العصر الذهبي للأدب السرياني:
يعتبر القرن السادس للميلاد القلب النابض لعصر السريان الذهبي، لوفرة الإنتاج الأدبي فيه، وجودة العطاء العلمي وتنوعه، وكثرة العلماء الأعلام، والأدباء اللامعين، والشعراء المفلقين، وانتشار المدارس في طول بلاد الشرق وعرضها، وتأسيس المكتبات الزاخرة بآلاف المخطوطات في شتّى فنون العلم والمعرفة.
ومما لا يختلف فيه اثنان أن الأدب السرياني أدب ديني مسيحي المنبت، كنسي المنشأ. وخواصه إما كتابية تعنى بدراسة الكتاب المقدس وشرحه وتفسيره، وإما طقسية تهتم بتنظيم العبادة، وإما لاهوتية وجدلية تحاول تثبيت العقائد الدينية، وإما تاريخية تدوّن وقائع التاريخ الديني والمدني القديمين والمعاصرين، وإما نقلية تنقل إليها أسفار الكتاب المقدس من لغاته الأصلية، وتترجم شتى العلوم من اليونانية وغيرها من اللغات كاللاتينية والفارسية.
وأغلب من وصلت إلينا مصنفاتهم هم من رجال الكنيسة، كما أن جلَّ المدارس السريانية أسست في الأديرة والكنائس. فصانعو العصر الذهبي للعلوم والآداب السريانية إذن هم من رجال الكنيسة. ولذلك لا يستكمل بحثنا دون إلقاء نظرة فاحصة وسريعة على أحوال الكنيسة والعالم الشرقي في ذلك العصر، لنتعرف على التربة التي نبت فيها الأدب السرياني والمناخ الذي ساعد على نموه وإعطائه الثمار الناضجة.
الحالة السياسية والتنافر المذهبي:
كانت بلاد الشام وسواحل البحر المتوسط وآسية الصغرى تنوء تحت وطأة الحكم البيزنطي. أما بلاد العراق فقد كانت تحت الحكم الفارسي. وكانت الدولة الفارسية تنازع الدولة البيزنطية السيادة على الشرق وكانت الحروب قائمة بين الدولتين باستمرار حتى الربع الأخير من القرن السادس.
كما اشتدّ النزاع المذهبي بين الفرق المسيحية، فالقرن السادس هو فترة تنافرات مذهبية جاءت نتيجة للشقاق الذي صدّع جوانب الكنيسة المسيحية على أثر مجمع أفسس عام 431م، ومجمع خلقيدونية عام 451م، وتفاقم الخلاف حتى بدا تأثيره السيء في أوائل القران السادس على اللغة السريانية نفسها إذ انقسمت من حيث لفظها وخطها إلى قسمين يعرفان تقليدياً بالغربي والشرقي نسبة إلى مواطن الشعوب التي كانت تتكلّمها. ويعتبر نهر الفرات، على وجه التقريب، محوراً يفصل بين هذين الطرازين. فما كان واقعاً في مشرقه اتّبع أهلوه اللفظ والخط «الشرقي»، وما كان في غربه، اتّبعوا اللفظ والخط «الغربي». وبتعبير آخر، إن غرب نهر الفرات كان يشمل بلاد الشام، وشرقه كان يشمل بلاد ما بين النهرين والعراق وأذربيجان. على أن هذا التوزيع الجغرافي لا يستقيم في كل الأحوال. فإنه يستثنى من القسم الشرقي الشعب العراقي السرياني الأرثوذكسي الذي يتبع التقليد الغربي.
وسنقتصر في بحثنا هذا على دراسة بعض العلماء والأدباء من أتباع التقليد الغربي وهم السريان الأرثوذكس.
إمبراطور بيزنطية يضطهد الكنيسة:
عندما جلس يوسطينوس الاول على عرش الامبراطورية البيزنطية عام 518م أثار اضطهاداً عنيفاً ضد الكنيسة السريانية الأرثوذكسية والكنائس المتحدة معها بالإيمان فغادر مار سويريوس بطريرك أنطاكية مقر كرسيه والتجأ إلى مصر حيث أقام زهاء عشرين سنة يدبّر الكنيسة السريانية بنوّابه ومراسلته. ولم يقوَ الاضطهاد على إيقاف نشاطه الأدبي والديني، بل حفّزه على الكتابة فخلّف لنا مؤلفات جمّة وضعها باليونانية ومنها نقلت إلى السريانية. ونفي مار فيلوكسينوس المنبجي واستشهد مخنوقاً بالدخان، وهكذا امتلأت السجون برجال الكنيسة السريانية. ووسّع يوسطينوس شقة الخلاف المذهبي واستغله في السيطرة على مصر وبلاد الشام وسلب غلاتهما.
