يعود الكاتب المصري الكبير الذي رافق كل كتاب الستينيات، واختزن الكثير من المواقف والأحداث معهم، إلى ذكرياته مع الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر، فيكتب عنه شهادته، ويسجل فيها لحظات دالة من تاريخهما معا، وكأنها أبيات من شعر في قصيدة علاقته الطويلة مع الشاعر الذي رحل.

يوم من خريف

سعيد الكفراوي

سنة من سنوات التسعينيات، أنا زرته في «الرملة». قرية مثل وشم، والناس فيها قليلة، و«النعناعية» تهبط بمائها ناحية البحر، هي من زمن وماء. نسير علي ضفتها الهشة، والضوء النهائي للنهار المنفلت، يذهب ناحية المغارب.

يسبقني في الخطو، وأنا اهمس لنفسي: أيها الشيخ، تتخايل بين الظل والشاطئ الذي يرسمه الرمل. أقف لحظة، ويرجع الفضاء صدي الصوت.

يومها نظر لي نظرة طويلة، وأنا أتأمل شعره المهوش الذي وخطه المشيب، تدهشني قرابة الشبه، ورماد البشرتين، ولحظة الفرح المفاجئة، ثم سعلة متواترة، وتأمل للكون الصامت. تأمل الماء، وهيش الشاطئ، والحلفاء، والنخلة العالية. قال:

- أخبرتني أمي أنها ولدتني في الحقول، ذهبت لتملأ جرتها من «النعناعية» ففاجأها طلق المخاض وهي تغمس الجرة في الماء، فدخلت بين أعواد الذرة، ودون مساعدة من احد، أخرجتني إلي الدنيا، ووضعتني في حجرها وعادت بي مسرعة، وعلى ساقيها كما قالت يتحدر الدم تحت شمس الصيف القادح، ولعلي من يومها احمل لحظة الميلاد وشما جسديا وروحيا لا تزول. صمت لحظة ثم رتل من شعره:

ها نحن جئنا وقد فاتنا الوقت.
فاسمع صدى القوس ترسمه في
الفراغ الأساور والورد:
ساق بين اللبن المتفجر عن ناره
ارتفعت بين موطن: أقدامنا والشموس

المقيمة في الروح
(والوقت كان الظهيرة)

عند أطلال المساجد
زقاق ... لقفة نفس وينقضي ... شق في المكان، وحكاية تحكي، يمكث هناك بين الحلم وواقع الحال ... ينتهي بدرجات لم أعرف أبدا أين تقود. خلّده صاحبه في العالمين عندما جسده في رواية أدبية!!

خرجنا أنا ومطر من زقاق المدق بالليل، وباشرنا الخطي نحو المعز الباهر. من الذي قال: المكان ذاكرة؟ فأجابوه: والذاكرة توأم الخيال علي مقعد من رخام، بالقرب من حفر الأرض المضاءة بألوان النور، وظل الناصر محمد، وجسامة والده قلاوون. بين مقصورة الخارج، وسبيل الوالي، ذلك الجبار الألباني، آخر الفراعين، جلسنا .. أشار مطر باصبعه ناحية الواجهة، الحافلة بالزخارف، وفوق السطوح منارة لم يشهد تاريخ الاسلام مثلها. ردد من مكانة كلام السندباد بصوت منفعل «نحن يا مصريين من أحتلوا ارض مصر من كل أجناس الأرض: نحن يا مصريين نتوكل بأمر الحرب ونتولى عنكم صناعة الحروب. لان صناعتكم يا أهل مصر أحياء موات الأرض تحرثون وتبذرون وتحصدون، وحرفتكم بناء القصور والمعابد والمدارس والمساجد والخوانق والترب والنقش والتذهيب صناعتكم يا أولاد مصر هي الحضارة والتعمير، بس!»

يهب واقفا، فأري ظله علي الأرض، ثم يخطو ناحية تربة الصالح نجم الدين أيوب. يقف هناك ويأتيني صوته: وأنا قلت «للمصريين وطن آخر، يموج بالرموز والمعاني، ويحتشد بسكانه السفليين، هو الضد والخيال والحرية، وهو وطن الصدفة العمياء، وجمال الشر، وعشوائية الأرزاق، بهبات العشق الممسوس.

