في ذكرى المناضل الكبير، يستبين الباحث الفلسطيني المرموق في تعدد أسماء صديقه الراحل مهدي عامل انقساماً واغترابا دالا. ويرى أنه يلامس النظرية ويظل شاعراً، ويحاول الشعر مصطحباً النظرية معه. هو الشيوعي المنضبط "الخارج عن السرب"، المتمسك بقول «أفق الاشتراكية الواعد».

الراحل مهدي عامل مع أطيافٍ راحلة

فيصل درّاج

تتضمن الكتابة عن صديق رحل، منذ زمن، ارتباكاً لا خروج منه، مرجعه الزمن والأحلام والإقامة العابرة، وإضافة آتية من أصداء لا يسيطر عليها، ومن اعتذار مجهول السبب.

* * *

قال مهدي عامل في لقائي الأخير معه في دمشق: احتفلَ الحزب بانتهاء مؤتمره، واحتفلَ بي عضواً قيادياً في هيئة حزبية عليا، واحتفلتُ مع الرفاق بالمناسبة الأولى، وخرجتُ إلى الليل، كما لو كان الليل حزبي الآخر وأطلقتُ ضحكة صاخبة. سألتُ نفسي، قال مهدي، ما علاقتي بالهيئات العليا، وأنا الذي أمارس النظرية نهاراً وأكتب الشعر ليلاً؟

كان مهدي، في كلماته القليلة، يلخّص أحواله، وهو المنقسم المغترب، الذي يلامس النظرية ويظل شاعراً، ويحاول الشعر مصطحباً النظرية، وهو الشيوعي المنضبط "الخارج عن السرب"، الذي يكتب بلغة لا بساطة فيها، ويتحدث بنبرة جنوبية يضيف إليها، ليلاً، لغة فرنسية طليقة، وهو الذي وزّع أحواله على اسمه "شبه المنسي": حسن حمدان، وعلى اسم يكتب به "علاقاته المنطقية"، وعلى ثالث يصدر عن الشعر والليل::هلال بن زيتون، إذ في الهلال بداية وضيئة، وفي ما يليه انتماء إلى الأرض.

ومع أن في التعدد ما يطرد اليقين، فقد كان في الشاعر الفيلسوف إيمانية رومانسية حاسمة، تحوّل الفعل إلى إيمان والإيمان إلى فعل وتدفع بوحدتهما الأخيرة إلى أفق واعد يقول بـ"الاشتراكية التي هي سِمة تحولات المجتمعات البشرية في القرن العشرين!!"

لم يكن "الخروج إلى الليل" إلاّ ترجمة لفردية لاهية مؤمنة، تصاحب "الرفاق" ولا تكون معهم تماماً، وتختلف عنهم في "شيء ما" يحاور الليل ويحاول القصيدة ولا يؤمن أن في "طيّات الليل" ما يسعف النظرية. كان في "الخروج إلى الليل" ما يكشف عن طبقات شخصية قلقة. تكون ثورية متمردة في النهار، وحائرة متسائلة في الليل، وتكون في الحالين رومانسية موغلة في رومانسيتها، تعتنق مبدأ "الكلمات الخالقة"، التي توكل إلى المستقبل تجسيد ما تقول به الكلمات وتحقيق ما يحلم به صاحبها.

ولعل العلاقة بين الكلمات وما تفكر به، في منظور رومانسي مفتوح الجهات، هو الذي أقنع مهدي عامل بأن يخترع الطبقة العاملة في لبنان التي عليها أن تلّبي ما يأمر به التاريخ، وبأن يرى في "حزب الطبقة العاملة" ضامناً لسير التاريخ نحو مصبّه المضيء. لا يرتبط الأمر، الذي يثير الفضول، بعمّال لبنانيين يقع عليهم الاستغلال والتضليل، ولا بوجود ما يشبه الطبقات والممارسات الطبقية، بل ارتبط أولاً وأخيراً بكلمة "الطبقة العاملة" التي بدت له، في حروفها الكبيرة، طبقة بذاتها ولذاتها جاءت بها الحقيقة التاريخية وعليها أن تحقق حتمياً مشيئة التاريخ.

