يتناول الناقد العراقي هنا بعض الملامح العامة للسرد والرؤية عن القاص العراقي محسن الرملي، ثم يتوقف عن ثلاثة قصائد نثرية أخيرة له يحللها من المنظور الاجتماعي والنفسي، ويكشف عبر هذا التحليل كيف دمرت عملية «التحرير» الأمريكية للعراق، نسيج هذا البلد الاجتماعي وأطاحت بأمنه ومزقته بالفساد والطائفية المقيتة.

ها نحن أرواح بانتظار الانفجار

المنظور الاجتماعي والنفسي في ثلاث قصائد قصيرة لمحسن الرملي

وديـع العبـيـدي

«خيار الشاعر: منفى في الخارج، أو منفى داخل ذاته!» أدونيس

تقوم تجربة محسن الرملي الأدبية على ركيزتين رئيستين، اللغة، والمقطع الواقعي. والركيزتان على مستوى من التداخل والتكافل، بحيث يعسر تصور إحداهما بدون الثانية. ولكن في كل الأحوال تتقاطع هذه التجربة مع تراث المدونة العراقية أو العربية شعراً أو قصة. بعبارة أخرى أننا هنا أمام عملية تجديد وتعريق أدبية تمتح من بواطن التجربة الأدبية الاسبانية تحديداً والغربية عموماً. ولا ينبغي لهذا أن يعني تسجيل هذه التجربة في رصيد الكاتب الفلاني بذريعة تقارب الأجواء أو وجود قواسم مشتركة معينة، على طريقة التفكير والنقد العربي، قدر ما يدعو لاستبطان هذه التجربة والوقوف على جوانب أو مظاهر محددة فيها.

بدأ الرملي قاصاً ومسرحياً وعرف روائياً بلغة شعرية إنسيابية تتماهى فيها حدود السرد مع روح الشعر، ويذوب خلالها العقل داخل شحنات العاطفة والدفقات الشعورية التي تدفع اللغة مثل أمواج متوالدة تعقب الواحدة الأخرى في متوالية لا تبدأ ولا تنتهي. محسن الرملي هو صاحب النص المفتوح بحقّ، كاتب (المقاطع العرضية) من الحياة، لمن يتذكر عبارة (مقطع عرضي) من دروس النبات أو الحياة، [مقطع عرضي للجلد، مقطع عرضي لساق نبتة]. وظيفة محسن الرملي اقتصاص مقطع عرضي من تاريخـ(عراقـ)ه المعاصر ووضعه تحت عدسة مكبرة مليون مرة لاستفزاز شذراتها وشوائبها الدقيقة. ولتحقيق هذا الاستفزاز يستعمل القاص (مدي) ناعمة دقيقة جداً هي اللغة، لغة محسن الرملي المبهجة المبكية أو المؤسية في آن واحد. كان الاعتقاد الساري لدى الناس أن كتاب الكوميديا وممثليها هم الأكثر سعادة في العالم. الحقيقة أنهم الأكثر تعاسة وشقاء. وسرّ بهجة نصوص الرملي هو الأسى. الأسى القابع تحت جفون عينيه وهو ينظر نحو الأمام. تلك الشهقة المجروحة خلل بحة صوته. لذلك تنقطع الضحكة أو البسمة فجأة وتتكلس ملامحها على صورة الوجه، أقصد في أعماق الشعور. في اللاوعي.

لغة الرملي هي الفصحى العامية، التي نبتت بذورها في لغة الرصافي ومدونته الشعرية والأدبية الموروثة. سئل الكبير بلند الحيدري لماذا استخدم مفردة (سكين) ولم يستخدم (مدية) الأكثر فصاحة، قال أن كلمة (سكين) لها وخز وتصور عند سماعها أما الأخرى فتقرأ مثل كلمة أجنبية ليس لها دلالة نفسية في حياتنا الخاصة. بهذا المنظور يعجن الرملي المفردة العامية ويخضعها للنحو العربي، فتكتسب لغته نكهة خاصة، مثل نكهة (الهيل) العراقية أو (الميراميه) الشامية. ان الدلالة النفسية للمفردة، الدفقة العاطفية التي تشحن بها القارئ، الصدقية المفعمة، كل هاتيك تجتمع في كلمة (سكين) أو (هلهولة) أو (شوفة) أو (بوسة)، أو (عيني) العراقية. ولعلّ في هذا ما يلقي الضوء على فكرة التداخل والتكافل بين اللغة والواقع في تجربة محسن الرملي.

