سلامة أيوب
تحرّكت أمّي، وهي تحمل صينيّة بلاستيكية عليها إبريق الشاي، وحوله ثلاث كاسات صغيرة. وضعت الصينيّة على طاولة قصيرة، وجلست على الفرشة بجانبي، ثم ارتفع الإبريق في يدها. رحنا نراقب بشهيّة انسياب الشاي من أنبوب الإبريق، وسريان اللون الأحمر شيئاً فشيئاً في الكاسات الزجاجية. أنّ الباب الخارجي أنّة طويلة، خالطتها طقطقة قطع صغيرة من الصفيح. لم يكن الباب سوى لوح حديديّ صدئ، أضيفت إليه مع الزمن لوائح من الزينكو. دخلت أختي حنان، التي اعتادت أن تبقى في الشارع أكثر من بقائها في البيت، اندفعت معها رائحة زكمت أنوفنا، فلم ننتبه إلى الظرف الأبيض الذي كانت تلوّح به، صرخت بها أختي شروق:
ـ اتركي الشبشب على العتبة!
تأفّفت أمّي:
ـ ما هذي الريحة؟!
مدّدت يدي نحوها، ويدي الأخرى على أنفي. ألقت الظرف إليّ، وهي تتراجع إلى الخارج، قالت، وهي تحاول تخليص قدميها من الشبشب:
ـ المجاري فاضت في الشارع.
علّقت أمّي، وهي تنظر إلى الظرف:
ـ دولة اضرب واطرح... وشركات مياه وصرف صحيّ مرة محليّة وأخرى فرنسيّة، ولا حلّ لهذه المشكلة.. يأتون لتسليكها اليوم، وتفيض في الغد. صار الحيّ مكرهة صحيّة. الله أكبر! فقر ووساخة!
في الظرف بطاقة دعوة. خمّنت أمّي دعوة عرس، من أحد الأصحاب، أو الجيران. ولمّا رأت شعار الجامعة، جامعتي السابقة، أعادت كاس الشاي إلى الصينيّة، وحنت ظهرها إلى الحائط، وعيناها مغرورقتان. تزاحمت المصائب في عقلي، وامتزجت برائحة المجاري؛ فلم يعد لي رغبة في الشاي. سألت حنان عن الظرف. أجابت إنّ رجلاً له لحيّة طويلة، سمعته يسأل في الشارع عن منزل سلامة أيوب، قلت له إنّي أخته، فناولني الظرف، وطلب مني تسليمه إليك.
كانت الشمس قد غربت عندما خرجنا من قاعة الدرس، رأيته يغذ الخطى متّجهاً إلى مسجد الكليّة، قلت في نفسي: أتوضأ وأصلي قبل أن أعود إلى البيت، فأتأخر عن صلاة المغرب، كما يحدث لي عادة يومي الإثنين والأربعاء، حيث تمتدّ المحاضرات إلى ما قبل الغروب.
غزاني تيار من الخشوع، أحسست بصفاء روحي، ونقاء قلبي، وأنا أدخل تلك السقيفة، التي أقيمت من اللبن، وسُقّفت بألواح من الزينكو، لكنّها ألواح جديدة ومتكاملة، ليست مثل ألواح باب بيتنا. بدت لي متسامية، وهي غارقة بين بنايات الكليّة، تحيط بها أشجار السرو، وبضع أشجار من الليمون والزيتون، يظنّ من يراها أنّها منزل لبعض عمال الجامعة، أو مكب للقمامة، أو مخزن للأثاث المستهلك.
أقيمت الصلاة. وفي لحظات انتظم الطلاب في صفوف متراصّة، لكنّها قليلة، وعلا صوت مأمون يتلو سورة الفاتحة، وتلاها بسورة العلق. كان في صوته بحّة، أثارت حنيناً غامضاً في وجداني.
توطّدت علاقتي بمسجد الكلية، ومعرفتي بمأمون. وتكرّرت لقاءاتنا، وبخاصة في المحاضرات المشتركة؛ كنت غارقاً في دراسة الحاسوب بينما كان في قسم الهندسة الكيماوية. لم أعرف الشيء الكثير عن أسرته، ما عرفته أن والده قاض، ويسكن في منطقة جميلة من المدينة، لم يدعني يوماً إلى بيتهم، بل كان يحاذر أن يدعوني، أمّا هو فزارنا في بيتنا القديم، الذي كنّا فيه قبل مجيئنا إلى هذه الخرابة.
بدا في زيارته الأولى كمن يتعافى من مرض، تطلّ الكآبة من عينيه. جلسنا أمام البيت، لم يكن مثل بيتنا هذا. كان يطّل على الشارع الرئيسي، وعلى الرغم من صغر مساحته؛ فلا يشغل غير غرفة، ومطبخ ضيق وحمّام، فإنّ تصميمه كان مريحاً، عليه مسحة جمال من الخارج. وكنّا نستخدم الساحة التي أمامه كصالة استقبال حتّى في بعض أيام الشتاء. أحضرت الشاي الذي صنعته أختي؛ كانت أمّي تشكو من آلام في مفاصلها ـ كما قالت ـ. ناولته كأس الشاي. انتبهت إليه، وهو يتابع امرأة تتشاجر وبائع الخضار على الرصيف المقابل.
ـ ذهبت الأخلاق، صارت النسوان يعلو صوتهن في الشارع. الإسلام على حقّ عندما اعتبر المرأة عورة، كلّ شيء فيها عورة.
ـ لم تغيّر نظرتك إلى المرأة؟
ـ ليست نظرتي إنما نظرة الله..
ـ لم يفضل الله المرأة على الرجل.
ـ لا أدري، كيف تصلّي وتصوم، وتؤمن بالله واليوم الآخر، وتنظر إلى المرأة بأنّها مخلوق سوي! أنت مخطئ، وأنت ومثلك وراء ما نحن فيه، فلم يغزنا التخلف إلاّ عندما خرجت المرأة إلى الحياة مثل الرجل، وأبحنا لها أن تظهر شبه عارية في الشارع، وأماكن العمل، وعارية في الفضائيات، وشاشات الحاسوب.
ـ أمرك غريب، أيها الشيخ الصغير تغمض عينيك عن الصخرة وترى الحصاة. ما قلته عيب صغير بالنسبة إلى العيب الكبير.
ـ عيب كبير؟
ـ نعم، إنّه غياب العدل. أرأيت نحن نعيش الظلم في البيت، والمدرسة، والجامعة، والشارع؟ أين العدل في الجامعة التي ندرس فيها على سبيل المثال؟ ألا ترى كيف يوزع الدكتور العلامات؟ هنالك تمييز على أساس الجنس والحسب والنسب والعشيرة والفخذ. هذا ما يقترفه الدكتور، وهو نفسه مظلوم يعاني في وظيفته من رئيسه، ورئيسه يعاني ممن فوقه، وهكذا. نحن يا صاحبي، ظالمون ومظلومون، حتّى من هم فوق فوق يمارس عليهم الظلم.
ـ إذا فكرنا كما أراد الله، فلا يزول الظلم في مجتمعنا، زوال الدنس من الثوب الأبيض إلاّ بكسر رأس المرأة. هذا يحتاج إلى دعاة يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر.
بعد خروجه تراءى أمام عينيّ ما يفعله أبي؛ في العادة، يعود من عمله مع غروب الشمس، يتهالك على مقعد قصير، وضعته أمي في زاوية حجرة النوم، ثمّ تنحني لتساعده على خلع حذائه المثقل بالتراب والرمل، ثم تأخذ في حلّ عرى قميصه، ثم تتركه يكمل استبدال ملابسه، لتأتي بالماء الفاتر لتغسل قدميه، كان يرفض في مرات كثيرة أن يتعبها في مثل هذه الأعمال، لكنها كانت تصرّ على ذلك، فتؤدي عملها، وهي تحدّثه عن ذهابها إلى السوق، وتشتكي من غلاء الأسعار، ووجع ظهرها وركبتيها، من كثرة الوقوف في المطبخ. والدي لم يكن يستمع إليها، كانت عيناه ذابلتين، ينتظر بلهفة أن يأكل وينام.
كنّا في عطلة نهاية العام الدراسيّ عندما زارني في الليل، لحيته طالت كثيراً، وتقلّصت هيئته وسط الملابس الباهتة الفضفاضة. جلسنا على سطح المنزل، تحت أنظارنا تمتدّ المدينة، الأضواء متلألئة في مناطقها الغربيّة والشماليّة بينما في المناطق الأخرى فاترة، ومتناثرة في تجمّعات صغيرة.
قبل أن يحضر الشاي بادرني:
ـ جئت أودّعك.
ـ تودعني! تريد أن تخيفني، يا رجل؟!
ـ حقاً، أريد أن أخرج في سبيل الله. الله يريدني في أرض غير هذه الأرض، وبين أناس غير هؤلاء.
ـ أفهم أنّك انجذبت إلى رجال الدعوة؟
ـ نعم، سأخوض هذه التجربة، سأسافر إلى تركيا وباكستان والهند وأفغانستان من أجل نشر الإسلام، والدعوة إلى الخير والصلاح. هكذا أمرنا الله:" وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"
ـ لماذا لا تدعو إلى الخير والصلاح هنا؟ كلّ شيء متوافر والحمد لله: الشر والفساد والقهر والظلم وبالأنواع كافة. الأمر لا يحتاج إلى أن تترك دراستك وأهلك.
ـ هناك أكثر ثواباً، وأقرب إلى الله، وإذا مات الإنسان مات شهيداً؛ فيخلّد في جنات النعيم، الثواب كما يُقال على قدر المشقّة، أمّا الأهل فلا يحتاجون إليّ، وأمّا الدراسة فأتدبّرها..
نادت أمّي كي تناولني الشاي، فهي تشكو من صعود الدرج والنزول منه. دلفت الى المطبخ، وأنا أتذمّر، سألتني فأخبرتها ما يقول. همست:
ـ ما لصاحبك؟ جن؟
ـ واقعنا صعب، يا أمّي. صعب!
انقطعت أخباره. قيل إنّه وصل إلى باكستان، ومنها ذهب إلى أفغانستان، وانضم إلى منظمة القاعدة مقرّباً من أسامة بن لادن، وقيل إنّه لم يغادر باكستان، وظلّ فيها مع نفر من رجال الدعوة، وفي بعض الإشاعات أنّه مقيم في كابول، يدرّس في إحدى المعاهد الدينية. وفي إشاعات أخرى أنّه سافر إلى لبنان، وانضم إلى جماعة حزب الله. أمّا أنا فأرجح أن مأمون ما زال يطوف في قرى باكستان، يدعو إلى تكبيل المرأة، وعدم خروجها من البيت؛ فلا يحقّ لها أن ترى من الكون غير حجرة النوم والمطبخ.
لكنّي، بدأت أتراجع عن هذا الرأي، عندما راح بوش رئيس أميركا يطالب حركة طالبان بتسليم أسامة بن لادن، أو طرده من أفغانستان، وخطر ببالي، وسط الأخبار الغريبة والحكايات العجيبة عما يجري أن مأمون ربما يكون أسامة بن لادن، أو أحد الذين دمّروا برجي التجارة في نيويورك. أضحك عندما تمرّ بعقلي أمثال هذه الأساطير والخوارق...
لكني، عدت أتخيّل مأمون، عندما بدأت الحرب الأمريكية على طالبان قتيلاً في مدينة قندهار، أو هارباً مع رجال القاعدة إلى جبال تورا ـ بورا، ورحت أمعن في الصور التي تبثّها الفضائيّات، أي فضائيّات! هي فضائيّة الجزيرة، الوحيدة، التي بدأت أشاهدها مع بداية الحرب في مقهى وسط المدينة. كنت أحدّث نفسي برؤيته مع السجناء في ممرات غوانتانامو العارية.
ثم سرت الإشاعات أنّ مأمون وآخرين من الأفغان العرب خرجوا من باكستان عائدين إلى أوطانهم، ولكنه اعتقل في المطار، وزج في السجن، وهو الآن يحاسب على أعمال ارتكبها، أو لم يرتكبها.
قلت في نفسي: لماذا لا أسأل عنه؟ ذهبت إلى الحيّ الذي كان يسكنه. كنت نادماً لأنّي لم أعرف البيت، ولمت مأمون أنّه لم يعرّفني به. دلّني صاحب بقالة على منزل أقرب إلى قصر، قال إنه بيتهم الجديد. وقفت أمام البوابة مندهشاً من علوّ السور. ضغطت زرّاً وضاء، سمعت صوت أنثى نحيفاً في عذوبة. قلت إنّي صديق مأمون جئت أسأل عنه إن كان عاد من سفره، تغيّرت نغمة الصوت: لا نعرف أحداً بهذا الاسم. ربما ظنّت أنّي من رجال ابن لادن. حاولت أن أبعد عنها الشكوك، فرفضت أن تردّ عليّ، فأيقنت أنّ مأمون لم يعد، وأنّه إرهابي في نظر أمريكا. ولم أعد أسمع عنه بعد تركي الجامعة.
كان الجو بارداً في الخارج، فلم أستطع الدراسة في فناء البيت، دخلت غرفتي، وأنا أشعر بسعادة؛ فالجميع ناموا: أبي وأمي في غرفتهما، وأختاي حنان وشروق في الغرفة الأخرى. كنت غارقاً في المذاكرة، والوقت ربما منتصف الليل عندما اقتحم أبي الغرفة، وهو يضع يده على صدره ناحية القلب، سألته إن كان يتوجّع من شيء، أجاب إنّه فقط لا يستطيع النوم "أمّك نائمة، وأنا ماذا أفعل؟" وضحك، وضحكت. لا يتشاطر إلاّ ليلة الجمعة عندما تكون أمّي مهدودة الحيل، أمّا بقية الأيام فيعود من عمله، وكأنّ أثقالاً على كاهله، أو مآسي في جعبته. جلس قبالتي، اقترحت أن أصنع القهوة أو الشاي، ما دمنا لا نريد النوم، سخر منّي، وقال إنّه لا يشرب القهوة أو الشاي إلاّ من يديّ زوجته. الآن، أظنّ أنّ أمّي تحلم بحياة خضراء، ترى ابنها وقد تخرج في الجامعة، وأصبح مهندساً، وكبرت بنتاها، وأصبحتا في الجامعة أو الكليّة، وتجد زوجها وقد ترك عمله في الباطون، واتّخذ مقعداً قصيراً أمام بيت منزو بين الأشجار في إحدى القرى، لعلّها أمنيتها الوحيدة أن نسكن في بيت لا تدفع أجرته. صحوت على همس أبي:
ـ هل تعلم يا ابني...؟
ـ نعم، يا أبي..
ـ ما تبقى لدينا من مال سنشتري به بيت الحاجة مهجة، إنّه أشبه بكوخ مهجور نستخدمه في المستقبل كمحل تجاري، أو نؤجّره.
أعلم أنّ أمّي باعت آخر قطعة من مصاغها، دفعتُ من ثمنها رسوم الجامعة، وما تبقى لا يكاد يكفي مع ما وفره أبي من عمله أجرة للبيت، وتسديد فاتورة الكهرباء..
ـ هل لدينا مال يا أبي؟
ـ سأتدبر المبلغ، وهو مبلغ قليل على كل حال، فرصة يجب ألا نفوّتها، وصاحبة البيت الحاجة مهجة امرأة طيبة تصبر علينا بما يتبقى.
أصبحنا نملك بيتاً لنا، هي ما ورثناه عن أبي، الذي لم يعش ليرى ما تؤول إليه أحلامنا.
عدت من الجامعة بعد الظهر، لم أشأ أن أصلّي في مسجد الجامعة، أو المسجد الكبير في وسط المدينة على الرغم من أنّي، في أغلب الأحيان، أحسّ بالطمأنينة والأمان وأنا أصلي وراء الإمام، فلا وساوس ولا كبرياء، كما يخيّل إليّ أن ثوابي عظيم، وأنا أتحمّل أذى الناس، وما علق بأقدامهم من روائح العرق والتراب، وكأنهم لم يسمعوا قوله تعالى: "خذوا زينتكم عند كلّ مسجد". توجّست خيفة، وأنا أقف بباب البيت ولا أسمع أي حركة في الداخل، أمي في هذا الوقت يسمع صراخها وهي تنادي حنان أو شروق. نبّهها والدي أكثر من مرّة إلى علو صوتها فلم تأبه؛ فالله خلقها وصوتها قوي كما قالت. رأتني جارتنا أم عمر، وأنا أنتظر أن يفتح الباب.
ـ أمّك، يا ابني خرجت إلى مستشفى الحكومة، جاء بعض العمال وأخبروها أنّ رجلها مريض، ونقلوه إلى المستشفى. إن شاء الله خير، يا ولدي!!
انتابتني رعدة قويّة، كدت أسقط على الأرض، لكنّي سرت كجندي تاه عن زملائه. اخترقت الأفكار المتناقضة عقلي، وتبلورت على شفتي في تنهدات وآهات وتمتمات: أبي اللهم استر اللهم خير لا حول ولا قوة إلاّ بالله اللهم امنحني القوة والصبر يا رب يا الله.
كانت أمّي وأختاي يبكين بباب المستشفى. تحوّل بكاء أمّي إلى عويل عندما رأتني: أبوك مات يا سلامة! وتقاربت رؤوسنا، وهي تغرق في العجز والبكاء. قالت أمي:
ـ وصل إلى المستشفى وفيه الروح. حاول الأطباء إنقاذه. كانت جلطة قوية.. الله يرحمك يا أيوب.
تقدّم منا ثلاثة رجال، آثار الإسمنت على ملابسهم ووجوهم، عرفت أنّهم زملاء أبي في العمل. قال أحدهم:
ـ البقاء لله، يا بني! البركة فيك. شد حيلك. أبوك يريدك مثل الجبل.
ـ الحمد لله على كل شيء. كيف مات أبي يا عم؟
بادر الرجل الثاني بالحديث:
ـ قمنا بعد الإفطار إلى العمل. نهض أبوك معنا، ثم فجأة سقط على الأرض، لم تتأخر سيارة الإسعاف وصلنا إلى مستشفى الدعوة في الوقت المناسب، لم يشأ أن يدخلوه، طلبوا تأمين مبلغ كبير من المال. فحملناه إلى هذا المستشفى. لم يقدر الأطباء على فعل شيء. الموت حقّ يا ابني، "كلّ نفس ذائقة الموت"!
