لو كان النعمان بن المنذر يعلم أنه حين أوكل مهمة حماية قوافل الحجاج لقيس بن الزهير من قبيلة عبس، سوف يتسبب بإندلاع حرب ماحقة بين بني ذيبان وبني عبس استمرت أربعين سنة، وعُرفت بحرب داحس والغبراء إسما الفرسين اللذان كانا سبب تلك الحرب عقب السباق الشهير بينهما، لو كان النعمان يعلم ماذا سيحصل، وكم من الدماء سوف تسيل، وكم من الأعناق سوف يُنحر، هل كان حقاً أقدم على ما فعله ؟ على الأرجح أن لا النعمان ولا أحد كان يتوقع أن تفعل الجاهلية والقبلية ما فعلت .
حسناً، في هذه الأيام وبعد تشكل تحالف دولي لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية"داعش" والقضاء على وجوده في العراق وتحجيمه في سورية، كما أُعلن عن ذلك على لسان العديد من المسؤولين الأمريكيين، وبعد أن زلت لسان الرئيس الأمريكي حين قال أنه لايملك استراتيجية واضحة للقضاء على التنظيم، خرج علينا مرة أخرى بنبرة حاول أوباما من خلالها استعادة ثقة الإدارة والشعب الأمريكي، وأعلن عن استراتيجيته من أربعة نقاط، القضاء على التنظيم، وتجفيف منابع الإرهاب، تحسين عمل الإستخبارات وتعزيز الدفاعات، تقديم الدعم العسكري للجيش العراقي وقوات البيشمركة والفصائل المعتدلة في الجيش السوري الحر، وتقديم الإعانات الإغاثية للمهجرين والفارين من الأعمال الإرهابية .
فهل حقاً تدرك الإدارة الأمريكية وخصوصاً الرئيس الأمريكي أوباما، إلى أين يمكن أن يؤدي هذا التحالف الدولي، وماهي الإستراتيجية التي سوف يتبعها، وماهي الأهداف الآنية التي يجب على التحالف تحقيقها خلال الفترة القريبة المقبلة، وكذاك ماهي أهداف التحالف الإستراتيجية الغير معلنة،ومن سوف يموّل العمليات العسكرية، والأهم من هذا كله من هي القوى التي ستواجه مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسورية على الأرض، وكم سوف تستمر هذه المواجهات، وهل هناك من خشية حقيقية في أن تؤدي هذه المواجهة بين مقاتلي تنظيم الدولة وقوات التحالف إلى تداعيات دراماتيكية في عموم المنطقة لاتبقي ولاتذر، وأن تتحول الحرب ضد تنظيم الدولة إلى نسخة حديثة من حرب داحس والغبراء، ولكن بمدرعات وطائرات وصواريخ بدلاً من السيوف والرماح .
فماسبب كل هذه الضجة وكل هذا الوعيد الذي تطلقه دول عظمى تهدد تنظيم الدولة الإسلامية، الذي مهما بلغ من قوة وبطش، ومهما استولى على أسلحة حديثة، ومهما عُرف عن مقاتليه بأسهم الشديد، إلا أنه في نهاية الأمر لايتعدى كونه قوة تظل محدودة التأثير أمام قوى دولية وجيوش وتحالف يضم أقوى الجيوش على الصعيد العالمي .
كي نفهم أسباب هذا الضجيج، علينا أن ندرك العقلية الأمريكية في إدارة صراعاتها وحروبها الخارجية، فكلنا نذكر حين قرر الرئيس الأمريكي السابق سيئ الصيت، جورج بوش الإبن أن يقوم باجتياح العراق من أجل القضاء على الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، الذي بدأت شوكته في التصلب بعد نهاية حربه مع إيران، مما يعني تفرغه لتصفية حساباته مع دول الخليج حلفاء الولايات المتحدة، ومايحمل معه هذا المستجد من تهديد للمصالح الأمريكية في المنطقة، حينئذ، كان لا بد للماكينة الإعلامية الأمريكية من أن تقوم بشيطنة صدام حسين، وإظهاره كذئب على وشك أن يبتلع الحملان، وإظهار خطر العراق على جيرانه والمنطقة، هذه الحملة التمهيدية ضد العراق ورئيسه تصاعدت نبرتها إلى أن انشغلت أجهزة المخابرات الأمريكية، وشغلت معها مخابرات العالم للبحث عن أماكن تصنيع وتخزين أسلحة الدمار الشامل التي روجت الإدارة الأمريكية ورئيسها أن العراق ينتجها ويقوم بتخزينها، وأن صدام يريد حرق الإقليم، وأن مخاطر هذه الأسلحة تهدد حلفاء الولايات المتحدة، بل تهدد الولايات المتحدة نفسها، لذلك عمدت الإدارة الأمريكية على ترويج هذه الأكاذيب في وسائل الإعلام، وتضخيم وتهويل قوة صدام والجيش العراقي، حتى تتمكن من حشد أوسع تحالف عسكري دولي ضد العراق، ولكي تبرر بشاعة الحرب التي خاضتها ضد العراق، وتبرر سقوط الآلاف من الضحايا، وتُشرعن لاستخدام قوة عسكرية مفرطة في قدرتها التدميرية القاتلة، لان العدو هنا المفترض انه العراق وصدام يمتلك أسلحة تدمير استراتيجية شاملة، ليتضح فيما بعد كما نعلم زيف هذه الإدعاءات وكذبها .