على صعيد الركيزة الثانية، يحتفظ الكاتب بمسافة كافية بينه وبين الواقع. محسن الرملي حذر جداً في أي شيء يخرج بسرده إلى الواقع (الآخر). يستخدم المؤلف دائماً صيغة المتكلم، ليؤكد لنا أنه يتكلم، ولكن عن (نفسه). فالكتابة لديه هي [ذاتية] وفق المصطلح الفني، ولكن هذه الذاتية تنطوي على مراوغة (تامة) في نفس الوقت. الرملي [ومن يكتب على هذه الشاكلة!]، ليس شخصية نرجسية ضّيقة، لا يضع زجاجة مزدوجة على عينيه، لكي تنعكس صورته في (بؤبؤ) العدسة. وانما هو شخصية اجتماعية حميمة وواعية وعياً مثقفاً. ولذلك تذوب القرية وشخوصها وحيواناتها وأفراحها ومناسبات زيجاتها وختانها جميعاً في رؤيته للذات، التي تستحق أن تدعى بالذات الجمعية، لتمييزها عن عقدة الذات النرجسية المهيمنة لدى قطاع آخر وكبير في إطار الثقافة.

الرملي في علاقته مع الواقع لا يخرج عن الذات، وفي علاقته مع اللغة لا يخرج عن الواقع. يشذّب نصوصه عشرات المرات ويضيق بأي حرف أو فارزة، زائدة. نصوصه القصصية، والروائية، والشعرية، كلها قصيرة، من كثرة التشذيب والاستئصال. الجدية المفرطة في نصوص الرملي وحياته، مبعث للألم. لأنها تجعل مساحة الفراغ [النسيان] محدودة، وربما معدومة. ولا حياة بلا نسيان. سئل الرصافي مرة لماذا يشرب الخمرة فقال .. [أن الحياة بحدّ ذاتها عبء ثقيل على الانسان وسبب متاعبها هو العقل الذي لا تخمد له حركة لا أثناء اليقظة ولا أثناء النوم، ولما كان العقل هو سبب المتاعب، كان في حظ الانسان أن يعيش بعض الزمن دون عقل وهذا ما يتم بشرب الخمر الذي يعطل مركز السيطرة في الدماغ.] مذكراته ص92. وأحسب أن الرملي بحاجة لهذه [الخمرة] في ثنايا نصّه، وربما يمنحه ذلك دفقات متواترة عندها، تساعده للتفريج عن مزيد مما يعتمل في دواخله.

في إطار تقنيته الحرفية في السرد، والتي تقوم على فكرة مدة أطول من الاعتلاج والاحتراق الداخلي لتجد الفرصة المناسبة، وجد في الأحداث السريعة المتلاحقة على بلده عبئاً فكرياً ونفسياً يزيد ضغطه على (قشرة الدماغ) ويبحث عن منفذ للتعبير، سرعان ما تشكل في صورة (لسعات) شعرية، ينغزها بين حين وآخر، في وسادة هنا، أو كتف هناك.

قصائد الرملي قصيرة، وجمله الشعرية قصيرة، وصوره الشعرية أو التقاطاته دقيقة حادة. وظيفة القصيدة، تبعاً، لدوافع (الأبداع) النفسي، تختلف عن وظيفة القصة والرواية، التي تتمتع بمساحة أوسع من الاسترخاء الذهني في تصوير سوريالية الحياة. وبينما تستمرّ ركيزتا اللغة والواقع (المقطعي) في تجربته الشعرية، تختلف تقنية اللغة ومعالجة الواقع هنا عن غيره. افتقاد (البهجة) أو وضوح (الأسى) الذي يتحول أحياناً إلى (سخرية) حادّة في شعره، يوحي أحياناً أن الرملي الشاعر أكثر إحساساً بالعزلة من الرملي القاص. ان القصيدة هي دفتر مذكراته الصغير الذي يحمله معه في (جيبه) أما (القصة) فهي دفتر الذكريات الذي يعود إليه مرة في الاسبوع أو الشهر أو أكثر. وربما لهذا تبدو قصائده أكثر مباشرة (لدى) القراءة السريعة، وأكثر إمعاناً في (شكلانية) اللغة. بيد أن الكلمة أو الحرف في الشعر ليست سوى (لغز) قابل للتأويل باتجاهات مختلفة، ومفتاح سحري يمكن أن يقود إلى عوالم غير متناهية، لم يعد (إيقاع) الحياة السريع والقراءات (الالكترونية) السريعة تمنحها فرصة التحقق والاستيلاد. بالمقابل، تساعد قصيدة [النثر] على منح دور الفكر أسبقية وتفوقاً على دور الشعور، وهو أحد معطيات ظهور الوعي [الحضاري] بدل سلطة (اللا) وعي الشعوري المقترنة بمرحلة حياتية بدائية أكثر التصاقاً وتعويلاً على الطبيعة في التأويل وإشباع الحاجات.