ومات يوسطينوس سنة 527م فورثه على عرش بيزنطية ابن أخته يوسطينيان ومعه تيودورة زوجته، وكانت هذه سريانية أرثوذكسية فعطفت على رجالات كنيستها ولكنها لم تتمكن من إيقاف الاضطهاد لأسباب سياسية وإدارية حيث اتّهم أتباع عقيدة المجمع الخلقيدوني زوجها بالتحيّز للمنفيين انصياعاً لرغبتها.
لم يقوَ الاضطهاد العنيف على إيقاف نشاط السريان الروحي، الذين لم يكتفوا بالدفاع عن عقيدتهم الدينية داخل حدود المملكة البيزنطية، بل حملوها بلغتهم السريانية إلى بلاد بعيدة، من ذلك أن الامبراطورة تيودورة اختارت القس يوليان السرياني الذي كان يخدم لدى البطريرك الاسكندري، وأرسلته إلى أثيوبيا (الحبشة) فنصر الأحباش: ملكاً وشعباً وتمسّكت كنيسة أثيوبيا بالعقيدة الأرثوذكسية وهي متحدة بشركة الإيمان الواحد مع الكنائس الأرثوذكسية غير الخلقيدونية. كما أن تأثير اللغة السريانية ظاهر في اللغة الأمهرية، اللغة الطقسية لكنيسة أثيوبيا الأرثوذكسية، إذ قد اقتبست الأخيرة كلمات سريانية ومصطلحات دينية لا تحصر. كما أنها لا تزال تستعمل أنافورا (كتاب القداس) من وضع مار يعقوب السروجي ملفان الكنيسة السريانية المتوفى سنة 521م.
وكان السريان قد اوصلوا بشارة الإنجيل المقدس واللغة السريانية وطقسهم الديني الأنطاكي إلى بلاد الهند منذ صدر النصرانية، وواصلوا إرسال البعثات في القرون التالية، ولا يزال تأثير الأدب السرياني الطقسي ظاهراً هناك، كما أن الكنيسة السريانية في الهند لم تزل تستعمل إلى جانب لغاتها المحلية اللغة السريانية والألحان السريانية في طقوسها الدينية ويخضع زهاء مليونين من الهنود للكرسي الرسولي الأنطاكي للسريان الأرثوذكس.
المدارس السريانية ومكتباتها:
اشتهر السريان بمدارسهم التي أسسوها في الأديرة والكنائس وفي القرى والمدن التي استوطنوها، قال في ذلك البحاثة أحمد أمين ما يلي: «كان للسريان في ما بين النهرين نحو خمسين مدرسة تعلّم فيها العلوم السريانية واليونانية .. وكانت هذه المدارس يتبعها مكتبات .. وكان في الأديار السريانية شيء كثير لا من الكتب المترجمة في الآداب النصرانية وحدها بل من الكتب المترجمة من مؤلفات أرسطو وجالينوس وأبقراط، لأن هؤلاء كانوا محور الدائرة العلمية في ذلك العصر، وكان السريان نقلة الثقافة اليونانية إلى الإمبراطورية الفارسية». كما نقلوها في العصر العباسي إلى العرب.
وكانت مواد الدراسة في هذه المدارس لاهوتية على الغالب، واستعانوا بالفلسفة اليونانية على إثبات الحقائق الدينية، واهتمّوا إلى جانب اللاهوت والفلسفة بعلوم الطب والفلك والرياضيات والطبيعيات والتاريخ والآداب وغيرها.
وكانت اللغة السريانية لغة البلاد في ذلك العصر اللغة الرسمية للمعاهد السريانية، فهي لغة الكنيسة والأدب والتجارة في آن واحد إلى جانب اليونانية التي كان يتكلّمها الشعب اليوناني في المدن الكبيرة. وكان السريان يعرفون عدة لغات دائماً، فإن الذين اهتموا منهم بالمحاماة درسوا اللغة اللاتينية، أما الذين عكفوا على دراسة الفلسفة فتعلّموا اليونانية، ولكن بقيتهم وخاصة اولئك الذين وجدوا خارج المراكز ذات الصفة العالمية فإنهم تمسّكوا بلغتهم الوطنية: اللغة السريانية. ذكر البطريرك يوحنا فم الذهب المتوفى سنة 407م بإحدى عظاته في أنطاكية أن أغلب الذين كانوا ينصتون إليه من الكهنة والشعب لا يتمكنون من فهم عظاته باليونانية لأن لغتهم هي السريانية.