ومع أن في الماركسية، الزائفة منها والصحيحة، ما يستدعي مفاهيم الطبقة والتحالف الطبقي والهيمنة الطبقية..، وما يستتبع ذلك من تحليل اقتصادي وسياسي وايديولوجي، فقد آثر مهدي عامل أن يشتق الطبقة من تصوره الرومانسي للعالم، الذي يحلم بهدم الواقع القائم وبناء عالم مبّرأ من الأخطاء. ولأن على الطبقة أن تلّبي ما تستنيم إليه الروح، فقد كان على "طبقته العاملة" أن تكون كاملة تبني وتهدم ولا تحتاج إلى تجسير، ذلك أن في التجسير ما يشبه "مثقفي البرجوازية الصغيرة".

كان مهدي عامل، في ظاهره، منظّراً ماركسياً حاسماً، ساوى بين الماركسية و"العلم الدقيق"، لا ينقصه الوعي النظري واللمعان والقدرة على الربط والتركيب، وكان مهدي عامل، في باطنه، مثقفاً رسولياً وحّدَ بين أهواء العقل والعلم الدقيق. لذا كان "مفهومياً" وبارد المفهومية في كتابته وغاضباً فائض الحرارة في حياته اليومية. وواقع الأمر أنه كان مع الماركسية، التي تغيّر العالم، وخارج الماركسية معاً، الأمر الذي يتيح له أن يكون شاعراً يميل إلى الإشارات، ومناضلاً يميل إلى التسامح، وصوتاً نظرياً أخلاقياً مسكوناً بالرسالة.

ولعل إقامته في الحزب واحتفاظه بالفرق، واعتناقه النظرية وإبقاء الاختلاف، كما السِجال بين المفاهيم والغضب اليومي، هو ما أملى عليه أن يوازي "الماركسيين العرب" وألاّ يتقاطع معهم، إلاّ صدفةً، وجعله ينظر من دون رضا إلى ما أنجزه مصري مؤرخ يُدعى: رفعت السعيد، وإلى ما اجتهد فيه سوري اسمه إلياس مرقص، وأن يرى في ماركسية صادق العظم ملامح ليبرالية لا تنقصها "الهرطقة".

كان مهدي عامل ماركسياً في رومانسيته ورومانسياً في ماركسيته، ومثقفاً ملتزماً منضبط المعايير، في "فترة حزبية" أقلقت الالتزام والانضباط. وكان ما أراد أن يكون: مخلوقاً صادقاً بريئاً، يقرأ ويكتب وينتظر الليل و"الثورة"، محتفظاً بداخلٍ له لغته وإشاراته وأشواقه.

* * *

قلت له مازحاً، في مطعم يجاور الجامع الأموي في دمشق: في كتاباتك غبطة نظرية لا تنقصها العدمية. أجاب ضاحكاً: "عندي كلمتيْن"، بنبرة لبنانية جنوبية، سوف نرى: "مين فينا العدمي". غير أن شاباً يجلس إلى جانبنا، أخرج دفتراً وقرأ: "في عينيها أضواء من ليل قديم". كان القارئ الشاب شاعراً، ربما، وفي طريقة لفظه ما يُضحك، أو يسرّ. سكتَ مهدي ونسي "الكلمتين" وقال بلهجة جادة: هذه الجملة جعلتني أشعر بأنني قابلت هاتين العينين في مكانٍ ما، في زمنٍ ما من أزمنة الليل القديم. وسألته: كيف يمكن أن نكتمل هذا "المستهل الشعري"؟ أجاب: نكمله عندما يأتي اللقاء الموعود، وذهب في استطرادات عن أشكال العيون ولغة العيون وأقدار العيون..

كان في طريقة كلامه ما يطرد لغة نظرية منضبطة لا يحاكيها أحد، عناوينها التفاوت الطبقي والتفارق الطبقي والأزمنة البنيوية والوهم الأيديولوجي، و"الممارسة النظرية" التي تستولد واقعاً معافى لا خطأ فيه. وكان في لغته المتراصة ما يذكّر بدوائر الوعي الديني، الذي يعيّن البداية والنهاية والخط المستقيم الواصل بينهما. شيء قريب من روايات الفلسطيني الراحل جبرا إبراهيم جبرا، التي تبدأ بفلسطيني لا نقص فيه وتنفتح على الجنة.

