يرسم القاص الجزائري في نصه حياة الريف الجزائري أيام الحلم الاشتراكي وما يحتدم في أرواح ومشاغل الناس في زمن مفصلي وهوار بومدين الرئيس الجزائري مات للتو وبدأت بوادر تكون الجماعات المسلحة الإسلامية عبر تفاصيل صغيرة تجري في كوخ في قرية وبين الحقول

المذياع العاق

جـلال حـيـدر

كيف أنتبه إلى هذا الوقت اللعين وهو يشمر عن رزاياه ويحتقن بالحقد وسط ابتساماتكم يا أبنائي؟ 
هكذا انتزع عمي حسين كلماته كمعطف شتوي عن قلبه الحزين ..
و ها أنا أتوسد الحائط العتيق في كوخ جدي وألتفت من حين إلى حين إلى أشباحنا المتراقصة في الخلف متأثرت بالسيراج التقليدي المتهالك فوق إحدى الصخور التي تشبه سنام الجمل وهي تشكل أيضا أساس الكوخ 
إحتسينا بشراهة المقاتلين الذين تنبت لهم في الأرض أزهار الترقب والطمئنينة بألوان ساحرة ومتناقضة "بربوشة" بلبن الماعز وقد طلب عمي حسين قطعة رغيف بالدهان ولم تتوانى العجوز عائشة عن إحضارها بكل فخر ،فكثيرا ما تتباهى أمام العرائس الجدد بخصال يديها هذا يحصل كل صباح عندما يجمعهن البهو الفسيح لينهمكن مثل الماكنات في حياكة الألبسة وغزل الصوف وفتل البربوشة ورواية الأحلام التي يجتهدن في تأويلها برهبة ..
نحن العائدون من الحقول البعيدة ممعنين في أشعة الشمس المسهبة في حرق بشرتنا القروية نحمِّل قطعان الشياه مغبة أحقادنا من هذه الجبال التي لا تود أن تتزحزح قليلا من أمامنا كي تفسح المجال لأنظارنا الحالمة بالنساء الكثيرات لتجمع شملها ..نحن الأبطال نشبه ويليام والاس وهو يطلق صرخته المبهرة ..نقف على الينابيع المشعة في المساء ونرافق جيوشنا لتشرب وتثير حفيظة الماء ..
وقد حاولت العجوز عائشة نهينا عن المذياع لإحساس غريب إنتابها هذا المساء هي التي ولطالما تركتنا ملفوفين في صمتنا نلتقط أشباحنا من وهن الذاكرة والضوء لأنها رأت حلما غريبا، هذا المذياع الذي تركه أحد الحصادين القدامى الذي جاء من بلاد الجوع وهو يمرر قدميه على سفوح الجبل ليلتقط البلوط ..و قد غير حياتنا بالكامل وأصبح حديث العام والخاص مثل الجرار الذي جلبه عمي فرحات ذات موسم حصاد وقد أقسم أحسن الحصادين على أن هذا المخلوق عجيب وتغنو به في محافلهم اليومية وقد كانت النساء أيضا يخرجن إلى التلة وهن عائدات من الغدير ليتلصصن عليه وهو يمارس طقوسه الرهيبة في حرث الأرض وبدأ يتأثر الجرار بكل هذا الإحتفاء ووصف بأنه في حالة كئابة وهذا ما يحدث مع الثيران القوية أيضا وجلب له أحد الدراويش الذين يعتزلون في شفاه الغابة مثل الضباع وإستحم فوقه وإذ به يعود إلى رشده ويستمر في حرث الأرض حتى قيل وافته المنية في إحدى الحقول البعيدة وحزن له الرعاة بشباباتهم التي تحمل همومنا ..