مستشفى الدعوة. دعوة!! أي قسوة تختفي وراء الكلمة!؟ كيف يسمح لغير أهلها باستخدامها؟! أكرهك أيتها الكلمة! صرت تعنين الموت لا الحياة. لولاك لما فقدت أبي. كان يمكن أن ينقله العمال إلى مستشفى لا يحمل اسمه الخداع أو الشر، أو فيه بعض الرحمة والإنسانيّة. أي جريمة اقترفها الإنسان عندما اخترع النقود؟! هل الدعوة هي التي قتلت والدي أم المال؟ كلاهما يجب الاقتصاص منه. كيف؟ كيف؟
صرخت أمّي:
ـ حسبي الله ونعم الوكيل!
صرت رجل العائلة. ذهبت إلى الورشة التي كان والدي يعمل فيها. آلمتني رقبتي، وأنا أتأمل البناية التي تتدرج نحو السماء. هنالك غرفة صغيرة على مدخل البناء، تبدو كمكتب لمنفذ المشروع. دخلت. لم أسمع صوت حذائي، وأنا أطأ البساط الوفير الذي فرشت به الأرضيّة. واجهني في الصدر رجل ذو رأس ضخم، كان ينحني على طاولة عريضة، عليها أجهزة اتصال ومعلومات. رفع رأسه دون أن يردّ على تحيّتي. قلت:
ـ أنا ابن العامل أيوب الذي توفّي. أريد رؤية المسؤول عن المشروع.
ـ أيّ خدمة!؟
تخيّلته يهبّ واقفاً ويعانقني. عظّم الله أجرك! فوالدي رافق المشروع منذ أن وضعت أساساته، وتوفي وهو يعمل. تمنيّت لو أقدر على خنقه، ودارت في عقلي، وأنا أتخلّص منه صور ومشاهد غريبة: علّقته من ربطة عنقه في عمود المروحة التي في السقف. أطلقت على رأسه عدة رصاصات من مسدس كاتم صوت. بقرت بطنه بمدية اشتريتها خصّيصاً له. قطعت رأسه بسيف يحاكي سيف عنترة في غابر الزمان. لم أهتمّ بالصور الكثيرة التي مرّت في عقلي لكني تلذّذت وأنا أتخيّلني حول وسطي حزام ناسف، وأضغط الزّر، ونموت معاً. أرتاح من هذي الحياة.
ـ أريد أجرة والدي.
أخرج جهازه النقّال، وعملت أصابعه قليلاً، ثمّ رفع رأسه، وقال:
ـ عمل والدك ثلاثة أيام. له في ذمتنا خمسة وأربعون ديناراً.
دهشت أني خاطبته بلطف، وكأن المال يهمني بعد موت أبي:
ـ لكنّه عمل عدة ساعات في اليوم الذي توفّي فيه.
ـ حسب قانون العمل والعمال لا يستحقّ والدك غير خمسة وأربعين ديناراً. اسأل وحاسبني إن بقي له عندنا أيّ فلس..
وضعت المبلغ في جيبي. لا أدري كيف لوّحت قبضة يدي في وجهه. ترنّح بكرسيه إلى الخلف. هربت وأنا أسمع صراخه في العمال الذين كانوا بباب البناية:
ـ أمسكوه ابن الكلب..
جئنا البيت الذي اشتراه أبي. دمعت عينا أمي، وهي ترى غرفة مستطيلة، حيطانها محفّرة، غاب عنها الدهان، وسقفها أكلته الرطوبة، وأرضيّتها تكسر بلاطها، وشعّ من روحها السأم. لمحت التحدي في وجهها، وهي تلتفت إلى ما يمكن أن يسمى المطبخ، الذي اسودّت جدرانه، وتشقق سقفه، وتسللت إليه روائح الحمّام، الذي بجانبه.
لم تطل حيرتنا. شمرت أمي عن ساقيها وذراعيها، ثمّ رحنا نعمل على تنظيف المكان وترتيبه. سمعنا أحد الجيران يقول: سبحانه يحيي العظام وهي رميم!بعد أيام أعدنا البيت الذي نسكنه لأصحابه، وبتنا محشورين في بيت من غرفة وحيدة.
جعلت أمي فراشها بجانب فراش شروق وحنان، أما أنا فابتعدت بفراشي وطاولتي ناحية الباب، وضعت ستارة بيني وبينهن، قطعة قماش كبيرة بيضاء، يبرز من طرفيها حبل نحيل مربوط بمسمارين في الحائط. أسحبها عند اقتراب موعد النوم. في أول ليلة ظننت أنّ النوم قد غزا جيراني في الغرفة، فأسدلت الستارة، ورحت أفكر في حياتنا. لم تكن حياتنا غير سؤال واحد: من أين نحصل على المال؟ شعرت بحركة وراء الستارة، أدركت أن أمي لمّا تزل تفكر في زوجها الراحل، أو ربما في مستقبل ابنها وبنتيها. اطمئني، يا أمي، سأبحث في الغد عن عمل، أي عمل حتى في مقهى انترنت، أو صالة من صالات الأفراح. سأحافظ على كرامتك، لن تحتاجي إلى شيء أنت وأختيّ. أطفأت الضوء. سمعت نحيب أمي، ناديت يغالبني البكاء:
ـ أمّي !
توقف نحيبها. زحفت إلى فراشها. كان مصباح الشارع ينشر ضوءه الخافت على وجهها، فبدا مشرقاً على الرغم من ذبول عينيها، شعرت أني أقدر على أنّ أحيا. قلت:
ـ أمّي، ترين أنا نحتاج إلى كثير من المال: أقساط الجامعة، ونفقات البيت، ومصاريف المدرسة. من أين لنا المال بعد وفاة أبي؟ حتّى في أثناء حياته كنّا في حالة يرثى لها. أمّي سأترك الدراسة لا بل أؤجلها سنة أو سنتين إلى أن يأتي الله بالفرج.
أشاحت بوجهها، ثم تأوهت:
ـ افعل ما شئت، يا ابني. أنت رجل العائلة بعد وفاة أبيك.
جئت الجامعة بعد انتهاء امتحانات الفصل الثاني، كانت شبه خالية، بعض الطالبات والطلاب يروحون ويجيئون، نسوا أنفسهم أمام مبانيها، وفي حدائقها المبعثرة. قدّمت طلب التأجيل في ديوان الكليّة، نظرت رئيسة الديوان في الطلب، ابتسمت، شعرت بمرارة: هل فرحت لتأجيل دراستي؟ هل أصبح الفقر من دواعي السرور لدى ربات الخدور؟ لو أني مسؤول في الجامعة؛ لأحلتها إلى التحقيق.
وأنا خارج لقيت أستاذي لقمان. اندفعت إلى معانقته. طلب مني أن أنتظره، ودخل الديوان، ماذا يريد مني؟ انتهت حياتي الجامعية. لماذا رحلت، يا أبي، وتركتني؟ تكلّم مع السكرتيرة، وخرج. سرنا في الممرّ الذي يؤدي إلى الساحة. قال، ونظره يتابع عصفوراً يقفز على أغصان شجرة قصيرة:
ـ في نهاية السنة، تبدو الحياة كئيبة... ماذا كنت تفعل في الديوان؟
ـ قدمت طلباً لتأجيل دراستي.
ـ تأجيل؟ أنت طالب مجد!
ـ مات أبي. صرت المسؤول عن عائلة من ثلاثة أنفار..
ـ البقاء لله! كلنا راحلون! لماذا لم تطلب قرضاً من الجامعة..
ـ لا تمنح قرضاً لأمثالي، وإذا وافقت، تضع شروطاً لو توافر لديّ بعضها لما احتجت إلى قرض.
ـ أنت على حق. حاولت مرّة مساعدة طالب على الحصول على قرض، لم أنجح بل حصلت على تنبيه من العميد بعدم التدخل في الشؤون الإدارية..
صحوت على حركة أمّي، وهي تتهيّأ لصلاة الفجر، نسمات نقيّة هبّت عندما فتح الباب، نهضت. اليوم سأخرج للبحث عن عمل، كما أخبرت أمي. بعد أن أديت الصلاة رأتني أرتدي ملابس قديمة، غالبت حزنها:
ـ انتظر حتى تفطر.
ـ لم يكن أبي يفطر..
خرجت، وأنا أسمع دعواتها، بعضها كانت تقولها لأبي: الله يرزقك برزقنا! يبعد عنك شر بني آدم! ويحميك من عيون الحاسدين. كل خطوة بسلامة!
التحقت بجماعة طالبي الرزق في ساحة المسجد الكبير، كان أبي يجيء المكان نفسه عندما ينقطع عن العمل، قابلته مرّة أو أكثر، وأنا ذاهب إلى الجامعة، كان يقدّمني إلى من بجانبه: ابني المهندس. لم أعد مهندساً، يا أبي، بل طالب عمل، أي عمل. أتأمل الوجوه. لا أثر فيها لابتسامة، لكني أعرف مهنة أصحابها: فذاك معلم طوبار، يضع المتر الحديدي على خصره، وذاك طرّيش، يضع أمامه برميل دهان قديم، وذاك قصّير أمامه مسطرين ومنخل، أما أمثالي، الذين لا يتقنون أيّ عمل فلا يملكون أي أدوات أو عدّة، ويقف كل منهم مسنداً ظهره إلى باب محلّ لم يفتح، وربما يحتسي الشاي في كوب بلاستيك.
لم يزدحم السير بعد، سيّارات فارهة تمرّ مسرعة، بدا كثير منها، وكأنّه صنع قبل أشهر. كم كان يتألم أبي، وهو يقف مثل هذه الوقفة! انتبهت. كان ينتظر بيننا شباب هدّهم البحث عن عمل، وبينهم عجائز في أواخر العمر. تساءلت في نفسي: من سيختارهم للعمل؟ كيف يعودون إلى أولادهم بعد هذا الانتظار الطويل؟ توقّفت بالقرب مني سيارة حمراء لامعة، هرع نحوها كثيرون، يبدو أنّ صاحبها خشي على نفسه، أو على سيارته فانطلق بعيداً، ربما إلى تجمع آخر من العاطلين. بعد ساعة أو أكثر فتحت المحال أبوابها، وبدأ زملائي يعودون إلى الفراغ، فجررت جثتي إلى البيت.
عزمت ألاّ أنتظر العمل بل أذهب إليه، كتبت أسماء المطاعم والفنادق والمستشفيات حتّى مستشفى الدعوة، الذي قتل أبي، ألحقت اسمه في قائمتي. سألت أصحاب المطاعم، علمت من بعضهم أنّهم سيستغنون عن العمال بعد زيادة أسعار الحمص والفول، درت على الفنادق، تذمر أصحابها من كثرة طالبي العمل، وقلة الزبائن، ولعنوا ظروف الشرق الأوسط التي لا تسمح للسياحة والفرح أن يزدهرا في فنادقهم، طفت على المستشفيات، وأنا أفكر أنها لن تخلو من الزبائن، وتحتاج إلى عمال النظافة مثلما تحتاج إلى المرضى، لم يقبلوا بي؛ فأنا لا أصلح للعمل ـ كما قالوا ـ لانعدام الخبرة، وضعف البنية. لم أدخل مستشفى الدعوة، وقفت ببابه أتأمل الآية القرآنية: "وإذا مرضت فهو يشفين" قلت في نفسي: حق يبرر به أخطاء الأطباء وجرائم المستشفيات، وتمنيت مرة أخرى أن يكون حول خصري حزام ناسف، أصعد إلى مدير المستشفى، أطلب منه أن يجمع الموظفين: موظفي المالية، والإدارة، وأفجّر جسمي بينهم، وإلى الجحيم.
فكّرت في أنّ هنالك جينات شقاء ورثتها عن والدي؛ وإلاّ فلماذا عملت في الطوبار؟
في إحدى الصباحات، التي ينخرها اليأس مررت بورشة بناء: عمال يفرغون شاحنة أخشاب، وحفريات عميقة في الأرض، ورجل يتحدث إلى الجميع، وهو يشير بيده، عرفت أنّه المسؤول الأول، أو المعلم الكبير، اتجهت نحوه. الكلّ غارق في العمل. سألته إن كان يحتاج إلى عمال، تأمّلني بدقّة:
ـ ماذا ستعمل؟
ـ أيّ شيء.
يبدو أنّه رأف بحالي، فنادى على رجل أسماه محمود:
ـ خذه ليساعدك.
عملت مع المعلم محمود، لم يكن المعلم محمود مثل المعلم الذي عرفته في المدرسة، ولا معلم الفلافل، الذي على رأس شارع حينا. كرهت كل المعلمين لأجل المعلم محمود، كان ينادي عليّ كثيراً. يا سلامة، هات اللوح. يا سلامة، هات طبشة. يا سلامة هات مسامير. كانت أسعد الأوقات تلك التي نتناول فيها طعام الإفطار أو الغداء.
رجعت إلى البيت. حذائي يمتلئ بالرمل، وبعض الخدوش في يدي، ورموشي كفّنها اللون الأبيض. حزنت أمّي. ما إن تناولت الطعام الذي جاءت به أختي شروق حتى ذهبت في النوم.
لعل أسوأ يوم في الطوبار يوم الصبة. مع أذان الفجر كنا في المكان. أكياس كثيرة من الإسمنت، وتنكات متتالية من الرمل تبتلعها تلك الخلاطة التي كانت تحيل ما بداخلها إلى باطون. كنت أحمل تنكة الباطون على كتفي إلى السطح المفترض. ثقلت يدي، واهترأ قميصي من منطقة الكتف، وبدأت حافة التنكة تنحت في جسدي. عند الضحى، حمدت الله أنّا انهينا الصبة. قدّم صاحب البيت بعض المال لمعلمنا، وطلب إليه أن يوزّعه علينا. قبل أن نغادر، تحلّقنا حوله، نقدنا نصف أجرتنا؛ ولم يبال باحتجاجنا.
رجت أمّي ألاّ أعود إلى الطوبار. إنّ قلبي يتفطّر عليك. لعلّ هذا العمل هو الذي قتل والدك.لم أعد إلى الطوبار، ولكني صرت أبحث عن المعلم كي أحصل على ما تبقى من أجرتي. في أثناء بحثي مررت بمقهى، قرأت على ورقة ملصقة ببابه" مطلوب عامل" لم لا أكون أنا؟ دخلت. اتجهت صوب ذلك الرجل، الذي يواجه الباب، أمامه طاولة كبيرة، عليها جهاز حاسوب وهاتف. حدثته عن الإعلان. سألني أسئلة بعيدة عن متطلبات العمل، عن أهلي ومؤهلاتي ومكان سكني. عرفت أنه مثقف على غير العادة. وافق بسرعة على عملي، ونادى الغلام الذي كان يتنقل في القاعة.عرفني إليه:
ـ هذا يوسف. تتعاون معه على تلبية طلبات الزبائن.
يبدأ عملي بعد الظهر حتى يغادر آخر زبون، ويكون ذلك عادة قبيل منتصف الليل. كنت أتنقل في القاعة الكبيرة بين الزبائن، الجالسين على مقاعد قديمة، وأمامهم طاولات صغيرة، بعضهم يلعب الورق، أو يدخن النارجيلة، وآخرون يتحدثون في موضوعات شتى، أو يشاهدون برامج التلفاز المعلق في السقف.
كان معظمهم من المثقفين. لفت انتباهي أحدهم كان يأتي عند المساء، يضم إلى صدره صحفاً وكتباً، يدخل المقهى كأنه نجيب محفوظ، يجلس إلى طاولة قرب النافذة المطلة على الشارع. لم يكن أحد من الزبائن يقترب من المكان إلا بعد مجيئه فيلتفوا حوله. في اليوم الثاني لعملي شعرت بالحزن نحوه عندما جاء رجلان أحاطا به، يبدو أنهما أمراه بمرافقتهما، فرفض، فجروه وهو يصرخ:
ـ أنا كاتب، لي عشرون مؤلفاً، من أنتم حتى تطلبوني؟!. عار عليكم!
علمت من صاحب المقهى أنه كتب مقالاً في صحيفة تصدر في الخارج، عزا فيه أسباب العنف إلى فساد السلطة وظلمها. بعد شهرين أو ربما أكثر سعدت بعودته إلى زاويته، كان محطم الجسد، حمدت الله على خروجه بهذه السرعة، كان يمكن ـ كما قال صاحب المقهى ـ أن يبقى في السجن إلى الأبد لولا منظمات حقوق الإنسان. أحببت العمل في هذا المقهى، لكن، ماذا أفعل؟ بعد أيام طردت منه.
مرضت. اتصلت بصاحب المقهى. راح يصرخ:
ـ والعمل من يقوم به؟!
ـ أنت تدبر الأمر.
ـ متى تأتي؟
ـ عندما أشفى.
ـ هذه الحالة لا تعجبني. مر علي اليوم لتأخذ أجرتك.
قالت أمي:
ـ الرزق على الله يا ابني. لا تعرض نفسك للمهانة.
توقفت في خضم يأسي عند باب شركة للتأمين. دخلت. سألت شاباً بالباب إن كانت الشركة تحتاج إلى عمال، فأشار أن أذهب إلى المدير العام في الطابق الثاني. إنهم بحاجة إلى مراسل.
طرقت الباب كان يعدّ نفسه للخروج، خمّنت أنه على موعد غرامي، رنّ الجرس، فجاء شاب، كان ذلك الذي رأيته بالباب، طلب إليه توظيفي في الحال، اصطحبني إلى مكتبه، سجّل بعض المعلومات عنّي، ثم أعلمني عن الراتب، مئة دينار، وعملي إعداد الشاي والقهوة للمدير، وتفقد دورة المياه التي يستخدمها، وأداء بعض الأعمال في بيته. وطلب إليّ أن أداوم بقية اليوم، وفي الغد سيكون عقد العمل جاهزاً.
لكني بعد أسبوع أو أقل تركت العمل.
رن الجرس على الحائط الذي أستند إليه. ناداني المدير. كانت عنده امرأة فخذاها عاريتان، وصدرها كموج البحر. أمرني أن أذهب إلى البيت، لمساعدة زوجته على نقل الصغير إلى عيادة الطبيب. أقلني سائقه الخاص إلى المكان. بقي السائق في السيارة. أنت الذي يمكن أن يدخل أما أنا فليس لدي الأمر بذلك. قادتني الخادمة إلى الداخل، كنت متخوفاً، وأنا أتوغل في البيت، أحسست أن بيتنا أوسع منه، لا يوجد أثر للشمس والهواء، كل شيء معتم، الغرف مغتصّة بالأثاث، والممرات والزوايا غارقة بالتحف والتماثيل، والجدران مكتئبة باللوحات.
استقبلتني، في إحدى الغرف، امرأة، تساءلت في نفسي عند رؤيتها: لماذا ملعون الوالدين مع تلك المرأة؟
ـ أنت سلامة؟
ـ نعم. أين المريض؟
ـ في الغرفة التي أمامنا. المسكين وقعت عليه مزهريّة.
