هذا فصل من مشروع للباحث المصري يدرس فيه ملامح الرواية العربية الجديدة من خلال تناول الأعمال الأولى للكتاب الجدد، و يتناول بعض الروايات السورية مركزا على (قلاع ضامرة) لعبدالرحمن حلاق.

التداوي بالحب .. في القلاع الضامرة

شوقي عبدالحميد يحيى

ذات الكاتب مرآة ، والكاتب إنسان يعيش في مجتمع ، فإذا ما قصرت المرآة ضاقت الرؤيا ، وانحصرت في ذاته الفردية ، وإذا ما اتسعت وطالت ، اتسعت الرؤية وشملت محيطاً أوسع . وإذا كانت لضيق المساحة أسباب ، قد تكون شخصية كأن لا يستطيع الكاتب إلا رؤية ما حوله ، أو تتقوقع ذاته داخل ذاته وتتمحور في عالمه الداخلي ، فلا يري سوى غرائزه، وقد يكون مصابا بالنرجسية . فتصبح الكتابة هنا محكومة بعمر الكاتب ذاته وربما زادت قليلا . وقد تكون الأسباب عامة خارجة عن قدراته ، البشرية والإبداعية ، فهنا تؤرخ الكتابة للمحيط الذي يعيشه الكاتب ، المحيط المحدود والممتد . أما الكاتب الذي اتسعت به الخبرة ، وكانت لديه جرأة الاقتحام ، اتسعت به الرؤية لتشمل الوطن بأكمله ، وربما العالم بأكمله ، فكان مصباحاً كشافاً كاشفاً يضيء العتمة ، ويوقظ النائمين في سبات الليل، أن استيقظوا غفاة البشر.
وإذا كنا قد وصلنا إلي المحطة السورية في محاولتنا دراسة التغيرات المجتمعية في الوطن العربي في القرن الجديد من خلال الرواية العربية، فإن دراسة أربعة نماذج من الرواية السورية وإن كان الكم قد لا يكون كافيا ، إلا أنها النماذج المتاحة قد تعطي مؤشرا للمجتمع السوري من جانب ، وتطبيقا لما قدمنا به من جانب آخر. فرواية مثل "حواف خشنة" لـ "عمر قدور" الصادر بدمشق 2002 - تغرق في بحور الرومانسية كلية ، وتدور الأحداث وتتحرك الشخصيات وتتحدث عن عالم غير الواقع السوري ، فيشعر القارئ كما لو أنه يقرأ رواية مترجمة عن واقع غير الواقع العربي . والأمر هنا لا يجب أن يؤخذ على علاته ، إذ القراءة للمشهد قد توحي وكأن الكاتب لا يريد الدخول إلى ما قد يوقعه فيما قد لا تحمد عقباه . ثم يأتي النموذج الثاني في رواية " طوق الأحلام " لـ " محمد شويحنة "  الصادرة في العام 2004 ،  لنجد خطوة للأمام . إذ تتطرق الرواية لشيء من الرؤية العامة ، وإن ظلت تدور في إطار الحلم الذي قد يختبئ وراءه كثر من الكتاب خشية ورهبة من اقتحام الواقع المعاش فشمس الدين يحلم بوصية الجد الأكبر ( الماجد عبد المجيد ) والذي يسقيه فيه اللبن من معين لا ينضب مشيرا إلى الكنز الأكبر ، المتمثل في الكلام ، في اشارة للصمت وعدم القدرة على القول ، إضافة إلي تتابع الخلفة من البنات في العائلة ، في اشارة أبضا للحاجة إلى الرجال والرجولة ، وكذلك لم تعدم الرواية بعض الإشارات إلي سيطرة العسكر على مجريات الأمور وكيفية الرعب الذي ينتاب ( يحيى ) إذا ما ذكر أمامه ( الزغنون ) .
