تقدم قصة الباحث والقاص الجزائري تجربة توشك أن تكون طالعة من تجارب الكتابات القصصية الأولى في مختلف الأقطار العربية، حيث التوتر بين رغبة الفرد في التحقق وعجزه عن الفعل إزاء سطوة التقاليد.

دموع امرأة

الشريف حبيلة

سحبت منديلها ... مسحت دموعها هربت دموعا منها ... يغالبها البكاء تبكي ... تغرس وجهها بين ذراعيها، ومع الدموع تسكب تاريخ الماضي ... كانت جالسة بعيدا عن العيون كبرياؤها يمنعها من توزيع آلامها أوأفراحها ... وحدها فقط تتجرع الماضي علقما ... منذ مدة اختلطت بذاكرتها اللذة بالألم ... الأشياء التي كانت تكحل بها ناظرها وهي تقطع المسافة بين البيت والجامعة تعرّت من كل معانيها الجميلة ... هذه المسافة التي أرهقتها سنينا وربت فيها حنينا بحجم الجنين ... تتمسك بأهداب ما تحفظ من آيات قرآنية ... تحاول ترميم حصنها ... تبحث عن قشة، قطعة خشب تقطع بها المسافة منها إليها ... تعاود مرات إيقاف نزيف الدموع المتدفق ... يتمرد، يرمي بكل الذكريات المخضبة بالآه ... بقايا زمن ولّى تاركا ركاما من الأحزان مختلطة بأفراح وليدة ... تركبها الحيرة تملأ رأسها الهارب منها ويذبحها السؤال ...  أتبكي أسفا أم فرحا، تبكي لأنها وصلت بر الآمان بعد رحلة متعبة حركت خطوها هواجس غامضة ... تركت رأسها يتهاوى على الطاولة ... أغمضت عينيها، تراقصت كل أحداث القصة أمامها في لحظة واحدة ...  فوضى ذكريات وأشباح تختفي خلف ستار السنين.
(لماذا يا معذبي؟ ... لماذا عيناك دوما تلاحقني وشفتيك لا تعرف صوغ الكلام، ملّ الصبر من صبري والخوف طعناته تدمي جراح قلبي الجريح).
يعذبها السؤال كلما دفعت بها الذاكرة إلى ماضي الزمان ... ونشرت بين كفيها أحلاما تآكلت من طول الانتظار ... رأته جالسا خلفها يسترق النظر خلسة أحست أنفاسه الحرّى تزداد قربا يوما بعد يوم ... عيناه السوداوان كانت ظلها الذي لا يفارقها ...  تعجز عن مداراة نفسها، تكاد تؤمن يقينا أنهما قدرا الإفلات منه لعبة ساخرة، وأصبح مع الأيام يسكنها ...  كبرياؤها المحموم يمنعها عن البوح ...  البوح الذي لم تمارس أبدا طقوسه ...  تناجيه بالرمز شعرا وتخفي دفاترها عن العيون المتطفلة، ترى اللقاء قاب قوسين أوأدنى، لكنّ صمته الداكن يحجب النور الذي تبحث عنه ... يسكت عن الكلام ويمارس حبا من نوع لم تقرأه في أشعار الأولين والآخرين، ولا حتى في قصص المجانين ... يتمادى السؤال في تعذيبها ... ويوم كان الفراق شعرت أنها راحلة إلى الأبد وستدفن أفراحها في أحزانها، ونسيت أنه أقرب منها إليها ...  يسكنها ...  عيناه نجمتان تحرسها ليلا وشمسا تحول نهارا لترصد أثر خطواتها ...  تعد دقات قلبها ... كان هنا دوما هنا.
(لماذا؟ قل شيئا ... كلاما بلا معنى ... خيّرني مثل نزار ... اكتب أشعارك بالكلمات ولومرة ... عيناك أراهما حبلى بكل جميل وصمتك ينبئ بالعقم ... أبقى مسافرة بين عينيك وشفتيك ... أتشبث بأمل ينام على جفنيك ... ويوقظني السؤال فأخاف أن تكون أضغاث أحلام ... الخوف كان يصاحبك، يرتهن لسانك ... آه لوأصل إلى صدرك وأبحث فيك عني ... ونظراتك لوأعطى سحر هاروت وماروت فأفك ألغازها).
وحين يسكت عن الكلام المباح ... تروح تحكي لنفسها عن نفسها قصص لياليها ... يجيء اليأس يسعى، منجله في يده يحصد براعم حديقتها، وبعده القدر يطرق بابها ... حدثها أبوها بلسان أمها:
ـ بنيتي أزهارك يريد عطرها جارنا ...  تعرفينه، كثيرا ما سمعت صوته، كل مضخمات الصوت تعرفه، وأذان نسوة حيّنا تعرفه ... أبوك أيضا واخوتك يعرفونه.
ـ لكني لا أعرفه أماه ... (قلبي لم يسمع غير صوت عينيه هو ...  خطواته أعدها بنبضي) ...  يا أمي لا أعرفه، سمعتهم يقولون رجل، فقط رجل يا أمي، لكني أريد رجلا بحجم حروفه ... رجلا يكتب الكلمة وتكتبه يا أماه. 
يغتصب السؤال سمعها ...  لماذا يا ساكني لماذا ؟ ...  صيادي اليوم يريدني وجناحاي أعياهما الطيران فوق صوامع صمتك ... لما لم تبني لي عندك عشا أوتمنحني غصنا من شجرك أنهي فيه رحلتي المتعبة وأرمي عليه كل أحزاني ...  لماذا ؟؟؟ تنزل دمعة تتبعها دمعة، ترتسم البسمة على شفتي أمها:
ـ إنها الفرحة يا بنيتي، عشت العمر كي أراك في ثوب العروس، وهذا يومك يا بنيتي فاصنعيه.
(بل هوصانعي يا أمي وقاتلي ... كيف أصنع يومي ويومي بكف الغيب، أنا اليوم مجردة السلاح ... وقيودكم تشدني إلى حتفي ...  يا أمي كم كبيرة وصغيرة أنا، ومساحات أحزاني تزداد اتساعا كلما انفتحت أبواب الجراح ... أكون أولا أكون قالها الشكسبير ومات يا أمي ... هل تعرفين الشكسبير يا أمي ...  هو من صنع ديدمونة ثم قتلها بيد عطيل ... وعطيلي أنا يقتلني صمته على أعتاب بابه الموصدة ثم ينتحر على أعتاب بابي أنا الميتة)
ـ الرجل جاء ليصنع من طيني تحفته وأخاف إن ملّها يوما حطمها، حينها يصير الترميم كالعبث  ...
(فخاري يا أمي لا تشكله غير أنامله هو ...  من دونها أبقى شظايا بلا شكل ... بلا لون ...  يا أماه لوتفهمين.) تفضحها الشهقات ... تتظاهر بقراءة كتاب كلما ورد وارد ...  تكبر السطور في عينيها ... ثم تكبر ... تذوب ... تصير كتلة واحدة مبهمة، يختفي العنوان ويرمي بها الخيال إلى الماضي.
ـ إنهم في المسجد يا بنيتي يقرؤون فاتحتك، سيتم عقد قرانك يا صغيرتي.
(بل عقدة لسانه عقّدتني ... ضمرت آخر معاقل صبري)
ـ أخبريني بربك يا أمي يقرؤون فاتحة ولادتي أم فاتحة موتي ... 
(هل وصلتك الأنباء بالأنواء، وحين تدري بما يجري هل سيخمد وميض عينيك وتنام إلى الأبد بداخلي، فلا أسمع وقع خطوك كما الماضي ... أخاف عليك مني ومني أخاف عليّ ... فقط لوقلت شيئا بلا معنى ... بلا لون ... عيونك وحدها تعرف ما تقول، وأنت كالجدار تعلووتربو ... أبحث عن ظل لك أحتمي به من حر الآهات الأليمة فلا أجد ...  معانيك تلملم الأشواق بداخلي ... يضيق بها صدري، فأبحث عنك أجدك ولا أجدك ... تهرب مني ... واليوم أراك بعيدا وبيننا تجثم المسافات ... ليت لي أجنحة أطير إليك أحمل أشواقي وأحزاني، لكنك كالسراب حين أقف على حدودك تختفي ويعييني المسير والرمل أمامي يمتد ...  يمتد).
ـ بنيتي ... بنيتي جاء أبوك ... اخوتك يحملون حلوى العرس.
ـ تقولين حلوى ... هل جاءوا وانقضى الذي كان ... كيف سيكون وأكون، كيف؟ ...  انتهيت يا أمي وهذي  حلواكم تصنع مرّ الحياة ... قولي لهم أني مريضة ... شريدة ... مملكتي يا أمي دخلها المغول وأنا المذنبة.
يطير بها الحنين إلى المدينة المعلقة ... (عيونك سيدي لم تزل مشتعلة الأنوار، تنير غيابات الجب في صدري ...  لم تعد سوى ذكرى جميلة ... لوحة احتفظ بها في متحفي ... تاريخ أتلوه بين نفسي ونفسي).
ـ بنيتي هذه قطعة حلوى لك، باروكك ... ألا تأكلين من أفراحك!
ـ آه يا أمي أحزاني تأكلني قطعة ... قطعة ... وأنا مثل الشمعة أذوب ... أذوب ... أخاف أن تظلم نفسي بعد ما أنتهي، والعيون التي كانت تحرسني غابت شمسها.
ـ بنيتي ... يقتلني صمتك يا امرأة بحجم طفلتي ... لما لا تقولين، وأرى الدمع يفضحك؟!
تداري دمعة سقطت ... تبني على أنقاضها بسمة صفراء حزينة كي تمحو قلق أمها ولا تفسد فرحتها الوليدة  ... يوقظها وقع الدموع على الطاولة ... تنظر إلى الكتب أمامها ... منديلها أعياه نزيف المدامع ... (ما قيمة المعاني التي تحملين بين طياتك أيتها الكتب الصامتة وهل باستطاعة حروفك إعادة ممتلكاتي السليبة). منديلها وحده يحمل أحزانها ... ترفع رأسها تنظر يمينا وشمالا ... لا أحد سواها ... ترمي نظرة على الجدار ...  تعود إليها صورته في أول لقاء شرعي.
ـ صوتك سيدي غير صوتك الآن ...  لست أنت لست صوتك.
بهذه الكلمات يفقد اللقاء شرعيته.
ـ سامحيني يا بنيتي كان دوما يمتطيني شعور حزين ... أراه في صمتك ... أسمع أنين قلبك ويحجب أمل الفرحة حقيقتك فلا أصل حدود أحزانك ... كنت أبحث عن فرحتي وفي زحمة اللهفة نسيتك.
ـ لا عليك يا أماه ذاك ماض مضى ...  كنت المذنبة.
(ليتني الآن ألقاك ... آخذك في أحضاني ... أهدهدك مثل الأطفال أتشبث بك كأم تخاف ضياع طفلها ... إنك صغيري وطفلي الذي حرمته حنان الأم ... ليتني ... ليتني ألقاك يوما).
عادت إلى حاضرها ... مسحت دموعها ... جمعت أشياءها وقدمت خارجة ... ولدى الباب ألفته واقفا ينتظر كالقدر.
تبسة -  الجزائر