هنالك كلب منبطح على السرير، جلده أحمر، أذناه طويلتان ولسانه يتدلّى ليلامس الفراش. تراجعت. أين المريض؟ أين الصغير؟ أشارت إلى الكلب. ثمّ قالت إنها اتصلت بالطبيب، وهو الآن في انتظارنا في العيادة. احترت ماذا أفعل؟ تقدّمت نحوه، لم يتحرك،، حملته، وهي تدعوني إلى الرفق به؛ فهو جزء منها. انطلقت السيارة، كأنّها سيارة إسعاف. استقبلنا الطبيب بالباب، طلب مني وضعه بيسر على الطاولة، راح يمسح رجله، ويفحصه على مهل، قرر بقاءه في العيادة ليكون تحت مراقبته. انحنت السيدة عليه، قبلته في جبينه.
ـ سلامتك، يا صغيري، شدة وتزول!
عدت إلى الشركة غاضباً. لم يبق غير خدمة الكلاب! كانت تنبعث من مكتبه موسيقى هادئة، فتحت الباب ودخلت. كان مسنداً ظهره في مقعده الفخم، يصدر أوامره إلى تلك المرأة بأن تظهر بعض فخذيها تارة وصدرها تارة أخرى.
ـ ماذا فعلت يا غبي؟
ـ أرجوك لا تخطئ. أنا لا أحترم الكلاب.
رفع يده ليضربني، فأمسكت بها فتراجع، وهو يرغي:
ـ. لا ترني وجهك بعد اليوم. أنت مفصول. مفصول.
في طريق عودتي إلى البيت، تثاقلت على مقعد في الحديقة العامة. قلت أنتظر أذان المغرب، فأصلي في المسجد القريب. كانت الحياة تتحرك من حولي؛ الناس ينتشرون في أنحاء الحديقة، بعضهم يروحون ويجيئون، وهنالك أولاد يتقافزون، وأمهات يداعبن أطفالهن أو يركضن خلفهم، وبائعو البليلة والفشار يتفننون في المناداة على بضائعهم، ومن وقت لأخر، كانت تنطلق من الجبل المطلّ على المكان الألعاب النارية ؛ فتنير السماء، وتجعل الرؤوس تتطلع إلى الأعلى لتتأمل المشهد. علت أصوات بعض الصبية:
ـ عيد الاستقلال.
هدأت موجة المفرقعات، سرى الهدوء، تناهي إلى سمعي صوت مذياع كان مع عائلة ترتمي على العشب بالقرب مني، كان ينفث نشرة أخبار السادسة: " دعا وزير الخارجية الأميركيّة وزراء الداخلية في بلدان الخليج والبلدان المحيطة بالعراق إلى اجتماع عاجل في واشنطن مطلع الأسبوع القادم لمناقشة الأوضاع السياسية في المنطقة العربية"
ـ سلامة!
وقفت مشدوهاً بالرجل الذي انتصب أمامي كالإعصار. لمعت الذاكرة. إنّه مأمون. ملامحه لم تتغير، لكنّ لحيته العريضة امتدت إلى صدره، وجسمه غرق في دشداشة قصيرة داكنة، ينسلّ من تحتها سروال قصير، فيكشف عن ساقين رفيعتين. تعانقنا لم يسمع أحدنا كلمات الآخر، فالمفرقعات عادت تشتعل في السماء، يرافقها صراخ الأطفال، وشغب الناس ولغطهم.
جلسنا على المقعد، زكمت أنوفنا رائحة الدخان الذي غطى السماء. تأملني بعينين حادتين، شعرت بسطوتهما، انهالت كلماتي حتّى ابتعد عن تأثيرهما:
ـ الحمد لله على سلامتك! متى جئت؟ لماذا انقطعت أخبارك عنا؟ حاولت أن اتصل بك لم أعثر لك على عنوان. ماذا تفعل الآن؟ كنت أتوقّع أن تقضي شهيداً على أرض أفغانستان.
بدا غير راغب في الحديث، شرد ذهنه، ثم تدفق بخفوت:
ـ لم أنل شرف الشهادة، دعتني أمي للمجيء، هناك ظروف حدثت لها في غيابي، لم أستطع أن أتركها وحدها، عدت إلى البلد. ليتني لم أعد! كل شيء تغير: الناس. الأماكن. الماء. الهواء. التراب. قبل خروجي كان عندكم بعض الإيمان، الآن، كلّكم غارقون في المنكر، والفسق والفجور، وقلة الحيا..
قاطعته:
ـ يبدو أنّ عقلك في أفغانستان..
ـ ربما، لكن ماذا يمكن أن أقول عندما أرى والدي قد تزوج من امرأة أخرى، والسلطة تطلبني للتحقيق، وتزجني في السجن؟ ماذا أقول وأنا أرى الناس قانعين بما يجري؟ أليس في ذلك خروج على الملّة وسيرة السلف الصالح؟ كلّكم كافرون حتى أبي وأمي.. أبي لا يحكم بالعدل، وختم عدله بالزواج من فتاة مراهقة، وأم ظلّت صابرة محتسبة لا تحرك ساكناً، تطمع في أن يعود إليها زوجها المبجل.
لم يكن مأمون بهذه الأفكار. متى يصحّ للمسلم أن يكفّر إنساناً آخر؟ كيف يساء إلى الوالدين وتكفيرهما؟! أهذا ما قضى به الله؟! أهكذا يتغيّر الإنسان، ويستحيل قلبه حجراً، وعقله ماكينة تفريخ جهل وتخلّف؟ صدعت بأفكاره. الحديث لا طائل من ورائه، ومعارضته حقل ألغام عنقودية، الأفضل أن أصمت. انطلق الأذان من المسجد القريب، عرضت عليه أن نذهب للصلاة.
بعد الصلاة صحبني إلى البيت. كان حديثنا في الطريق هادئاً، علمت أنّه مقيم مع والدته وشقيقته بعد أن تركهم والدهم، وأنّه سيعود إلى الجامعة حتّى ينال الشهادة، وسألني عن والدي، فأخبرته بموته، عجبت من أنّه تمنّى لو سقط شهيداً، وهو يتصدّى للصوص والمقاولين الذين سلبوا عرقه ودمه.
على جانبي الشارع المؤدي إلى بيتنا تبعثرت أكياس القمامة السوداء، وانتشرت القطط الملونة تبحث فيها عن طعام. قال إنّ المكان يذكّره بحارة شعبية سكنها في بيشاور قبل أن ينتقل إلى أفغانستان. صحيح أن طرقها ترابية محفّرة، وتضج بالحياة، ولكنها كانت نظبفة.
لم يشأ أن يدخل البيت. ربما أدرك ضيقه، فلام نفسه على المجيء، اعتذر عن الزيارة، ووعد أن يأتي في وقت آخر مناسب.
أخفيت عن أمي أني تركت العمل في شركة التأمين، وحدثتها عن صديقي الذي لقيته مصادفة وسط المدينة. لم يرق لها ما قلته عن أفكاره وسلوكه، وعلّقت:
ـ نعيش ونرى!
لقيت مأمون بعد صلاة الظهر في المسجد الكبير، قال إنه وجد عملاً لي. سرنا إلى وسط المدينة، لم يحدثني عن العمل، أسمع من وقت لآخر تسبيحاته. السيارات تتحرك ببطء. الوجوم يخيّم على الوجوه، بعض العاطلين عن العمل متجمعون حول أكشاك الصحف، سمعت أحدهم:
ـ جاءت أميركا !
هل خرجت أميركا حتى تجيء؟ عجب مأمون أني لم أسمع الأخبار. وقال إنّ الحرب على الأبواب، يريدون تدمير العراق بحجة أنّ عنده أسلحة نوويّة.
قلت:
ـ هذه حسنات النفط، لم يأت لنا إلا بالّشقاء.
أجاب بحدة، بعد أن لعن امرأة مرّت بجانبه:
ـ النفط نعمة من الله لكنّا ابتعدنا عن الدين؛ فلم نحسن اتباعه.
عرجنا على سوق الوراقة، صناديق الكتب تلال أمام المكتبات. دخلنا مكتبة الانشراح، في الداخل الصيف يلفظ أنفاسه، بدأ الانشراح يتسلل إلى نفوسنا، وأدركنا الفرق بين الجحيم والنعيم. اللّهم، اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما! قادنا أحد العاملين إلى حجرة بالداخل.
استقبلنا رجل قصير، يقترب من مأمون في هيئته ولباسه. غير أنه أقصر قامة، ولحيته مدببة، يتجاور فيها اللونان الأسود والأبيض. رحب بنا كثيراً. رأى أن أعمل أسبوعاً أو شهراً لأتعرف طبيعة العمل هنا، قبل أن أنتقل إلى فرع المكتبة في حي الجامعة، وترك لي أن أبدأ العمل اليوم أو غداً، أما الراتب فلم نختلف عليه ـ كما قال. قلت:
ـ سأعود إلى البيت، وأحضر في الغد إن شاء الله.
عجبت كيف سارت الأمور بلمح البصر. لاشك أن لمأمون منزلة عالية عند عطية. عناق وشاي وقهوة. كيف تعرّف مأمون إليه؟ أين؟ متى؟ ما العلاقة بينهما: المال أم السياسة أم الدين؟ بدت لي علاقتهما معقّدة ومتشابكة، لم أفكر في ظلال كلمات التقطتها من بقايا حديث كانا قد غرقا فيه، وأنا أتجوّل في المكتبة: طالبان ويشاور وقندهار.
بعد أيام صرت مسؤولاً عن مكتبة الانشراح في حي الجامعة ومعي عاملان.
عاد النقاء إلى وجه أمي، عزمت أن تصنع المفتول، وأن أدعو إليه صديقي مأمون. أليس من الواجب أن نكرمه؟ ساعدني على ترك البطالة، وأنقذني من براثن الفقر، هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ أيكون الإحسان بالمفتول؟ هل الوقت مناسب والأمة العربية، على كف قرد، وقوات أميركا وبريطانيا تنهال على المنطقة؟ ضحكت أمّي عندما قلت لها:
ـ مفتول والأمة العربية مفتولة بما حدث؟
ـ هذي حالنا من أيام البسوس.
-لا، يا أمّي كنتم خير أمة أخرجت للناس..
ـ سأعمل المفتول يعني سأعمل المفتول.
اتصلت بمأمون من مكان عملي الجديد. دلني على بيتهم، عرفت أنه يقيم مع والدته وأخته، ولم يكن ذلك المنزل، الذي جئته لأسأل عنه إلاً قصر والده. في طريقي، مررت بمستشفى الدعوة، تذكّرت والدي كيف قتلوه، لا بل كيف مات، كل نفس ذائقة الموت. كان يحملني على كتفيه، يلقيني إلى أعلى، ثمّ يتلقفني، ويقبّلني كأنّه لم يرني من سنين. لا أدري، لم أشعر ببرودة المكان، ولم يغل الحقد في نبضي، وبقيت أترحم على أبي حتى وصلت إلى رأس الشارع، الذي يقترب من بيت مأمون.
ضغطت الجرس. ليس كما بيتنا تحسب أنك تطرق باباً، وأنت تضرب يدك بالحديد الصدئ. خرجت فتاة التقطتها عيناي من النظرة المباحة، ممتلئة مع مرونة واضحة، ووجه أظهر استدارته منديل ارجواني، وعينان تبتسمان في مراهقة رزينة.
ـ أنا أخطأت. أين منزل مأمون عبد الحكيم؟
قالت بنعومة حادة:
ـ هذا بيت مأمون. تفضل. مأمون في الداخل.
دخلت متردد الخطا. من هذه؟ شقيقته؟ بنت الجيران؟ تبدو كأنّها من أهل البيت. هذا ما تحكيه البلوزة القصيرة، والتنورة الأقصر. حتّى لو لم تكن شقيقته، كيف يسمح لها أن تبزغ في بيته، وتخرج لملاقاة رجل غريب؟ نعم غريب حتّى ولو كنت صديقه وزميله السابق. ما الذي جعل الحرام مباحاً فجأة؟
أين كلامك يا مأمون: المرأة عورة صوتها، حركتها، رائحتها. ظهورها أمام الرجل عورة؟ وهذه الفتاة ليست عورة؟ عليك اللعنة، يا مأمون!
كان مأمون مع سمير فاضل، عرّفني إليه بأنه مخرج مسرحي، وصديقه منذ أيام المدرسة، وأما الفتاة فهي آية الممثلة الشابة، التي شاركت في مسرحية" وطن في البال". بدت أفكاري مضطربة. وأنا أتذكر ما قرأته في صحيفة أسبوعية. لم يكن الوطن في المسرحية غير قرية صغيرة غاب عنها أهلها؛ خرج بعضهم يصفّق للمحتل، وآخرون لمقاومته. لم يعد منهم أحد، الذين قتلوا انقلبوا شهداء، والذين عاشوا صاروا قادة ووزراء. لم يبق في القرية غير امرأة ريفيّة بقيت مع عشر دجاجات وديك تنتظر الشهداء.
كانت آية تتصرف، وكأنها على خشبة المسرح، تنتقل من الصالون إلى المطبخ، فتحضر الشاي والقهوة. قال مأمون:
ـ سمير يبحث عن نصّ مسرحي.
قلت:
ـ النصوص كثيرة لكن المنتجين قلة..
قال سمير:
ـ كلّ نصّ له من ينتجه. غالباً النصوص العميقة لا تحتاج إلى منتج ثري.
علّقت آية:
ـ لكن إذا اجتمع المال مع النصّ الجيد ينتجان العمل المتميز.
قال مأمون:
ـ سمير يبحث عن نصّ فحل، عرفته مذ كان طالباً في كلية الفنون، إنه يكره المرأة مثلما يكره أميركا وإسرائيل.
قال سمير ضاحكاً:
ـ معلوماتك قديمة، يا صاحبي. صحيح، أنا مازلت على مبادئي في مقاومة الإرهاب الأمريكي والإسرائيلي، أما الإرهاب الأنثوي، فجميل ولذيذ.
ابتسمت آية، ثم قالت، وهي تحاذر من رؤية مأمون:
ـ فكر الفحولة متخلف وبغيض.
انتشرت الكآبة، وسيطر السكون ثقيلاً، استأذن سمير بالخروج وتبعته آية. بعد خروجهما، استشهد مأمون، واسترجع، وحوقل، ثم صرخ:
ـ ذهب الشيطان. ما هذا اليوم؟
قلت:
ـ حسبتها من العائلة.
ـ لو أنّها أختي لذبحتها في الشارع.
ـ المهمّ أنّي جئت أدعوك والأهل كافة إلى حفلة مفتول.
ـ سنوات لم أتناول هذه الأكلة، ظننت أنّها انقرضت. قبلت الدعوة. أما أمّي وأختي فسافرتا إلى بغداد لرؤية خالي.
ـ في هذا الجو؟!
ـ لن تحدث الحرب في القريب، مبعوثو الأمم المتحدة ما زالوا يبحثون عن أسلحة الدمار الشامل، قل لن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا.
مأمون عبد الحكيم
تخِرّجت في الجامعة بعد طلوع الروح، لم أشارك في حفلة التخرّج، تسلّمت الشهادة من رئيس الديوان، كان يتأفّف، وهو يبحث عنها بين الشهادات المتأخّرة، لم أشأ أن أتشرف بمصافحة ذلك السكير، وأن اترك صديقيّ: عطيّة، وسلامة في ساحة الاحتفال واقفين أو جالسين، تدوّخهما شمس تموّز العارية ساعتين أو أكثر، وأعناقهم تتطاول نحو المنصّة؛ ليشاهدوني من بين الطوابير بالروب القصير، والثوب الفضفاض.
في الليل جاء عطيّة وسلامة. لم يبد أن سلامة حزين لانقطاعه عن الجامعة بل أظهر فرحه بتخرّجي، ورأى العزّة في موقفي من الاحتفال؛ فما الفائدة من إضاعة المال، وبعثرة الوقت في مظاهر لا تغني ولا تسمن من جوع؟! أمّا عطية فرأى الإثم في مثل هذي الاحتفالات؛ لأنها تبيح الاختلاط، وتساعد على الفجور والرذيلة، كما تتنافر وأحوال هذي الأيام. هكذا أفراح اخترعها الغرب لإبعادنا عن ديننا. أنا لم تخطر بذهني هذي الأفكار. الحقيقة لم أتخيّل نفسي في طابور ممل ينتهي بمصافحة رئيس جامعة، كثيراً ما ظهر، وهو يترنّح من الخمر على صفحات الانترنت.
كنت أمام شجرة التين التي خلف البيت، أتذكّرها وأنا طفل، كم لعبت تحتها بالتراب والحجارة، وتعلّقت بساقها الغليظة! كنت أعود إلى أمّي معفّر الوجه، ومغبّر الثياب، فتهدّدني، وتلعن التين والشجر، كانت تشتكي إلى أبي، وتبدأ وجبات التأديب. أخيراً هدّم أبي الشجرة، وظنّ أنّها انتهت، وتكرّرت هجمات أبي من سنة لأخرى، وتكرّر صمودها، استوت الآن كعجوز منهدّة الساق، متهدّلة الأغصان، أوراقها ذات خضرة لامعة، بدت أبهى من شجرة الياسمين، التي تتصدر الحديقة.
اتصلت أمّي بالهاتف النقّال، أخبرتها أنّي أمام شجرة التين، تجاهلت قولي، سألتني عن شجرة الياسمين، قلت لها إنّها شاحبة والبقاء لله والتين. أبدت حزنها، ثم اعتذرت لأنّها لم تنتبه إلى موعد التخرج، فتأخّرت عن تهنئتي، وندمت أنّها لم تشاركني الفرحة؛ فالوضع في بغداد عاصف، وهي تنتظر رؤيتي بصبر؛ فلم يعد لها في البلد غيري. وتكلّمت هناء وحكت أنّها لن تعود، ستبقى مع خالها في عاصمة الرشيد، فهي أجمل مدن العالم، وتأوّهت بأنّها لا تستحق هذا الحصار.
أما والدي فكانت تهنئته مختلفة.
استيقظت على زعيق جرس البوّابة الخارجي، فقفزت من السرير، سرت مترنّحاً، وأزيز يضرب أذني، بلغ السخط الزبى. من هذا المتخلف الذي لا يعرف كيف يستخدم الجرس؟ رأيت رأس شرطي ُيطل كغراب من فوق السور. يحقّ للحكومة ما لا يحقّ لغيرها. يا ساتر، يا فتاح، يا عليم يا رزّاق يا كريم! لا أتذكّر أني فعلت شيئاً يغضب الحكومة. كنت مؤدّباً طوال السنة الماضية، لم أشارك في تظاهرة، لم أخالف قوانين الجامعة وتعليماتها، لم أتشاجر مع أحد، أو أنظر بشغف إلى الفتيات، كنت مواطناً صالحاً، أيّها الشرطي، وفعلتك لا تحتمل حتّى لو كنت عمر بن الخطاب.
