لقد اصطلح على اعتبار السماحة فرعاً من فروع حسن الخلق والسلوك. وجاء إطلاق اسم (السماح) على رقص جمعي رزين تضافر إبداع عربي مشرقي مع إبداع عربي أندلسي في ابتكاره وتطويره مؤكداً مقولة أن لكل من اسمه نصيب! هي رقصة جماعية قديمة ذات ألحان خاصة بها، لعل سبب تسميتها بالسماح أنها أصلاً رقص إيقاعي ديني "أدوات الإيقاع فيها كالكوبة مسموح بها عرفاً وعادة وشرعاً. وذكرها دوزي في تكملته وعدّها من رقص الدراويش. واختصت حلب دون سواها برقص السماح". كما كتب المرحوم خير الدين الأسدي عن رقصة السماح في (موسوعة حلب المقارنة)، وقد أورد بعد ذلك مقولة من الأمثال الشعبية المتداولة في حلب هي: "عمرك شفت دب برقص سماح؟" كما أشار إلى مصدر تسمية هذه الرقصة: السَماحة: عربية: مصدر سَمُح وسَمَح.
بالعودة إلى المعاجم العربية القديمة، مثل المحيط للفيروزأبادي (القاهرة 1952، ص277)، ومحيط المحيط للبستاني الذي ذكر أن رقص السماح هو رقص للمشايخ يستعملونه في العبادات (ج1، بيروت، ص93)، والصحاح في اللغة والعلوم للجواهري (مجلد1، بيروت 1974، ص609)، نجد أن معنى سمح والسماح (بفتح السين وكسرها) هو الجود والكرم، والصفة للذكر سمح، وللمرأة سمحة، وللنسوة سماح بكسر السين، والسماحة تقال للجود والندى، وتطلق على الرحابة والمواتاة واللين، فيقال في المتسع مسمح، وفي القوس المواتية قوس سمحة، والعود الذي لا عقد فيه عود سمح، والملة التي ليس فيها ضيق ملة سمحة، والتسميح هو السير السهل، وتسامحوا تساهلوا، وشاع من هذا المدلول لاحقاً السماح بمعنى الإذن والإباحة.
رجّح أكثر الباحثين أن مبتكر رقص السماح هو الشيخ عقيل المنبجي بن الشيخ شهاب الدين البطايحي الهكاوي، المتوفى سنة 550 للهجرة، والمدفون في بلدة منبج إلى الشمال الشرقي من مدينة حلب. كان الشيخ عقيل هذا متصوفاً يقيم الأذكار في بيته، ويعلّم تلاميذه ومريديه التواشيح والأناشيد والإيقاع. أما تدوين رقص السماح على النحو التي هو عليه اليوم فينسب الفضل فيه لأحمد عقيل الذي التصق به لقب (صاحب) السماح، وقد نشر هذا النوع من الرقص وقام بتعليمه لمئات من المهتمين بالفن في حلب. وهنا نلاحظ أن هذا الرقص كان متلازماً مع الإنشاد، ولا يزال هكذا، لكن التغيير الجوهري الذي طرأ عليه هو أن ذلك الإنشاد كان قديماً أدعية وأذكاراً واستغاثات وقصائد صوفية، وبات الغالب عليه اليوم أداء الموشحات الأندلسية، وما ماثلها من موشحات حديثة، وكذلك القدود الحلبية وقصائد الغزل. وهكذا ميز باحثون، مثل عدنان بن ذريل، بين سماح التكايا الذي تؤديه حلقات الذاكرين بوقار ورزانة وخشوع بحركات تعتمد رفع الجسم على رؤوس أصابع القدمين ثم خفضه، مع الدوران يميناً أو يساراً ربع دورة أو نصف دورة أو دورة كاملة بالتعاقب وفق الإيقاعات العربية الشرقية المتناسقة؛ وسماح المدارس والمؤسسات التربوية الذي يمتاز بالرشاقة وسرعة الأداء، ويحافظ على احتشام الحركات والكلمات والملابس؛ والسماح المسرحي المدروس والمتحرر نسبياً للفرق الفنية المحترفة؛ والسماح الريفي الشعبي الذي لا زالت بقاياه موجودة في إدلب وأرمناز ودرعا وسواها، مزيجاً من قبا وشيخاني، وخطوط سحجات وسماح محتشم، تتعمد خطواته وحركاته التفخيم والتهويل، ويتداخل معه رقص شعبي ريفي بالسيف أو المنديل، ويمتاز بغلبة اعتماده على الطبل، بينما يعتمد رقص المدن أكثر على الدف والمزهر والناي، وترافقه قدود شعبية، ويلتزم التنسيق والهدوء والرزانة.