هذه العقلية تفسر هذا السباق الغربي المحموم خاصة الأمريكي لتضخيم الأخطار المتولدة من وجود تنظيم الدولة، ونحن هنا لا نقلل من حجم هذه المخاطر، لكننا نحاول إلقاء ضوء على خلفية المشهد، فقد أصبح من المؤكد أن التحالف لن يشارك في العمليات العسكرية بقوات برية، على الرغم من إعلان الولايات المتحدة عن نيتها إرسال بضع مئات من المستشارين والمحللين العاسكريين لتقديم المشورة ومساعدة القوات العراقية إضافة إلى بضغ مئات كانت أمريكا أرسلتهم سابقاً بتسميات مختلفة ,في وقت لم يترشح شيء من معلومات حول الأدوار المفترضة للقوات العسكرية السعودية والأردنية في المواجهة المحتملة، إذ أننا نرجح مشاركة قوات سعودية أو خليجية في المعارك حتى لو تمت هذه المشاركة تحت علم الجيش العراقي، أما فيما يتعلق بالأردن، الذي يحاول أن ينأى بنفسه ولايريد أن يحارب نيابة عن الآخرين، فإننا نعتقد أنه سيكتفي في نشر مزيد من القوات بهدف تشديد حدوده مع العراق لمنع تسرب اي مجموعات مقاتلة من قوات تنظيم الدولة بعد اشتداد المواجهة، إذ من المتوقع حينها أن يلجأ التنظيم إلى تكتيكات متعددة لإمتصاص الضربات الغربية ضد قواته، ومنها محاولته إجراء انسحابات مؤقتة داخل بعض الأماكن على الحدود العراقية-الأردنية، ونظن أن الأردن سوف يكتفي بالمهمة التي أوكلها له الغرب في استضافة معسكرات تدريبية لقوات من الجيش السوري الحر يجري تدريبها وتأهيلها في هذه الفترة على الأراضي الأردنية أستعداداً لمرحلة ما بعد الأسد .
لكن دعونا نضع سيناريو أولي لما سوف يحصل في كلا البلدين سورية والعراق، لنبدأ أولا بالمشهد العراقي، فنحن نظن أن هزيمة مقاتلي تنظيم الدولة لن يكون سهلاً، لكنه ليس مستحيلاً، فسوف يحاول التنظيم استغلال جميع أوراقه بشكل جيد في إدارة معركته ضد قوات الجيش العراقي من جهة، وقوات البيشمركة الكردية من جهة أخرى، ومن أهم هذه الأوراق الحاضنة السنية، التي لايخفى تضامنها مع التنظيم كرد فعل دفاعي على سياسات التهميش الطائفية التي مارسها ضدهم المالكي، وسوف يعتمد بظني على سياسة القبضة المنفرجة، ومعناها أن تتحصن قوات التنظيم في ملاجئ منيعة في فترة استخدام التحالف الدولي لسلاح الطيران في قصف مواقع التنظيم، ومن ثم الخروج الى مواقع أخرى لمنع تقدم القوات العراقية والكردية بعد إنتهاء القصف، وهناك احتمال أن يستعمل التنظيم بعض أنواع الأسلحة الثقيلة التي سبق وحصل عليها من مستودعات الجيش العراقي أثناء نقدمه في العمق العراقي، ويُعتقد أن من بين هذه الأسلحة صواريخ متوسطة المدى، إضافة إلى تلك الأسلحة التي غنمها التنظيم من مستودعات الجيش السوري، وكذلك الأسلحة التي صادرها من مقاتلي الجيش الحر، لكن الخبراء العسكريين يخشون من وجود أسلحة مضادة للطائرات تحمل على الكتف في حوزة التنظيم، كما سوف يستفيد التنظيم من انتشاره في مساحات واسعة على الأراضي العراقية والسورية، الأمر الذي سوف يوفر له إمكانيات واسعة للمناورة، ويجعله هدفاً صعباً لطائرات التحالف، الأمر الذي يجعل هذه المواجهة معه حرباً مفتوحة قد ينجح في استجرار دول المنطقة إلى حرب استنزاف