يدعونا الشاعر السوري الى التحلل من هذه اليقينيات التي تكبل وجودنا ورغبتنا في التحرر، هي دعوة صريحة الى التمرد على راهن يأسر تفكيرنا ويقيد حركة التاريخ ويشل كينونتنا المشرئبة الى طريق الخلاص، حيث الوطن يتصالح مع إنسانية الإنسان وصوت الشاعر الذي يحمل بعضا من أحلامنا لأفق أكثر رحابة وأمل.

المتمرِّد

عبد الكريم بدرخان

متقمِّصاً نفسي، خرجتُ

إلى الحياةِ، أسيرُ فوق الريحِ

كالصوتِ الشريدِ، وأمسحُ التاريخَ

عن عينيَّ: أبصرُ حاضري، وأكسِّرُ

الأصنامَ في أرضي وفكْري، خارجاً

منّي إلى الكلِّ الغريبِ، رفعتُ

صوتي رايةً، أعلنتُ أنَّ شريعتي

التغييرُ والسفرُ الدؤوبُ

سيلاً أسيرُ ولا تضيقُ بيَ الدروبُ

 

متقمِّصاً نفسي، عرفتُ الحبَّ نحلاً

يلسعُ الوردَ المفتِّحَ في دمي، وعرفتُهُ

ناراً تبلِّلُ بالندى روحي، وشهوةَ عاشقٍ

يهوى احتضانَ الأرضِ في جسدِ الحبيبةِ،

لم أكنْ إلاّ كما كانوا جميعاً، غيرَ أنَّ

الحزنَ ميَّزني، وعمَّدني، وأهداني

صليبَ القهرِ، أين الحبُّ ؟

ذكرى مزَّقتْ أملي، بكيتُ

بكيتُ من نفسي على نفسي،

بريئاً كنتُ لفَّـتْني الذنوبُ

للمرةِ المليونِ أقسمُ: لا أتوبُ

 

متقمّصاً نفسي، دخلتُ مدينةَ الغرباءِ،

أمواتٌ على أقدامهم يمشونَ، أشجارٌ

تيبَّسَ عُريُها، ورأيتُ أطفالاً بلا رأسٍ،

-جماجمُهُمْ نِعالُ القادةِ العظماءِ- قلتُ:

غريبةٌ هذي المدينةُ عن دميْ

مهزوزةُ الجدرانِ..

أشباحٌ تراودُها وتُحبِلُها بذاكرةٍ هجينهْ

مجنونةٌ هذي المدينهْ

-وأنا الجنونُ بعينهِ-

سأشقُّ هذا البحرَ، أعبرُ نحوَ ميعادي

وأعبرُ نحو ميلادي

لأولدَ مرّةً أخرى، فلا عُمْرٌ يؤوبُ

أزلٌ تناءَى خلْفنا، وأمامَنا الأبدُ القريبُ

 

متمرِّداً عنّي، أطوفُ الأرضَ

أرفعُ رايتي في الريحِ -تنكسرُ الرياحُ–

أصيحُ؛ صوتي بحرُ أحزانِ المدينةِ:

( دمعُ أمٍّ، ضحكةُ العشاقِ،

زفْراتُ المشرَّدِ، أغنياتُ الطفلِ،

أحلامُ العذارى، عطرُ زنبقةٍ،

نحيبُ الريحِ، صمتُ الخائفينْ)

متمرّداً عني وعنهمْ

صارَ عندي إخوةٌ

أحلامُنا العطشى.. سُهوبُ

ودماؤنا.. المطرُ السَّكُوبُ

 

متمرِّداً عني، عرفتُ السجنَ

والحريةَ الحمراءَ، مزّقتُ الحياةَ

فسالَ طعمُ الموتِ من شفتيَّ، أولدُ

كلَّ يومٍ في مكانٍ آخرٍ، وأسيرُ

نحو الشمسِ واثقةً خطايَ بضعفها

البشريِّ، يتبعُني الزمانُ، أنا

الزمانُ، أقودُ قافلتي...

تمرَّدتِ المدائنُ والقبائلُ والشعوبُ

واستوطنتْ قلبي القلوبُ

 

متمرّدونَ.. نمزِّقُ الكتبَ القديمةَ،

نجبلُ التاريخَ بالدمِ والبنفسجِ،

لا وراءَ وراءنا، نحن البدايةُ،

نسكنُ الريحَ الشريدَ، وننثرُ الطلْعَ

 الجديدَ، عيونُنا شمسُ التخلُّقِ،

 دمعُنا روحُ السحابِ، كأنما

أعمارُنا تعطي الوجودَ وجودَهُ،

من يحبسُ الريحَ الحَرُونَ أوانَ يبتدئُ الهبوبُ ؟

عَبَثٌ يؤثّثُ واقعاً، عبثٌ تباركُهُ الغيوبُ

 

شاعر من سوريا