وقد لعب عمر البطش (1885–1950) دوراً هاماً في تطوير الصيغ المعاصرة لرقص السماح والخروج بها من حلقات الذكر وزوايا وبيوت المتصوفة، ونقل هذا الرقص إلى دمشق حيث قام بتدريب طالبات مدرسة "دوحة الأدب" على رقص السماح، ثم قام بتدريسه وتدريس الموشحات في المعهد الموسيقي الشرقي بدمشق سنة 1947، ثم قام بتشكيل وتدريب فرقة كبيرة لرقص السماح من طلاب وطالبات الجامعة السورية (جامعة دمشق حالياً) أدت رقصاتها في مناسبات عديدة على مدرج الجامعة الكبير. تميزت ألحان عمر البطش بجماليات كثيرة، وقد ترك لنا مئة وأربعة وثلاثين موشحاً منها نحو ثمانين موشحاً مدونة في كتب أو مسجلة في إذاعتي دمشق وحلب. ومن موشحاته المشهورة: "يا ذا القوام السمهري"، "سبحان من صور حسنك"، "هذي المنازل".
وكان معدل الموشحات في كل وصلة ما بين ثلاثة إلى خمسة، مدة كل منها نحو نصف ساعة. لحّن عمر البطش وصلات من الراست والزنجران والنكريز والنهاوند واليكاه والحجاز كار كرد. من موشحات وصلة اليكاه مثلاً: "صاح قم للحان"، و"مفرد الحسن المبين"، و"حسنك النشوان"، و"مبرقع الجمال"، وابتكر وصلات متشابكة من مقامات الرصد والحجاز والبيات على أوزان المحجر والمربع والمدور والمخمس والسماعي والثقيل الدارج. ولعل من أجمل رقصات السماح تلك التي تتم تأديتها على إيقاعات موشحات البطش الذي أدخل على رقص السماح تجديداً مهماً، وابتكر إضافات ارتقت به حتى أقرن بعضهم هذا الرقص باسم عمر البطش "يا عريباً في الحمى" و"لما بدا يتثنى" و"إن طال جفاك يا جميل". لقد كان الرجل رائداً على هذا الصعيد، أقر بفضله أبرز مدربي ومطوّري رقص السماح اللاحقين بعده. وكانت ما بين عقيل المنبجي وأستاذه محمد الوراق صاحب موشح "ياسيد الكونين" وسواه، وصولاً إلى عمر البطش ومن تلاه، أسماء عديدة أسهمت في تطوير وانتشار رقص السماح، مثل محمد سلمو، ومصطفى الحريدي، ومحمد أبو الوفا، محمد المعضم، وصالح الجدبة، وأحمد عقيل، وأحمد الشعّار، وأحمد جنيد، وأحمد الأبري، وعلي الدرويش ثم ولده نديم، وبكري الكردي، ومجدي العقيلي، وبهجت حسان، وصبري المدلل.
نلاحظ هنا تحولاً مماثلاً إلى حد ما طرأ على رقص المولوية الصوفي الذي ابتكره جلال الدين الرومي، وأراده تعبيراً جسدياً راقياً عن التسامي الروحي، متوسلاً قصائد وأدعية وأذكاراً صوفية تصاحب الحركة الدورانية للجسد التي هي من المحاور الرئيسة لرقص المولوية. فقد شهدت العقود الأخيرة تحولاً جزئياً في الأناشيد المصاحبة لرقص المولوية الصوفي، كما طرأ تحول أشد غرابة هو الانتقال بأماكن أداء رقص المولوية من حلقات الذكر الصوفية إلى مطاعم ومنتديات، وحتى مرابع ليلية في بعض البلدان!