[1]

في إطار علاقته الجدلية بالواقعي، يختار الرملي (مقطعا) من المتحقق، يضعه في إطار [صورة] شعرية ويرتشه بلغة (سيكولوجية) ذاتية، لتأكيد الصلة الداخلية للنص وعدم تجاوز جغرافيا الذات. ان ربط العام بالخاص، والموضوعي بالذاتي يمنح النص خاصة (صدقية) تزيد من تواشجه مع ذات القارئ. وبدون التعرض [الاعلامي] المباشر لمشروع [تحرير] بلده، يتحول الوطن إلى حجرة أو مائدة وسط حجرة، [والوطن كان دائماً (مائدة) بغض النظر عن التأويلات] ، في هذه الحجرة تجري مراسيم (عيد ميلاد) للشاعر، ولم يبق غير تأثيث المائدة. وهنا تتواتر القصيدة.  مبتدأ جاء تشبيه الوطن (بكعكة) أو (كيكة)، وهو وصف تردد في لغة الاعلام دلالة على تنافس المصالح المغرضة واسلوب المحاصصات أو الخناجر الموغلة في جسد الوطن. وعلى غرار طاولة (عيد ميلاد) تنتصفها (كيكة) الوطن يستمر في استكمال بقية الاكسسوارات ولكنه بدلاً من الشموع التي تتوسط (الكيكة) يجد [صواريخ]، وبدل (النبيذ) يجد [دمه] في الكؤوس بأيدي المحتفلين الكثر، في سياق الاشارة إلى مغزى التشبيه بالكعكة والطاولة. مع جريان [الدم] في كؤوس شركاء الاحتفال، يحدث التحول في المشهد ، وتكتسب اللغة واقعية وشراسة أكثر. وهي صورة متناصة تماماً مع فكرة (القربان) المسيحي، الذي دمه (نبيذ) ولحمه (الخبز) وجسده (الهيكل / الكنيسة). أن البيت الذي يجري الاحتفال (..) فيه هو بيت [وطن] الشاعر، الذي سبق رؤيته على الطاولة في مستهل القصيدة. وأهل الشاعر ، تعرضوا للقتل، فانتفى مغزى الاحتفال، وفي انتفاء المغزى انتفاء للحدث، وبالتالي انتفاء (الولادة) الجديدة في الشرق الاوسط ، التي بشّر بها البنتاغون وحاشيته. فالقصيدة توصيف وتعبير عن خواء (الدعاية) الامبريالية وتفاهة (الشعارات) التي غلّفت وتغلّف سيناريو الفوضى المنظمة في بلد الرافدين.

(عيد ميلاد)..

وطني كعكة                                 والصواريخ الشموع

المحتفلون كثر                              ودمي في الكؤوس

البيت بيتي                                  وأهلي قتلى

فبميلاد من هذا الاحتفال                   وأنا المقتول..

          قبل ميلادي؟!.

[2]

بعد انتفاء وإلغاء مراسيم وطقوس ومبررات (الاحتفال) الدموي، وعدم تحقق الولادة ، يخرج الشاعر (الكامره) إلى الشارع، أو يمدّ نظره عبر (نافذة) الحجرة، ليصف ما يجري في الشارع حيث تختلط جحافل الجنود بالمعممين. ان الوظيفة هنا مزدوجة ومتداخلة ومتبادلة. جنود الاحتلال في (بلدي) (يقتلون أهلي) (وأنا في المنافي) (أتحدث عن حقّ التنفس). وكما كانت الحصارات متداخلة ومزدوجة من قبل، جاء (الاحتلال) أيضاً متداخلاً مزدوجاً، أنه لا يقتصر على احتلال الوطن وقتل الأهل، وانما ملاحقة أبناء الوطن المنفيين، والتضييق على حق(هم) في التنفس والحياة. بعبارة أخرى، أن مشروع [الولادة الجديدة] هو مشروع نقيض ومعاكس في حقيقته، يهدف إلى قتل (الانسان الحقيقي والوطن الحقيقي) لاستقراد (روبوت) بمواصفات إمبربالية عالية الجاهزية والتعقيد..