واشتهرت الأديرة السريانية بمدارسها الزاهرة، وانتشرت حول مدينة أنطاكية من ذلك مدارس دير مار باسوس، ودير تلعدا، والجب الخارجي. كما اكتظت على جبل الرها، وطورعبدين ونصيبين، ورأس العين وغيرها. واشتهرت منها في القرن السادس خاصة مدرسة قنسرين التي أنشأها سنة 530م يوحنا بن أفتونيا المتوفى سنة 538م مؤسس دير قنسرين نفسه على الضفة الشرقية لنهر الفرات إزاء مدينة جرابلس. واهتمّ بها كثيراً فصارت أكبر مدرسة لاهوتية سريانية في ذلك العصر، وحتى اوائل القرن التاسع، وبقي الدير عامراً إلى اواسط القرن الثالث عشر. وتخرّج في تلك المدرسة علماء أعلام، منهم ساويرا سابوخت في القرن السابع للميلاد الذي على يده، في ما يقال، وصلت الأرقام الهندية إلى العرب. ووضع مؤلفات فلسفية وفلكية قيّمة.
واكتظت الأديرة ومدارسها بالخطاطين الذين أغنوا الأديرة والكنائس بالمجلدات الضخمة، فتكونّت المكتبات السريانية وانتشرت في كل مكان، ومن أشهرها مكتبة دير والدة اللّه في وادي النطرون بمصر، الذي يدعى أيضاً بدير السريان، وهو عامر. وتزهو اليوم مكتبات الشرق والغرب بالمخطوطات السريانية التي جاءتها من مكتبة هذا الدير لوفرتها، ونفاستها، وقدمها، حيث يرتقي عهد بعضها إلى القرنين الخامس والسادس للميلاد. وقد حفظ لنا الدهر من مخطوطات القرن السادس مخطوطتين للكتاب المقدس، الاولى في مكتبة الفاتيكان كتبت سنة 548م، والثانية في مكتبة فلورنسة خطها سنة 586م الربان رابولا، ولذلك تدعى بـ (إنجيل رابولا)، وتتخلل هذه المخطوطة ست وعشرون صورة ملوّنة.
ترجمة الكتاب المقدس وبعض العلوم إلى السريانية:
وفي القرن السادس بدأ علماء السريان الأرثوذكس ينقلون بعض العلوم عن اليونانية. وجاء ذلك نتيجة حتمية للنزاع المذهبي فيما بينهم وبين اليونان البيزنطيين، وحاجة السريان إلى نقل مؤلفات الآباء القدامى والمعاصرين الذين كتبوا بغير السريانية، فتزاوجت الحضارة السريانية بحضارات أخرى، واغتنت اللغة السريانية، بل بلغت اوجها. قال في ذلك العلامة البطريرك أفرام الاول برصوم ما يلي: «بلغ الأدب السرياني في القرن السادس أرقى الدرجات في الفن والبلاغة .. وكانت اللغة تختال مزدهرة بلفظها الرصين وجلبابها الناصع وأسلوبها القديم».
وكان الكتاب المقدس، بعهديه، موضع اهتمام علماء السريان، وكانوا قبل القرن السادس يعتمدون خاصة نسخة الترجمة البسيطة (فشيطتا) وسميت كذلك لترك البلاغة في ترجمتها، وهذه الترجمة جرت على يد جماعة من اليهود المتنصرين في القرن الاول، وحوت أسفار العهدين كلها ماعدا رسالتي مار يوحنا الثانية والثالثة، ورسالة مار بطرس الثانية، ورسالة مار يهوذا. فقدّم لنا القرن السادس ترجمة سريانية جديدة لأسفار العهد الجديد سميت بـ (الفيلوكسينية) وقد تمّت عام 505م على يد الخوري بوليقر بولس بعناية مار فيلوكسينوس المنبجي المتوفى سنة 522م ونسخها نادرة اليوم، كما ترجم شمعون رئيس دير ليقين في اوائل القرن السادس سفر المزامير إلى السريانية، وتناول علماء السريان الكتاب المقدس شرحاً وتفسيراً، فتركوا لنا في هذا الباب كنوزاً ثمينة.
علماء السريان وأدباؤهم في القرن السادس:
بانتشار المدارس السريانية، وتهافت طلاب العلم عليها، لمع للسريان في القرن السادس علماء يشار إليهم بالبنان، وأدباء أفذاذ ولاهوتيون قديرون وفلاسفة كبار، ومؤرّخون ثقات، وشعراء فطاحل، اشتهر أغلبهم في شتّى أبواب المعرفة. لذلك رأينا أن نترجم في هذه العجالة نخبة منهم، على سبيل المثال لا الحصر، ونعدّد أهم ما وضعوه من مصنفات.