أثار شعر جلال الدين الرومي، وما يواكبه من موسيقا ورقص المولوية، سؤالاً مشروعاً هو: هل لنا أن ننسب هذا الرقص إلى فن إسلامي، أو ننسب شعره إلى أدب إسلامي؟ هنا يصح سؤال آخر تتصل إجابته بالإجابة على السؤال السابق: هناك فكر إسلامي بالتأكيد، ولكن هل يصح قول بوجود أدب إسلامي مستقل ومتمايز، وفن إسلامي مستقل ومتمايز أيضاً؟
أجبنا على هذين السؤالين في محاضرة ألقيناها في الندوة الدولية عن جلال الدين الرومي التي أقيمت في جامعة حران في مدينة قونية التركية (26-28/10/2007)، فذكّرنا بأن رابطة الأدب الإسلامي العالمي التي تأسست في (لنكو) بالهند اعتبرت أن الأدب الإسلامي هو التعبير الفني الهادف عن الإنسان والحياة والكون وفق التصور الإسلامي. كما اعتبرته ريادة للأمة، ومسؤولية أمام الله عز وجل، أدباً ملتزماً، التزام الأديب فيه عضوي نابع من التزامه بالعقيدة الإسلامية أساساً، ورسالته جزء من رسالة الإسلام. كما اعتبرت الرابطة أن "الأدب هو الطريق لبناء الإنسان الصالح"، وجعلته "مسؤولاً عن إنقاذ الأمة الإسلامية". وقررت الرابطة أن وجود الأدب الإسلامي حقيقة منذ انبلج فجر الإسلام، يستمد عطاءه من مشكاة الوحي وهدي النبوة، ويمتد عبر العصور إلى حاضرنا ليسهم في الدعوة إلى الله عز وجل، ومحاربة أعداء الإسلام والمنحرفين عنه. كذلك اعتبرت أن "الأدب الإسلامي هو أدب الشعوب الإسلامية على اختلاف أجناسها ولغاتها، وخصائصه هي خصائص فنية مشتركة بين آداب الشعوب الإسلامية كلها". وفقاً لهذا يعتبر إبداع جلال الدين الرومي أدباً إسلامياً بامتياز، وفناً إسلامياً بامتياز. لقد وجد شعر الرومي مئات الملايين من المعجبين الذين بهرهم هذا الجانب أو ذاك، من فكر ومضمون، أو شكل وصياغة، أو موسيقى وإيقاع، أو موهبة فذة فيما وصفه الشاعر الفرنسي فاليري برقص الكلمات. لكن للرومي نظرته الخاصة إلى شعره الباحث أبداً عن الحقيقة، بقوله: "وما الشعر عندي حتى أفاخر به؟ إن لي فناً خاصاً لا يوجد عند الآخرين". إلى جانب ما أحاط شعر الرومي به وجمعه من عاطفة متدفقة وخيال خصب وفلسفة عميقة وتعبير مبدع وحسن اختيار القوافي وروعة الصور البيانية التي برع في اختيارها من مشاهد الطبيعة وأحاسيس الإنسان المرهفة، تلفت موسيقاه العذبة النظر بمثل ما تطرب السمع، إذ إنه قد استخدم فيها ثمانية وأربعين وزناً عروضياً ابتكر هو عدداً منها. وقد انطلق جلال الدين الرومي عموماً من قاعدة ثقافة علمية عقلية وتجريبية إلى تصوف يتمرد على الجسد ويحتقر المادة عموماً، على نحو يذكّرنا بالعالم الطبيب الفيلسوف الشاعر ابن سينا، وبالفيلسوف الصوفي محي الدين ابن عربي في فهمه تحويل الحضرة الخيالية صوراً محسوسة إلى صور شهودية، أو تجليات يدركها الخيال دون وساطة لمعطى محسوس. شرح ابن عربي آلية هذا التحول بقوله إن الخيال (التجلي) يقيم تفاعلاً بين المرئي واللامرئي، بين الجسماني والروحي نتذكر هنا قول الإمام أبو حامد الغزالي: "من لم يحركه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره، فهو فاسد المزاج، ليس له علاج"، وفي هذا رد كاف على الموغلين في الجهل المتزمت ممن ذهبوا إلى حد رفض سماع الألحان المعزوفة، بل وحتى إلى تحريمه وتحريمها.