هو وطن لا يعرفه احد إلا عرّافوه ومالكو إسراره.

وطن تتناسل أجياله ويزدحم بها الزمان لينفلت في فضاءات الخيال والشبق والإرادة.

كنت مع الصوت ألوذ برحمة المكان، وبالعناصر التي تتجدد إمامي علي مدي الشوف. أغيب، وأعود، والليل مشرع حتى آخره، وأنا وهو علي درب غاش، ولمعة في سماء ما قبل الفجر التي تتقاطع الآن مع رفقة الأذان الذي يهبط من مئذنة ابن بنت النبي.

الملمات
هو الذي عاش وفيا لشعره، وللشعر.
ومع كل ديوان يكتبه، تتجدد المسارات، وتحتشد الرؤي، وتبحث القصيدة عن عوالمها، كاشفة عن سرها الفطري، وعلاقتها بالوجود الغني في الزمن، والمصير في المقدر والمكتوب. تراقب أنت امتداد المسافات في كتاب الشاعر، وتحدق في مرابع الكون لتري:

الإقامة في الرحيل. تناسل السلالات في المكان والزمان، شارحة ما في الأرض. محراث النار. رغيف العهد معقود علي صعب النواصي. الشمس في حجر الظلام، تلبس قميص الدم، سلام هي حتى مشرق النوم. ضمت الحقول ركبتها ونامت الثعابين، والثيران أغفت واقفة حتى انكسار نجم الليل علي اتساع دائرة الأرض. والسؤال من غير جواب: الغزالات للعشق أم للردي يتوالدن؟ المسافة عنف للترقب، والأرض مشتبك من جمر ومس دم.

أركض خلفه لاهثا، يرفع يده بالطمي، ويري علي البعد غيمه فيما يدوي صوته: شهقة للموت تعلو ام صهيل أم هي ضربة برق طائر؟

أحب مطر من بني جنسه هؤلاء الذين كانوا في براح الغيطان ينحنون على اتساع الأرض.

كما أحب بمجامع روحه الشاعر الكبير «محمود حسن إسماعيل» الذي قرأ ديوانه «أين المفر» ومع أول بيت نشبت في كيانه النار، وسحره مثلث الحواس، وعصفت به موسيقي المعني، وزلزلته سطوة أنظمة القوافي بالتكرار الرياضي المحسوب. حفظ الديوان من الغلاف للغلاف في أيام قليلة، وشهدت عليه الحقول وهو يجأر بالغناء. هيمنت عليه قرابة روحية من الرافعي وجبران ومحمد أقبال وأبن المقفع وهوميروس والشاعر اليوناني أوديسيوس إيلتس. أحب الشيخ أمين الخولي وأختلف معه، كما عشق يحيي حقي «الذي فتح لشعره صفحات مجلة المجلة» برحابه صدر، وعشقا للشعر.

كان محمد عفيفي مطر يبجل المدرسين، بالذات مدرس الإلزامي في العهد الملكي، وكان يسميهم «سلالة من نور» ويقول عنهم «ملأت ربوع مصر وبلاد العرب طوال القرن العشرين بنور المعرفة. كانوا ينتظرون علي محطات القطارات في القرى مجلات الرسالة والثقافة والمقتطف والمجلة الجديدة والهلال وابوللو ومؤلفات طه حسين والحكيم وهيكل والعقاد. هم أول من لبس الجلاليب البيضاء والطواقي «أم حيطه». كان طوال عمره يشعر تجاه هؤلاء بالولاء هم الذين سكنوا خياله وأحب من خلالهم الشعر واللغة والتاريخ ومجمل التراث الفكري.

حرز في حيط
كان حرمانة الطويل من عاطفة الأبوة، يشكل زمن صباه وأول شبابه حالة من الألم. وكان يهرب من قسوة الأب باحثا عن قرابة في اتساع الحقول، وفي الرضي بالمقسوم، واللواذ للاماكن البعيدة خارج زمام البلد.

يسرع صاعدا السلم حيث بيتهم القديم، ذلك البيت الذي هجره أهله من سنين، وتركوه للبلي والخراب !!

كان وهو يصعد درجات سلمه يمضه السؤال ويضنيه.