فتحت البوّابة، واجهني الشرطيّ بجسم متخشّب، وعينين ناريتين كأنّي قاتل والده. قدّم إليّ وثيقة من المحكمةـ وأمرني أن أوقّع. صحت:
ـ ما هذي؟
ـ إنذار بإخلاء البيت.
والدي القاضي قضى أن يطردني من بيته، اغتنم غياب زوجته، فدفع إليّ زعيم زبانيته. لو أنّ أمّي هنا لهاجمته في محكمته، وفضحته بين جنده. اتصلت بها، شعرت أن الهاتف يرتجف، هدّدت بخنقه عندما تعود، أبوك ناكر الجميل، عديم المروءة، لا يستحق أن يكون آذناً في محكمة، من عيّنه قاضياً هذا اللص الزنديق!؟ ما الذي أعمى بصري وبصيرتي لأ تزوّجه ابن الكلب؟! لماذا تركته يتزوّج عليّ؟! لماذا لم أقتله، وأقتلها تلك العاهرة؟
انتابني الشكّ في أنّي ابن هذه المرأة وابن زوجها عبد الحكيم، استغفر الله العظيم. أيقنت بموت أمّي وأبي، وأني الوحيد الذي عليه أن يواجه كفر العالم.
لن أتوسل إليك، أيّها الأب الضال، في أن أبقى ببيتك، تريدني أن أسجد لك، وأنا لا انحني إلاّ في الصلاة. عدالة الله قادمة، لن تكون قاضياً، ستكون مقضياً عليك. لن تجد في ثمارك ما يصلح، كلّها فاسدة. لم تكن يوماً أبا ذر الغفاري، أو القاضي عياضاً، فأحكامك تسرقها من الشيطان. الحمد لله لم أتلوث بعمامتك، التي تتدحرج في أحضان الباطل! ويل لك من عذاب يوم واقع!
خرجت أضرب في الشوارع. ما العمل؟ فكّرت في أن أبقى في البيت حتّى تأتي أمّي، عليّ أن أتصدّى للشرطة عندما تجيء لطردي. لا أقدر أن أواجه الحكومة، أبوان علي. البيت منغرس في ذاكرتي، لماذا لا استأجره من أبي؟ إنّه يحبّ المال حبّاً جمّا. ازداد غليان قلبي، لماذا لا أعود إلى أفغانستان، وأتعجل الجنة؟ ليتني بقيت هناك! هذي البلاد كافرة. اعترض سيل انفعالي أذان الظهر. صرخت في أعماقي: كافرة حتّى... عدت أحوقل، وأردد:" ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً" خطر ببالي عطيّة. قلت أمرّ به بعد الصلاة، نتحدّث في همّ الدنيا والآخرة.
بادرني:
ـ وجدت عملاً؟
ـ تجدني في الشارع قريباً.
ـ تعمل معنا، وإن كان عملنا لا يليق بمهندس.
ـ سيطردني أبي من البيت، أنذرني بإخلائه.
ـ لا تحزن، فكل مصيبة إلى انفراج.
ضاقت فلمّا استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
ـ أفكّر في العودة إلى هناك.
ـ الظروف تغيّرت. دول الناتو سيطرت على الحدود، وباكستان مشرّف أميركيّة أكثر من بوش، والعراق على طريق أفغانستان، والبرنامج نفسه معدّ لدول المنطقة. بالنسبة إلى السكن، فالمشكلة محلولة، تسكن مع سمير، إنّه يقيم وحده في شقة واسعة. تعيد إليه عقله، او يجعلك فناناً كبيراً.
الأمر لا يحتاج إلى تردد، لا أريد أن أكون في الشارع، أو ألجأ إلى فندق، أو أطلب المال من التنظيم بعد أن رفضته. صحيح أنّ أمي تركت لي مبلغاً من المال من مكافأة نهاية خدمتها لكن لا يمكن أن أبعزقه في حياة الفنادق الفاسقة، لماذا لا أقبل هذا العرض؟ كما أن هذا السمير فنان محب للخير، وكاره للظلم، يسخّر الفن في قضايا الإسلام العادلة في أفغانستان وفلسطين..
اتصل عطيّة بسمير طلب إليه المجيء لأنّ صديقنا مأمون ـ كما قال ـ محتاج إليه. جاء وصديقته الممثلة. كظمت غيظي. اللهم سامحنا على ما يفعل الفنانون! قال ضاحكاً:
ـ جلسة شيوخ، يا ساتر!
قال عطيّة:
ـ اعقل يا رجل.
جلس على كرتونة مكتنزة بالكتب:
ـ أنا في خدمة الشيخين.
ـ أخونا مأمون يبحث عن سكن، رأينا أن يقيم معك إلى أن يفرجها الله. ما رأيك؟
ـ أتشرف بأن يكون الشيخ مأمون شريكي في السكن، وأتمنى أن يعجبه سكني المتواضع.
ـ قبلت، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله!
ساعدني سمير وعطيّة على الرحيل من بيت الطفولة، لا غفر الله لأبي! ألقيت نظرةً إلى شجرة التين، هبّت الرغبة في عناقها، قتلت رغبتي. لم أزعج ذلك العصفور الذي كان يظهر ويختفي بين أوراقها، وتركت الشمس تتحايل لاختراق ظلالها، وانسحبت كجندي مهزوم.
كان يقيم سمير في بناية تكساس. لم يجد صاحبها غير هذا الاسم! مسكينة اللغة العربية، ضاقت اليوم عن حمل اسم لبناية. رحم الله أيام زمان، كانوا يطلقون على سيارة الكاديلاك الخف، والبيجو الحافر، والمرسيدس الذيل، والفوكسفاجن الأنف. كأن بوشاً الأب أو الابن له الفضل على صاحبها حتى أطلق عليها اسم الولاية التي ينتسب إليها.
كان على سطح تكساس ثلاث غرف، شغل واحدة سمير، وأخرى كانت للضيوف فيها تلفزيون ورفان ضجا بكتب المسرح والفن، عزمت أن أطردها بكتب ابن تيمية وابن كثير والمقدسي. استقر بي المقام في الغرفة الشاغرة التي يستقبل بابها الشمس، ولها نافذة غربيّة رقيقة.
كنت وحدي على السطح، فكرت في حال الدنيا، فدخلت غرفة الضيوف، ورحت أشاهد الأحداث على شاشة التلفزيون، الحشود الأمريكية ومن يساندها تتناسل في الخليج، تخيلت ثوراً هائجاً في ميدان مسابقة الثيران، لم يعترضه أحد، وظلّ يناطح الحيطان حتّى انهارت قوته.
ما الذي أثار هذي الجيوش حتّى تعبر المحيطات؟ هل ضربة جهادية تفعل فعلها بهذه السرعة؟ كأنّهم كانوا ينتظرونها ليتمدّدوا في هذه المنطقة. عدت مكاني على السطح. هي السماء نفسها التي كانت فوق منزلنا أو منزل أبي، أما النجوم فكان بعضها يتلألأ بانتشاء، وأخرى تختفي بأسى تحت السحب الرمادية، على الأرض الأضواء تزنر المدينة، وتؤطر الطرقات، وتشع من البيوت الإسمنتية. أي نظام يجمع الناس في الليل ويفرّقهم في النهار ليسعوا في مناكبها ويأكلوا من رزقه! سبحان الله الذي يرزق الناس ويسقيهم! إنّه على كلّ شيء قدير. آن لهم أن يعبدوه، ويقدّروه حقّ قدره. آه لو أقدر على جمعهم في صلاة طويلة أعيدهم إلى الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر! هيهات! لقد غرقوا في المادة، ونسوا الله فأنساهم أنفسهم. اللّهم اغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين!
جاء سمير تهالك على الكرسي الذي كان أمامي. الليل هادئ، وبدا صوتي عالياً:
ـ كنت أفكر قبل مجيئك، وأنا أشاهد التلفزيون أن أميركا تسعى إلى نهايتها في هذه المنطقة. لا أدري، هل توافقني الرأي أيها الفنان الكبير؟
ـ أنا فنان كبير!؟
ـ نعم.
ـ تسخر مني أيها الشيخ الجليل؟
ـ أحبّك في الله!
ـ وأنا هل أحبّك في الشيطان؟
ـ لم تجبني.
ـ أميركا أو غيرها من الدول لا يمكن أن تحيا في هذه المنطقة، هنا القوّة للجغرافيا؛ مرّ كثير من الغزاة والمستعمرين وانتهوا؛ تحوّلوا إمّا إلى سكان لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإمّا عادوا من حيث أتوا، من هنا ترى على سحنات بعض الناس ملامح من أمم شتى: الفرس والرومان والمغول والصليبيين والإنجليز والفرنسيين، هذا ما يجري لكلّ محتلّ وغاصب سواء أكان أميركيّا أم صهيونيّاً، إنّه منطق الجغرافيا الذي تعزّزه أحداث التاريخ..
ـ كأنّك من دعاة الانتظار، ننتظر حتّى يذوب هؤلاء الأميركان والإسرائيليون، أو يعودوا إلى ديارهم.
ـ كيف فهمت ذلك؟ لست مع الانصياع لأيّ قوّة أو غطرسة، إنّي مع مقاومة الظلم حيث يكون في أفغانستان أو العراق أو باكستان.
ـ الظلم موجود في كلّ البلاد لابتعادها عن تعاليم الإسلام، وعلى المسلم إعلان الجهاد لرفع راية الإسلام في كلّ بقاع الأرض، ومقاتلة الطواغيت، أعداء الله الذين أفسدوا العباد، وعاثوا في الأرض الفساد، وسيصبّ الله عليهم سوط عذاب بواسطة أتباع الدين الحق.
ـ ليس لنا أعداء غيرالصهاينة، وهم أعداؤنا لأنّهم اغتصبوا حقنا في فلسطين، فإذا أعادوا لنا الحق، فلا عداوة بيننا وبينهم. يقول شاعرنا:
ما دمت محتّرماً حقّي فأنت أخي آمنت بالله أم آمنت بالحجر
أنا أتقبّل اليهوديّ إذا أعاد إليّ حقوقي، ولا أمانع في أن يعيش معي، وقد عاش معي في الأندلس وفي فلسطين قبل الاحتلال، مشكلتي معه في الاحتلال والاغتصاب والاستحواذ. أمّا الحكام فمناهضتهم تكون بالكلمة الطيّبة، والممارسة السليمة، والدعوة الصالحة؛ لأنّ غير ذلك يعني الخراب والدمار، وقتل الناس الأبرياء. العالم تغيّر يا صديقي، وأنت الآن مهندس، ولست داعية، أو مقاتلاً في أفغانستان.
ـ أنا مهندس مؤمن أعرف واجبي في الجهاء في سبيل الله، أمّا أنت..
ـ فكافر. قلّها. أنتم الشبوخ عندما تعوزكم الجحة تكفّرون غيركم. سامحك الله! على كل حال،دعنا من هذا الموضوع، يبدو أنّنا على طرفي نقيض.. هل وجدت نصاً مسرحياً يعبّر عن هذا الواقع؟
ـ طلبت من سلامة أن يتدبّر لك نصّاً يحمل قيم الصحراء، ويحثّ على الجهاد..
لم يطل جلوسنا، ذهبت إلى حجرتي، ودخل غرفة الضيوف. ما الذي جاء بي إلى هذا المكان؟ كيف يقترب الماء من النار، والظلمات من النور، كيف يتقارب الخير والفسق. اللهم اغفر لي مخالطة هذا الفاسق! يا إلهي كيف نحن مختلفان!؟ أي شيطان يسير في دمه؟! لماذا لا أحاول هدايته، ربما يهديه الله على يدي ويعلن توبته، سأوقظه إلى صلاة الفجر، في النهاية لا بدّ أن ينتصر الإيمان، ويعود إلى الصواب، سأبدأ معه رحلة العودة. استغفر الله العظيم! اللهم اهدنا سواء السبيل، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا! سمير ليس منا إنه جار السوء، ولكنه هو الذي جاء بي إلى هنا، لماذا أنكر الجميل؟
عندما استيقظت عند الفجر، اتجهت إلى غرفة سمير، كانت مضاءة وسمير يتهيأ للصلاة. قال سينتظرني حتّى أتوضأ ونصلّي جماعة. كيف يصلّي هذا الكافر! أقمت الصلاة، وصلّى خلفي بخشوع. لم أصدّق. ذكّرتني صلاته بشقاوتي أيام المدرسة عندما أجبرني معلم التربية الإسلامية على الصلاة في مسجد المدرسة، فاندفعت لأصلّي خلفه دون وضوء، ونجوت من تأنيبه، وحصلت على علامات عالية. بعد الصلاة، كنت الذي قيل فيه:
صلّى وصام لأمر كان يطلبه حتّى قضاه فما صلّى ولا صاما
قلت:
ـ لا أعلم أنّك تصلّي.
ـ ليس هنالك ضرورة...
ـ لماذا؟
ـ الصلاة علاقة بالله، من المفترض أن يلمس الناس نتائجها من خلال السلوك الحسن، فالله لا يحتاج إلى صلاتنا وتنسّكنا، فرض الصلاة وغيرها من الواجبات كي يساعدنا على أن نحيا بمحبّة وإخاء. أمّا أن تعرف أنّني أصلّي فهذا لا أهمية له، فماذا تعني صلاتك، إذا كانت أعمالك سيئة؟
ـ إذن قل لي كيف تجتمع الصلاة ومصاحبة النساء، والسهر مع التلفزيون حتى منتصف الليل.
ـ هذا سلوك إنسان عادي يحبّ الحياة، ويعايشها دون تعقيد "الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلاّ غلبه.."
ربما كان ذلك اليوم يوم الجمعة. رنّ الهاتف النقّال، كان عطيّة. قال إنّه قادم ومعه سلامة ورجل آخر عزيز عليّ. لم يضف على ذلك، غير أنّه من أصدقائي في باكستان وأفغانستان. وأنا متجه إلى المغسلة رأيت سمير يهمّ بالخروج. قال إنّه سيعود مبكراً لنتشاجر حول ما يحدث للأمة العربية والإسلامية. لم أهتم بكلامه كنت مشغولاً بالصديق الذي سأراه اليوم.
مرّ بذهني كثيرون ممّن عرفتهم في بيشاور وقندهار، هل هو منصور الذي سجنت معه في بيشاور، وطردنا من باكستان لانتهاء إقامتنا فيها، واستطعنا العودة إلى أفغانستان عن طريق إيران بجوازاتنا الرسميّة، لعله أبو علي الذي التقيته في هيرات، لكن قيل أنّه قتل في تمرد في سجن قندهار.
جاء الثلاثة عطيّة وسلامة وخميس.
تعرّفت إلي خميس في مدينة بيشاور. قبل أيام من ترحيلنا، أخبرني أنّه كان يعمل مدرساً في السعودية، تأثر بما سمعه من أخبار، وبما شاهده على شاشات التلفزيون من جرائم السوفييت، أحس بالعار والمهانة، فجاء افغانستان، شارك في معارك الجهاد، وكشف عن جرح في ساقه، ووراح يسرد علي:
انتهى الصراع مع العدو، وبدأ صراع الأفغان مع الأفغان، لم استطع تحمّل ما يحدث، كما لم أطق العودة إلى السعودية، فجئت ألى هنا. لم أستطع التعايش مع الواقع، ولم أجد الوسيلة لمقاومته، فعدت إلى أفغانستان، وانخرطت مع المجاهدين العرب.
لم تكتمل قصته إلاّ معي. قبضت علينا الشرطة الباكستانية في بيشاور. لا عجب؛ ففي تلك البلاد، وربما في غيرها، تغيّر السياسة الناس بسرعة. صرنا بين يوم وليلة عرباً أعداء، فانتبهوا إلى انتهاء إقامتنا، بينما كنا نخرج من المدينة، ونجئ إليها دون أن يسألنا أحد. كان التوقيف نصيبنا ثم الترحيل عقابنا. الحمد لله لم نتهم بالإرهاب، وإبداع أيلول، ومع ذلك لم ننج هنا من التحقيق والسجن. لماذا سجنونا؟ أنا لم أفعل لا شراً ولا خيراً، وخميس قاتل أعداء الإسلام والمسلمين، وساهم في انتهاء الشيوعية كما أرادوا. خرجت قبله من القبو، وعدت إلى الجامعة لإكمال دراستي.
لم يتغيّر خميس كثيراً، إلاّ أن الشعر الأبيض ازداد على رأسه، ونحف جسمه.
ـ أين هذا الغياب؟
ـ لم يفرج عنّي إلاّ في الأسبوع الماضي.
ـ ظننت أنّك في مدينة القمر.
ـ ما زلت أحلم. عذّبوني كثيراً يا مأمون. عذاباً يليق بي. من الإغراق بالماء، إلى الربط الخفاشي، إلى الفلقة. تنوع التعذيب، لكن يا أخي كلّه يهون عن القنينة. أن تجلس على قنينة. لا أعلم لماذا هذا العذاب؟! لم نفعل شيئاً. سمحوا لنا بالذهاب لمحاربة السوفييت. حاربنا وانتصرنا، ثم عدنا لنستقبل بالسلاسل والجحود.
قال سلامة:
ـ لا بدّ من يوم للظالم!
ـ متى؟ بعد خراب مالطا.
قلت:
ـ لهذا نقول بالجهاد "الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله"
للأسف هذه الفريضة غائبة، لا بد من إحيائها.
ثمّ حكى خميس أنّه يسكن مع قريب، وتحسّر:
ـ ما هذي الحياة؟ لماذا خلقنا؟ لماذا نتعذب يا اللّه!
قال عطيّة:
ـ لا تكفر! الله هو الحياة، والمؤمن كلّ أمره خير، وإذا أصابته مصيبة قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون..
لم أشأ أن أؤنّبه بدوري، بدا لي في بحر من الهمّ والكآبة، عرضت عليه أن يأتي ليسكن معي، وإني سأتدبّر الأمر مع سمير، رفيقي في السكن وصاحب العمارة.