وهكذا، فلجلال الدين الرومي فضل مؤكد في استخدام الموسيقى على نطاق واسع في طقوس الرقص الصوفي الذي تمثله رقصة المولوية التي ابتدعها وأرادها سمواً للروح سعياً إلى اكتشاف الحب الإلهي والذوبان فيه. ولئن أقبل المتصوفة على الغناء، خلافاً لما ذهب إليه المتشددون من كراهية لامست تخوم التحريم، فقد كان شرط المتصوفة في الغناء -ولا يزال- حسن النية وشرف القصد. شكلت الرقصات ذات الجذور الدينية، المصحوبة بأشعار المتصوفة أو بعبارات تسبح الخالق عز وجل وتمجده وتستغفره إضافة إلى مدائح نبوية، نموذجاً هاماً من نماذج التراث الشفوي الذي تتوارثه الأجيال. ولعل من أبرز هذه الرقصات رقصة (السيما) رمز الحب الإلهي التي اشتهرت بها وبرقصات أخرى فرق المولوية الصوفية التي انطلقت من مدينة قونية التركية، حيث مرقد مبتدعها المتصوف والفيلسوف والشاعر جلال الدين الرومي. لقد تم تطوير هذه الرقصة وأخواتها وكما لحق بها تحوير كثير عبر القرون منذ وفاة الرومي. لا تزال هذه الرقصات تشكل أبرز المعالم الثقافية لمدينة قونية التي كانت يوماً عاصمة الروم السلاجقة. لكنها تجاوزت موئلها وأصلها وجوهرها، وانتشر أداؤها، وكثرت فرق رقصها، جنباً إلى جنب مع رقصة الدراويش وسواها مما تؤديه عدة فرق في سورية ومصر والمغرب.
كان أصل الرقصة استغراق جلال الدين الرومي بالألم والوجد عندما علم أن شيخه الذي قاده إلى التصوف، شمس الدين التبريزي، قد قتل في دمشق يوم5/12/1247، فارتدى الرومي جبة رمادية ولف جسده بعباءة سوداء، وراح يدور هيمانا ويتمايل ويئن، ومنذ ذاك الحين استغرقه الرقص الصوفي وموسيقاه، فكانت رقصة المولوية المنسوبة إليه. يلفت النظر هنا أن كثيرين في سورية يطلقون على رقصة المولوية المنسوبة إلى (مولانا، المولوي) جلال الدين الرومي، اسماً محرفاً هو (الميلوية)، وهذا إما تحريف للاسم الأصلي، أو هو تسمية قريبة من تلك الأصلية منشؤها وصف حركة الراقصين في (الميل) يميناً ويساراً، قبل أن تشتد حماستهم ويبدأ دورانهم حول أنفسهم إفرادياً، ودورانهم الجمعي حول مركز القاعة التي يؤدون الرقصة فيها. وتمثل رقصات المولوية الدائرية اللولبية -المصحوبة بإيقاعات موسيقية والمنتشرة إلى يومنا على نطاق واسع- حركة الحياة الإنسانية في دورانها حول محورها. ومع الحركة الدائرية، تبدأ اليد اليمنى بالارتفاع مع تحرك الجذع إلى الأعلى، طالبة البركة من الله لتمنح الخير والعطاء والبر للناس، مع خفض اليد اليسرى إلى الجانب الآخر نحو الأرض. تمتد اليد اليمنى أحيانا إلى منتهاها، بينما تكون اليد اليسرى مضمومة إلى الصدر أمام القلب مباشرة. يدور الدرويش دورة كاملة حول نفسه على أصابع قدم واحدة مثبتة على الأرض، بينما القدم الأخرى تدور مع دوران الجسم. أما العينان فتنخفض نظراتها إلى الأرض أو تطبق الجفون عليها، والرأس محني إلى الكتف. تخف سرعة الدوران الجمعي وحركة الراقصين بالتدريج بين دورة جمعية وأخرى إلى أن تتوقف. وتمثل هذه الدورات الجمعية تعاقب فصول السنة في إطار الحركة الفلكية الكونية التي تدور فيها الأرض حول نفسها، وكذلك حول الشمس في الوقت نفسه. ويلفت النظر ارتفاع الجزء السفلي من ملابس الراقصين شيئاً فشيئاً مع اشتداد سرعة دورانهم، مشكِّلة ما يشبه المظلات المفتوحة. كما يلاحظ أن أرض قاعة الرقص تكون مقسومة في منتصفها بخط رمزي يمثل خط الاستواء في منتصف الكرة الأرضية، ويعلل تحريم