ما الفرق بين هؤلاء الجنود /                   وهؤلاء المعممين؟! /

معاً هم في بلدي/                      وأنا في المنافي /

معاً يقتلون أهلي /                    وأنا أتحدث عن حق التنفس.

[3]

في مقطع (عرضي) آخر تكشف الكامره مظاهر (فلسفة) التفخيخ التي يشترك فيها الجميع، أو طريقة القتل (عن بعد) [remote killing]، التي تتم فيها تصفية (الأهل) المناوئين لطاقم [الفيلم] ، والتفخيخ هنا له هو الآخر دلالة مزدوجة، تتعدى اليورانيوم المنضب والـ[TNT] إلى الأفكار السامة والمريضة التي تحتل العقول والأرواح. يقدم الشاعر صورة سوريالية عبثية تذكر بنهاية قصته (ليلة القصف السعيدة) التي تنتهي بالضحك الهستيري [الخردلي]، ولكنها هنا تتجمد في حالة الخوف (بانتظار الانفجار). وانفجار الروح صورة عامية عراقية متداولة التعبير دالة على نفاذ الصبر أو الاحتمال الذي تجاوز الحدود [طكَتْ رُوحَهْ - وْمَاتْ] [طكَتْ روحي – بَعَدْ مَا أكَدَرْ]..

السيارات مفخخة/

الشوارع والعقول مفخخة /

الكلاب والحمير مفخخة /

فخخنا التفخيخ بالخوف /

وها نحن أرواح بانتظار الانفجار.

[4]

في اللقطة التالية، يعود الشاعر خائباً إلى وحدته أو عزلته الأولى رافضاً حفلة (عيد الميلاد) الديماغوجية، مفضلاً الاستئناس بحياته (الحُلُميّة) على اجتراع مرارة العبودية والذلة، معيداً ترتيب معادلات حياته الجديدة. وكالعادة، يحدد الشاعر موقفه الواضح منذ العنوان أو السطر الأول، وبشكل حاسم وحادّ لا يقبل التأويل أو القسمة. (أنا وغيري) إقرار بالفصل بين طرفين وحالتين لا تلتقيان. وتوحي مفردة (غيري) من القوة والرفض الضمني وعدم الانسجام والتفاهم ما يسدّ الطريق على أية مراوغة ذهنية. ثم تبدأ القصيدة بتفصيل المشهد ووفق تقسيم الخنادق المتقابلة الدارج في المقاطع السابقة. وهنا يتسلّح الشاعر بالزهد (الممتلئ) بينما يمنح (الغير) مظاهر القوة والجبروت (الخاوية). الشاعر ابن القرية أو المنفى مكتفياً بـحياته اليومية البسيطة [ياسمينه (تدفئه) - كأس ماء (ترويه) – أم (تحنو عليه) – جارة (تحرسه)] بينما (الغير) يزهو بغير حق فيبدو مثيراً للسخرية والاستهجان (كقرد) في (قميص حرير)، تندلق في جوفه يومياً ملايين (براميل) النفط المسروقة، تحميه بنوك وتحرسه أبراج وينافقه (حاسدون). ويحقق المشهد [السينمائي] ذروته في السطر الأخير مجسّداً مركزية الصراع والتناقض في صورة [ربو وسيجارة] في جانب من المشهد يقابله [ضريبة على الهواء]. ورغم السخرية المبطنة التي تضيفها العبارة (الفنتازيا) هذه، لا تخفى الدلالة المادية الاقتصادية لكلمة (ضريبة) المنسجمة مع تراكم المفردات السابقة التي تخدم المصالح الاستراتيجية للعدو [براميل نفط، بنوك، أبراج (التجارة)، ضريبة] بينما تفتقد خصائص الجانب الأول الخاصة بالشاعر أية دلالة مادية مؤكدة على قيم المحبة والجمال والانسانية الحميمة واجترار العذاب [ياسمينه – ماء – أم – جارة – ربو - سيجارة]، وهي كناية واضحة عن تقاطع العقلية الغربية التي تستعبدها المادة (!) الزائلة ، مع العقلية الشرقية الأسمى والأدنى للروحانيات والجوهر الانساني والخلود.