مرّ يومان او أكثر بعد لقائي خميس، ولم أر سميراً، خُيّل إليّ أنّه كان ينام في المسرح، ويتهيأ للمشاركة في الأيام المسرحية التي يُنظّمها القطاع الخاص. أذكّر أنّه دعاني لحضور مسرحية" في انتظار غودو". قال إنّها عمل عظيم لكاتب مشهور يدعى صموئيل بيكيت، وسيقوم فنان كبير بالدور الرئيسي فيها، وذكر أنّها تمثّل غربة الانسان في العصر الحديث، ولا مخلص له. لم تعجبني الفكرة، فإذا كنّا ننتظر الله، فالله موجود ينعم علينا من فضله، أينما تلفتنا فثمّ وجه الله، وإن كنّا نحسّ بالغربة فهي غربة عن الإيمان، ولا سبيل للتخلص منها إلاّ بالرجوع إلى الدين والاستقامة:" إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" وعرضت عليه إخراج مسرحية تنبض بالحياة، وتقاوم الظلم أيّا كان منبعه، وعدني بذلك، وطلب مساعدتي على العثور على نصّ..
تأخّرت في العودة إلى غرفتي، دعاني سلامة إلى العشاء، كثيراً ما تشفق عليّ والدته، فأنا ـ كما تقول ـ مقطوع من الحيط. اقتربت من السّطح، ضحكات أنثوية تدنّس البناية، شيئاً فشيئاً انبثقت السماء عن ثلاث فتيات كن مستندات إلى السور، ووجوههن إلى القمر، وسمير يحاول أن يلتقط لهن صورة بآلة تصوير رقميّة. طرحت السلام وأنا مطاطئ الرأس بعد أن مسحت نظرتي الأولى السطح كلّه مع التركيز على النسوة. لأول مرّة أشعر بذوبان قلبي، وتلعثم عقلي، ربما لأني فوجئت بالمشهد، لعلّي استيقظت فجأة على الأنوثة، أو ربما هجم عليّ إبليس وزبانيته على حين غرّة، دون أن تنبثق من الروح أسلحة لمقاومتهم. استعذت بالله من الأفكار الهابطة، وحاولت أن أشوّه الصورة التي التقطتها عيناي، لم أستطع، وظلت المخيّلة تتمتّع بلوحة جسديّة ذات جمال فتّاك، تُطل منها رؤوس أرنبيّة، وخصور حوريّة، وسيقان غزلانيّة، وأجسام خيزرانيّة. صور ماديّة فاضحة لا أدري من أين أو كيف تلبّستني! ارتميت على السرير، بهتت اللذة، وأنا أسمع إحداهن:
ـ حولنا إرهابي.
أنا إرهابي يا بنت الـ..! اسغفر الله العظيم وأتوب إليه. لو أنّي أحمل سلاحاً لارتحت منكنّ، ومن الفاسق الذي جمعكن. انساب صوته كنسمة، عجبت كيف صاغها من دحرجة حجارة سيل في فصل شتاء صاخب:
ـ أنتن الإرهاب. تملكن كلّ أنواع الأسلجة من السكين إلى القنابل العنقوديّة.
سمعت أخرى:
ـ إرهابنا جميل!
لم تطل حفلة التصوير. بعد خروجهن التقينا في غرفة الجلوس، حدّثت هذا السمير عن صديقي خميس، أجاب إنّه لا يمانع في أن يقيم معنا ما دام لا يزعحه أحد، ثم سألني إن ضايقني بضيوفه من النسوان. أجبته:
ـ أسأل الله لك الهداية!
ربما كنت أحوج منه إلى الهداية؛ فبعد أن خلوت بنفسي في غرفتي لعب الشيطان في ملابسي؛ فلم أستطع النوم، فأمام عيني تتراقص أجسادهن عارية، وتزداد حركاتهن ميوعة، وفي أذني تتردد ضحكاتهن الماجنة، أستعيد السطح مسرحا للخلاعة، بالتأكيد لم يكن المشهد على حقيقته، فالخيال غاب عنه العقل، وأشعلته الشهوة، فما كان على السطح أثارني حتى ظلال الأجساد في ضوء القمر، وصوت آلة التصوير. الدماء تتدفق بقوة، تختنق في جزء حساس من الجسد. الألم يشتد. لابدّ من انبثاق أو انبجاس. هرعت إلى الحمّام لأطفئ ما اشتعل من حرائق. الماء بارد وقاس، لم أكن أتحمل برودته وقسوته في غير هذه الحالة، تركته ينهمر كالمزراب. حافظ الجسد على توتره، وفشل العقل في السيطرة على أيّ عضو. خرجت من تحت الدشّ عاريا،ً لفحني هواء السطح البارد، حاذرت أن يراني سمير، وأنا أمرّ بغرفته كالشبح أو المجنون. انطمرت تحت الغطاء الصوفيّ، زادت تخيّلاتي حدّة، ثمّ انفجر البركان. لعنت الشيطان والارهاب الذي أحضره سمير الليلة، ثمّ غرقت في النوم.
التقيت خميس في ساحة المدينة، ظننته سيسألني عن السكن، تأبّط ذراعي وسار بي قليلاً، كأنه يحمل سرّ أيلول، تجاهلت اضطرابه، وقلت:
ـ يمكنك أن تنتقل للسكن معنا، فسمير وافق على ذلك، وصاحب البيت لا يمانع ما دمنا سنزيد أجرته الشهرية.
ـ دعنا من السكن الآن. يجب أن أخبرك..
ـ بماذا؟
ـ الأمير جاء..
ـ الأمير؟ من تقصد؟
ـ الأمير عبد القادر أبو قتامة.
ـ كيف عرفت؟
ـ اتصل بي وقال إنّه راغب في الاجتماع بنا نحن الإثنين..
ـ أين ومتى؟
ـ الليلة في مسجد الإسلام بعد صلاة العشاء.
كان أميرنا في معسكر بقندهار.
قبل الغزو الأمريكي لأفغانستان، في صباح يوم من تشرين الأول، الجو بارد، والسماء ملبّدة بالغيوم، والوجوم مرتسم على الوجوه، جمعنا في غرفة من الطوب كانت مقرّاً له. حدّثنا أنّ الحرب قادمة لا محالة، وطلب منا العودة إلى بلادنا:" سنحتاج إليكم لضرب المصالح الصليبيّة في منطقة الخليج وشمال إفريقيا وبلاد الشام"، ولما رأى تردّدي في الموافقة، رغب في التحدّث إليّ على انفراد.، دعاني للجلوس بعد خروج الجميع، جلست على مقعد خشبيّ قصير، قال بحنو:
ـ أنت الوحيد الذي نبغيك في بلدك، فأنت تستطيع العودة دون أن يلحقك الأذى، كما أنّنا حريصون عليك من الحرب، لأنّ فترة تدريبك لم تنته بعد.. تستكملها هناك في بلدك.
دارت في ذهني الأحداث التي جرت في أفغانستان، وهجوم أمريكا وقوات الناتو، وانحسار طالبان بعد معارك تورا ـ بورا، وتناثر المجاهدين في جميع جهات العالم، ازداد تصارع الأفكار حتّى إن بعضها انطلق على لساني: لا.لا. ذاب الهدف الرئيس تحرير أفغانستان تحوّل إلى تحرير العالم، وإعادة الاعتبار للمسلمين، الآن تغيرت اللعبة، وتلونت، وبات العدو امريكا والغرب ومن يساندهم من الحكّام، ومن يتملقهم من الشعوب، إنّ جهاد هؤلاء الكفار فرض إلهيّ في كلّ ساحة، قلت:
ـ الحمد لله بدلاً من الذهاب إلى أفغانستان جاءت أفغانستان إليّ..
قال خميس:
ـ هناك كما يبدو رغبة في إيقاظ الخلايا النائمة من المجاهدين العرب الذين رجعوا إلى بلادهم.
ـ جاء وقت الجدّ، يا صاحبي!
جئت متأخراً، كان الإمام قد أقام الصلاة، لمحت رجلاً، تخيّلته يقترب من السقف، كتفاه تجتاحان الصف الأمامي، لم يكن غيره أبو قتامة، لا أدري كيف صلّيت فرض العشاء، الشيطان قام بدوره فتشتت ذهني، استغفرت الله، وعزمت أن أعيد الصلاة بعد عودتي إلى البيت؛ فليس من الإيمان الخضوع لوسوسة اللعين.
ماذا في جعبة أميرنا رضي الله عنه، قتلنا العجز، وسياط الكفر في الشارع، في السوق، في المحال التجاريّة، في الساحات والحدائق العامة. لا بدّ من تجديد الإسلام، ومواجهة الجاهليّة الثانية، ليس من الجائز أن نرى المنكر ولا نغيّره بأيدينا، سطع نور أبي قتامة بعد انتهاء الصلاة، وتسلل إلى روحي، فشعرت كأنّي طائر أخضر، يحلّق حول أنهار متنوعة، يتلذّذ من العسل تارة، ومن الخمر واللبن تارة أخرى.
لم تتغير هواجسي الأولى عندما صافحني، وهويرتدي لباساً غربيّاً، بذلة سوداء وقميصاً أبيض، دون ربطة عنق، خرجنا من المسجد إلى الحديقة التي تحتضنه، كانت هادئة إلاّ من أربعة رجال كبار السن، ترتفع أصواتهم من وقت لآخر، وهم يلعبون الورق، جلسنا على العشب بعيداً عنهم، بدا صوته رقيقاً ناعماً خافتاً كأنّه يكلّم نفسه:
إن أعداء الإسلام يشحذون أسلحتهم لإبادة المسلمين، والقضاء على الإسلام، لم تعد لغة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجدي، لا يفهم هؤلاء إلاّ لغة القوة، قراءتنا للواقع أن الغرب فقد السيطرة على أعصابه، بعد أن غزا افغانستان ولم ينجح في غزوها، ها هو الآن يعدّ لإرتكاب حماقة أخرى بالمجيء إلى هنا لاحتلال العراق، ومعلوماتنا أنَّ صدام حسين لن يصمد طويلاً أمام جحافل الغزاة، سيأتي الدور بعد العراق على سوريا ولبنان والجزيرة العربية، لبعث ما يسمونه الفوضى الخلاّقة، وهي في حقيقتها حرب صليبيّة، سنواجه هذه الفوضى بالجهاد والمجاهدين، فلا يفلّ الحديد إلاّ الحديد، هناك أعمال اغتيال وخطف نعدّ لها، هناك استشهاديون جاهزون للفتك بهؤلاء الطغاة الكفرة، قد يسقط مدنيون أبرياء في هذه المعارك، إننا نحتسبهم شهداء عند الله، وسيبعثون على نواياهم يوم القيامة.
بدأنا في هذه الساحة منذ مدة في بعث الحياة الجهادية، فاتصلت ببعض إخواننا العرب الذين عادوا من أفغانستان، وهم الآن يتهيأون للبدء في العمل، لقد تأخّرت في لقائكم مع أننا كنا نرصد ما يجري لكم: خروج خميس من السجن، وتخرّجك في الجامعة، نرى البدء بإنشاء خلية قوية يتولى أمر قيادتها مأمون، ويترك الجانب التدريبي والعسكري إلى خميس بحكم خبرته السابقة في معارك تحرير أفغانستان.."
سأل خميس:
ـ والسّلاح والمال..؟
تناول من جيبه مغلّفاً سميناً وضعه في يدي: وهو يضغط عليها، والتقت عيناي بعينيه في إشارة ذات معنى، ثم قال:
ـ هذه خريطة في الموقع الذي ستجدون فيه كلّ شيء، استخدمناه سابقاً. وهو موضع صالح للتدريب يمكن اعتماده من قبلكم، أمّا المال فلكم ما تريدون، فنحن نعرف أنّ أيّ عمل لا بدّ له من مال وسلاح وقيادة سليمة فضلاً عن الإيمان بالله..
في النهاية أخذ منا عهداً على الجهاد في سبيل الله حتى نيل الشهادة. رفض المجيء معنا إلى البيت، ولم يشأ أن نرافقه إلى المكان الذي يأوي إليه، لكنه أعلمنا أنّه سيرحل في الغد إلى بلد آخر لم يذكر اسمه.
قلت بعد غيابه ونحن نسير على الرصيف:
ـ كان لقاؤه كالحلم.
سأل خميس:
ـ ماذا في المغلف؟
تجاهلت هدفه.
ـ خريطة. لكن ما رأيك في ما طرحه؟
أبعد أغصان شجرة متدلية على الرصيف، ثم قال:
ـ تعرّف أنّ لي عدوين فقط أميركا وإسرائيل، وهما سبب مصيبتي الخاصة ومصائبنا العامة، يجب أن نوجه جهادنا ضد هذين العدوين، فلا نخطئ الهدف. على كلّ حال سأقوم بالمهمات التي تكلفني بها على أكمل وجه.
كنت أعرف خلافه السياسي مع التنظيم، مما نعتبره نوعاً من الاجتهاد الذي يثري الجهاد ويقوّيه، ولا يمنع من التعاون معه، في تدريب المجاهدين وتنظيمهم، شكرته على همّته العالية وبلائه في مقاتلة أعداء الأمّة، ثم اقترحت أن أساعده الليلة على الانتقال إلى سكنه معنا، فأجاب إن الوقت متأخر، وطلب تأجيل ذلك إلى الصّباح.
وأنا أتعجّل الوصول إلى البيت كنت أحسّ بأنّ هنالك انقلاباً يحدث في داخلي، وفي حياتي كلّها، وأنّي سأقضي شهيداً ذات يوم، أعلن التنظيم الحرب على الواقع، وبدأ صدام الحضارات كما يقولون، قبل موتي عليّ أن أترك أثراً، يعتزّ به المسلمون ويتذكّرونه ويسيرون على هديه إلى يوم الدين، لم يفارقني القلق، وأنا أدخل غرفتي. تأكّدت أنّ سميراً في غرفته يغطّ في النّوم، كان في المغلّف ـ كما قال أبو قتامة ـ رسالة وخريطة وشيكات، نشرت الخريطة على الطاولة. كانت دقيقة في تحديد الموضع ورسم الاتجاهات، لكن راعني فيها بعد المكان وغيابه في الصّحراء. وكانت الشيكات عشرة باسمي الرّباعي ومسحوبة على عدة بنوك، وكلّ منها تختلف قيمته عن غيره، وكانت أقلّها خمسة آلاف دولار. أمّا الرسالة فقرأتها:
"بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسّلام على سيّد الأنبياء والمرسلين وإمام المتّقين وقائد المجاهدين وعلى آله وصحابته وعلى من سار على دربه إلى يوم الدين.
وبعد،
الأخ المجاهد مأمون يبعث إليكم الأخوة في القيادة هذه الرسالة الجهاديّة لتجمعوا همم الأمة وطاقاتها في سبيل الدّفاع عن دين الله الحنيف، بعد أن قام الكفار بالاعتداء على ديار المسلمين؛ فبدأوا بأفغانستان، وهم قادمون إلى العراق ثم إلى سوريا ولبنان والجزيرة العربيّة موطن الإسلام الأوّل.
إنّ قوات الكفر تخرج من مخابئها بعد أن تلقّت الضربة القويّة في أيلول، وستنشر جيوشها وأساطيلها في أنحاء العالم، مما يجعل من السهولة ضربها وإلحاق الأذى بها وتخفيف وطأتها على الشعب الأفغاني المسلم، وكما استطاع المجاهدون هزيمة الروس المرتدّين في نهاية ثمانينيات القرن الماضي فستكون الهزيمة مصير الصليبيّين ومن ساندهم في ديار الإسلام:" وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ."
كان اجتهادنا في التنظيم الاعتماد على روّاد الجهاد في أفغانستان، الذين عادوا إلى أوطانهم، في تفعيل الجبهات المختلفة بمحاربة قوى الكفر والظلام من الأميركيين والصهيونيين والمتعاونين معهم من الحكّام العرب والمسلمين، لإعادة الإسلام إلى واقع الحياة البشرية.
يعهد إليكم إخوتكم في القيادة، وقد عرفوا غيرتكم على الإسلام، ودفاعكم عن الشعب الأفغاني المسلم، تنظيم الشباب الذين تثقون بهم، وتزويدهم بالمعارف الضرورية لتعميق إيمانهم، وشحذ همتهم، والاستعداد ليوم عظيم تعز فيه الأمة، وينتصر الإسلام.
إننا نترك لكم الحرّية في تكوين الخلايا السرية وتدريبها، وقد رأينا الإفادة من المجاهد الكبير خميس، فإن أبا عقاب مجاهد مخلص، وضع روحه في سبيل الله. وفي القريب العاجل سينضم إلى خليتكم المجاهد جاسم خضر وزوجته عافية، وهما من المؤهلين للقيام بعمليات استشهادية دفاعاّ عن الإسلام، ودفع الظلم عن المسلمين.
مرفق بهذه الرّسالة خريطة فيها تفاصيل المكان الذي نراه مناسباً للتدريب، وبيان مخابئ السلاح والذّخيرة، وموضع البئر المهجورة التي ستكون الصندوق الأمين لإيداع الرسائل وخطابات التنظيم وتبادلها بيننا وبينكم، كما تجدون في رسالتنا مبالغ من المال موزّعة في شيكات من مؤسسات خيرية وإخوان لكم، نظنّ أنّها كافية للبدء بالعمل مع سائر الخلايا الأخرى..
حفظكم الله وسدّد رميكم ورزقكم الشهادة التي يطمح إليها المسلمون المخلصون".
لم أنم تلك الليلة كانت تدور في ذهني الخطوط الأولى لتكوين خليّتنا، والمبادئ التي سنتبناها في ظلّ التنظيم، والبرامج النظريّة والعمليّة التي علينا تنفيذها، ثم رحت أتخيّل العمليات التي سنقوم بها، نمت قبل الفجر بقليل، وأنا أستعيذ بالله من الشيطان الرّجيم، رأيت أمي متّشحة بالسّواد تسير في جنازة أبي. بعد أن هدأت تنفست الصّعداء: "تخلّصت منها".
في اليوم التالي اقتسمنا وخميس الغرفة، واستقرّ سريره بجانب سريري. بعد أن استرحنا من تعب الترحيل والترتيب عرضت عليه الأفكار التي تخّمرت في ذهني عن خطوتنا الأولى، وأطلعته على الخريطة والشيكات التي تسلّمتها، وحدّثته عن ثناء الأمير عليه وتقدير التنظيم لجهاده، اتفقنا على أن تكون خليتنا منا نحن الاثنين، وأن يتّصل بعطيّة وسلامة ويعرض الأمر عليهما، قبل أن نجتمع لنبدأ على طريق الحق والشهادة. واستبعدنا سمير لأنه رجل مضطرب في اتباع تعاليم الإسلام، وسيرة السّلف الصّالح مع أنّه صديق حميم يقاوم الظّلم بالكلمة والفنّ، وارتأينا أن نستفيد منه في النواحي الإعلامية والفنيّة.
أمّا بالنسبة إلى التدريب العملي فرأينا أن يتمّ على الأسلحة كافة وفي الميدان الذي اقترحه الأمير في رسالته، مع ضرورة تغييره بعد مدّة، حسب مقتضيات السريّة والأمن، أمّا الدّروس النّظريّة فتكون في لقاءات دورية في بيوت الأعضاء.