سير الراقصين فوقه بأنه يمثل الصراط المستقيم في سعي الروح نحو الحقيقة الإلهية. تشمل أناشيد منشدي الفرقة ترانيم وابتهالات وتسابيح وصلوات، ثم تلاوة أشعار لجلال الدين الرومي من ديوانه الضخم (المثنوي)، وأخيراً تواشيح مختارة. كل هذا بمصاحبة الناي أساساً، ومع أنغامه يتداخل أو يواكب عزف على سواه من آلات وترية وهوائية. وقد أجمع الدارسون على أن لجلال الدين الرومي فضل استخدام الموسيقى على نطاق واسع في طقوس الرقص التصوفي. ولئن أقبل المتصوفة على الغناء، خلافاً لما ذهب إليه متشددون كثر من كراهية لامست تخوم التحريم، فقد كان شرط المتصوفة في الغناء، ولا يزال حسن النية وشرف القصد. إن تفرد المولوية في الاعتماد الكبير على العزف المصاحب للإنشاد في مجالس الذكر، مع استخدامهم معظم الأدوات الموسيقية، وخاصة الطبل والربابة والقانون والطنبور، وفي مقدمها جميعاً الناي بأنغامه الحزينة، قد نسب لهم فضل تطوير ألحان هذه الرقصات. لقد أدخل الرومي السماع في الرقص الصوفي وسيلة لاستدعاء الحضور الإلهي، أو بالأحرى ليحس الإنسان عودته الشعورية إلى أصله، إلى حالته السماوية السابقة لإنزاله إلى الأرض. اعتبر جلال الدين الرومي السماع ترياقاً يشفي من كل علة، وسبيلاً إلى السكينة والتحرر من سجن الماء والطين، معتمداً على ألحان تمهّد للانتقال إلى حالة تسمو بالشعور، وكان توفيقه كبيراً إذ اختار الناي بأنغامه الحزينة النفاذة إلى أعماق الروح، أداة رئيسة لعزف ألحان مصاحبة لكلماته وحركات راقصيه.
نعود إلى رقص السماح، الذي نرى قدراً كبيراً من تشابه أصوله وتطوره مع أصل رقص المولوية وتطوره، وإن كانت رؤيتنا هذه تختلف عن النظرة السطحية التي لأمثال المستشرق الهولندي دوزي R.P.Dozy (1825-1883) القائلين بتطابق رقص السماح التام مع رقص الدراويش المولوية، حيث نرى ضرورة ملاحظة مواطن التباين والاختلاف بينهما. يلفت النظر ما طرأ على الأناشيد والموشحات والقدود، التي تشكل العنصر الأول من العناصر الرئيسة لرقص السماح، من تطور شمل وواكب تطور الألحان، وبالتالي الأدوات الموسيقية التي يستخدمها العازفون المرافقون لمؤدي رقص السماح. فلم تكن هناك من أدوات في البدء سوى الدفوف والمزاهر، وفي أحيان قليلة الصنوج. أضيف الناي الثقيل لاحقاً إلى تلك الأدوات في مرحلة متأخرة. ولئن لم يكن هناك في حدود علمنا مرجع يبيّن ما قد جرى من سجال أو أخذ وردّ حتى استطاع الناي أن يقتحم ساحة رقص السماح، ويحتل موقعه بين أدواته الموسيقية، فإننا لا نتردد في تخيل الاعتراضات والجدل لدى التجرؤ على ضم العود والقانون إليها. وطبيعي أن الإيقاعات التي قام عليها رقص السماح، سواء منها القديم الأصلي، أو المضاف لاحقاً، وسواء منها البسيط مثل المصمودي والسادة دويك والفالس، أو المركب مثل المربّع والمحجّر والمخمّس والشنبر وسواها، قد شهدت بدورها شيئاً من التطوير. على أن ما يجمع بينها كلّها هو كونها إيقاعات ضغوط تقوم على تناسق النقرات القوية، والنقرات الضعيفة في طاقم، بحيث تشكل مجموعة النقرات وحدة توزينية قائمة بذاتها، تعاد وتكرر كلّما انتهى نقرها، على نحو يتم معه التزام أزمنة هذا الطاقم على امتداد المقطوعة المغناة أو المعزوفة. وهذا هو نفس المبدأ العربي القديم لوزن الشعر والغناء والألحان الموسيقية، أي مبدأ التوصيل والتفصيل، بحيث تتساوى الأزمنة أو تتفاوت في الطاقم الواحد من النقرات.