المؤرّخون:
لمؤرخي السريان في هذه الحقبة فضل كبير في تدوين حوادث التاريخ المدني العام والخاص، والتاريخ الديني الكنسي، ولا سيما ما جرى في القرنين الخامس والسادس. أشهر هؤلاء المؤرّخين هم:
1- يوحنا الأفسسي (ت 587م):
من أشهر مؤرّخي السريان وأكثرهم فضلاً، ولد في بلدة (اكل) من ولاية آمد حوالي سنة 507م ودرس في دير يوحنا الأورطي في شمالي آمد، وترهب وتروّض على يد النسّاك ودوّن أخبارهم، واضطهد وشرد معهم، وفي سنة 542م اوفده القيصر يوسطنيانس لتبشير الوثنيين في ولايات آسيا الصغرى وقاريا وفروجيا ولوديا وحوالي سنة 558م رسمه يعقوب البرادعي مطراناً لأفسس فنسب إليها وإلى آسيا الصغرى. فأقام زهاء تسع وعشرين سنة ونصر زهاء ثمانين ألفا وبنى لهم الكنائس والأديرة. وعام 571م أذاقه القيصر يوسطينوس الثاني صنوف العذاب في السجون والمنفى وانتقل إلى جوار ربه في حدود سنة 586 أو 587م ونعت بمنصِّر الوثنيين، ومكسّر الأصنام ومؤلف تواريخ البيعة «ألّف تاريخاً كنسياً في ثلاثة مجلدات قوام كل منها ستة أبواب: الأول والثاني من عهد يوليوس قيصر حتى سنة 571 وضمن الثالث أخبار الكنيسة والعالم من سنة 571 حتى سنة 585 ويقع في 418 صفحة». وهو أقدم تاريخ لمؤرخ سرياني أرثوذكسي انتهى إلينا. إن المجلد الاول مفقود فيما نعهد. والثاني وقد نقل برمته تقريباً إلى التاريخ الذي ألّفه الراهب الزوقنيني عام 775م ونشرت منه شذرات على حدة. والثالث موجود باستثناء صفحات قليلة سقطت منه وتوجد منه نسخة فريدة ترقى إلى القرن السابع وقد نشر هذا المجلد ونقل إلى لغات اوربية. كما ألّف مار يوحنا سير النساك الشرقيين الذين تحادث مع معظمهم وله رسائل شتّى ذات أهمية تاريخية.
2- زكريا الفصيح: توفي بعد سنة 536م:
ولد في غزة ودرس علمي النحو والبيان في مدرسة الاسكندرية وفي سنة 516م كتب باليونانية سيرة زميله وخدينه البطريرك مار سويريوس، تتضمّن أحواله منذ ولادته حتى جلوسه على الكرسي الأنطاكي ثم نقلت هذه السيرة إلى السريانية وقد رسم سنة 527م أسقفاً على جزيرة مدللي.
أهم مؤلفاته تاريخ ديني مدني مسهب من سنة 450 ـ 491م وضعه باليونانية وترجم إلى السريانية بشيء من التلخيص، وفقد الأصل اليوناني وبقيت الترجمة السريانية. نقله مار ميخائيل الكبير (ت1199) إلى كتابه التاريخ الديني المدني العام. كما كتب زكريا سيرة أشعيا الناسك وبطرس أسقف مايوما وثاودورس أسقف انصنا وتوفي بعد سنة 536م.
3- المؤرّخ السرياني المجهول:
عاش في غضون القرن السادس، وله تاريخ يتناول الفترة التي بين 131 ق.م إلى 540م.
اللاهوتيون:
اشتدّ في هذه الحقبة النزاع المذهبي كما ذكرنا آنفاً، وظهر فيها لاهوتيون قديرون وضعوا المجلدات القيمة في كل أقسام علم اللاهوت منهم:
1- مار فيلوكسينوس المنبجي (ت 522م):
ولد في بلدة تحل من كورية باجرمي، محافظة السليمانية بالعراق، قبيل منتصف القرن الخامس للميلاد، واسمه السرياني (أخسنويو) أي (غريب) وسمي فيلوكسينوس لدى رسامته مطراناً. وهو اسم يوناني معناه (محب الغربة) درس في دير قرتمين، ومدرسة الرها ودير تلعدا ترهّب ورسم كاهناً ثم رسم مطراناً لمنبج عام 485م نفي عام 518م إلى فيلبوني في ثراقبة ثم غنغرة حيث استشهد مخنوقاً بالدخان عام 522م.
وصل إلينا من مؤلفاته التفسيرية شروحه على الأناجيل في مخطوطتين من القرن السادس في المتحف البريطاني. وكان قد اهتمّ بنقل العهد الجديد من اليونانية إلى السريانية على يد الخوري بوليقربوس، وعرف بالنقل الفيلوكسيني، وقيل نقل العهد القديم أيضاً إلى السريانية.