هل بقيت لفافة القماش في موضعها؟

هل بليت كما تبلي الاكفان، وهل اندثر الحرز العجيب ترابا في الريح؟

كان قد غاب في السفر سنوات!!

وهو يقف علي الدرج يتذكر أيام البركة، وما تبقي منها، من خيوط مدلاة من عقود البامية الناشفة، وحزم الثوم، والبصل. أتت الذكري بأيامها، جاءت بعاطفة من زمن ولي.

وجد نفسه يهتف:

يرعي الله ازمنة الكدح النبيل، وفيض الخير بين الأيدي المباركة.

يتذكر انه من نصف قرن رأي امه علي السلم الطيني جالسة وبين يدها قطعة من قماش تلف بها ذلك الحرز العجيب!! يتذكر انها قالت له:

- لقد أجهضت ليلة أمس وانتم نائمون، كان السقط ولدا، عيناه رائقتان كعين الديك، وشعره اسود فاحم، ولحمه شفاف.

كأنها تحادث نفسها، وهو يرقبها وجلا وكأنها في وداع ميت. يومها استولي عليه الرعب عندما قبضت الأم علي يده ملتاثه وهي تصرخ.

- يعز علي ان ادفنه في الأرض، لقد سددت فم الأرض بما دفنته فيها من أبناء أما هذا فسوف أجعله حرزا ضد الموت، سألفه واضعه في شق الحائط الغربي، وأكسو الشق بالطين، وسوف يملأ هذا عين الموت فلا يطيف بنا. حين لا مس الشاعر الشيخ الشق القديم، بعد تلك الأزمنة المتطاولة ظل يتساءل: هل بلي الحرز وبددته الريح فحل بالبيت الخراب!!

سيد المسافة والمستحيل
عرفته مفاجئا مثل هبة ريح. يجلس هناك علي مقهى قليل الأهمية، دائما في الظلال، ودائما يتهيأ لقول شيء. ثمة طائر وينبوع. الطائر يحلق والينبوع يتفجر، وأنا أصيح قادما من الجبل «أبو لؤي الجميل» قضي حياته بين قرية بها معاشة، ومدينة تتأجج بالمتناقضات.

ظل الشاعر الذي اعرفه يحدق ناحية العلو البهيج، واضعا كفه علي جبهته ينتظر ذلك الطائر الذي اختطف من يد العاشق عقد اللؤلؤ، وانطلق يضرب بالجناح عند اتساع الأرض، ومسكن السحر، والصبر الرواقي، وطهارة الروح، وتعب المسافات، وقراءة الفلاسفة، والركض مثل الوحش في أروقة الكلام، حيث تهب النار من هيولي الروح، وتتفصد الأعضاء بنشوة القصيدة.

هل انتظرت طويلا؟! وهل طوق جيدك يوما عقد من اللؤلؤ؟!

الزيارة
غاب نصف شهر والبستان عاصمة العالم. راح، ومعارف، ومتطفلون، وشجن ليلي، وجماعة من كلام وفن. ناوشني الخوف لغيابه.

لم يعملها من قبل، وعبر الانتظار، لا حس، ولا خبر!

خرجت من البستان في الليل. فكرت: يبدو الأمر غربيا!

بعد نصف شهر أخبرني واحد من الطيبين:

- عفيفي في معتقل طره

وطره مكمن للمظالم، والبشر فيه بلا قيمة. وصرخة الطائر في الليل هناك أستغاثة، ومهما كانت قيمتك أنت تحت حد السؤال والعنف.

كانت السيارة القديمة تدرج على أرض الأوتوستراد، وهي بجانبي صامتة، وعاجزة عن الكلام، كأنها تعيش لحظة ماضية تزخر بالرؤى والذكريات. جليلة الجليلات التي منحت حياتنا طوال سنوات معني الكرم والكبرياء.

على باب السجن أخرجت بطاقة عضوية أتحاد الكتاب. أخذها الجندي المناوب ومضى بها، وهي انتظرت هناك في الظل عند حافة الطريق. تناوشني أيام حرب الخليج، ومواقف مطر الحادة، وانحيازه للعراق ونظامه.

