في قصة مكثفة يسرد لنا القاص الفلسطيني بلغة مكثفة موجزا عن مسار حياة أمه وأبيه وطبيعة علاقاتهما المعقدة في ظروف مجتمعاتنا بقيمها وأعرافها ثم يتدرج لتأمل حياته العائلة مقارنا بين حياتين وطريقتين متشابهتين تقف القيم حاجزا بين الإنسان والحرية والحب.

حكاية لأناس ما زالوا على قيد الحياة!

فرّاس حج محمد

لستُ بطلَ الحكاية، وإن كنت شخصيةً من شخصيتها، ولستُ صانعها، وإن كنتُ راويا لها، ولستُ مُدخلا فيها الخيال، وإن لم أكن فيها واقعيّا، فقط ْ،كنتُ أنا أنا هو ذلك الذي لم تقصده الحوادث أن يكون.. فكنت كما أنا هنا في النص، شاهدا ليس أكثر!

أبي تزوج وأنا لم أكن موجودا بطبيعة الحال، ولكنه عندما تزوج أمي أصبحا زوجين تعيسين، ولكنهما كانا صبورين جدا، تحملا أن يكرها بعضهما على مضض العيش، وعاشا معا أكثر من عشرين عاما، أنجباني فيها وذرية آخرين، افترقا، وبقيا زوجين خصمين لدودين، لم ينفصلا، ولم يعودا، عاشا في منزلة بين المنزلتين!

أمي بطبيعة العرف والعادة، والشرع كذلك، لم تتزوج، فهي ما زالت زوجة، ولم تصبح مطلقة أو أرملة بحكم أن أبي ما زال حيّا، ولم يطلقها، وإن حدث معها أن طلب يدها أحد الميسورين، ولكنها ضحكت بملء فيها، واكتفت بإعلام ذلك الرجل أنها ما زالت زوجة لزوجها، إنه لمن حسن حظ أمي أنها لم تتزوجه، فقد توفي منذ فترة، وإلا لأصبحت أمي مطلقة أولا وأرملة ثانية، ولصار فألها غير حميدٍ!

أبي بطبيعة الحال والعرف والعادة، والشرع كذلك، قد تزوج، فهو ما زال وقتها ذا قدرة وصحته الإنجابية عالية، ولم يكن قد تجاوز الخمسين بعد، تزوج امرأة أخرى، نحت منها ذرية كثيرة، ذكورا وإناثا، حتى غدونا عزوة لا تنفع ولكنها تضرّ بكل تأكيد!  

انتهت حكايتهما، وخلفوا امتدادا لها في شخصي النحيل، وطالعي السعيد، تزوجتُ امرأة، هل كنت أحبها؟ لا أدري، هل صرت أحبها بعد ما يزيد عن خمس عشرة سنة؟ أيضا لست أدري. ولكن ما أدريه أنها كانت وما زالت زوجتي، ربما هي لم تكرهني ولم أكرهها كما كان أبي وأمي، عشنا معا وسويا حتى مطلع الفجر ليالي كثيرة ونهارات شتى، ونحتنا أيضا خلفة صبيانا وبناتٍ، كبروا وصاروا فتية وفتيات، وها هم مقبلون غير مدبرين على حياة، لا أدري ما سيصيبهم منها!

أنا هذه المرة أحببت امرأة، نعم أحببت امرأة، وأدري أنني أحببت امرأة، ومتأكد من أنني أحببت امرأة، كانت عاصفة المزاج، كمدينة تستعد لحرب ما لمجرد كلمة، وهي أحبتني، لكنها لم تفهمني، لم تستوعبني، استندت لتفسيرات لا عقلية ولا قلبية، وهي بالتالي لا شرقية ولا غربية، يكاد جنونها يشتعل في كل لحظة!

أنا هذه المرة لم أتزوج بامرأة أخرى، مثل أبي، وأوقفت نحت الذرية، وانتظرت كثيرا، دون تعب وملل، أصيب الصبر عندي وعندها بوعكة واكتئاب بفعل رياح أيلول السوداء، هبت رياح كانت قد هبت من قبل سنوات، قذفتنا الأمواج في ليلة واحدة، كل منا على شاطئ بعيد، نحدق في النجوم، ونشبع من ظلال الغيوم، ونرتوي من رسوم شقائق النعمان، ولكننا قد دخلنا مرحلة خطيرة من عدم الصبر والاحتواء نعلن الهرب، ونعلن الاستسلام، ونستلقي بين طنين الهواجس المرعبة! وصار الليل أطول مما كان عليه قبل أيام أو أسابيع قليلة!

الآن أدركت الفرق بين أمي الكارهة المحافظة على رابطة زواج لم تكن ترغب فيه، وبين امرأة محبة، ما كان بيني وبينها من طقوس يضاهي تلك العلاقة الرسمية بين زوجين يبغض كل منهما نفس صاحبه، أما أنا وأبي فمتشابهان جدا في شيء واحد، وهو الوفاء مع فارق الحبّ الذي افترقنا فيه!