وكان المترجم لاهوتياً من المرتبة الاولى ومؤلفاته في هذا الباب كثيرة منها كتاب في التثليث والتجسد في ثلاث مقالات ضد الخلقيدونيين. كما كتب عشر مقالات وسبعة وعشرين فصلاً ضد النساطرة وغيرهم وله ثلاث ليتورجيات وطقس عماد ورسائل وعونيثات وقوانين للرهبان.
أما كتابه الموسوم بـ (طريق الكمال) فهو درة مؤلفاته الأدبية الروحية دبّجه في اوائل القرن السادس للميلاد بلغة سريانية نقية تتجلى فيها مقدرته الأدبية.
قال بشأنه، الدكاترة كامل والبكري ورشدي في كتابهم الأدب السرياني ما يلي: «.. ومع أن أكسنايا كان رجل كفاح وجهاد فإنه كان إلى جانب ذلك، أديباً نابهاً وكاتباً رقيق العبارة والسريان يعدّونه في المرتبة الاولى من كتّابهم. ومع أن السمعاني لم يترك فرصة للحط من قدره، إلاّ أنه كان مع ذلك مضطراً إلى أن يعترف بأنه من خيرة كتّاب السريان».
2- مار سويريوس الأنطاكي (ت538م):
ولد نحو سنة 459 في سوزوبليس من ولاية بيسيدية ودرس النحو والبيان في الاسكندرية باليونانية واللاتينية، والفقه والفلسفة في بيروت فتبحّر بكل هذه العلوم. وترهّب في دير رومانس في بلدة مايوما بفلسطين، ورسم كاهناً، وأنشأ ديراً، واشتهر بالزهد، والدفاع عن العقيدة الأرثوذكسية. رحل إلى القسطنطينية بمئتي راهب عام 508 للدفاع عن المعتقد، ومكث فيها زهاء ثلاث سنوات. ولما عزل فلبيانس الثاني بطريرك أنطاكية انتخب مار سويريوس ورسم بطريركاً لأنطاكية وذلك عام 512 وفي اضطهاد يوسطينوس الاول للكنيسة الأرثوذكسية سنة 518 هرب مار سويريوس إلى مصر ومكث فيها عشرين سنة يدبّر الكنيسة بنوابه ومراسلته ووضع مؤلفات جمّة باليونانية كانت تترجم حالاً إلى السريانية وتنشر وهي دينية وجدلية وطقسية وتفسيرية وخطب. وكان يوسطنيان الامبراطور البيزنطي قد أمر بحرقها وتشديد العقاب على من يستنسخها أو يحوزها فلم يبقَ منها باليونانية إلا النزر اليسير ولكنها حفظت بترجماتها السريانية وأشهرها: ثلاثة عشر كتاباً قيماً لاهوتياً وجدلياً، ومئتان وتسعة وخمسون معنيثاً في روح الشهداء والقديسين دخلت أغلبها الطقس البيعي وتنشد في الآحاد والأعياد. وله مئة وخمس وعشرون عظة تسمى بـ (خطب المنابر) بين طويلة وقصيرة جمعت قديماً في ثلاثة وعشرين مجلداً لم يصلنا منها سوى مجلّدين ضخمين وهي لاهوتية، وشرعية، وتاريخية، وإدارية.
ومما حملنا على وضع مؤلفات مار سويريوس في عداد التراث السرياني، هو أنها نقلت إلى السريانية بأسلوب بليغ على يد المطران بولس الذي رسم مطراناً على الرقة في الربع الاول من القرن السادس وكان متبحراً باللغتين اليونانية والسريانية وحين اضطهد يوسطينوس الاول رجال الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، غادر المطران مركز أبرشيته إلى الرها سنة 519 واهتم بنقل أغلب مصنفات مار سويريوس إلى السريانية فدُعي بمترجم الكتب، وكثير من هذه المصنفات قد ترجم إلى لغات اوربية ونشر فيها.
3- مار شمعون الارشمي (ت 540م):
كان عالماً جليلاً، سمي بالمجادل، واشتهر بالدفاع عن حق الكنيسة الأرثوذكسية وتثبيت أتباعها على التمسك بعقيدتها. رسم أسقفاً على بلدة بيت أرشم الواقعة على ضفة نهر دجلة بالقرب من المدائن، قبيل سنة 503 ونصَّر في حيرة النعمان خلقاً كثيراً وشيّد لهم كبار القوم فيهم كنيسة، كما تلمذ ثلاثة من زعماء المجوس استشهدوا في سبيل الإيمان. اوفده القيصر أنسطاس سفيراً إلى ملك الفرس فأزال الشدة عن المؤمنين. وسجن بأمر ملك الفرس سبع سنين في نصيبين، رحل إلى القسطنطينية ثلاثاً وكانت المرة الثالثة لمقابلة الملكة تيودورة فوافته المنية هناك شيخاً طاعناً بالسن في نحو سنة 540م.