ثم تأتي ثالثة النماذج " ذاكرة الرماد " للكاتبة المتألقة " ابتسام تريسي " في عام 2006 .لتخطو خطوة جديدة نحو العام ، القضية العربية الأساسية ، قضية فلسطين ، إلا أنها تظل أيضا بعيدة عن تناول الداخل ، الأمر الذي يثير الشك حول الكتابة في سوريا ، والذي قد يمتد إلي العديد من البلدان العربية . ثم تأتي رابعة النماذج " قلاع ضامرة "  وهي الرواية الأولى للكاتب " عبد الرحمن حلاق " لتؤكد استمرار التصاعد في المواجهة مع الأوضاع العربية في سوريا إذ يستطيع الحلاق اقتحام الوضع الراهن داخل سوريا ، الأوضاع الداخلية وفوران الداخل ، والثورة المكبوتة علي الدولة البوليسية . وقد نجح الكاتب في اختيار أبطاله من بين طلبة الجامعة ، بل ومن بين مجموعة المثقفين فيها . كاتب القصة وكاتب الشعر وكاتب النقد ، وكاتب التقارير ،حيث الجامعة على طول تاريخها ، هي مصدر التغيير ، ومنبع الثورات الثقافية ، ومنبت التطوير والحراك في المجتمع . وإذا كانت النماذج الأربعة قد غلفت بالأسلوب الرومانسي الناعم ، الجاذب للقراءة ، إلا أن " قلاع ضامرة " قد حافظت على التوازن بين الإسلوب الرومانسي والأسلوب الواقعي ، مقتربة إلى حد كبير والكثير مما يكتب في الرواية المصرية الآن ، لا في التناول فقط ، ولكن في نوعية المشكلات أيضا . حتى لو تناسى المرء كاتب الرواية لظن أنه يقرأ رواية مصرية ، يعاني فيها المجتمع من الدولة البوليسية ، من تصارع الإخوان المسلمين والماركسيين ، بل والناصريين كذلك ، وهي الفئات شبه المتصارعة بالحناجر بينما الحزب الحاكم يمارس سطوته ، ويفعل ما يريد .
الرواية لا تعتمد الحدث المحدد ، وبالتالي فلا تصاعد ، بل مشهد عرضي بطول البلاد لما يدور تحت السطح . مجموعة المثقفين بالجامعة ، تعاني من وجود الحرس الجامعي ، ومن كتبة التقارير الذين في أغلب الأحيان يستغلون هذه المهمة المسموعة الكلمة لدى الجهات الأمنية في تحقيق مآرب شخصية . مثل جوليا . إنسانة نبتة متسلقة ، تكتب التقارير الأمنية في زملائها ، تعتمد مبدأ أمها ( ضع شيئا في اليد تحصل علي وجبة دسمة ، تستغل مهمتها إلى جانب جسدها في السطو على أشعار فريد . ابن المختار ، يستغل عمله في خدمة المخابرات في محاولة الاستيلاء على ( ملكة ) رمز التغير الذي صنعه ( جمال ) وابنة العاهرة التي صنعها الفساد ، كبار البلدة ورمزها الذين يبدون على السطح من الكبار ، وهم لدي أم ملكة زناة .
يحلم جمال بالتغيير ، يسعي إليه في المدرسة التي ما أرادها للتعليم فقط ، وإنما لزرع الفكر والتحرر ، تقع ملكة في حبه ، وهي التي يسعي الجميع لنيلها ، تخلص له وتكون وسيلة لتطهير أمها ، وعندما يهددها ابن المختار بالنيل منها ، تكتب إليه ( جمال ) غير أنه يقف عاجزا ولا يستطيع مساعدتها .