كتبت د. بغداد عبد المنعم تقول: "لم يُعرفْ هذا الرقص إلا في مدينة حلب، وعمقه التاريخي يقترن بذات البعد التاريخي لفن الموشح .. فقد ارتبطا معاً، ومعاً نضجا في الزوايا الدينية، وهي الأصل الذي خرج منه رقصُ السماح ليكون في كل تطوراته اللاحقة رقصاً راقياً محتشماً .. دقيقاً، ولأنه رقص جماعي فقد احتاج إلى التناغم والتوافق في الأداء الحركي الشامل للجسد. وكان للثياب التي يرتديها الراقصون (أو الراقصات فيما بعد) دور مهم، فكأن هذا الرقص التراثي قد جمع كلَّ أبعاد زمانه الفنية والثقافية من حيث: البعد الموسيقي والذي يتجلى في لحن الموشح، والبعد الشعري في (شعرية الموشح) نفسها، والبعد الإنساني (التجلي الجسدي والنفسي للراقص أو الراقصة)، والبعد المتعلق بالأزياء وهو بعدٌ فني مهم في التشكيل النهائي لهذه اللوحة الفنية التاريخية، هذا الفن الذي خرج من عمق البنية الثقافية والمجتمعية في مدينة حلب، ما لبث أن انتشر في كل مناطق سورية، ولا سيما في دمشق". لقد أسهم الروّاد الأوائل من المتصوفة والمهتمين بالتواشيح والأناشيد الدينية ومطوري هذا الرقص في انتشاره، واتسع نطاق الانتشار بعد استقلال سورية عبر الفرق المسرحية الأولى، ثم عبر المسرح المدرسي وفرق مثل فرقة حلب للفنون الشعبية وفرقة التلفزيون السوري وفرق بعض الأندية الفنية. ثم عرِفته معظم بلاد الشام وتعلقت به باعتباره رقصاً راقياً يواكب غناء الموشحات التي تؤدى أداءً جماعياً، واتسع نطاق انتشاره أكثر لدى عرضه في العديد من البرامج التلفزيونية، ثم لدى تأدية فرقة "أمية" التابعة لوزارة الثقافة السورية هذه الرقصة في فيلم "عقد اللولو" الذي ظهر سنة 1964 وكان من بطولة دريد لحّام. واستقر رقص السماح في الوعي الشعبي، مشهداً وسَمَاعاً شديدي الغنى والتأثير من حيث الحركة الإيقاعية للراقصين (أو الراقصات) والأزياء التي يرتدونها وهي تحمل عمقاً تراثياً مؤثراً بانسدالها وحشمتها وألوانها ومنسوبها الألواني البراق والنوعي. وسوى المشهدية البصرية فهناك الثراء السماعي، الذي تقدمه كلماتُ الموشح وهي غالباً نوعٌ راق ورقيق من البحور البسيطة غير أن مضمونها المعنوي غالباً ما يمسُّ حواراً وجدانياً ونفسياً وحالات إنسانية نبيلة. أما البعد الموسيقي فهو الرؤية الدافقة الغامرة والتي حَمَّلَها الموسيقيون والوشاحون بأجمل الألحان، وأكثرها اقتراباً من الوجدان والنفس. تلك التي جاءت من الأندلس (جنوب اسبانيا) إلى المشرق العربي، ثم إلى حلب فاكتسبت الموشحات نكهة جديدة وانبثق لها ومنها (رقص السماح) ولتعيد حلب تصديره من جديد إلى العالم. وقد يعطينا تاريخ الموشح شيئاً من ظلال تاريخ رقص السماح، فقد نشأتْ الموشحات في الأندلس أولاً، كما يؤكد أكثر الباحثين العرب والأسبان، وقد حمل الأندلسيون إرثهم الثقافي والعلمي والفني المزدهر معهم عندما طوردوا لدى انهيار دولتهم العربية/ الإسلامية منذ القرن السادس الهجري إلى المغرب العربي وشمال إفريقيا، وأكثر ما انتشر وتمايز من هذا الإرث وانتقل بسرعة نحو المشرق العربي الموسيقا والألحان والآلات.