وضع مار شمعون مؤلفات شتّى لاهوتية، ورسائل عديدة أنفذها إلى المؤمنين في بعض الأماكن. وصل إلينا منها ليتورجية (كتاب القداس) ورسالة كتبها سنة 511م بسط فيها أخبار برصوما النصيبيني وانتشار النسطرة في بلاد فارس وغلق مدرسة الرها. وهي أقدم مستند لهذين الحدثين ورسالة ثانية أنفذها سنة 524م من الحيرة إلى شمعون رئيس دير الجبول وفيها يفصل أخبار استشهاد المسيحيين الحميريين الذين قتلهم مسروق ملك اليمن اليهودي قبل كتابة الرسالة بسنة واحدة. نشر جويدي المستشرق الإيطالي في رومية سنة 1881م الجزء الأكبر من هذه الرسالة كما نشرها المستشرق السويدي اكسل موبرج سنة 1924 مترجمة إلى الإنكليزية. ونشرها السمعاني مع الرسالة الاولى في مكتبته الشرقية. وهناك رسالة أخرى للأرشمي نشر دراسة عنها قداسة البطريرك العلامة مار إغناطيوس يعقوب الثالث في كتابه (الشهداء الحميريون العرب) قال في المقدمة: «في خزانتنا البطريركية، مخطوطة سريانية ضخمة من القرن الثاني عشر... وقد لفتت نظرنا ما بين ورقتي 421 ـ 425 قصة عنوانها (قصة أي شهادة الطوباويين الحميريين الذين تكللوا في مدينة نجران) فطالعناها فألفيناها مشتملة على رسالة ثانية لمار شمعون الأرشمي أنفذها في تموز 524 من حيرة جبلة ملك الغساسنة إلى شمعون رئيس دير الجبول في سورية الشمالية، أي بعد بضعة أشهر من كتابة الرسالة الاولى إليه من حيرة النعمان مضيفاً إلى ما جاء في الاولى أخباراً جديدة قيمة استقى بعضاً من حديث بعض النجرانيين الذين شهدوا شهادة مواطنيهم ونقل الباقي عن رسائل وردت إليه من نجران».
الفلاسفة:
توغل السريان في دراسة الفلسفة واستعانوا بها على إثبات الحقائق الدينية خاصة في فترة النزاع المذهبي، وقد تبعوا فلسفة أرسطو وعرفوا منه المنطق ومن منطقه المقولات العشر. وتبعوا الفلسفة الفيثاغورية والأفلاطونية بحكمها التهذيبية وتعرّفوا على الأفلاطونية الجديدة الداعية إلى الزهد بالدنيا. وأشهر الفلاسفة السريان في القرن السادس هم:
1ـ اسطيفان بن صوديلي (ت 510م):
ولد في النصف الثاني من القرن الخامس سريانياً أرثوذكسياً، ورحل في شبابه إلى مصر طلباً للعلم، فلقنه رجل اسمه يوحنا مذهب (البانثئست) وهو وحدانية الوجود أي أن الإله الواحد هو كل الكائنات وأن كل طبيعة مساوية في الجوهر للذات الإلهية والجوهر الإلهي. وعاد من الاسكندرية إلى الرها. وشرع ينكر أبدية عذاب جهنم. ويقول أن الخطاة يعودون بعد تطهيرهم إلى اللّه مفسّراً آية الرسول بولس «كي يكون اللّه الكل في الكل» (1كو 15: 28) بما يوافق آراءه. ففنّد مار فيلوكسينوس المنبجي آراءه هذه برسالة أنفذها إلى ابراهيم وآريسنتوس قسيسَيْ الرها. وكذلك دحض مار يعقوب السروجي ضلالة ابن صوديلي فحرم هذا وطرد من الرها فقصد فلسطين ووجد هناك رهباناً على مذهب اوريجانس عاش معهم وكان يراسل تلاميذه في الرها وتوفي في اواخر القرن السادس.
