لا تبقى إلا الدول الصغيرة أوالفقيرة أو لعلها بقية دول العالم قاطبة بعد مجموعة السبع الصناعية الكبار أو تلك التي بلا مجموعة تنتمي إليها (مثل مجموعة الدول الأوروبي). ولعلنا في النهاية ربما نحتاج إلى متخصص سياسي يصف لنا تلك الدول المعنية والتي منها حتما مجموعة الدول العربية؟!).
والآن، هل يصلح هذا التصنيف مع معطيات التجربة الحربية الجديدة؟
جنس الرواية باقي مثل بقاء الحرب التقليدية على الرغم من التقدم التكنولوجي الهائل، وعلاقتها بالحرية أساسي وجذري، والحرية معززة للرواية في كل الأحوال، في حالة توافرها أو البحث عنها (الحرية).
إلا أن كتابة الرواية أثناء المعارك، يكاد يعد من غير المتوقع، كما أن كتابة الرواية بعد الحرب لن يكون إلا بعد فترات طويلة، كي تعبر عن واقع الحال، وإلا أصبح الغموض والترميز الغائم هو السمة الغالبة. قد تكون لبعض الموضوعات الغلبة، كالبكائيات والبحث في الرموز التاريخية ولتراثية، مع التسجيل غير الفني.
كما سيختفي الكاتب الروائي أثناء المعارك، أما بعدها فقد يقل الإنتاج الروائي لقلة كتابها، وان لم يختف الروائي المعبر عن الروح الوثابة المتطلعة لغد أفضل لكن بعدد محدود.
وعلى الجانب الآخر (للمنتصر) لن يعدم روائي منتفخ الأوداج يمجد الإنتصار والمجد الوليد.
في النهاية قد تكون الرواية الوثائقية هي أهم الأشكال المتوقعة.