تأخّر تحرّكنا. العالم يركض إلى الفوضى، مجلس الأمن يلاحقه الفشل، فلا يمنع أميركا من الاستعلاء على العراق، واتهامه بأسلحة الدمار الشامل، والجامعة العربية كرجل عجوز واهن الأطراف، يكتفي بدعوة صدّام إلى مغادرة بلده، واللجوء إلى أي دولة يريدها، وأبو ظبي وموسكو ترحبان به. وتتوتر الأعصاب بخطاب بوش في السابع عشر من آذار، وهو يمهل صدّام ثمانية وأربعين ساعة لمغادرة العراق. في الليلة نفسها اتصلت أمّي، قالت إنّ الوضع خطير والبلد على شفا حرب، ولا تدري ماذا يحدث. ثم انقطع الاتصال، شعرت بالوحدة، وتمنيت أن أرى أمّي وأختي.
بعد ثلاثة أيام من خطاب بوش أيقظني خميس وهو يتنهد:
ـ ضربوا بغداد..
هرعنا إلى التلفزيون، وجدنا سمير مشدوهاً أمام الشاشة. فشلت ضربة الفرصة لاصطياد صدام، وبدأت عملية الصدمة والترويع، ثم شاهدنا الصواريخ كالشهب تنطلق لتمسح العراق، والقوات البرية تتقدّم من ناحية الجنوب.
قلت:
ـ راحت العراق.
فنهرني سمير:
ـ يا رجل اتق الله! الحرب لم تبدأ بعد. الحرس الجمهوري وفدائيو صدام، لم يتدخلوا حتّى هذي اللحظة. الويل لهم من الكيماوي..
توالت الأنباء، الناس لم يصدّقوا غير الصحّاف، وهو يظهر من وقت لآخر أمام الصحافيين: المفاجآت تنتظر القوات الأميركية، بدأنا في تقطيع جسد الأفعى، وسننتهي إلى رأسها. هؤلاء العلوج سينهزمون، الطراطير ستبتلعهم أرض العراق، وكما قال قائدنا: العراق سينتصر. سينتصر، وليخسأ الخاسئون،. وتسارعت الخسائر. سقطت البصرة وأم قصر، ثم سقطت بغداد، ونهب المتحف الوطني العراقي وسرقت آثاره، واختفى الصحاف في طرفة عين وجميع قادة العراق، واتضحت أهداف الحرب في العلم الأميركي الذي التف حول رقبة تمثال صدام قبل أن يسقط في ساحة الفردوس،، لم يصدّق الناس ما يشاهدون، وكأنّ الصور التي تتوالى على الشاشات الفضائية تتنزل من كوكب المريخ. تأوّه سمير، وقال كمن يحدّث نفسه:
ـ بعد قليل يظهر الصحّاف، ويدحض هذي الإشاعات.
ثمّ انقشعت الأوهام. نصحنا سمير أن يذهب إلى النوم، ثم ذهبنا إلى غرفتنا. في الليل أيقظنا صراخه، كان يبكي كمن فقد ولده:
ـ لا أصدق. لا أصدق..
قال خميس بضجر:
ـ لا. صدّق، يا أخي! أرجعتنا أمريكا إلى عصر الحمير.
أذكر، في الوقت الذي أعلن فيه بوش عن انتهاء مهمّة جيشه في العراق، أنّي انتهيت من شراء سيارة صغيرة من نوع تويوتا من حراج في أطراف المدينة؛ لبدء مهمتنا في الجهاد، وعندما عدت إلى البيت، بعد أن صلّيت في مسجد اليقين، لم أجد خميس، وجدت سمير بانتظاري مع رجل لفت انتباهي اتساع عينيه، وقصر قامته، وضخامة رأسه، وامتداد لحيته. ما إن لفظ سمير اسمه حتّى عرفت أنه أخونا في الجهاد الذي أوصاني به أميرنا. استطرد سمير:
ـ كنت في تظاهرة هزيلة نحتجّ على غزو أميركا للعراق، الكلّ يهتف: لا للحرب! لا للاحتلال! الموت لأميركا واسرائيل! الهتافات نفسها التي عهدناها منذ أكثر من أربعين عاماً. كان بجانبي الأخ جاسم يتحرك بصمت. ولم يتكلّم إلاّ عندما اقتربنا من السفارة الأمريكية، سمعته بوضوح: الكلام لا يفيد. نظرت إليه بدهشة. أجابني: خرجت أسأل عن مكتبة فإذا بي في التظاهرة. وامتد حوارنا إلى المكتبة التي يبحث عنها، وصاحبها وعما يريده منه. عرفت أنّه يسعى للوصول إليك. فجئت به. هل أنا مخطئ يا بني طالبان.
تجاهلت إشارته. ابتسمت وبي رغبة في ذبحه. ثمّ تركنا، ودخل غرفته. علمت من جاسم أنّه جاء البلاد مع زوجته بجوازين مزوّرين، وأنّّه الآن يقيم في فندق رخيص وسط المدينة، وشكا من سوء حالته المالية، فقدّمت إليه مئة دولار، وطلبت منه أن يبقى في الفندق ريثما نتدبّر له السكن، وكان في ذهني الشقة التي هي أسفل منا؛ فهي شاغرة، كما فهمت من صاحب البناية قبل أيام. فاجأني سمير، وهو يقف بباب حجرتي:
ـ نسيت أن أخبرك: سلامة عثر على نصّ مسرحي، أتمنّى أن يعجبك. سأبدأ في إخراجه في القريب..
ـ إذا كان كما أريد، فأنت مجاهد كبير، ومخرج مهمّ.
سمير فاضل
كانت الحركة تدبّ في مجمّع السيّارات في وسط المدينة، الباصات تنطلق في الشوارع كالدلافين الضخمة، وهي تغصّ بالركاب معظمهم من الموظفين والعمال، الجو ملبّد بسحائب سوداء، سرعان ما اندفعت دفقات من المطر، عجنت الغبار في الجو، فتساقط في لطخات صغيرة، تركت الأرض لزجة ورخوة. رأيت بعض المارّة يشمّرون عن سيقانهم، أو يتعالق بعضهم ببعض، وقد تلتفت على صرخة هنا وضحكة هناك، فالسقوط مضحك هذا اليوم.
فكّرت في أن أعود إلى البيت، وأؤجّل الذهاب إلى القرية إلى يوم آخر، لكنّي وعدت أمّي أن أراها اليوم، اشتاقت إليّ، وأنا قلبي حجر، كما قالت. لم تكن ترغب في نزوحي من القرية، الأرض تحتاج إلى رجال يهتمّون بها، يحرثونها ويزرعونها. ها قد حصلت على الشهادة. عد إلى الأرض مع إخوتك. اترك المدينة والتهمّل في شوارعها. أما أبي فاعتبرني لم أولد، وعندما يعدّ من أنجبهم ينساني. هذا الولد ضائع، يجري ورا الفن، هذي مسخرة لا تطعم الخبز. لا يا أبي، اسمح لي، المسرح أجمل ما في الحياة وأغنى، فيه ينكشف الإنسان أمام نفسه، يقف أمام شروره، يراجع تاريخه، يرى ما فيه من عيوب ونواقص، فيسمو، يصبح كأوراق الشجر في بداية الربيع، يحلّق كطائر. نحن، يا أبي في المسرح مثلك في الحقل، أنت تحرث الأرض لتزرع فيها القمح والشعير، ونحن نحرث النفس لنغرس فيها الحق والخير والجمال، بمحراثك تزهو الحقول، وبمسرحنا تزهو الحياة.
تركت القرية، وجئت المدينة، ما الذي يجعلني أدفن نفسي في تعب الحقول؟! لم أستقرّ على جواب، وأنا أتحرّك نحو موقف الباص، انتبهت على ارتطام شخص بي، دفعني بقوة نحو سيارة كانت تسير كالحرباء بالقرب من الرصيف، لا أدري. فتح الباب بلمح البصر، اختطفتني مخالب رجل في المقعد الخلفي، وجرّني إلى الداخل ليفسح المكان لصاحبه، ووجدتني بين ذئبين.
ـ من الإخوان؟!
ـ مكافحة الإرهاب.
ضحكت. ارتخت ايديهما. مدّ اليّ الذي على اليسار بطاقته، بدا كأنه المسؤول عن العملية.
ـ لا تصدّق؟!
ـ أصدّق، ولكن لماذا ترهبوني..؟
ـ نرهبك؟
ـ كيف؟
ـ ماذا تسمّون ما قمتم به؟
ـ مجرد عملية استدعاء.
ـ سمّوه ما شئتم لكن لم أسمع عن استدعاء بالعنف والترويع. كان يمكن استدعائي بالهاتف، عنواني معروف، ولست نكرة.
ـ لا نريد أن نناقشك، هذه أوامر ننفذها..
كانت السيارة مسرعة على الرغم من انزلاج الطريق، وكثرة الحوادث على الجانبين، حاولت أن أعرّف الارهاب، بناء على ما حدث، لم أجد غير أنّه كلّ فعل يماثل ما فعله هؤلاء الثلاثة. فكّرت في أن أتصل بأمّي، أقول لها إنّ ابنك إرهابي. تضحك: ولدي شاطر في الحكي، هل الحكي إرهاب؟ أمّا والدي فيستهين بالامر: اتركيهم يلمّوه هذا الصايع، كم نصحته أن يعمل في الأرض! لايريد غير أن يتهمّل، ويضيع في المدينة. ثم لمعت آية. لو تعرف ما حدث، فستقيم الدنيا ولا تقعدها، كل المواقع الإلكترونية وغير الإلكترونية ستصل إليها كلماتها: ارفعوا أيديكم عن الكلمة! لا تلجّموا ألسنتنا ! وتزيد الطين بلة، وتصبح لي خطورة ابن لادن أو أيمن الظواهري.
سارت السيارة طويلاً. لماذا يبعدون المكان؟ بعد المكان فيه إرهاب. انزل! أنزلت كأرنب. دارت عيناي في السماء والأرض. مبنى مترامي الأطراف، أقرب إلى ثكنة أو قلعة، محاط بالحواجز الإسمنتية، حوله حقول واسعة مزروعة بالمدرعات والدبابات، التي تُطلّ من مقدماتها رشاشات ومدافع مصوّبة إلى كلّ شيء. تخيّلت لو أنّ هذه الحقول زرعت كغيرها من حقول الله، أو تركت مراعي للحيوانات، أو على الأقل وزّعت أراضي للسكن لحلّت بعض مشاكل الغذاء، أو قلّصت من بيوت الصفيح. لم أنتبه إلى عتبة الدرج الذي بالباب فكدّت أقع. ارتحت، بل انتشيت عندما تنهّد أحدهما: يا ساتر! لكن نبّهه الآخر إلى خطئه، وهو يصرخ بي:
ـ أنت أعمى!
أدخلت غرفة، فيها خلق كثير، متر في متر، أو ثلاثة في مترين، أقل أو أكثر، كثرة الناس تجعل أيّ مكان ضيقاً. العبوس على الوجوه، الوجوم سيّد الغرفة، لا أحد يتحدث مع أحد، كأنّهم أعداء وجدوا فجأةً، كلٌ يفكر فيما سيتهمونه، وكيف يجيب، لينجو بنفسه، ويعود إلى والديه، أو زوجته وأولاده.
جاء عسكري، نادى اسمي، حملقت إليّ العيون. محظوظ أخذ دورنا. استقبلني بالباب شاب بملابس مدنيّة. صافحني ودعاني للجلوس على كنبة أمام مكتبه الحديديّ، مدّ إليّ سيجارة، تناولتها كأنّها من صديق، خيّرني أن أشرب الشاي أو القهوة، وافقت على الاثنين. ابتسم: لن يدوّخني في التحقيق سيوافق على كلّ شيء. قال:
ـ كما ترى نحن لطيفون.
- لماذا جئتم بي؟
- سأكون صريحاً.
- أرجوك!
- وقفت في الهيئة الإدارية لرابطة المسرح موقفاً غريباً إن لم نقل متطرّفاً، فصدر البيان عن الرابطة بفضلك غير منسجم مع سياسة الحكومة، ولا يخدم المرحلة التي يمرّ بها الوطن.
من نقل إليهم ما دار في اجتماع الرابطة؟ هل يحتاجون إلى من يتجسس علينا؟ بإمكانهم أن يطلبوا المعلومات بالهاتف، أو بسؤالنا مباشرة. نحن شركاء في الوطن، وعمل الرابطة لا تتوقف عليه مصلحة البلاد، ولا أمن العباد.
ـ نحن في رابطة المسرح نمارس حرية التعبير التي كفلها الدستور، وبلدنا، كما يتغنّى التلفزيون والإذاعة والسياسيّون، واحة للديمقراطية وحقوق الإنسان.
ـ نعم، لسنا مستائين من البيان؛ فلكم أن تقولوا ما تشاءون، نحن مستاءون من موقفك في انتقاد الحكومة، لماذا لا تكون معنا..؟
ـ أنتم مع من..؟
ـ تستجوبني..!؟
ـ لا، ولكن..!
ـ بالتأكيد، نحن مع هذا البلد..
ـ وهل ترانا أعداء للبلد، نحن نرى أن مصلحة البلد في درء العدوان الأميركي عن العراق، هذا لا يعني أنّا مع النظام العراقي، نحن نجسّد مشاعر الناس في الأحسن والأجمل لا في الفن فحسب بل وفي السياسة أيضاً.
- كنت أظنّ أنّك ستتعاون معنا. نحن آسفون لإحضارك. مع السلامة.
خرجت على غير هدىً، سرت دون أن أحسّ بالتعب، أو أفكر في إيقاف سيارة. من هذا الذي وشى بي؟ من هذا المزروع في الرابطة حتّى ينقل ما يجري؟ بمن نثق؟ كيف يمكن أن يعيش الإنسان دون وخز الآخرين؟ ليتني أرى آية! لألقي رأسي على كتفيها، أو على صدرها، أو... ما هذه الهلوسات؟ كيف يركبني الشيطان، وأنا في هذه الحالة؟! أهي حالة شيطانية؟ الشيطان كالإرهاب في كل مكان. لو أنّها زوجتي أو عشيقتي.! كلّ ما بيننا حديث عن الفن، وبعض المسرحيّات، لكن روحها ترفّ كالحلم أمام عيني منذ لقيتها أول مرّة.
جئت الجامعة القوميّة لأرى صديقي بدر مسؤول النشاط الثقافيّ، أهو الجحيم دخولها دون بطاقة. ضع كلّ ما تحمله على الطاولة. مرّ من البوابة الإلكترونية. البوابة لا تعمل. خذ أغراضك، وادخل تلك الحجرة. في الحجرة رجل ضخم. اخلع ملابسك، لماذا؟ حتى نرى المتفجرات. أنا لست إرهابيّاً. نعرف. إجراءات يجب أن تتمّ. لم أطق الصبر. لا أريد أن أرى صاحبي. زاد شكوكهم، وزاد احتجاجي. اكتفوا بتحسس ما يسهل تحسسه.
وصلت إلى مسؤول النشاط، كانت عنده آية تحتجّ على المعاملة التي لقيتها من الأمن بالبوابة، انضممت إليها، طلبنا من بدر أن يخبر الرئيس، أجاب إنّه لا يريد أن يفصل من عمله، أو ينقل إلى وظيفة أخرى. اهترى جسمه عندما نقل إلى قسم الإعارة في المكتبة. ذهبنا معاً إلى الرئيس. قالت السكرتيرة يجب أخذ موعد مسبق، فترت عزيمتي، هممت أطلب منها أن تنسى مجيئنا لكن آية بادرت إلى سؤالها عن إمكان رؤيته غداً. نظرت إلى ورقة أمامها. كتبت الساعة الحادية عشرة صباحاً. علمنا بعد ذلك من خلال الإعلانات المنتشرة في الجامعة، أنّه على موعد في التاسعة بفندق الوطن؛ ليشرف على المؤتمر الصحفي للفنانة سالمة التي دعتها الجامعة لإحياء حفلة في الفندق يذهب ريعها لمقاومة الإرهاب.
في اليوم التالي التقينا بالبوابة. عجبنا أنهم لم يعاملونا مثلما الأمس، لم يكن الوقت قد حان للقاء الرئيس. جلسنا في الحديقة أمام مبنى الرئاسة. المياه تنطلق من ثقوب الأنابيب؛ لتسقي الأعشاب والورود المتناثرة حولها. كان الصمت يشي ما في قلبينا، أو ما في قلبي. تردّد في صدري ما قاله مالارميه: إذا كان الكلام من ذهب فالصمت أحلى وأحب عندما تكون القلوب مترعة بالحب. أدخلتنا السكرتيرة إلى مكتب الرئيس، دعانا للجلوس، وطلب بأناقة الدخول في الموضوع. هبت آية في الكلام لكنّي سبقتها:
ـ رجال الأمن بالبوابة يسيئون معاملة الزائرين. أمس كان التحقيق معنا كأنّنا مجرمون: من إبراز الهوية إلى أسئلة سقيمة: ما العمل. سبب الزيارة. مدتها. بقي أن يسألونا عن الولادة والسكن والديانة والجنسية والأصل.
انتفض:
ـ إنّهم يقومون بواجبهم، يحافظون على حياتكم، يحمونكم من الإرهاب، تعلمون أنّ الأعمال الإرهابية امتدت إلى كلّ مكان: الأسواق والفنادق والمقاهي، فما يمنع الإرهابيين من تفجير الجامعات، وبخاصة جامعتنا التي تكافح الإرهاب.
خرجنا من مكتب الرئيس، ونحن نلعن أمريكا، كأنها كانت تنتظر أحداث أيلول حتى تخيف العالم. حتّى هنا تولد الإرهاب من بطن الخوف. ما هذي الحياة إن كانت إرهاب في إرهاب؟!
بعد أيام قرأت في صحيفة إشراقة أن صديقي مسؤول النشاط نقل إلى قسم الحركة. اتصلت به. تمنّى لو كان نقله إلى المكتبة لا إلى محطة نقل وتشحيم. ونصحني بألاّ أسلم عقلي لامرأة، وبخاصة إذا كانت مثل آية. اندفعت أدافع عنها كآية فنيّة. ختم اتصالنا: اللهم اشهد أنّي نصحتك. لا أدري كيف عرف بحبنا أو بحبي. حفّزني أن أتذوق. أتلمس. أرى شيئا له علاقة بآية. مررت بالمنزل الذي تسكن فيه مع عمتها بالقرب من المتحف الأهليّ، نبضت روحي، وتشكلت الأحلام في عقلي كقوس قزح، وانتشى الجسد كتربة افتقدت الماء، أيّ فتاة تلك! أيّ مسرحية تنطق بها حركاتها، وتبوح بها أطرافها. لم أجرؤ على السؤال عنها، لكنّ الإحساس بأنيّ قربها في المكان جعلني في توازن لذيذ.