وضع بلغة سريانية بليغة كتاباً في موضوع أسرار الكنيسة. دسّ فيه آراءه الفلسفية متبعاً الفلسفة الأفلاطونية الجديدة الداعية إلى الزهد بالدنيا ونسب الكتاب إلى ايرثاوس أستاذ ديونيسيوس الأريوباغي. كتب البطريرك قرياقوس (ت817) عنه قائلاً: «إن الكتاب المنحول إيرثاوس ليس له ويحسبه بعضهم من وضع ابن صوديلي المبتدع» وقد شرح البطريرك تيودوسيوس (887 ـ 896م) هذا الكتاب كما شرحه المفريان ابن العبري (ت 1286م) مثمنين آراءه في التصوف والنسك والزهد.
ولابن صوديلي أيضاً شروح رمزية على المزامير يوجد نبذ منها في المتحف البريطاني يعود تاريخها إلى القرنين التاسع والعاشر. وله أيضاً شروح صوفية على الكتاب المقدس مفقودة. ورسائل.
2- سرجيس الرأسعيني (ت 536م):
إمام عصره في الطب والمنطق والفلسفة والعلوم الطبيعية وهو أول النقلة من اليوناني إلى السرياني لدى السريان الغربيين. وقد تبحّر باللسانين ودرس الفلسفتين الأرسطاطالية والأفلاطونية الجديدة في الإسكندرية. وصار قسيساً سريانياً أرثوذكسياً في مدينة رأس العين الواقعة على منابع نهر الخابور في الجزيرة بسورية. ولعل ولادته كانت فيها. وتقلب في المذهب الديني، ومات في أنطاكية سنة 536م.
أشهرمؤلفاته مقالات أصلية في المنطق بسبعة أجزاء، ومقالة دينية في السلب والإيجاب، وفي أسباب الخليقة وفقاً لتعليم الرسل، وفي الأجناس والأنواع والأفراد بحسب مبادئ أرسطو، وكتاب في الأدوية البسيطة، وكتاب في غاية أرسطاطاليس بأسرها. وقد نقل من اليوناني إلى السرياني إيساغوجي برفيريوس الصوري، ومقولات أرسطو وكون العالم، ومقالته في النفس خمسة فصول وبعض تآليف جالينوس. وكتاب ديونيسيوس الأريوباغي وكتب له مقدمة بليغة.
3- مار أحودامه (ت 575):
لاهوتي قدير، وفيلسوف كبير. ولد في مدينة (بلد) ورسمه كريستفورس جاثليق أرمن (538 ـ 545) أسقفاً على أبرشية باعربايا المجاورة لسنجار في العراق ونشر بشارة الإنجيل في ديار ربيعة ونصّر خلقاً كثيراً ورافقهم في حلّهم وترحالهم في الصحارى، وبنى لهم ديرين وكنائس، وسام لهم قسوساً ورهباناً. كما نصّر أميراً من البيت الفارسي المالك فاعتقله كسرى أنوشروان وأمر بقطع رأسه في 2 آب سنة 575م. ودفن جثمانه في بلدة قرونتا المجاورة لتكريت.
كتب بلغة سريانية بليغة، مؤلفات لاهوتية وفلسفية قيمة، منه كتاب الحدود ومقالات في الحرية الدينية، والقضاء والقدر، والنفس والإنسان باعتباره عالماً صغيراً، وفي تركيب الإنسان من جسد ونفس. وقد ألّف على الأغلب كتاباً في النحو على طريقة النحو اليوناني لم يصل إلينا.
الشعراء:
برز للسريان في القرن السادس شعراء مفلقون يشار إليهم بالبنان في مقدمتهم الملفان يعقوب السروجي الذي يعد خدنا لأفرام السرياني (ت373م) وكلاهما يتصدر الطبقة الاولى بين شعراء السريان كافة.
1- مار يعقوب السروجي الملفان (ت 521م):
ولد في قرية (كورتم) من قرى سروج على ضفة الفرات سنة 451م وكان أبوه قسيساً.
درس بمدرسة الرها فتعمّق في علم الكتاب المقدس وتفسيره والعلوم الفلسفية واللاهوتية واللغوية. وترهّب ورسم قسيساً ثم قلّد رتبة زائر لبلدة حورا من عمل مدينة سروج وفي سنة 519 رسم أسقفاً لأبرشية بطنان سروج وانتقل إلى جوار ربه في 29 تشرين الثاني سنة 521م وهو في السبعين من عمره وعيدت له الكنيسة.