إقترب عمي حسين كبير العائلة من المذياع وهو يقرأ تعاويذه لأننا نعتقد دائما ان في يديه تكمن البركة وتستمر المواسم المزهرة ولطالما أخفينا هذا الشعور أمام العجوز عائشة التي كانت تحس بالغيرة منه لأنه يتمتع أيضا بإحترام النساء الحوامل .. كان النشيد مشحونا بالحزن والصرامة هذا هو الحزن الثوري كما يقال ونحن نزحزح مأخراتنا حوله كنا شبيهين بلوحة "آكلي البطاطا" التي تعرفت عليها مؤخرا وهي السبب الرئيسي في سرد هذه القصة لكننا لم نأكل المذياع بل كان له وقار بيننا حتى أن فان كوخ نفسه يشبه خالي عاصم الذي يكنى بالقط الذهبي والفرق بينهما أن خالي عاصم لا ينزع حذائه المطاطي مايزيد الكوخ سوءا ولا ينتبه أبدا إلى العرق المتصبب وهو يكشف المنجل في وجه السنابل المثقلة بالغلة وصوته الصخري العنيف المنبجس كشلالات "بو رشمن" في الأعراس جلب له الحظ والزغاريد الكثيفة والإبتسامات الغزيرة الخجولة في المحفل أين تحتشد الموشمات حول العروسة الشامخة كفرس {أصيلة تلقي نظرة حول الينابيع صحيح أنه تعذب وتألم وغنى حسراته طيلة ليال كثيرة حتى مني بالحسناء "ظريفة" البيضاء المكتنزة الوجنتين ذات العينين الواسعتين السوداوين كعيني عجلة صغيرةـ وكثيرا ما يقول : لقد منيت بها كمن ينتزع ضفدعا من فم الأفعى ـ والتي تزداد ألقا مع السنين حتى أنه أصبح يخشى من الموت قبلها لأن الكثيرين من مقتفي أثر الهجالات تغرورق أعينهم كلما رأوها او تحدثوا عن سيرة جمالها الموحش ..
كان النشيد يصاعد من عتبة الكوخ ويعانق الربى الصنوبرية المنهكة كما يفعل بخار القدرة عندما تطهو العجوز عائشة وكان ينتابه بعض الصمت أحيانا إلى الحد الذي أثار حفيظتنا خاصة والعجوز عائشة تقسم بكل الجبال العالية في برقة وكل الأبطال الذين تاهوا هناك وفاض دمهم على القمم الذهبية أن شيئا ما سيحصل .. ما إن نطق المذيع حتى إنحنينا نلتمس الخبر بدى صوته حزينا ومرتبكا وكانت الذئاب ترسل شغف أنيابها من بعيد وكأنها تستفسر عما سيحصل ، وما إن أطفأ عمي حسين لفافة التبغ حتى قال المذيع متمرغا في دموعه مثلما يفعل جارنا صالح عندما يحتاج نقودا من جدته ، توفي الرئيس البطل هواري بومدين ....
عندما ذكرتني لوحة "آكلي البطاطا" بهذه القصة تذكرت أيضا "الواهنة " التي ماتت منذ أيام قلائل وقد كان لها إبن وحيد من زوجها الذي نفي إلى كلدونيا الجديدة وما إن بدأ ينبت ذقنه حتى حوصر من قبل الخونة وابنائهم نكاية في والده الذي كان قوي البنية يصرع كل سفيه ، ولهذا صعد إلى الجبل ليقفز على رؤوسهم مثل ظبي وجند صغيرا وكانت أمه تتبع أخباره وتحط رحالها بالقرب من مراكزهم أين تطهو له الرغيف الساخن وتجلب له السجائر والقهوة وتعد له الرفيس ليقوى عظمه ويستطيع النيل من أبناء العاهرات ولم تكن أمه أيضا قليلة الجمال ما جعله مقربا من قائده الذي أعجب بأمه وكان كثير التردد معه إلى كوخها البسيط وسط الأحراش حتى أنه يفقد صرامة ووقار القائد في حضرتها لكن خميسي لم يكن منتبها لحركات قائده التي استساغتها امه لأجل إبنها البريء كي لا يتعرض لأي سوء وهكذا واصل القائد غرامياته المنهكة في ليالي التسلل الرشيق على ضوء القمر وسط ظلال السنديان وخميسي يكبر في الفلات كشبل تنموا أنيابه وفي إحدى ظهيرات التعب والحر المقرف سمع أزيز شاحنات العسكر وفر خميسي وقائده ومجموعتهم إلى القمة المنيعة حيث تشكل الصخور حجبا على طائرات الإستكشاف وتركوا المذياع يردد أيها المجاهدون ،أيها المجاهدون .. ما أثار الواهنة التي تبدوا أكثر خفة ورشاقة في هذه الأيام وإقتربت منه وقالت: أخرص العسكر آت .. لم يستغنو عليك لقد إختفو فقط ريثما يمر العدو ويعودون إليك ، أسكت أيها الثوري العظيم أسكت كي لا يكتشف أمر القائد أسكت .. وبينما تخاطبه بحنان الأم صاح في وجهها الله أكبر .. وأردفت يا عبد الله ،أنت مسلم مثلي ،أسكت فالعسكر آت ..