ولعل العينين اللامعتين، اللتين سوادهما نور ونورهما سواد، هما مصدر الطبقة العاملة "النظرية" المكتفية بذاتها، دون الالتفات إلى آثارها الأيديولوجية المجتمعية، والتي عليها أن تكون "مهيمنة"، حتى عندما تكون بعيدة عن الهيمنة، أو ما يشبهها. ولأنّ الملائكة تتشابه، كان "الحزب الشيوعي" بدوره مصيباً دائماً، حين يتحالف مع غيره بمبدئيّة، وحين يتحالف مع "اللامبدئية" ويقف في الفراغ. ومن أجل هذا "الحزب الكامل" الناطق باسم "طبقة" لا تختلف عنه، جاء مهدي في كتابه "ابحث في اسباب الحرب الأهلية في لبنان"، بفكرته عن "النظرية في الممارسة السياسية"، حيث ممارسة الحزب هي نظريته، وهي "النظرية" كما يجب أن تكون، ناسياً، أو متناسياً بشكل أدقّ، أن نظرية الحزب، آنذاك، من ردود أفعاله المتحولة في سياق متحوّل. كان يترجم في "موقفه النظري" تصوراً إيمانياً خاصاً به، اعتنقه حسن حمدان وهلال بن زيتون ومهدي عامل، قبل أن يتعرّف على الحزب وبعده معتقداً، ربما، أن "للحزب الثوري" أجنحة توصله إلى أرض موعودة، حلم بها ذات مرة. كان مهدي عامل رومانسياً مخلصاً لرومانسيته، يخلق لها ما تريد وينشئ لها ما ترغب، ويعطيها نفسه بلا حساب، منذ أن تعلّم مبادئ القراءة والكتابة إلى أن اصطاده "قَدَر" لا يعبأ بالنظرية ويتطيّر من العقول المفكّرة.

* * *

وإذا كان في شخصياته المتعددة ما أطلق سارداً سعيداً تحدث عن "التطور اللامتكافئ" بين شرق بيروت وغرب بيروت، في كتابه "الحرب الأهلية في لبنان"، فقد كان فيها منظّراً واسع البصيرة، اتكأ على مفهوم "نمط الإنتاج الكولونيالي" وعالج به طبيعة الأنظمة العربية، القائمة في السبعينيات وما قبلها، التي اختارت من ألوان القومية "ألوان الاشتراكية" ما يلّبي الفصول الأربعة. وسواء قَبِلَ القارئ بهذا المفهوم أو اعتبره "حكاية" وافدة من أمريكا اللاتينية، فقد كان فيه ما برهن الواقع عن صحته. فلا تحرر من دون قطع للعلاقة الكولونيالية، التي تخدم بها السلطات الحاكمة مصالحها وهي تخدم مصالح الامبريالية منتهية، لزوماً، إلى نظام يقمع المجتمع المحلي الذي "يطالب" بمصالحه. ولا ديمقراطية تُنتظر من "أنظمة تابعة"، تجدد التبعية وتجدد فيها ذاتها كسلطات تابعة، مدركة أن في التبعية قوام وجودها، مثلما أن في وجودها التابع "ضرورة" ممارساتها القمعية، التي تؤمّن "التخلّف" وإعادة إنتاج التخلّف، ولا سيادة مع بنية تابعة، تلغي تبعيتها المتجددة شروطَ التقدم الاجتماعي، وتصادر الشعب وإمكانياته وتجتهد في توطيد "ركود اجتماعي" أقرب إلى الانسحاب من التاريخ. ولهذا لم يقرأ مهدي عامل، المثقف النقدي البصير، "الأنظمة التقدمية" في شعاراتها التقدمية التي لبّت جميع "الفصول الأيديولوجية"، بل قرأها في بناها الموضوعية، التي كانت "تدفن" الشعب وتعادي الامبريالية، وتدمّر الفكر النقدي الوطني وتقول بتحرير فلسطين، وتختصر الوجود كلّه في "واحد كبير"، زعيماً كان أو حزباً أو قائداً ملهماً مفترضاً يتحول، بعد حين، إلى "ملك ملوك افريقيا".