يعد مار يعقوب السروجي أمير الشعراء السريان بلا منازع، بكثرة الإنتاج وجودته. قال الشعر في صباه، ولما ذاع صيته اختبره خمسة أساقفة في بيعة بطنان سروج، حيث ارتجل قصيدته الاولى في مركبة حزقيال ومطلعها ما ترجمته: «أيها العلي الجالس على المركبة الفائقة كل وصف، ألهمني لأذيع في الأرض مصرّحاً بأنك لا تدرك» وأقروا بملفنته، وعظم مواهبه، وأوصوه أن يكتب كل ما ينظم من ميامر. ويقول ابن العبري أن سبعين كاتباً كانوا يكتبون قصائده، وقد جمعت فبلغت (760) قصيدة فُقِد أغلبها ولم يبقَ منها سوى (300) قصيدة وهي في القمة لغة وبياناً وبلاغة وسلاسة ومعنى، اولها في مركبة حزقيال وآخرها في الجلجلة وكلها على البحر الإثني عشري الذي استنبطه وعرف بالسروجي نسبة إليه ويذكر مار ميخائيل الكبير (ت 1199م) الذي جمع ميامر السروجي كلها: «إن مار سويريوس قد سمع عن مار يعقوب السروجي وفحص أشعاره فأثنى عليه» ولعل هذه الأشعار ترجمت إلى اليونانية لهذه الغاية.
وللسروجي أسلوب شيّق في نظم قصائده فهو يفتتحها بديباجة رائعة يقدم بها الشكر للّه ويستمدّ العون الإلهي ثم يتدفق كالسيل العرم بالمعاني السامية ويحلّق بأجواء الخيال يشرح ويفسّر، وقد تبلغ أبيات قصيدته مئات الأبيات فهو لا يملّ ولا يكلّ، وينتهي بخاتمة بديعة تشعر وأنت تقرأها بأنك قد وصلت إلى الميناء بعد رحلة رائعة في أجواء القصيد البديع. أما مواضيع قصائده العصماء فهو شرح أشهر حوادث الكتاب المقدس بعهديه، والفضائل المسيحية، ومدح العذراء والأنبياء والرسل والشهداء وله في القيامة والتوبة. وقد دخلت أشعاره الطقس البيعي. نشر له الراهب بولس بيجان مئتي ميمر أي قصيدة. وقد ترجمت قصائده إلى الحبشية كما نقلت إلى العربية بترجمة ركيكة.
وللسروجي رسائل، ونثره غاية بالبلاغة. وصلت إلينا منها ثلاث وأربعون رسالة في ثلاثة مصاحف بلندن يعود تاريخ كتابتها إلى القرن السابع. وقد نشرت سنة 1937 في 316 صفحة ومن جملة رسائله هذه رسالة أنفذها إلى الحميريين وهم عرب نجران النصارى يواسيهم فيها على المحنة التي أصابتهم باضطهاد الملك اليهودي مسروق لهم واستشهاد جمع غفير منهم على يد هذا الطاغية.
وله ليترجيتان للقداس وترانيم وأناشيد للأعياد ومواعظ. وكتب سيرتي الناسكين دانيال الجلشي وحنينا، كما أنه شرح مئات إوغريس الستمائة بحسب رأي ابن العبري (ت 1286م).
2- شمعون الفخاري (ت 514م):
كان شمعون شماساً في قرية كيشير في كورة أنطاكية، وكان فخّارياً ينظم الأناشيد الدينية السريانية في أثناء صنعه الاواني الخزفية فتأتي بلغتها عذبة، على لحن استنبطه فسمّي بـ (القوقويو) أي اللحن الفخاري. وقد زاره الملفان مار يعقوب السروجي (ت 521م) في حانوته واستمع إلى ترانيمه وأطرى عمله هذا وحثّه على المواظبة، كما أخذ ببعض هذه الأناشيد وأطلع البطريرك مار سويريوس (ت538م) عليها بعد أن نقل شيئاً منها إلى اليونانية وأثنى عليه. واقتدت بشمعون نخبة طيبة ممن اتقى اللّه مثله، كانوا يعملون معه في صنع الفخار ونظم النشائد الروحية.
أما موضوع أناشيد شمعون فهو ميلاد السيد المسيح والمعجزات التي اجترحها ومدح أمه العذراء مريم، وفي الصليب والقيامة والأنبياء والقديسين والموتى والتوبة وقد دخلت بعضها الطقس البيعي كما كتب شمعون أبياتاً بألحان أخرى وصل إلينا منها 28 بيتاً من القرن الثامن محفوظة في لندن.
الخاتمة:
إن هؤلاء الشعراء المفلقين والأدباء البلغاء، والمؤرّخين الأعلام، واللاهوتيين القديرين، والفلاسفة الكبار، صنعوا الأمجاد الخالدة للغة السريانية وآدابها، بما تركوه للأجيال من تراث ثمين في مضمار العلم والمعرفة، فأناروا الطريق لمن جاء بعدهم في خدمة الإنسانية وتوفير السعادة لها. فحق للقرن السادس للميلاد أن يدعى القلب النابض لعصر السريان الذهبي.