طويلة باعتماده أسلوب حرب العصابات، وتحويل العراق إلى مستنقع من الوحل، لكن الإدارة الأمريكية أصرت على أن يتم التوافق العراقي الداخلي بين مختلف القوى السياسية والتكتلات، لتشكيل الحكومة الجديدة قبل بدأ أي عمل عسكري، بل قد وجهت رئيس الوزراء المكلف خلفاً للمالكي أن يدلي بتصريحات علنية يطلب فيها من المجتمع الدولي مساعدة العراق لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، من جهة أخرى لا نعلم حقيقة على وجه الدقة ماهي الخطط التي وضعها التنظيم وقيادته العسكرية لمواجهة الحرب ضده، لكن من المؤكد أنه إن لم يخرج من عقلية الإعتماد فقط على مفاعيل الإيمان لدى مقاتليه، واستعدادهم العالي للشهادة في سبيل قناعاتهم، التي يعتبرونها ذوداً عن الإسلام والمسلمين، واستجابة لتعاليم الفقه الشرعي في إقامة دولة الخلافة الإسلامية، إن ظلوا يعتقدون أن هذا سبباً قوياً يكفي لمواجهة دول تمتلك أسلحة متطورة، فإنني أعتقد أننا سنكون أمام مشهد دراماتيكي آخر، وأن أيام تنظيم الدولة في العراق ليست كويلة كما يعتقد .
أما فيما يتعلق بالوضع على الساحة السورية، فالأمر أكثر تشابكاً وتعقيداً على الصعيدين السياسي والعسكري، فعلى الصعيد العملياتي العسكري، تنظيم الدولة ليس اللاعب الوحيد هناك، إذ يتواجد أيضاً الجيش الحر بفصائله المتنوعة ويسيطر على مدن سورية في الشمال والوسط والجنوب، وقد أعلن الجيش الحر أنه يقاتل الإرهاب في سورية المتمثل في تنظيم الدولة الذي قتل من السوريين ومن مقاتلي الجيش الحر أكثر بكثير مما قتل من جنود النظام، ومن المؤكد أن الجيش الحر سوف يكون بمرحلة لاحقة في مواجهة مصيرية مع تنظيم الدولة وهي معركة لاتقل أهمية عن معركته مع النزام .
يتواجد أيضاً على الساحة السورية جبهة النصرة الأقل تطرفاً من تنظيم الدولة لكنها مدرجة في قوائم الإرهاب الأمريكية والأوروبية، والتي تمتلك قوات كبيرة بأسلحة متطورة، لكن جبهة النصرة أعلنت أنها لن تشارك بأي عمل ضد تنظيم الدولة .
وهناك بطبيعة الحال قوات الجيس السوري النظامي والميليشيات المؤيدة له والتي تقاتل إلى جانب قواته، وقد استبقت القيادة السورية تشكيل التحالف الدولي ضد التنظيم وأطلقت تصريحات على لسان وزير خارجيتها المعلم أن دمشق مستعدة للتعاون مع المجتمع الدولي من أجل القضاء على الإرهاب، وهذا ما رفضته الولايات المتحدة والدول الأوروبية رفضاً قاطعاً حين اعتبرت أن النظام السوري فاقد لشرعيته وأنه لن يستعيد هذه الشرعية لأنه أصلاً هو راعي الإرهاب ويقتل شعبه، والحقيقة أن أسباب الرفض الغربي للعرض السوري ليس سببه أخلاقي فقط، بل وله أسباب منفعية أيضاً، فبقاء نظام الأسد والتعامل معه من قبل الغرب سوف يزيد من حدة المشكلة، وسوف يؤدي إلى مزيد من الإستقطابات جول داعش، فقد بات من الواضح أن التصدي
لتمدد تنظيم الدولة وتفكيكه تمهيداً لتدميره لن يحصل إلا من خلال تعاون وثيق ومهم بين التحالف الدولي وبين السُنّة في العراق وسورية، فأي تعاون بين المجتمع الدولي والنظام السوري قد يفسر من قبل السنة على أنه تخلي ضرباً لمصالحهم، ونفاق واضح من الغرب .