سألتني عندما التقينا في الرابطة عن زيارتي للقرية، شرحت لها ما حصل. أصرّت لتعرّي ما يحدث في البلد أن تكتب إلى منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني، ومواقع الإنترنت. رجوتها ألاً تفعل لتنجح المسرحية التي بين أيدينا، أبت وتركتني غاضبة:
-كيف تستسلم للإهانة؟!
أوقفت سيارة أجرة، وانطلقت بي إلى مكتبة الانشراح في حي الجامعة. قلت أرى سلامة، وأجد كتاباً أقرؤه.
وجدت سلامة يتحدّث مع رجل ملتحٍ عن فساد المجتمع، ويشكوان من الفضائيات التي قتلت الكتاب، وشجّعت الإرهاب بأفلامها وبرامجها المنحلّة، انشرح سلامة إذ رآني كأنّه عثر على كنز. قال إنّه كان يهمّ بالاتصال بي، لكنّه أدرك أنّه أضاع رقمي الخلوي. صار كثير النسيان هذه الأيام.
تمخضت لهفته عن سؤالي عن المسرحية. طمأنته عن بدء البحث عن ممثلين يذوبون في النصّ، وقلت له: المشكلة في المؤلف نخشى أن يظهر فجأة فيحاسبنا. ماذا نقول له؟ لا شكّ أنّ النصّ يليق بهذه المرحلة، موضوعه لا تشتت فيه، وحواره يتصعّد مع الحدث، ويتناسب مع الشخصيات؛ لا جعجعة فيه ولا مغالاة، رموزه حيّة تجسّد الصراع بين الظالم والمظلوم، بين الضعيف والقوي، فوراء كلّ حقّ مطالب، كما أنّه يعلي من شأن المرأة والحياة. لقد وعد مأمون إذا أعجبته المسرحية أن يدعمنا بالمال. لا أدري كيف أصبح ثرياً، الشيوخ أمرهم غريب؛ يمسي بثوب وشبشب ويصبح بعباءة وسيارة، من أين له كل هذا، والسماء لا تمطر ذهباً ولا فضة؟!
نهرني بألاّ أحسد صديقه، فالرزق على الله. رزقكم في السماء وما توعدون، وقال:
- ما دام النصّ جيداً فامض على بركة الله، صاحبه كتبه ليمثّل، سيكون سعيداً إذا كان على قيد الحياة، لكنّي أشكّ أنّه حيّ يرزق؛ فمن يكتب مثل هذا النصّ لا يعش طويلاً، وأشكّ أنّه مكتوب هذه الأيام ربما كتب في فترة أخرى من فترات الظلام التي مرّت على المنطقة.
في طريق البيت اتصلت بآية، بادرتني بانفعال:
- الله أكبر! ولا منظمة صدّقت ما قلت، ورفضت مواقع الإنترنت نشر الخبر. قالوا نحن لا نعبأ بالأحداث التافهة، ومشغولون بمشاكل النازحين، وضحايا الإرهاب.
- لم يقولوا الحقيقة، أنهم لايريدون إغضاب أمريكاً التي تصفنا بالديمقراطية ومكافحة الإرهاب.
في البيت، جلست إلى مأمون أحدّثه عن المسرحية وتكاليفها الماديّة. قال إنّه قرأ المسرحية وأعجب بفكرتها؛ فهي تقف في وجه الظلم لكنّه قرأ فيها التهجّم على رجال الدين، ولم تعجبه أن تتصدّى المرأة للعدو. هل غاب الرجال؟ بئس قوماً ولّوا أمرهم امرأة! ورأى استبدال شخصية الأم بالجد، وشخصية الشيخ بالمختار. حاول خميس أن يبين له أنّ الجهاد لا يقوم على الرجل فقط بل على المرأة أيضاً، ويكون فرض عين إذا احتلّ شبر من أرض الإسلام فكيف وقد احتلّت بلاد. عجبت بفكر خميس، وأقنعت نفسي أنّ الشيوخ نوعان بل أنواع معظمهم يلوي الدين حسب مزاجه ومصلحته، ويمثلهم الشيخ في المسرحية، والناس لاتستطيع أن تجادل أو تناقش حتى لاتتهم بالكفر، أو الوقوع في الزلل، غضبت:
ـ هل تغدو مسرحية يا شيخ إذا فعلنا ما ترى؟ هذا إرهاب فني. المسرح يعني الحياة، والحياة لا تقوم دون المرأة.
صرت أحسُّ بالغربة على السطح، تغيّر مأمون. صحيح أنا لست شيخاً مثله أو مثل خميس، ولا أبغي أن أكون لكنّي لم أسئ إليهما بل فتحت لهما صدري والسطح، فلم أمانع في أن يسكنا معي. الآن هما لا يقبلاني بينهما، يريداني بلحية ودشداشة وسروال شفاف، ما الذي يفرّقهما عن بوش: من ليس معنا فهو علينا. استحضرت قصيدة درويش:
أَنا يوسفٌ يا أَبي.
يا أَبي، إخوتي لا يحبُّونني،
لا يريدونني بينهم يا أَبي.
يَعتدُون عليَّ ويرمُونني بالحصى والكلامِ
يرِيدونني أَن أَموت لكي يمدحُوني
وهم أَوصدُوا باب بيتك دوني
وهم طردوني من الحقلِ
هم سمَّمُوا عنبي يا أَبي
وهم حطَّمُوا لُعبي يا أَبي
حين مرَّ النَّسيمُ ولاعب شعرِي
غاروا وثارُوا عليَّ وثاروا عليك،
فماذا صنعتُ لهم يا أَبي؟
الفراشات حطَّتْ على كتفيَّ،
ومالت عليَّ السَّنابلُ،
والطَّيْرُ حطَّتْ على راحتيَّ
فماذا فعَلْتُ أَنا يا أَبي،
ولماذا أَنا؟
أَنتَ سمَّيتني يُوسُفًا،
وهُمُو أَوقعُونيَ في الجُبِّ، واتَّهموا الذِّئب;
والذِّئبُ أَرحمُ من إخوتي..
أبتي! هل جنَيْتُ على أَحد عندما قُلْتُ إنِّي:
رأَيتُ أَحدَ عشرَ كوكبًا، والشَّمس والقمرَ، رأيتُهُم لي ساجدين؟
أجل تغير زميلاي في السكن، صرت أرى في عيونهما سراً، وغدا كلامهم القليل، يمتزج بالغموض، ولاحظت هروبهم من التلفزيون، وسرعة تركهم غرفة الاستقبال، صارا يتجنباني كأنّي أجرب. لماذا كلّ هذا الجفاء والغموض؟ أهنالك عمل يعدّونه؟ فهم يأتون في الليل وينضم إليهم جاسم، وأحياناً زوجته أجل رأيتهما نازلين عن السطح.
ماذا يقولون؟ هل هم إرهابيون؟ هل ينقصنا مآسي وكوارث. إنّ بعض الظنّ إثم. لعلّهم متصوّفة يعتزلون عن الناس ليعبدوا الله، ويندمجوا في الطبيعة. كلّ منهم يمثل كارثة: سلامة لم يكمل تعليمه ويرعى أمّه وشقيقتيه، وخميس منبوذ لا يعرف له مستقر، وجاسم شبه رجل يغرق في الغباء، أمّا مأمون فهو أخطرهم، كصحراء ممتدة أو بئر عميقة، قلبه ممرات مجهولة وحجرات مظلمة وحيطان. كلّهم يضعون الدين في صندوق متفجرات لا يجرؤ غيرهم على الاقتراب منه. هل يمكن أن تكون المرأة؛ فكلّ شيخ أكول نكوح. استغفر الله العظيم لا أضع في رقبتي.
التقيت مأمون ذات مساء، سألته:
ـ لا أراك كثيراً؟
ـ مشغول في أمور الآخرة.
ـ والدنيا؟
ـ هي لك.
كان الليل يتمدّد في قلبي وفي الخارج عندما عدت متأخراً إلى البيت، مصابيح الكهرباء التي تنير الشارع ضعيفة، لم يكن بباب البناية غير قطّة، أحسّت بي، فهربت، وهي تحدث خشخشة بأكياس الورق والنايلون، لم أعثر على زر الكهرباء الذي ينير الدرج، فصعدت وأنا ألهث، والصمت يتسلل من داخل البيوت، اقتربت من الطابق الثالث، وأنا أطمئن النفس أنّ تعبي سيزول بعد قليل.. استمعت إلى آهات ثم تأوّهات، شيئاً فشيئاً تحوّلت إلى أنّات إنسان جريح، عندما اقتربت بدا الصوت واضحاً يتناغم مع حركات امرأة، ثمّ تحوّل إلى صراخ: اضربيني. اضربيني.. جازاك الله خيراً.. الشيخ جاسم يئن باللذة، الوغد عندما رأيته أول مرّة خمّنت أنه سيحرر العراق وفلسطين من رجس المحتلّين. أين مكافحة الإرهاب؟ اشتد صراخه. ابن الكلب. وعافية تبلي بلاء حسناً. الله يعطيها العافية!
تأخرت في النوم، لم يكن مأمون وخميس في غرفتهما، أيقظني جاسم وهو يفتح الباب ويدخل. جلسنا على مقعدين أمام غرفتي، نشرب الشاي. دهشت عندما راح يحدّثني عن حياته الماضية، وزواجه.
تركت المدرسة من الصف الرابع، يئس والدي من مستقبلي، عملت في كراج للسيارات، وانطلقت مع رفاق السوء، وجريت وراء الملذات، شربت الخمر، ومارست السرقة متخصصاً بالمحال التجارية الكبيرة (المولات)، وسجنت، في السجن تعرّفت إلى شيخ تقيّ علّمني القرآن، وأحكام الشريعة، هديت على يديه، وعندما خرجت من السجن قبله. تعلم أنّ السرقة عقابها خفيف. أوصاني أن أتزوّج من إحدى قريباته، تزوّجتها، وهي التي تحتي الآن، علّمني شيخي أن أعبد الله مخلصاً له الدين، وأن أكفّر عن سيئاتي بالدفاع عن دينه والجهاد في سبيله، ومقاومة كلّ فكر غير فكر الإسلام، ومحاربة الكفّار أعداء الله. عجبت كيف أطلعني على حياته الماضية، وكشف عن مشاعره، وتحوّل عجبي إلى خوف من أن يضعني في صفّ الكفار.
سألته:
ـ من الكفار في رأيك؟
ـ الحكام والزعماء.
ـ لكنّي رأيتهم يصلّون ويصومون ويحجّون ويعتمرون.
ـ كلّهم كفار يتظاهرون بالإسلام والإيمان.
ـ هلاّ شققت عن قلوبهم، يا شيخ.
ـ قلوبهم ختم الله عليها بالكفر.
ـ على كلّ حال لماذا أنت قلق بشأن إيمانهم؟
ـ يجب محاربتهم حتّى يعودوا إلى كتاب الله وسنة نبيه، ويقيموا الحكم الإسلامي.
ـ لماذا تضع نفسك في مواجهة هؤلاء، هنالك حكومة وجيش ومؤسسات يمكن أن تعترض وتغيّر وتناقش. لماذا تكون دونكيشوت؟
- دنكشت! من دون؟
- شيخ عاش في القرن الماضي.
ـ رحمه الله، وإن كان لقبه لا يعجبني! إذن لنكون مثله، رأى المنكر فحاول أن يغيّره، كما فهمت من قولك، والرسول ـ صلّى الله عليه وسلم ـ يقول من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان..
ـ قلتها بلسانك، يا شيخ. لا شك أنّك لا تستطيع مقاومة المنكر، إذا اعتبرنا أعمال هؤلاء ووجودهم منكراً، فلماذا لا تلجأ إلى أضعف الإيمان؟
ـ أستطيع وترى.
ماذا سيفعل هذا الرجل؟ من ذلك الشيخ الذي دبّ فيه كلّ هذه الأفكار؟ من يقف وراءه الآن؟ ما علاقته بمأمون وخميس؟ من أين جاء إلى هذه البلاد؟
سألته:
ـ ماذا سأرى.
ـ سترى كيف نقتل هؤلاء الكفار، ونهدم دولهم، ونقيم الحكم بكتاب الله وسنّة رسوله وسلفه الصالحين..
ـ أنت إرهابي..؟
ـ أنا مجاهد أضع روحي على كفّي..
ـ ألا تخشى من أن أسلّمك إلى السلطة؟
ـ مأمون يعتبرك مثل خميس..
ـ خميس؟
ـ تقرأ الكتب وتناقش مسائل الدين.
لا حول ولا قوّة إلاّ بالله! اللهمّ ثبّت علينا العقل والدين.
ـ أنا لست مثل خميس أنا مخرج مسرحي.
نظر إليّ بازدراء:
ـ أنت كافر إذن!
عزمت أن أرحل. فلا يمكن أن أبقى في هذه البناية التي يتكاثر فيها الشيوخ، ولا أدري كيف تراءى أمام عيني هتلر يحرق الناس، وراسبوتين يقود النساء إلى جحره، وستالين يعمر سيبيريا بالسجناء والأبرياء، وبوش يدمّر أفغانستان والعراق، وشمعون بيريز يرقص مع نوبل في دير القمر، وشارون يحتسي الخمر في صبرا. اشتدّت رغبتي في الرحيل عن هؤلاء الذين لم يعودوا كما عرفتهم.
رحلت. كان مسكني الجديد بيتاً منعزلاً، حوله أرض خلاء، لا يبعد كثيراً عن الطريق الرئسيّة التي تحيط بالمدينة. اكتشفت بعد أيام أنّ له ميزة روحيّة غريبة؛ في شماله تقع كنيسة حديثة، وفي جنوبه مسجد قديم متهالك. علّقت آية على المكان عندما زارتني أول مرّة إنّه يصلح لمسرح في الهواء الطلق. لعلّها شعرت بما أكابده في سبيل المسرحيّة.
كانت رحلة شاقة في جمع المال، لم أظفر من الرابطة إلاّ بمبلغً قليل لا يكاد يكفي أجرة المسرح، قالوا إنّ العمل الجاد لا ينجح في جذب الناس بخلاف الأعمال الهزلية والمبتذلة، ونصحوني ألاّ أغامر في مسرحية تخالف السائد.. اصطحبت آية وذهبنا إلى بنك العروبة ذكّرنا المدير بمواقفه الإنسانية والوطنية والقومية، وشرحنا له عن مسرحنا، الذي يحمل همّ الناس، ويعبر عن وجدانهم وطموحهم، رفض مساعدتنا بأي قرش؛ لأنه لا يريد أن يتّهم بالإرهاب.
سدّت أمامنا الأبواب. لجأت آية إلى والدها المغترب، فأرسل إليها المال، وطلب منها المجيء كي تعمل عنده في الخليج، كتب لها: "يمكن أن تعملي في الصحف أو في إحدى الفضائيات الكبرى، تعالي إليّ سريعاً واحضري عمتك سأجد لها عريساً بمواصفات عصر العولمة"
لم أعجب من موقف والدها، حدثتني آية أنّه لا يقيم وزناً للقبيلة، ويرى مساعدة المرأة كي تعود إلى دورها الأول عندما كانت سيدة الأرض، فهو معجب بليليت المرأة الأسطورة التي خُلقت قبل حواء، ورفضت الرضوخ لآدم، فغضب عليها الله، وطردها من جنته إلى الأرض، وخلق من آدم حواء التي استكانت له، وبقي الصراع بين المرأتين حتّى الآن؛ فهنالك نساء راضخات للرجل وأخريات رافضات لسيادته. سألتها:
ـ أين أنت منهما.
ـ أنا حواء مع الإنسان الإنسان، وليليت مع الإنسان الظالم والمعتدي؛ لهذا أعجبت بشخصية المرأة في المسرحيّة التي ستخرجها.
اقترب عرض المسرحية.
سحرتني آية وهي تخبرني أنها كتبت عن المسرحية في مواقع الإنترنت، وأرسلت عنها للدوائر الثقافية في الصحف جميعها، ودعت السياسيّين والمثقفين لمشاهدتها. سألتني:
ـ هل ستنجح بعد هذا؟
ـ الفشل ليس في قاموسي..
ـ هذا ما يجذبني إليك.
هممت بتقبيلها، لكنّي تراجعت، خشيت أن تنبعث فيها روح أمّها الثانية.
قاعة المسرح تضجّ بالناس، كثيرون وقفوا بالممرات. التقيت آية وهي تدخل غرفة تغيير الملابس. قلت لها إنّها الأنثى الوحيدة في المسرحيّة، وهي تحمل فكرتها، وعليها يتوقف نجاح العمل.
ثم انفتح الستار.
الخرافة والمنديل
مسرحية من فصل واحد
الشخصيات:
· الغزاة
ـ القائد.
ـ مساعد القائد.
ـ الطبيب.
ـ المنجم.
· سكان القرية
ـ شيخ القرية (جارور).
ـ زعيم القرية.
ـ أبناء زعيم القرية:
ـ مهدي في السادسة.
ـ نور في الثامنة.
ـ نجم في العاشرة.
ـ مطلقة زعيم القرية وأم الأطفال الثلاثة. لا تظهر على المسرح ولكن يسمع صوتها فقط.
المشهد الأول
(في غرفة القيادة. الوقت بعيد العصر. مساعد القائد يروح ويجئ أمام مكتب فخم. بيده عصا. يبدو عليه بعض الاضطراب. يُسمع في الغرفة المجاورة صراخ القائد. يثبت المساعد في مكانه).
القائد: عجوز! لص! فاشل! اخرج من هنا. سأوصي بقطع رزقك، وإذا رأيتك ثانية سأقطع رأسك.
المساعد: (لنفسه) رابع طبيب، ولا فائدة.
(يدخل الطبيب. حقيبة في يده، والسمّاعة لمّا تزل على أذنيه)
الطبيب: غريب! غريب! ما هذا؟
المساعد: ما الأمر أيها الطبيب؟
الطبيب: قائدك المريض.
المساعد: قائدي، وقائدنا جميعاً.
الطبيب: نعم. نعم. يجب أن أكون حذراً عندما أتكلّم مع القادة المحاربين.
المساعد:كيف حاله الآن؟ هل هناك أمل في شفائه؟ هل عرفت مما يشكو؟ الجميع في غاية القلق على صحته.
