يرى الباحث أن "الربيع العربي" دفع الغرب للتكالب على المنطقة تكريساً لمصالحه. ويشير لحربائية التطرف واستنساخه، الأمر الذي دفع القوى الدولية للإعتراف بخطره الفرانكنشتايني. ويخلص إلى أن زوال التطرف، ليس محض إجراء أمني، بل قضية إصلاح مجتمعي شامل.

يا للعبث! حرب على الإرهاب مرة أخرى؟

سعيد بوخليط

أكد الرئيس فرانسوا هولاند، بأن العالم صار أكثر سوءا مقارنة مع 11شتنبر2001 .. لقد اتسعت قاعدة الإرهاب، بشكل مقرف، بحيث لم يعد مجرد قضية مناسباتية، تظنها كل دولة بأنها في منأى عنها، لايمكنها لمس غير مناطق نائية جداً، بل تحول إلى وليمة يومية، فاكهتها قطع الرؤوس، يقتات عليها الجميع.

إذن، بعد أن شن المنتظم الدولي حربا كونية طارئة، شاملة من الناحية الأمنية فقط بزعامة واشنطن، على تنظيم القاعدة والسعي إلى تصفية رموزه القيادية، تمكن الأخير مع ذلك من مسخ جلده وتنويع مواضعه، فأعاد تشذيب قوامه، كما لاحظنا سابقاً في العراق مع الزرقاوي، وأنور العولقي في اليمن، ثم شمال إفريقيا بزعامة الجزائري عبد المالك دروكدال، وبعد ذلك سطع نجم مالي والساحل الإفريقي، دون الحديث عن المواقد المتموضعة فوق رماد هادئ، على امتداد العواصم الغربية، القابلة للاشتعال والانفجار، مع جرة نفخ يسير في الشرارة.

حتى الإعلان، عن مصرع ابن لادن عام 2011، لم يكن بالمكسب الناجع كل النجاعة، لأن الوقت تأخر كثيراً، مادامت القاعدة انتقلت وقتها من تنظيم حركي إلى نسق وفكرة قائمة مطروحة على الطريق، صار بوسع أي مختل ارتكاب عمل إجرامي، باسم مرجعية القاعدة.

بعد ثلاثة عشر سنة، من المجابهة الاستباقية المستلهمة لكل ما أدركه الذكاء الاستخباراتي الغربي، مع نفقات قاربت سبعين مليار دولار، كان من الأفضل، لو استقامت حقا مقومات تفكير بناة سياسة العالم المعاصر، توجيهها نحو تطوير حياة البشرية عقليا وجسديا، فيتلاشى أسّ الإرهاب من تلقاء ذاته.أقول، رغم المعركة العسكرية، هانحن نشاهد مانشاهده، فأضحت القاعدة، التنظيم الأصل، مجرد تلميذ ينط عند حضن وليد فتي أكثر شراهة للدم وتخلفا وبدائية وانحطاطا، إنه داعش الذي يخوض حاليا حرب عصابات يومية على محاور متعددة، بأساليب فتاكة وفق استراتجيات جعلت كل القوى الدولية، تخرج عن صمتها كي تعلن صراحة، بأن الأمر لم يعد مجرد تسويق إعلامي، واحتمالية خروج اللقيط الجديد عن نطاق السيطرة، فتحرق ناره البعيد قبل القريب.

بالتأكيد، ازداد العالم سوءا، فماذا تغير منذ واقعة شتنبر المزلزلة؟ على الأقل، قياسا لمنطقتنا العربية، المصنفة دائما والمتهمة في المقام الأول، باعتبارها المرتع الطبيعي الخصب، للتفكير المنعوت ظلما بأنه جهادي! السبب واضح: من شفا حفرة إلى جوف الحفرة ذاتها. لم يخطو الملف الفلسطيني، خطوة واحدة إيجابية ذات أثر، مع استمرار الدعم الأمريكي الفاضح لإسرائيل، وتبخر ماتبقى من احترام للقانون الدولي، وإلا ماكنا في حاجة بتاتا، لمتابعة أشواط المذبحة الجارية حاليا في غزة. للتذكير، فقد مرت إحدى وعشرين سنة على اتفاقية أوسلو، ماذا تحقق؟ مزيد من اللهو اللغوي. نفس التأويل، يسري على عضو مركزي جدا، في الخريطة العربية، هو العراق، فباسم محو آثار الديكتاتورية، سيتم تفخيخ ذلك البلد العظيم بكل مساوئ العصور الغابرة البربرية، ولم يعد صالحا في الظرف الحالي لأي شيء، سوى تذويب ذاته وسط أحواض الأسيد.

فجأة، تجلى خيط شعاع اسمه الربيع العربي، فلاحظنا انبعاث المكونات المدنية التقدمية والتحررية، مع تقهقر آلي للتطرف الإرهابي، فبدأ حدس بأن الظاهرة راحلة مع رحيل الديكتاتوريات، وستلج مجال الأرشيفات السيئة، بعد أن تحسست شعوبنا طريقها نحو الديمقراطية، لكن بعد حين سيتكالب الغرب الاستعماري ثانية، تكريسا لمصالحه في المنطقة، متحالفا مع القوى الداخلية الارتدادية، كي لايزهر ذاك الربيع، ثم تصفر أوراقه، وتذبل بمذاق الحنظل.