جاء الجندي وأشار ناحيتي. تبعته، ومرقت من فتحة بوابة مثل كهف، ورأيت أهل المعتقلين في الممرات يجلسون علي الأرض تتكدس بجوارهم الزيارات فيما يجلس الأطفال الصغار صامتين. دخلت حجرة المأمور. رأيته يجلس خلف مكتب من طراز قديم، يجلس في أبهة الأتراك وينظر ناحيتي بعين تركية وملامح الإغراب الذين كانوا في كل أحوالهم سادة الوطن.

عاجلني:

- آنت جاي للشاعر. وتلفظ بما لا يليق!

- ايوه. لم انطق سواها.

أشار لي بأن أجلس هناك. جلست. وكانت الكنبة عتيقة وكسوتها منقوشة بإزهار وطيور. رأيت علي الحائط صورة رئيس الدولة، ولوحة «العدل أساس الملك».

استدعي جنديا وطلب منه ساخرا:

- هات الشاعر.

مضي وقت قليل ودخل الشاعر.

كان يرتدي جلبابا رماديا، ويلف رأسه بتلفيعة ريفية.

نظر ناحيتي وأحسست باضطرابه «بعد الإفراج اخبرني انه ظن بأنهم اعتقلوني» حين اقترب مني روعت بما أري.

كان جرحاً عميقاً مثل حفرة صغيرة من نار يمتد من أسفل جبهته حتى أسفل انفه. كان قانيا وبلون الدم، وكان شريرا بدرجة أخرستني علي نحو مرعب.

عاودتني مخاوفي القديمة، وتذكرت أسالبيهم.

صاح المأمور بصوته الاجش، وضحكته الساخرة:

- أهه ... شفته؟... يالله خدوه...مع السلامة.

وملأ الحجرة بالكلام القبيح.

لم أتبادل مع عفيفي إلا نظرة العين .. نظرة عين كانت مكسورة ووجه يكتسي بالحزن والغضب والمرارة.

كنت اهمس لنفسي:

- لقد عذبوه ... يا للعار.

مضي وعلي الباب استدار ناحيتي وابتسم.

خرجت من البوابة العمومية. كانت تنتظر هناك، وحين رأت حالي لم تنبس بحرف، وحين نظرت في مرآة السيارة رأيتها وهي صامته تغالب دموعها.

وداع أخير
كنا في المركز الطبي بمصر الجديدة. كانت الأسرة، وكان لؤي ولده، ننتظر نتيجة آخر تحاليل الكبد. اخبرني الطبيب أنا ولؤي بأن الحالة متأخرة، وان الأمر الآن في يد الله. حين خرجنا من المركز قال لي مطر ضاحكا وسط الجماعة:

- يا كفراوي أنا مّروح.

وضحك بصوت عال.

أيام قليلة وجاء خبر رحيله.

كنا أحبابه في «رملة الانجب» في وداع من أحببناه.

دخلت معه قبره، كنت أنا ولؤي، وكنا نبكي بصوت، وأنا أمسد جسد الصديق الذي عرفته كل العمر، اسمع كلماته التي كان يرددها امامي دائما «في تلويحة الوداع ويقول: حياتي مغسولة بعرقي، ولقمتي من عصارة كدحي وكريم استحقاقي، لم أغلق بابا في وجه احد، ولم اختطف شيئا من يد احد، ولم أكن عونا علي كذب أو ظلم أو فساد ... اللهم فاشهد»

خاتمة:

ميت أنت

لست تقوي علي البكاء

قل لي « كيف لك أن تبكيني

«بلا نطي»

الشاعر اذا روى
صحبة من سنين. مجرى في الزمن. لا تنفصل حياة الشخص عن شعره.

أربعون عاما؟!.

وحكمة ربك مستورة فى كتاب مؤجل!!

أوغلنا في القدم مثل تحف المتاحف، وعبر العمر وجدنا الشكل والمعنى.

والمدينة ذات زجاج شاحب، وأبراج، وبشر عوامون. رجل يضع ساقا على ساق عندما يحكى. يكون وسيما بشعر له جماله يقول: انتبه. عشت عمرى كله، وأنا قلق معلقا بين مخالب طائر جارح، محمود بالسياحات في الأعالي كلما حط ليستريح نقرته الدهشة بزيارتها المفاجئة.

أتذكر أنه قال لي: هل تتحقق أمنيتي بأن أموت فوق أكوام التراب في الغيطان مادمت لا أملك شرف الموت شهيدا؟.