كان مهدي مع ذاته، مع الحقيقة التي تؤمن بها ذاته، مع الحلم الذي يسكنه، سواء رضي عنه التاريخ أو أعرض عنه. ولم يكن كتابه الأخير "نقد الفكر اليومي" إلاّ إعلاناً عن حلمه المستقلّ عن الآخرين، وعن تلك الحقيقة التي كان يحتفي بها وينظر إليها "المثقفون" بتعالٍ طريف، هو مزيج من الأساليب اللغوية المتقنة والحسبان الذاتي غير البريء.

في الفترة التي كتب مهدي فيها كتابه الأخير، وهو درس نموذجي في فن السِجال الأدبي، كان الماركسي الإيطالي الشهير لوشيو كوليتي قد كتب عن "غروب الماركسية"، وكان الفرنسي الغريب الأطوار والأقدار لوي آلتوسير قد تحدث، منذ عقد من الزمن، عن "أزمة الماركسية"، وكان "معسكر الاشتراكية الفعلية" قد شارف على السقوط. غير أن مهدي كان مع "الواحد" الذي أتقن الدفاع عنه.

* * *

قلت له مرة، وهو يتردد على "مركز الأبحاث" في رأس بيروت: إنك تغلّب، في كتابك "نمط الإنتاج الكولونيالي"، مبدأ الهوية على مبدأ التناقض. قال: كيف؟ قلت: حين تبقى "البنية الكولونيالية" على حالها، أو هي هي، كما تقول، في زمن ما قبل الاستقلال، وفي الزمن الناصري والبعثي والليبرالي والزمن القومي المشوّه، الزائف، فأين هو التناقض وإلى أين "يتسرب" الصراع الطبقي؟ أليس في تنظيرك ما يؤكد "الواحد الثابت" الذي لا سبيل إلى تغييره؟ قال هذا سؤال حَسن، بل سؤال ممتاز، سأجيب عليه كتابةً.

وواقع الأمر أن "الواحد الثابت" كان ملازماً له في كتابات أخرى. ففي كتابه البصير: "أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية"، جمع المثقفين العرب الذين شاركوا في "ندوة الكويت"، وأدخلهم مسكناً واحداً. اختفى الفرق بين فؤاد زكريا وأدونيس، واختفت الفروق بين زكريا وأنور عبد الملك وقسطنطين زريق، على اعتبار أنهم جميعاً مصابون بعماء أيديولوجي، لأنهم لا يرون الفكر في شروطه الاجتماعية، وفي السلطات المسيطرة عليه، بل يرون الفكر في ذاته ويحجبون "السلطات العربية" التي تضع ذاتها خارج الفكر وتريد أن يكون الفكر خارجها، كما لو كانت لحظة متعالية لا سبيل إلى مساءلتها.

وفي كتابه الأخير "نقد الفكر اليومي"، أهملَ مهدي ما جاءت به "هزائم الحرب" وصبّ غضبه على المثقفين المعّرضين لجميع أشكال التقلّب والارتداد. ومع أنه من الشاق، الركون إلى "أخلاقية المثقفين" الذين ينضمون إلى المجتمع ويهجرونه وفقاً للسياق، فإنه من العبث اختصارهم جميعاً إلى "مثقف برجوازي صغير"، يبدأ صباحه ماركسياً وينهي نهاره وقد "تقوْمن"، أو يستهله قومياً وينهيه متأسلماً. كان مهدي مع "واحده الثابت" الذي يطمئن إليه، منذ رأى في "حزب الطبقة العاملة" علماً، إلى أن اختصر ما هو غير شيوعي إلى إيديولوجيا ضليلة.