أكثر من ذلك، فقد بدأت الولايات المتحدة خلال الأسابيع الماضية تطرح جدياً موضوع إزاحة الرئيس الأسد،وفي جملة المشاورات التي أجرتها الإدارة مع الحلفاء تم طرح هذا الموضوع بقوة، وتحاول الولايات المتحدة رسم ملامح مشروع رؤية، أو برنامج سياسي، وإضافته إلى لائحة المهام التي يجب على التحالف الدولي تنفيذها يكون عنوانه سورية ما بعد الأسد، يتضمن هذا البرنامج إزاحة الأسد مع المحافظة على مؤسسات الدولة، وإعادة إعمار سورية، وكذلك عودة النازحين من دول الجوار .
نحن لانعلم حقيقة جدية الإدارة الأمريكية هذه المرة في موقفها من النظام السوري ورأسه، لكن لايفوتنا كمحللين أن نلحظ مؤشرين هامين متعلقين بموقف كلاً من إيران وروسيا من النظام السوري، قد يشيرا إلى إمكانية حدوث إختراقات متوقعة ليست بعيدة في الملف السوري .
المؤشر الأول متعلق بإيران التي تحاول التسابق مع الزمن في هجوم دبلوماسي سياسي، لطرح مشاريع ومبادرات مضادة للأفكار الأمريكية، تقوم على فكرة اتفاق الأطراف على مرحلة إنتقالية في سورية برئاسة الأسد، واللافت المثير أيضاً في الموقف الإيراني أنها وحسب تسريبات مطلعة، قد أوقفت مساعداتها المالية للنظام السوري، وهو مايفسر حالة الاستنزاف التي وصلتها القيادة الإيرانية في الساحة السورية، وهي تحاول أيضاً -اي إيران- أن تصعد في مواقفها على جبهات أخرى من أجل تحسين شروطها التفاوضية في الملف السوري، كما تفعل في اليمن مثلاً، الأمر الذي دفع بالرئيس اليمنى للقول أن إيران تريد استبدال سورية باليمن، لكن من الواضح أن لا أحد على مايبدو مهتم بعقد صفقة مع إيران حول رأس الأسد، ومن ناحية أخرى يُلاحظ تخفيف حزب الله اللبناني لمقاتليه في جبهة القلمون خلال الفترة القصيرة الماضية .
المؤشر الثاني، هو غياب روسيا عن المشهد السياسي في سورية، غياباً شبه كامل، بعد أن كان وزير خارجيتها سيرجي لافروف متحدث يومي في الشأن السوري، فروسيا والقيادة الروسية غارقون في الملف الأوكراني بعد إنقلاب الإصلاحيون المواليون للغرب على القيادة السابقة الموالية لروسيا، واستشعار بوتين بالخطر الحقيقي بعد أن اصبح حلف الناتو على حدود بلاده، وإنشغاله بالتصدي للعقوبات التي يفرضها الغرب على نظامه، والتي أدت إلى تدني سعر صرف الروبل الروسي .
حسابات كل الأطراف في المنطقة حساسة ومعقدة، تتداخل فيها المصالح مع التحالفات، وتتقاطع مع الموروث الديني والصراعات المذهبية، وتتشابك مع صراعات بأبعاد اقتصادية وجيوسياسية، الأمر الذي يجعل المنطقة صفيح ساخن تلسع بل تحرق كل من لا يجيد قراءة المشهد، وستخرجه من الحسابات الدولية، فمنذ اكتشاف النفط في الجزيرة العربية والخليج العربي في أربعينيات القرن الماضي، والعالم يضع هذه المنطقة نصب مصالحه، وزادت أهمية المنطقة مع قيام دولة إسرائيل على جماجم الشعب الفلسطيني، لتتحول منطقة الشرق الأوسط إلى أكثر الأماكن حيوية وأهمية في السياسات الإستراتيجية الأمريكية والغربية.
كاتب فلسطيني مقيم في الدانمرك