وقد انتابت الموشح تطوراتُ البيئة الجديدة التي انتقل إليها، وصار الموشح المشرقي يختلف عموماً عن الموشح الأندلسي الذي انطلق من الشعر ـ بعداً كان يفرض نفسه على الموسيقا واللحن، إذ كان للموشح الأندلسي أوزانه الشعرية الخاصة، كما جاء في كتاب د. فؤاد رجائي (الموشحات الأندلسية)ـ فقد هيمن اللحن على الموشح وحدد قالبه وأوزانه في المشرق العربي، وفي حلب بالذات. ونظراً للخصوصية الموسيقية لهذه المدينة وغناها بالموسيقيين والمغنيين وكان عددهم كبيراً كما ذكر الشيخ كامل الغزي في كتابه "نهر الذهب في تاريخ حلب"، إضافة إلى استقبالها موجات موسيقية مشرقية، هندية وإيرانية وتركية، فقد اكتسب الموشح حين وصل إليها نكهات جديدة فظهر فيه الجانب التطريبي، ثم رافقه رقص السماح، ومن الغريب أن معظم الموشحات الحلبية التي ما زالت متداولة اليوم مجهولة الملحن والمؤلف، لكنها استطاعت أن تغرس جذورها في الذاكرة الحلبية، فتناقلتها الأجيال بشغف واعتزاز، وحافظت عليها بحرص شديد. من هذه الموشحات: "يا بهجة الروح"، "يا من لعبت به الشمول ما ألطف هذه الشمائل"، "لما بدا يتثنى"، "بالذي أسكر"، "أياً بارق العلم"، "حير الأفكار بدري"، "املأ لي الأقداح صرفاً"، "ياربة المحاسن"، "يا هلالاً غاب عني"، "يا عذيب المرشف"، "بدت من الخدر"، "قال لي برموز من لواحظه"، "ما لعيني أبصرت"، "يا عاقد الحاجبين"، "يا مجيباً دعاء ذا النون".
ومثلما انتشر رقص السماح من حلب إلى معظم مناطق سورية بفضل عمر البطش ومن سبقه وتلاه، كان رائد المسرح السوري أحمد أبو خليل القباني (1832-1903) صاحب الفضل الرئيس في نقله إلى خارج سورية. فقد تعلم هذا الموسيقار والمسرحي الدمشقي رقص السماح، حتى بات من أشهر مدربيه وناشريه، وعندما انتقل للعيش في مصر نشر هذا الرقص الراقي فيها، وتلقاه معظم المصريين بشغف.
من المفيد قبل التوسع في تفاصيل رقص السماح وعراقتها وسر استمرار الاهتمام بها والتجاوب معها لنحو تسعة قرون، جيلاً في إثر جيل، أن نشير إلى أن دراسات عديدة جعلت لغة الجسد، التي يعتمد الرقص عموماً عليها مكملة للغة المنطوقة. وهنا يكمن أحد أسرار نجاح واستمرار رقص السماح، فالحركات الرزينة المتناسقة المعبرة لمختلف أعضاء أجساد راقصي السماح ورقصاته تمثل إبداعاً أصيلاً ناطقاً. بهذه الخلفية نقف متمعنين في رحاب رقصة السماح التي استطاعت أن تبهر مشاهديها على امتداد زمن طويل، بما لها من تأثيرات عميقة تنفد إلى أعماق النفس البشرية، عاكسة ميزات نادرة وخصائص إيجابية قلّما تتوفر لرقصة جمعية أخرى. ففي رقصة السماح الرصينة اجتمع القصيد المعبّر الرقيق المغنى، والألحان التي تطرب مستمعها وتثير شجنه، والملابس الجميلة المحتشمة، والحركات الجسدية الجمعية الرزينة المنسقة المعبّرة في أداء متكامل منسجم يتسامى بالمشاعر، ويترك لدى المشاهدين/ المستمعين أثراً إيجابياً وانطباعاً حسناً. ولعل من السهل ملاحظة مدى تفوّق رقصة السماح هذه بالذات على مثيلاتها في استقطاب التجاوب الجمعي الهادئ لدى المتلقين الذين يعبرون عن إعجابهم ورضاهم برصانة ورقي على نحو يليق برصانة الرقصة نفسها ورقيها.
لقد أخذ مطورو رقص السماح حركاته وأغانيه وأناشيده من التكايا والمحافل الشعبية وفرق الرقص والغناء في الأعراس والمقاهي أصلاً، حيث كان هذا الرقص يصاحب غناء الموشحات الدينية والقدود الحلبية والأناشيد وأغاني العشق الإلهي. وقد راعى تحديث رقصات السماح قيام وصلات الرقصة على وصلات من الموشحات، يتخللها أحياناً غناء قدود حلبية ذات نغمة مماثلة. أصل هذه الوصلات النوبة، أي جماع غناء المغنين أو المؤدين أو المنشدين في حلقة أو مجلس طرب، فيغني كل منهم أغنيته أو نشيده بترتيب متفق عليه، وبالتناوب مع غيره، كل وفق دوره المقرر. وشمل هذا التحديث إدخال شيء من الغزل المحتشم على الأشعار والنظم المغنى، مثلما شمل الإيقاعات الشرقية العريقة المصاحبة لحركات وخطوات الراقصين والراقصات. ومع تطوير رقص السماح وتعليمه في المدارس التي راحت فرقها الفنية تؤديه، وتعرضه في احتفالاتها السنوية وفي مناسبات أخرى اتسع نطاق انتشاره، وطرأ على كلماته وألحانه وحركاته شيء من المرح والسرور والبهجة، إلى أن جاء عرضه في أشرطة سينمائية وبرامج تلفزيونية ومسرحيات عديدة، فتضاعف شيوعه وانتشاره.