ليس في الإشارة إلى "الواحد الثابت" لدى مهدي عامل ما يحمل نقداً، أو انتقاداً، بقدر ما فيه إضاءة للمثقف الإيماني النبيل، الذي يحمل رسالة ويعتقد أنه مسؤول، وحده، عن صون الرسالة ومتابعة قضيتها. ومع أن أية إشارة إلى "الماركسية في العالم العربي" تبدو خائبة إنْ لم تفرد لما أنجزه مهدي عامل مكاناً واسعاً، فإنّ الموقع الموائم لدراسة شخصية حسن حمدان عنوانه: المثقفون واليوتوبيا، أو الثقافة والمدينة الفاضلة، حيث الالتزام الأخلاقي بمقولات الثقافة والنظرية والفكر أعلى مقاماً وأرفع شأناً من الانتساب إلى عالم المعرفة، حتى لو كانت موسوعية. قال نصر حامد أبو زيد في حديث بين أصدقاء: الأخلاق تفضي إلى المعرفة، بينما المعرفة لا تقود بالضرورة إلى الأخلاق، بل إلى نقيضها أحياناً، والأمثلة كثيرة.

كان مهدي مع "الواحد الثابت"، وكان "الواحد الثابت" هو مهدي نفسه، الذي استولد من ثباته شوقاً بطولياً إلى عوالم المعرفة والحرية.

كل الوجوه تنتهي إلى الغروب

كان ذلك في خريف بيروت، في تشرين الثاني 1974، في مقهى شاتيلا، والوقت مساءً، وبين البحر والشمس صِلات قديمة الرتابة. وفي المقهى صخب غير محدد الجهات، تمتزج فيه أناشيد واضحة الحماس والنبرة، تفسدها أصوات زحام سعيد فيه الرجال والنساء والأطفال وملابس أقرب إلى الشعارات، وكان بين الزحام مساحة للكتب والملصقات والأسطوانات ولـ"الأعمال الكاملة" وللأطفال المحمولين على أكتاف آبائهم، وبقعة لبيع الطعام والشراب ولفنان مصري جاء إلى بيروت حاملاً أغانٍ عن الثورة وسقوط الزمن القديم. كل شيء تجمّع في عيد شعبي واضح الهوية: الحزب الشيوعي اللبناني في عيده الخمسين.

كان الزائر، في تلك الأيام، يستطيع أن يضيف إلى العيد وأهله صفات أقرب إلى البداهة: الحزب الشيوعي المجيد، أو حزب الطبقة العاملة، أو حزب التحرر والاشتراكية، وكان الملصق الكبير، الذي يُستهل به المكان، إعلاناً عن "الأحمر الكبير"، وعن العناق السعيد بين "المنجل والمطرقة".

حررتُ نفسي من "فتنة المناخ"، كما كان يقول الراحل سعيد مراد، وسألتُ أحد الرفاق عن الرفيق مهدي عامل، الذي كانت كتبه موجودة في مكانها، واسمه معروفاً في دوائر يساريين، وكان اليسار في ذاك الزمان أشبه بسوق متعدد الألوان. مراياه الكتب والأفكار والسجالات الصاخبة ومثقفون لهم لغة غريبة، البعض أليف الهيئة واللغة، وآخر يعد بزحزحة القطب الجنوبي عن موقعه. قال الرفيق: إنه ذلك الملتحي الذي يشرب الشاي فوق الدرجة الأخيرة، والمحاط بشباب وزعوا على أطرافهم "الأعمال الكاملة"، والوعود والأناشيد والملصقات. كان مهدي يمسّد لحيته تصاحبه ضحكته الخشنة ولباسه "الكاكي" وكلمة محببة يريد أن ينهي بها نقاشاً لا يريد أن ينتهي: بَعْديْن. أدمنتُ، بعد حين، على هذه "البعدين"، وقد أضيف إليها "كلمتيْن"، وكانت كل كلمة تنطلق من سطر من سطور "النظرية"، وتعيش دورة كاملة وتعود إلى "النظرية" من جديد.