الشخصيات والإسلوب :
مثلما تحدثنا عن الرواية المصرية ، ومن بين أوجه التشابه بينها وبين " قلاع ضامرة " ، اختفت الشخصية بمعناها التقليدي ، وأصبح البطل هو الفعل . وقد اعتمدت " قلاع ضامرة " علي أسلوب الأصوات ، فكل شخصية تتحدث عن نفسها ، وتكون فرصة للهروب من الراوي العليم الذي يحيط بكل شيء في زمن اختفى فيه العليم بكل شيء - ، وهو الأسلوب الذي يتيح لكل شخصية البوح بمكنون نفسها ، والإفصاح عما لا تستطيع الإقصاح به لغيرها . فإذا ما نظرنا إلى ( جمال ) وربما قد عنى عبد الرحمن بهذا الاسم الشخصية التاريخية التي يتضح من الرواية أن لها وجودا لم يزل في سوريا ، فضلا عن مصر وهو ما يمكن اعتباره الشخصية الرئيسة في الرواية ، نجدها شخصية ذو بعدين ، بعد يراه به الآخرون ، وبعد يقر في جوانيتها ، ولا نستطيع أن نجزم هو أيهما وهو ما يتفق تماما مع الشخصية التاريخية المسمى على اسمها - ، البعد الأول هو ما يتحدث به عنه الآخرون . فها هي ملكة ، الشخصية الثانية في العمل ، والتي كان لجمال فضل التحول في حياتها نراها تقول عنه :
{ .. لماذا وجدت في حياتنا يا أستاذ ؟ لماذا أتيت بلدتنا أصلا ؟ رميت بحصاتك في مستنقعاتنا الراكدة ومشيت . كنا تعودنا الحياة وتأقلمنا مع الواقع ، وكانت أحلامنا صغيرة وحياتنا بسيطة ، لم نفكر بأكثر من لقمة نأكلها وثوبا ترتديه ........
جعلتنا نتمرد ونكره ما نحن عليه دون أن تعطينا البديل ولا حتى القدرة علي إيجاد البديل .} 
فجمال في نظر الآخرين قوة دفع نحو التغيير ، شخص فعال ، إيجابي . غير أنه في جوانيته ، وفي حقيقته غير ذلك ، إذ نراه يقول عن نفسه ، عندما يعجز عن إنقاذ ملكة من براثن ابن المختار ، ويعجز حتى عن المحاولة ، وبعدها يقف كالمتفرج من بعيد وكأن الأمر لا يعنيه :
{ .. فأنت الآن لست عاشقا يهيم حبا في ملكوت الخيال . أنت رجل مخصي سلبت منه القدرة على الفعل . تدرك حجم الخطر لأنه ماثل أمام عينيك كما الموت . وتدرك في الوقت ذاته حجمك الصغير ، أنت أضعف من أن تفتح بيتا وتجلبها مع أمها إليه . وأضعف من أن تصرخ حتى في وجه شخص يهتف في المسيرات ، فكيف ستواجه رجل أمن يسهر على استتبابه بفوهة مسدس ، وباغتصاب فتاة ، ويزج من يراه خطرا في غياهب السجون ، إن كنت تخاف من كتبة التقارير الذين يشاطرونك مقعدك في الجامعة ، فكيف ستواجه ابن المختار ..... }  .
وعلى النقيض من تلك التركيبة الشخصية ، جاءت ملكة ، ذات البعدين ، غير أن البعد الذي يراها به الآخرون على عكس جمال حيث رأوها :
{ .. ملكة لم تخلق لتكون بريئة ، إنها ثمرة جفاف النهر ............ استعجلت تفتحها لغير هذا كله ، تريد جمع الطيور حولها لتستمتع بتجويعهم .......... } 
أما هي في حقيقتها وما رأته في نفسها ولم يره الآخرون ، جاء في خطابها الأخير الذي كتبته لجمال لا ليقرأه وإنما ليقرأه الجميع بعد دفنها لتكشف به زيف المجتمع ذي الوجهين :
{ .. أعرف أن عقولكم الصغيرة لن تتحمل أن تعيش ابنة العاهرة شريفة بينكم ، فقد آمنتم أكثر من إيمانكم بالله أن ابنة العاهرة عاهرة بالفطرة ، لكني وأقولها وأنا جثة بينكم ، إني أشرف من أي واحد منكم ....... }   .
وإن كان جمال و ملكة هما الشخصيتان الرئيستان في الرواية ، فقد استطاع بهما عبد الرحمن حلاق أن يؤكد ازدواجية المجتمع ، ازدواجية رؤيته ، وازدواجية حياته في شخص المختار والشيخ مستو ، الذين يمثلان وجهاء المجتمع ، وفي ذات الوقت من أوائل وأهم زبائن أم   ملكة .
يضاف إلي الشخصيتين الرئيستين ، آزاد . ذلك الطالب الذي كان جمال أيضا سببا في تغيره وتغييره ، تحول من التصور الجنسي لملكة إلى الحب العذري ، إلى المضحي الوحيد تقريبا في الرواية ، وكان له دور فعال فيها . فهو الوحيد الذي تدخل لإنقاذ ملكة من براثن ابن المختار ، سهر كثيرا ، واختبأ طويلا في ترصد ابن المختار بعدما علم نيته في الاستيلاء على ملكة ، ويوم هاجمها ، لم يكن أمامه سوى قتله ونجح في هدفه ، فكان رمزا للمستقبل الفاعل ، الناتج عن التغيير ، والذي يعتبر الفعل غير المباشر لجمال الذي كان السبب الأساسي في تغييره .
ثم تبقي كل الشخصيات بعد ذلك شخصيات ذات بعد واحد ، تمثل السلبية والاستكانة أمام ضغط التواجد الأمني .