ألقت نظرة أخرى من العتبة وقد تملكها الخوف أكثر بإقترابهم وأصبح المذياع يتفوه كلمات مجنونة وغير مفهومة حتى أنها ظنته جن من الخوف وأخرجت لحافا أخضر أهداها إياه ولي صالح عندما وضعت إبنها كي يحفظه من الشياطين والأرواح طالما هو في القماط ولفته على المذياع كما تفعل تماما بالخميسي عندما يجوع لأن أثدائها كانت قليلة الحليب حتى أنها زارت عرافة معروفة في الشمال المتواري خلف الأرز ، وجلبت أصيص البخور وجعلت تتفوه بتعاويذ مختلفة والمذياع يزداد جنونا ، وما كادت تيأس حتى هدأ المذياع قليلا فحمدت الله ونزعت اللحاف الأخضر ووضعت أصيص البخور جانبا وفكرت في مكان إخفائه وقد كانت هناك مطمورة على مشارف البهو لن يستطيع أحد كشفها ، ستخفيه هناك وسط القمح ، وما إن كادت تلمسه حتى صاح في وجهها مرة أخرى : أيها المجاهدون ،ايها المجاهدون .. ذعرت الواهنة من الذي يحصل وخمنت أن المذياع تأثر بالمجاهدين الذين تركوه هنا وفرو وسوف يسرد أسمائهم عندما يدخل العسكر وسوف يخبرهم أيضا بمكان اختبائهم وهذا ما ترفضه قطعا ..
جلبت فأسا كان ملقا كمعطوب حرب بالقرب من الزريبة الصغيرة وهددته إن تفوه بكلمة للعسكر أنها ستقتله بفخر كمن يبقر رأس خائن وهي تردد : تكلمت معك بهدوء وحاولت تبرير كل شيء تشتكي منه وإستعملت طقوس العرافة معك ظنا مني أن مسا أصابك لكنك لا تفهم ، وإن كنت مسلما كما تدعي فلما تود أن تكشف أمر أصدقائك ...
و قاطعها بصوت مشحون بالغضب : الحرية .. الحرية .. وبدا المنظر بينهما تراجيديا ،كان المذياع كبطل حقيقي أمام المقصلة ..
و قد هوى عليه الفأس وتطايرت أشلائه ، وهي تردد هاهي الحرية ، هاهي الحرية ...
ما إن تفوه المذيع بالخبر حتى ساد الصمت بيننا ،صمت فظيع قطعته العجوز عائشة بعويلها وهي تردد : ألم أخبركم ان شيئا ما سيحصل لم فعلتم هذا ؟... 
بكينا كلنا بومدين حلم الفقراء في دشرتي ،لقد تغنى به الحصادون هنا وعمال الغابات واليتامى والموشمات ، كنا نعتقد أنه آخر شهيد ظل حيا يرزق بيننا كي لا تنطفأ حرارة الثورة وحنجرة المذياع إن أحلامنا تفترق الآن مع موته وتحيلنا إلى الفراغ ، في هذه اللحظة حمل عمي علي شبابته وأسند ظهره المحدودب إلى العتبة ونفث لحنه الملتهب غرقت معه في ذلك الحزن الغريب الذي يشبه الطين ولا ادري كيف التفتت إلى عمي الحسين الذي إستهلكته الحرب وبقيت منه هذه الجثة المتهالكة وهو يبكي بحرارة وفكرت أن أواسيه وأنا أعلم مسبقا أني لا أجيد هذا النوع من النفاق، إقتربت منه وبدأت أستعير كلمات حفظتها يوم فارقت جدتي ، ولم اوفق ،ثم قلت له " الناس كامل تموت ،النبي أو مات" انتفض مثل نسر برزت طريدته من جديد ، وردد " النبي مات " وهو يخرج من العتبة حافيا إلى الباحة "النبي مات " ..