سألته عن اشتقاقاته اللغوية الخاصة بـ: التعارض والتناقض والتماثل والتفارق والتفاضل والقطع المعرفي. قال: "تطالبنا الفلسفة الماركسية، في مفاهيمها العلمية، بعملٍ في اللغة، ويأمرنا الوعي اللغوي الموضوعي بعملٍ في الحقل الفلسفي"، وقال شيئاً ما عن "تشومسكي"، العالم اللغوي الأمريكي، وأكد أن شكل الفكر من شكل اللغة، وأن تشكيلة لغوية أيديولوجية لا تستطيع أن تقبض، لغوياً، على المفاهيم، إلاّ إذا اندرجت في تشكيلة لغوية أخرى. هذا ما فهمته، أو تصورت أنني فهمته، وتوقعت أن يستكمل كلامه لكنه قطعه وقال: "النظرية بَعديْن"، اليوم الطقس ممتاز والبحر جميل وجماهير الحزب رائعة وحزبنا في تقدم. قطعنا شوطاً في التحرر من الجمود ووصاية "الأخ الكبير"، والسوفييت لا يوجد عندهم فلسفة "يوجد عندهم مناشير" وعلى الأحزاب الشيوعية العربية أن تفكر بواقعها بماركسية أخرى متحررة من السوفييت، لا يزال في حزبنا عقول متحجرة، لكنها تتراجع.

حين توقف ليمسح نظارته أتيح لي أن أنظر إلى وجهه وطريقة كلامه وتلك البساطة الأنيقة التي تلازم وجهه وطريقة كلامه. كان وراء تلك البساطة التي تحتفي بالبحر وبكرم النهار وأغاني الشيخ إمام وبملمس الكلمات كيان آخر يتحدث عن عِراك الأفكار، الذي يوطدّ الصداقة بين المتعاركين، والمختبر النظري الذي يواجه فكرة بأخرى ويحترم الفكرتين، وقوة النظرية "التي تظل في التحديد الأخير قوة عصيّة على القياس". إنّ صحة الأفكار تأتي من صحة الأفكار، كان يقول في لحظات"الانتشاء النظري"، وأن النظرية لا تقبل بالمساومة، وأن "السبق النظري يقود إلى الجنة".

كان ينطق بما يحلم به، موكلاً إلى يده اليمنى أن توضح المعنى بالإشارات، وطالباً من صوته أن يشرح وأن يوضح وأن يعيّن وأن يظل امتداداً لروحه التي كانت تمتد في نهاره كلّه.

نظرَ إليَّ بعد أن ابتعدنا عن "فتنة الكرنفال"، وقال موضحاً: لا وجود لزمن اجتماعي متجانس، إنما توجد أزمنة غير متجانسة، فلا الزمن الاقتصادي يساوي الزمن الأيديولوجي، ولا هذا الزمن أو ذاك يساوي الزمن السياسي. هذا التمييز ضروري للمشروع الثوري.

أسأل الآن وقد مضى على لقائي الأول مع مهدي عامل سبعة وثلاثين عاماً: ماذا تبقّى من النظرية و"إنتاج الأفكار" والأزمنة غير المتساوية، ومن أين جاءت تلك الأفكار وإلى أين ذهبت؟ جاءت الأفكار من قلب صاحبها وشهوة إصلاح العالم، وذهبت إلى لا مكان، تاركةً الصور والذكريات وإنساناً جميلاً يريد أن "يضيف" إلى العالم اليومي شيئاً ما، معتقداً أن في الإضافة الفكرية ما يخلق عوالم جديدة.

ما زلتُ أذكر حماسه وهو يؤكد لي "أن الزمن التاريخي جملة من الأزمنة غير المتكافئة، وأن عدم الاعتراف بذلك خلل معرفي" يضر بالاستراتيجية الثورية، وأن "التسيّد المعرفي على التاريخ" يفضي إلى "ترويضه" و"صناعته" من جديد.

كان صاحبنا، رغم تأكيده المستمر لموضوعية المعرفة التاريخية، يؤمن بـ: "استئناس التاريخ" الذي يبدو، في ساعات الرضا، حليفاً للقوى التقدمية وصديقاً للثوار. "إنّ علينا فهم التاريخ كي نسهم في صناعته". والتعبير الذي كان مهدي يقترب منه بمقادير مختلفة، مزيج من الشِّعر والرضا والنظرية السياسية.