يستحيل محاربة الإرهاب، بقذائف طائرات بدون طيار، على امتداد مايحيط بنا من تصحر سياسي وفكري، السياق الثري لإنتاج أشكال العقائدية الشمولية. أنساقنا المجتمعية، تستكين وتروم بكل نزوعها نحو الكليانية المستبدة، من الحاكم فالقائد فالإمام فالشيخ فالمرشد ثم الفقيه والأب، النموذج البطريركي، بحيث لاأحد يفهم العالم أفضل من هؤلاء! وحدهم، من يلهم الأتباع، بالتالي لايمكن مجادلتهم بهذا الخصوص.

بلا شك، سترفض الشروحات الجاهزة، الذهاب إلى عمق المشكل، لأن من شأن ذلك في كل الأحوال، معاودة طرح القضية الديمقراطية والدولة العلمانية المؤسساتية التحديثية، المواطِنة، التي يتنفس مواطنوها الاختلاف، قدر الاعتبار الذي يتمتع به الفرد داخل الجماعة. بغير الحل التاريخي المنشود، ستظل المنظومة العربية قابعة بين براثين حلكة ظلمة الكهوف، ومن تم الانحدار باستمرار إلى دوامة التخلف واللاعقل.

أقول، ربما استحضرت تلك الشروحات، من باب ديماغوجية التنفيس اللحظي، أن داعش كالقاعدة، مجرد خلطة مشوهة أفرزتها دهاليز استخباراتية أمريكية-سورية-إيرانية، ارتباطا بالمخاضات العسيرة التي كابدها الشعب السوري، ثم تلكؤ المنتظم الدولي، بل وعدم رغبته كما اتضح جليا فيما بعد، لحسم قضيته مكتفيا في أحسن الأحوال، بنفس منطق الفوضى الخلاقة المجرب سابقا داخل العراق. النتيجة الفعلية، فوضى همجية عدمية، تندثر معها أبسط القيم الإنسانية، وحدها الظافرة، مافيات الأسلحة وشبكات التهريب البشري، التي زادت عائداتها المالية.

لذلك، مخابرات أم لعبة بين أطراف الصراع، لحسابات كل طرف؟ الجواب غير حاسم.السؤال المطلق، لماذا يحدث باستمرار مايحدث في المنطقة العربية؟ الجواب حاسم، يبرزه سلوك داعش نفسه: قطع الرؤوس. كناية عن استئصال لبنات العقل والتفكير والحرية.

مع نظام الملالي في إيران، سنّ الخميني قانون الإعدام شنقا وسط الساحات العمومية، لتصفية المعارضين الليبراليين. أيضا، في بعض البلدان العربية التي تتبنى نظاما حقوقيا تيوقراطيا، باسم الشريعة الإسلامية، لازال التباهي هناك بقطع الرؤوس والأيادي والأرجل والجلد بالسياط كما تجلد الدواب والرجم. حتما، ذات الفكر من جنس البيئة، سياق مجتمعي متشبع بمرجعيات القرون الوسطى، ومنفصل عن مقومات المدنية بقرون عديدة.

بما أن الحديث يقود بعضه إلى بعض، فإن بلدا صغيرا غارقا في القبلية، ستسقط فوق أعشاش سكانه البؤساء، لسنوات عدة مختلف أنواع الأسلحة الأمريكية، بدعوى ملاحقة المتطرفين المتحصنين خلف تضاريسه الوعرة. بعض الكتاب الغربيين، أكدوا بأن الغرب نفسه من يتحمل كليا مسؤولية تخلف أفغانستان وبقائها منعزلة عن الحياة المعاصرة، فعوض التقتيل الذي لايورث غير أجيال حاقدة، كان يجدر الدفع بتكريس مشروع تنموي متكامل اقتصاديا وثقافيا، من شأنه بكل تأكيد إخراج الأفغانيين من تصحرهم الجغرافي والفكري. العنف، سواء تقنع باللبوس الديني أو غيره، هو منظومة ونسق من الأفكار، ينبغي كذلك التصدي له بنسق متعدد المحاور.

العبث، الذي نعاينه حاليا، الشبيه بانقلاب السحر على الساحر، يمثل مآلا طبيعيا، للعبث الطويل بالمشاريع التحديثية الأصيلة، التي تبدأ بالديمقراطية السياسية دون أن تنتهي حتما عند العثور على إحدى جامعاتنا للعلم، مصنفة ضمن المراتب العالمية الأولى، فالصيرورة متدفقة ومتداخلة. لذلك، فتجفيف منابع التطرف، لم ولن تكون مجرد مقاربة أمنية عابرة، منبعها هذا الظرف أو ذاك، لكنه قضية إصلاح مجتمعي شامل وحقيقي، يقتضي من الجميع الصدق والشجاعة وخاصة وضوح الرؤية. ماذا نريد حقا؟

(المغرب)