(أنا وغيري)

لي ياسمينة                         وللقرد قميص الحرير

لي كأس ماء /                       ولأمريكا براميل النفط

لي أم وجارة في نافذتها ياسمين         ولكم بنوك وأبراج وحاسدون

عندي ربو وسيجارة                 وأنتم ضريبة على الهواء.

وهنا يظهر تناص فكري مع مقطع من قصيدة (الذات والعالم) لوديع العبيدي التي يرد فيها ..

ليست لنا.. 

مدن .. سحب .. أساطيل .. زنازين

لنا منابعنا..

مرابعنا.. بيوت الياسمين

لهم الخليقة كلّها!

ولنا اشتعالات السنين..         ص56 – مجموعة (أغنية الغبار).

الموسيقى الداخلية في النص:

يبدو (النبر) الموسيقي على أشدّه في المقطع الثالث القائم على تكرار (ف / خ) [فخ] بشكل متوالية دون استراحة ذهنية أو نفسية حتى يبدو كل شيء (مفخخاً) في ذهن المستمع [حتى الهواء] حسب تعبير النص. بيد أن ذروة النبر هذه قد تحققت عبر (تنامي) تدريجي سمته الهدوء والتراتبية.[1] ثمة تقابل ذهني بين [وطن / صواريخ – كعكة / شمعة – محتفلوون / كؤووس – بيتي / أهلي / قتلي – ميلاد / مقتول]. وفي مجال تشابه النبر تهيمن الواو هيمنة استثنائية على المقطع [وطن ، صواريخ، شموع، محتفلون، كؤوس، مقتول] بينما تحقق [طاء نون، صاد خاء، شين عين، ميم نون، كاف ثاء، كاف سين، ياء تاء ياء، ميم دال، ميم لام، ميم ياء] مستوى آخر في أوركسترا من عدة طبقات تتساوق في [خلفية] النص، ناهيك عن الثيمة المركزية التي تبقى تتأرجح كالبندول في ذاكرة القراءة [كعك، كاف عين كاف ، ك ع ك]. وتحقق نهايات الكلمات الأخيرة الثلاثة في المقطع [فال – تول – لادي / فا صول لا سي] مصوّتات ممدودة صارخة [فااااالْ – توووولْ - لادييي]، مهيئة لتسكين الصورة والانتقال لمشهد آخر بعد (إظلام) مناسب.[2] من الاظلام يتكشف صمت تتحرك خلاله الصورة، بعد وهلة يستمر صوت بعيد (أنثوي / عميق) [ئوود~ ئوود~ نوود~ ئوود] يعقبه مباشرة جواب عالي مع صدى [مممممين معمممين] تتخلله [آء ~ آء ~ آء] [آء~ ئوم~ آء~ ئوم] تعقبه [معمممين~ معممعمين] ثم يتداخل الصوتان الأنثوي والرجالي [ئوود ~ ئووود~ ممممعممين~ معممعممين] بينما تتراجع [آء~ آء] إلى الخلف كصوت سحيق. وتتقابل في هذا المقطع أسماء الاشارة [هؤلاء - هؤلاء] وضمائر منفصلة [هم - أنا] أو [معا - أنا] ، وتتعاقب ضربة (الياء) العميقة [بلدي – منافي - أهلي]، بينما تخدم نهاية (تنفس) الساكنة صيغة الاستفهام المنتهية بسكون من عدة طبقات من صدى يجعل الكلمة تتوالد [تنفس~ أنفس] الدالة على جمع والمقابلة لصورة (أهلي).[3] يتكون النبر هنا من مستويين، أمامي وخلفي. في المقدمة تهيمن [فخفخة - تفخفخ] بينما تهيمن نبرة (الراء) في المستوى الثاني موازيا للأول كما في [شوارع، أرواح، انتظار، انفجار، حمير]. وقد انسجمت نبرة [نهاية] المقطع (آر- R) مع مضمون المقطع المرتبط بالقنبلة والتفخيخ بدلالتيه الحربية والفكرية، والمعادلة لنفاد الصبر والاحتمال حسب الدالة العامية.[4] تعقب الانفجار فترة صمت [انعدام الموصوّتات] كما في بداية المقطع الثاني، تهيئ لحركة الكامره إلى [ماضٍ – منفى - يوتوبيا] يبدو فيها الشاعر في عزلته، ويبتدئ نبر (ياء) من [لي ياسمينه] يقابله [قميص – حرير - أمريكا – برميل – عندي – سيجارة - ضريبة] يلحظ هنا هيمنة واضحة لأحرف العلة في كل الأسطر [لي – عندي – سيجارة - بنوك – حاسدون – ربو – هواء - ابراج ] وتتناسب نهاية [هواء ~ آء] مع مقطع صوتي سابق لتنظيم الصوت بين مقاطع المشاهد الصورية التي تتعاقب أمام القارئ/ المشاهد. ويقتضي للضرورة التمييز الموسيقي بين طرفي الصراع بدالة حرف معين أو الأحرف الصامتة والأحرف الصائتة بما يمنح الصورة العمق النفسي المنشود.  