حين سألته: كيف نصنع التاريخ ونحن من صناعته؟ ضحك وتوقف ليشعل "سيجارة مييس" جيتان، وقال: نحن الماركسيين نختلف كلياً عن الهيجليين في هذا المجال، وأشاد بالإنجاز الآلتوسيري في تطوير النظرية الماركسية، ولم ينسَ ملاحظات عن البنية والأيديولوجيا في الخطاب الآلتوسيري.

توقف من جديد، كانت الشمس في أفول، وقال: إنّ موضوعنا لن يتكشف واضحاً إلاّ بعد صياغة "تمرحل التاريخ"، وهو كتاب أعمل عليه. حين جاء إلى بيتي، بعد عامين، بصحبة الصديقة يمنى العيد والراحل حسين مروة والصديق السرمدي محمد دكروب، قال: عندي كلام عن سؤالك القديم و"صحبة التاريخ"، كان يقصد "تمرحل التاريخ"، الذي طل يهجس به حتى رحل.

* * *

بعد الظهر، وأقرب إلى المساء، وقف مهدي فوق مرتفع متاح وقال: "نودّع هذا الذي استنصره حزبه ونصره"، وكان يقصد حسين مروة، الذي نقلته رصاصات دقيقة الحساب من بيته الأليف في بيروت الرملة البيضا إلى مقبرة الست زينب، في ضواحي دمشق.

لم يكن مهدي، الذي كان يرفع قبضته في الهواء ويمسح عرقاً كسا وجهه، يعلم أن الرصاصات الدقيقة الحسبان ستقع عليه، بعد أسابيع، وهو يركض صباحاً على شاطئ البحر. عاد في مساء ذلك اليوم، الذي بدا لي مكسواً بالغبار والصمت والفراق، وذكر أن بحثه عن "تمرحل التاريخ" يتقدم إلى الأمام.

كانت "النظرية"، على لسان مهدي، كياناً ساحراً أنيق القوام، منضبطاً في لغته وتحولاته ووعوده الكريمة، المؤجلة التنفيذ. ولم يكن "تمرحل التاريخ" المرتجى إلاّ المفهوم النظري الذي يعيّن بدقة سقوط "مرحلة طبقية" وبزوغ أخرى، الأمر الذي يتيح للإنسان أن يقترح أحلامه وسبل تحققها، ويعطي لحياته معنىً متحرراً من العادي والمألوف.

والمحصلة الأخيرة لا تبدأ من "النظرية" ولا تعود إليها، فهي تنظر طويلاً إلى "المرتفع المتاح"، الذي كان مهدي ينصر فيه غيره ويطلب النصر من الغسق واقتراب الليل وقلق الأفكار ومواجهة العادي والمألوف.

لم يكن مهدي بحاجة إلى كتابة الشعر في ليله القلق، كان الشعر موجوداً في كتاباته وسلوكه اليومي، وفي ذلك الخجل النظيف الذي كان يحاصره بين "لقاء" وآخر ويأمر بأن يعتذر من الأصدقاء صباحاً، معتقداً أنه أساء إليهم، وهو الذي لا يعرف الإساءة: "أرجو أن لا أكون في الأمس قد..، كان يعتذر عن أمسه الذي لم يكن من أمس الآخرين"، لأنّ ما يبدو عادياً لغيره كان يبدو له غريباً.

ويظل من مهدي عامل، الذي كان تكلم عن كاتب ياسين بدفء ومحبّة، ما يظل منه: إشراقاته الفكرية وهو يلامس الدولة الطائفية وأزمنة التعليم والمدارس الخاصة والنظم الكولونيالية والمسألة الفلسطينية، ويظل منه صوفيته المضمرة، وأخلاقية المثقف العالية، التي تأتي من ممارسة القيم لا من قراءة "الأعمال الكاملة". فقد قرأ البعض "الأعمال" وانصرفوا إلى تصريف أعمالهم، محافظين على "الكلمات" وزاهدين بمعنى الكلمات.

حين أطبقَ المساء في ذلك اليوم السعيد، من خريف عام 1974، كان مهدي ينصر ويستنصر ويناصر الباحثين عن الحقيقة، مقنعاً نفسه بأن "الحزب هو أعلى مراحل الحقيقة".

(عن الطريق اللبنانية)