من أبرز دارسي هذا الرقص عدنان بن ذريل الذي ألف كتاباً عنوانه "معجم رقص السماح". وقد استعرض بن ذريل خصائص رقص السماح، التي يمكن إيجازها بجماعية هذا الرقص، إذ تؤديه مجموعة من الذكور، أو مجموعة من الإناث. وقد كان من تطوراته أن بدأت تؤديه مجموعات مختلطة من الجنسين معاً. كما أن من خصائصه تمايز الإيقاعات المصاحبة له، حيث يقوم كما أشرنا على إيقاعات شرقية عربية ملائمة لخطوات وحركات المؤدين. كما يمتاز هذا الرقص بالاحتشام والرزانة في الأناشيد والحركات والملابس والإيحاء، فلا خلاعة ومجون واستثارة غرائز دونية، ولا صخب يطيح بتوازن النظارة أو يهز اتزانهم. وبكل اطمئنان، نستطيع تأكيد أن رقص السماح نموذج راق للرقص الجمعي المغنى الذي تتم تأديته بأدب جم وسهولة وانسياب وبراعة. وقد شبهه بعض الباحثين بالأوبرا والأوبريت. وإذ نشدد على أن لكل من رقص السماح ورقص المولوية، (أو الدراويش) خصائصه وجذوره وآفاق تطوره، مع أن ما يجمع هذين الصنفين هو كون كليهما رقصاً تعبيرياً مسرحياً يصاحب الغناء، تشكل قصائده الملحنة المغناة التي يقوم الراقصون بتمثيلها بحركات جسدية بارعة إضافة تثري الغناء والألحان. وباختصار، نستطيع أن نتوقع حياة مديدة لرقص السماح قد تمتد قروناً أخرى، ليظل مفخرة من مفاخر تراثنا، ومعلماً من معالمه الواعدة التي حملت معها منذ ولادتها بذور بقائها وعوامل تجددها ومقومات تطورها.
(الباحثون ع43، كانون الثاني 2011)
مراجع ومصادر:
(1) كامل الغزي، نهر الذهب في تاريخ حلب، تحقيق د. شوقي شعث ومحمود فاخوري، دار القلم العربي، حلب.
(2) الأسدي خير الدين، موسوعة حلب المقارنة، جامعة حلب، ط1، 1984م.
(3) نجيب العقيقي، المستشرقون، دار المعارف – ط4 – القاهرة – ج. م. ع.
(4) فؤاد رجائي، الموشحات الأندلسية، سلسلة من كنوزنا، حلب 1954.
(5) أدهم الجندي، موسوعة "أعلام الأدب والفن"، دمشق 1954.
(6) مجدي العقيلي، السماع عند العرب، وزارة الثقافة، دمشق1979.
(7) مجدي العقيلي، رقص السماح أو الحركات الإيقاعية، فنون، العدد 36، 16/ 4/ 1979.
(8) عدنان بن ذريل، الموسيقا في سورية، وزارة الثقافة، دمشق1969.
(9) عدنان بن ذريل، معجم رقص السماح، مطابع ألف باء الأديب، دمشق1970. انظر أيضاً تلخيص قاسم خضير عباس لهذا الكتاب بنفس عنوانه في مجلة (التراث الشعبي، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، العدد12، السنة العاشرة 1979، ص154-161).
(10) سليم زبّال، رقصة السماح: رقصة عربية عمرها ألف عام، مجلة العربي، الكويت، آذار 1959، ص26.
(11) د. خير الدين عبد الرحمن، لمحات من فيض الإبداع المتنوع لجلال الدين الرومي، الندوة الدولية عن مولانا جلال الدين الرومي والمولوية، جامعة قونية، تركيا، 28/ 10/ 2007.
(12) د. بغداد عبد المنعم، رقص السماح قيمة ثقافية راقية، الباحثون، دمشق، العدد 32، شباط 2010.
(13) زهير مارديني، السماح، الأسبوع العربي، بيروت 8/ 2/ 1965.