النسب المعمارية:

ثمة علاقة عضوية مزدوجة بين المقطعين الأول والرابع، على صعيد التقارب النفسي (عيد ميلاد) (عزلة شخصية) بينما الطرف الآخر يلعب (الغير) بجنونه العسكري في المقطع الأول، وجنونه (الاقتصادي) في المقطع الرابع.  وعلى صعيد البنية يستخدم الشاعر نظرية التقابل (المعماري) في المقطعين ، قاسماً النص إلى نصفين (متناظرين)، فيتناظر النصفان داخل المقطع من جهة، كما يتناظر النصفان الأول والثاني من المقطع الأول مع كل من النصفين الثالث والرابع على التوالي. [1~ 3 (ذاتي)—2~4 (غيري)]. بينما تلتحم وحدة عضوية بين المقطعين الثاني والثالث التي تجسد احداهما (هوية) وطبيعة الفاعلين، بينما يمثل الآخر (المقطع - 3) طريقة الفعل وفلسفة القتل.

البطولة المختزلة أو الغائبة:

مراجعة لقطات المشاهد السابقة تكشف عن غياب [أو- تغييب] عنصر رئيسي في جوهر الصراع الممثل بالشاعر [صاحب القضية]، فهو (مقتول) قبل ميلاده في المشهد الأول، وهو (محروم) من حق التنفس كناية عن القتل في المشهد الثاني، وهو [روح (مفخخة) تنتظر الانفجار (الطكَـ)] في المشهد الثالث، وهو (ربو) محاصر بين عدوين (داخلي) ممثل في السيجارة، و (خارجي) ممثل في الديون والفواتير المفتوحة، ودلالة الربو (الاختناق). فيكون الموت بفعل فاعل أي (القتل) هو القاسم المشترك لحالة البطل المؤشرة في أواخر المقاطع/ المشاهد الشعرية. هذا الاختزال (المتعمّد) في النص هو كناية عن (تغييب) العنصر المحلي في الصراع الممثل في [إرادة/ رأي] الشعب العراقي في سيناريو[ تحرير العراق] الأمريكي القائم على جملة معادلات سياسية وصفقات بينية مع أطراف دولية – اقليمية – محلية، غايتها الانقضاض على البقية الباقية من (أرواح) الشعب العراقي الموحّد. الغائب الوحيد فيها هو الضحية (المظنون). وبذلك ينجح الشاعر في تجسيد مغزى الاحتلال ومراميه في شريط سينمي شعري موجز ومعبر، يمكن الاستعاضة فيه عن الصوت بالصورة والتخطيط والتشكيل والكثير من الموسيقى التصويرية الحيّة من تراكمات (التراجيديا) العراقية المعاصرة.  

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

              نشرت القصيدة في العدد الأول من مجلة [صدى المهجر] لصاحبها الدكتور لطفي الحداد، الصادرة في أمريكا وبيروت.

              محسن الرملي (1967) قاص وشاعر مقيم في اسبانيا له : أوراق بعيدة عن دجلة، الفتيت المبعثر، ليالي القصف السعيدة، شفاه من تمر، نائمة بين الجنود، تفاحات بغداد، كلنا أرامل الأجوبة. 

              معروف الرصافي في مذكراته- تحقيق الدكتور يوسف عزالدين- منشورات دار المدى- بيروت.