المقابلة بين سطوة الحب وسطوة الأمن :
مما سبق يتضح أن " قلاع ضامرة " قامت على دعامتين متقابلتين : سلطة الحب ، وسلطة الأمن ، لعب الكاتب عليهما في إيقاع متوازن ، وكان كأحد أنبياء هذا العصر الذي يسعي إلى تغيير المجتمع بالحب ( دون التسامح ) ، إذ توزعت صفحات الرواية بين العنصرين بطريقة شبه متساوية ، وكأنها الإيقاع الجنائزي الرتيب ، إلى أن يتوحد العنصران في تزاوج يشكل بؤرة العمل وخلاصته ، بين فلسفة الراوي الأول ( جمال ) وبين الواقع الأليم المعاش ، بين طرفي المعادلة الشخوصية ، جمال بمثاليته ، وملكة بماديتها ( جسدها ) في أحد التعبيرات الجميلة :
{ .. من ذا الذي سيطالب بدمك ملكة إن قتلت أو اغتصبت ؟ من ذا الذي سيطالب بقوت يومك إن بقيت ؟ وصناعة الخوف تزدهر يوما إثر يوم ، نُساق في المساء إلي بيوتنا بالارهاب ، ونُخرج من أجسادنا ساعة نود الخروج من البيت رؤوسنا خائفة تعودت الفزع وكثرة الالتفات ، صرنا أكثر فزعا من دجاج أمي ، شعب تجمعه بوابات الأفران والمحال الغذائية ، وتفرقه العصا من صاحب هذه الحياة ذاته . ما الذي يمكنني فعله لأجلك ملكة ؟ يجللك البؤس كما يجللني . الآن وأنا أسترد تلك " الأجمل لحظة " أغرق في ذلي وانكساري ، أسترجع كم كنت تستشعرين قسوة الألم والموت القادم ، هل يعقل أن تجمع فراش واحدة هذين النقيضين ؟ اللذة والألم ، المتعة والقتل ، الولادة والموت ؟ ما لن أخطئ فيه ذلك الحب المتفجر في   عينيك .... }   .
ويصل القهر مداه ، عندما يتحول إلى قهر جماعي ، إذ وسط احتفال الطلبة في كلية الآداب ، تدخل حافلة عسكرية ، دون أن يعترضها أحد ، وينزل منها جند دون أن يعترضهم أحد ، ويسحبون من بين الطلب ( خالد ) إلى السيارة ، ولم يعترض أحد ، ويغيب خالد في غياهب المجهول  دون أن يعرف مكانه أحد ، ينسحب الجميع ، وكأن شيئا لم يكن ، كل يسحب معه مرارته وذله وانكساره ، غير أن صاحبنا ( جمال ) لازال يمارس دوره ، ينسحب هو الآخر مع الحبيبة الجديدة ( أسينة ) ويتجهان نحو القلعة التي كانت لا تزال واقفة منذ نحو ستة آلاف سنة ( قلعة حلب ) فقد يجدان فيها المأوى والملاذ والتاريخ ، بعد أن ضمرت كل القلاع الأخرى . ليعلنا عن ميلاد روائي جديد ، وللقبيلة أن تعلن الأفراح .
إن هذا التطور الروائي السوري عبر تواريخه ليعبر عن تطور مماثل في الحركة المجتمعية في الوطن السوري ، ليتلاقى مع نظيره المصري في المبنى والمعنى ويتلاقيان مع الإبداع الروائي العربي الساعي نحو التغيير والثورة علي القهر والكبت في ظل الأحكام البوليسية فيها.

EM:shawkyshawky2004@yahoo.com

---------------------------

1- منشورات وزارة الثقافة دمشق 2002
2-  مركز الإنماء الحضاري  -  2004
3- دار الحوار للنشر والتوزيع سوريا اللاذقية 2007
4- ص 82
5- ص 129 ، 130
6-  ص 22
7-  ص 161
8-  ص 133