الطبيب: (يضع الحقيبة على المكتب. يفتحها، يطوي السماعة فيها، ثم يلتفت إلى المساعد) لا جديد. كما قال زملائي الذين عاينوه. صحته متقلّبة: مرّة تشتدّ حرارته، وأخرى يلتهب جلده، وتفور دماؤه، ومرّة تنتفخ أطرافه. ليست صحته متقلّبة فقط بل مزاجه وعقله أيضاً: تراه حيناً هادئاً مثل ليلة صيف، وحيناً تراه هائجاً كبحر مضطرب. يتحدّث حيناً بهدوء وروية، وحيناً ينبح مثل كلب ضال. ربّما يكون مرضه التيفوئيد، أو السرطان، بل ربّما السُّعار، لا بل الإيدز.
المساعد: حالته خطيرة إذن.
الطبيب: ربّما.
المساعد: لم أفهم.
الطبيب: سأدرس الفحوصات التي تمّت جيداً، ثم أقرّر على ضوئها الخطوة التالية. قد يحتاج علاجه إلى مدّة طويلة.
المساعد: هكذا قال الأطباء الذين جاءوا قبلك.
الطبيب: طبعاً. الأطباء مثلكم تماماً، لا يستطيعون خوض الحرب مع المرض إلا بعد أن يحيطوا بكلّ الأمور: أعراض المرض، تاريخه، طريقة العلاج، احتمالات النجاح، احتمالات الفشل. الأمر ليس سهلاً كما تتصوّر، ويتصوّر قائدك الذي يجيد الصّراخ.
المساعد: سمعت صراخه. لعلك أغضبته.
الطبيب: اشتدّ عليه المرض، وتملّكته حالة الهياج. لقد أخافني. أول مرّة أحسّ بالخوف من مريض. لو رأيته أنت لمتَّ من الخوف.
المساعد: أنت تبالغ، ثم إنه لطيف معي.
الطبيب: لطيف معك! أنتما الإثنان حالة واحدة (يضحك).
المساعد: حالة واحدة!
الطبيب: نعم، كأنكما توأمان.
المساعد: ماذا تقصد؟
الطبيب: (يضحك) مجنونان ابتليت بأحدهما.
المساعد: (يضحك أيضاً) كما ترى. أحتمل ثرثرتك لأنّك في ضيافتنا.
الطبيب: (باتزان) أشكرك. أنت تعرف قيمتي بخلاف قائدك. أشكّ في أنّه يعرف قيمة أحد، بعد أن مرض.
المساعد: لم يكن يشكو من شيء قبل أن نستولي على القرية، كان مثل الحصان الجامح.
الطبيب: (يضحك) لم يتغيّر شيء. الآن صار مثل الثور الهائج.
المساعد: هل تقدر أن تقول هذا على مسمعه.
الطبيب: لا طبعاً!
المساعد: اقترحت عليه أن يغادر القرية فترة من الزمن، ثم يعود إليها، ربما يساعد هذا على شفائه، قلت لك إنّه كان صحيح الجسم قبل المجيء إلى هنا. لكنّك سخرت مني.
الطبيب: أمر محيّر. لكن لا تقل إن القرية أمرضته. هواؤها مثل نسائها رقيق شفاف، وطبيعتها خضرة دائمة، ومياهها جارية.
المساعد: صحيح. لكن لماذا ذكرت النّساء في كلامك، أيها العجوز؟
الطبيب: هل أخطأت؟
المساعد: لا، لا، حقا. النّساء هنا مثل حوريّات البحر. ليتك تراهن في طريق النبع! الجرار مائلات على رؤوسهن، وأجسادهن تتمايل في ثيابهن الطويلة المطرّزة.
الطبيب: يبدو أنّك لهوت بإحداهن.
المساعد: لا وقت للهو أيّها الطبيب.
الطبيب: معقول!؟
المساعد: نعم. أما ترى أنا مهتمون بسلامة القائد؟
الطبيب: واضح. واضح.
المساعد: القيادة العليا أيضاً تسأل عن حاله أولاً بأول. لا أدري ماذا أجيبهم عندما يسألون عنه الآن.
الطبيب: سأكتب تقريراً، وأترك لك نسخة منه.
المساعد: ماذا ستقول في التقرير؟
الطبيب: سأعترف أني عاجز أمام مرض قائدكم. لم تمرّ بي حالة مثل حالته منذ مارست الطب.
المساعد: ألا يضرّ هذا بسمعتك؟
الطبيب: قلت لك الطبّ كالحرب أيّها القائد. إذا عجز الطبيب عن تشخيص المرض فلا يعني النهاية، بل على العكس يكون بداية للنصر. سأجري المزيد من الأبحاث والتجارب حول مرضه. بالتأكيد سأصل إلى علاج.
المساعد: (برقة) إذا احتجت إلى المساعدة أو أي تسهيلات، فأنا في خدمتك.
الطبيب: مازال رأيي أنّك أصلح من قائدك المريض.
المساعد: لا تغضب منه. أرجوك. لقد كره الأطباء لكثرة ما وصفوا له من أدوية. لم يعد يثق بالطب. قبل مجيئك كان يسمع من المنجّم عن مرضه.
الطبيب: (بدهشة) منجّم!؟
المساعد: نعم منجِّم. لا تعجب من هذا.
الطبيب: يا للعار! قائد عظيم يلجأ إلى المشعوذين ونقول إنّنا ننتصر بقوة عقولنا!
المساعد: قد يلتقي العلم الخرافة، أيّها الطبيب. العلم وحده في أغلب الأحيان لا يكفي، لا بدَّ من أشياء يثق بقدرتها ويقدّسها الإنسان، ويدافع عنها، سمّها ما شئت: سحراً، ديناً، خرافة، شعوذة. لا شكّ في أنّ الإيمان بها يأتي بالمعجزات. انظر كيف اندفعنا إلى هذه القرية لتحقيق حلم. أجل حلم رجل عجوز رأى الربً في منامه يصلّي في القرية.
الطبيب: لم يكن حلماً بل حقيقة.
المساعد: صار حقيقة، عندما أصبح جزءاً من حياتنا، وتفكيرنا.
(صمت)
: ألا ترغب في معرفة ما قاله المنجّم؟
الطبيب: لا أؤمن بالمنجّمين. أؤمن بالعلم. لا حاجة لي إلى سماع ما قاله منجّمك ومنجّم قائدك. ربما، كما فهمت من كلامك، أن التنجيم ضروري لتحقيق أهدافكم؛ فأنتم تعرفون كيف توجهون بنادقكم جيداً، وكيف ترسًخون ما تؤمنون به في عقولكم وعقول رجالكم أما نحن الأطباء فرغم ثقتنا بكم، وحبنا لكم فإننا لا نتبع أسلوبكم في تحقيق أهدافنا جميعاً. نحن نساندكم بالعلم، وليس بالخرافة. ربما، في حالة واحدة فقط، إذا نجح المنجّم في علاج قائدك فسأعيد النظر في موقفي من الطبّ كلّه. سأخلع هذا المريول الأبيض، وأحمل كتاب تنجيم، وأدور أقرأ فيه على أسماع المرضى، وأكتب رقاع العلاجات لهم.
المساعد: أنت طبيب لطيف؛ فيك خفة دم وحبّ للنكتة لكنّك ـ لا تؤاخذني ـ مغرور قليلاً.
الطبيب: (بغضب يسير) لقد أهنت كثيراً في هذا اليوم. سأكتب التقرير وأنصرف.
المساعد: لا تغضب أرجوك!
الطبيب: (بسخرية) كيف أغضب وأنتم تحققون أحلام حتّى العجائز منا..!
(ينحني على الطاولة. يكتب. يدخل القائد. المساعد يؤدي التحيّة)
القائد: لم يزل هذا المعتوه هنا؟!
المساعد: (كأنّه لم يسمع) عفواً، أيّها القائد!
القائد: (بهدوء) هذا الطبيب مثل الآخرين، لا خير فيه.
المساعد: إنّه يحظى بثقة أعلى المستويات، وقد جاء بناء على طلبنا، يا سيدي.
القائد: خدعهم برأسه الكبير، وكرشه الضخم..
الطبيب: (يلتفت إليه) لن أغضب من سيادتكم، فأنا أقدّر وضعكم وتاريخكم المشرّف.
القائد: (بغضب) خذ حقيبتك وانصرف.
(يتناول الحقيبة)
الطبيب: (للمساعد) التقرير على الطاولة.
(القائد يسرع إلى التقرير، يكوّره في يده، ثم يقذفه في وجهه)
القائد: خذ تقريرك لا نحتاجه.
الطبيب: (ينحني باحترام) أتمنّى لك الشفاء، أيّها القائد العظيم.
(يخرج)
المساعد: لماذا فعلت هذا أيّها القائد؟ تعلم أنّه من أشهر أطباء الدولة.
القائد: إنّه مثل غيره من الأطباء. لم يستطع أن يعرف مرضي. هل انتهى علم هؤلاء؟ هل توقّفت عقولهم؟ كم أكره الأطباء! إنّهم لا يحسنون غير شقّ البطن وقطع الأعضاء. إنّ بسطار جندي أفضل من أجهزة الطبّ كلّها، وإنّ رصاصة تصيب الهدف تعادل علمهم جميعاً.
المساعد: (بابتسام) نحن نشبه الأطباء على كل حال.
القائد: (يخف غضبه) كيف؟
المساعد: أما ترى أنّا أزلنا من القرية كثيراً من المباني: المسجد، المدرسة، المشفى.
القائد: أمر مشروع لفرض النظام والهدوء. يبدو أنّ ضميرك يأكلك.
المساعد: ضميري مستيقظ دائماً لتأييد ما قمنا به.
القائد: إذن دعنا نفكّر في هذا المرض الذي يأكلني. كيف أتخلّص منه؟
المساعد: (بتردد) يبدو..
القائد: قل يبدو ماذا؟
المساعد: يبدو أنّه لا أمل في الوقت الحاضر.
القائد: من قال هذا؟
المساعد: الفحوصات. الأطباء.
القائد: كلّها كذب في كذب..
المساعد: إذن، ما العمل؟ هل تخفي عني شيئاً؟
القائد: الحقّ ما يقوله المنجّم.
المساعد: هل تنوي أن تعمل بوصيته!
القائد: ما رأيك أنت؟
المساعد: إنّي رهن إشارتك، أيّها القائد. لكن..
القائد: (مقاطعاً) ماذا؟
المساعد: أما تخشى أن يثير الأمر زوبعة في الداخل والخارج؟
القائد: من قال هذا؟ بل سيساعد على نشر الأمن، والسيطرة على القرية. لن يتنفس أحد لمقاومتنا. ثم إن صلاحياتي واسعة لعمل أيّ شيء يحقّق أهدافنا. أما ما يجري في الخارج، فهذا لا يعنينا. المهمّ ما يجري في داخل حدودنا..
المساعد: بل المهمّ صحتك في هذه المرحلة؛ لأنّها أهمّ من أيّ شيء آخر. عسى أن يصدق المنجّم هذه المرّة، فتبرأ من مرضك!
القائد: حتّى وإن لم أبرأ، سنحقق الهدف الآخر من الوصيّة. لن يرفع أحد رأسه في القرية إلاّ حمداً لنا وشكراً.
المساعد: يا لروعة تفانيك وتضحيتك من أجل حلمنا الكبير!
(صمت)
القائد: كما أرى ليس هنالك أيّ عقبات في تنفيذ الوصيّة.
المساعد: لا أظنّ أنّ زعيم القرية سيخالف لنا أمراً. تذكر كيف استقبلنا عند مدخل القرية هو والشيخ جارور.
القائد: منظر لا ينسى. الاثنان يتقدمان المخاتير وشيوخ القرية، الجميع بأيديهم الأعلام البيضاء، يهلّلون لنا مرحبين.
المساعد: لا أدري كيف اختارتهم القرية زعماء لها.
القائد: لتفهم أيها المساعد. الناس هنا فئتان: فئة الزعماء، وهم الذي شاهدتهم عند مجيئنا، وفئة الضعفاء: الشيوخ والأطفال والنساء، وهم مصدر الخطر علينا، أمّا الزعماء فلا يهتمّون إلاّ بمصالحهم، والحفاظ على حياتهم.
المساعد: أنت تفهم في نفوس البشر، كما تفهم في الحرب.
القائد: (متابعاً) انظر إلى زعيم القرية كيف طلق زوجته؛ لأنها اعترضت على خروجه لاستقبالنا.
المساعد: مطلقته رائعة الجمال، أعترف بهذا رغم أنّها عدوتنا الأولى.
القائد: رائعة بل قل: قبيحة، خشنة. آه لو أقبض عليها، لأقطّعها قطعة قطعة، وأرميها للكلاب. إيّاك أن تنخدع بنساء هؤلاء. قد تبتسم لك إحداهن لتطعنك بسكين. أرى في كلّ واحدة منهنّ أفعى متلفّعة في ثوب، أو عقرباً تحت عباءة. لكن لا مانع عندما تقبضها أن تعبث بها، قبل قتلها، فهذا يساعد على تحقيق أهدافنا..
المساعد: لقد تعبنا، ونحن نفتش عنها في الجبال والكهوف وفي الغابات وعلى ضفاف الأنهار. كأنّ الأرض ابتلعتها. العجيب أنّ الناس يهتفون باسمها، صارت أسطورة يتغنون بها.
القائد: إلى متى تظلّ هاربة؟ يوماً ما ستقع في قبضتنا. المهمّ الآن تنفيذ وصيّة المنجّم، ومعرفة رأي زعيم القرية.
المساعد: كما قلت لن يرفض زعيم القرية مطلبنا، لكنّي خائف أن يستغلّ الشيخ جارور الموقف لصالحه. ربما يستنهض الناس ضدنا. في الدين أفكار كافية لتأليب القرية كلّها علينا. لسنا فقط من يحسن استخدام الدين والخرافة لصالحه، بل هؤلاء أيضاً. أعني يجب ألاّ ننخدع بما يظهر لنا جارور من محبّة وطاعة. الشيوخ متقلّبون في العادة، فقد ينقلب علينا فجأة. القاعدة الصحيحة ألاّ نثق بشيخ.
القائد: فعلاً عقيدة هؤلاء الناس إذا تمكّنت من نفوسهم تقلق الأرض من تحت أقدامنا، إنّها تحثّهم على استعذاب الموت، واقتحام المخاطر. أما عقيدة الشيخ جارور فمثل الماء يتكيّف شكله حسب الإناء الذي يوضع فيه. إنّها متشكلة حسب مصالحه ومشاريعه، فلا تخف من جارور، بل يمكن استخدامه لتحقيق الكثير من أهدافنا، فإن له منزلة خاصة عند زعيم القرية، وعند جميع السكان. إنّه يأتي من الدين ما يبرر أعمالنا، ويقنع الناس بعدالة قضيتنا. ألم تر كيف أقنع كثيرين بأن يخرجوا لملاقاتنا والترحيب بنا؟
المساعد: صحيح. صحيح. إنّ له فائدة عظيمة. سأحاول معرفة رأيه في تنفيذ وصية المنجّم، وقد أصطحبه لزيارة زعيم القرية.
القائد: فكرة رائعة. يهمّنا أن يعتقد جارور أنّ منزلته عالية عندنا، وأنّا لن نستغني عن خدماته أبداً. آه لو أن الشيوخ جميعاً مثله لسيطرنا على الأرواح التي لم نستطع السيطرة عليها بالبنادق والعصي.
المساعد: يظلّ الأطفال شوكة في حلوقنا.
القائد: يا لغرابة هؤلاء الناس. أضعفهم يرفضنا ويقاومنا. نحن محظوظان أنّ القرية ليست كلّها أطفالاً. الأطفال لا يخافون على ضعفهم، هيهات. لن يقدروا علينا.
المساعد: كيف؟
القائد: لا تقل إنّ الأطفال بحاجة إلى الشيخ جارور ليقنعهم بالكف عن مقاومتنا، هؤلاء لا يخيفهم غير السلاح والرصاص.
المساعد: هل أقتلهم، يا سيدي؟
القائد: طبعاً. اقتل ما شئت منهم. لن يسألك أحد ماذا تصنع ولماذا.
المساعد: سأعمل بما قلته، أيها القائد، وأهيئ كل ما أوصى به المنجّم حتّى تشفى في أقرب وقت.
(يخرج يسدل الستار)
المشهد الثاني
(الوقت منتصف الليل. صالة واسعة. على يمينها باب خارجي. النور منطفئ. يُقرع الجرس، ثم يقرع. تُسمع حركة. يُضاء النور. يبدو في مقدّمة الصالة صالون للجلوس. خلف الصالون أربعة أسرة، ينام عليها زعيم القرية وأولاده الثلاثة: نجم ونور ومهدي. ينهض زعيم القرية من النّوم. يتجه إلى الباب الخارجي، وهو يرتدي منامته. الجرس يقرع أَيْضاً).
زعيم القرية: (وهو يغالبه النعاس) يا ساتر! من في هذا الوقت؟ مهلاً! مهلاً! إنّي قادم. الله مع الصابرين..
(يفتح الباب. يدخل مساعد القائد، وخلفه الشيخ جارور)
(ينظر إليهما باستغراب) أهلاً وسهلاً! تفضلا.
(يندفعان إلى الداخل)
الشيخ: (ينظر إلى الأطفال النائمين بدهشة) تنامون في الصالة؟!
زعيم القرية: ماذا أعمل؟ الأطفال لا يحبون الابتعاد عنّي. زاد تعلّقهم بي بعد أن طلّقت أمهم. في الليل كانوا لا يفارقوني يظلّون بجانبي حتّى يغلبهم النوم، فأحملهم واحداً واحداً إلى غرفهم. بعد لحظات يستيقظون ويرجعون إليّ قائلين إنّهم لا يقدرون على النوم وحدهم. في النهاية قررت أن ننام جميعاً هنا في الصالة.
المساعد: (بضجر) مفهوم. مفهوم.
زعيم القرية: آسف! أزعجتكم بحديث خاص. تفضّلوا إلى الصالون.
المساعد: فقط جئنا..
الشيخ: (مقاطعاً بلطف) لو يتكرم سيادتكم فنجلس لنتكلم بهدوء بعيدين عن الأطفال.
المساعد: كما تريد أيها الشيخ.
زعيم القرية: تفضّلوا (يشير بيده).
(يجلسون في الصالون)
: لقد أثرتم قلقي، ما الأمر؟
الشيخ: (بابتسام) هنالك هديّة لك أما أنا فتسلمت هديتي قبلك.
المساعد: إنّها من سيدي القائد. (يتململ ليخرج الهديّة من جيبه)
زعيم القرية: دائماً يغمرنا القائد بفضله وإحسانه.
المساعد: (يخرج كيساً من المال. يلقيه إليه) إنّه دفعة أولى، يتبعها دفعات بعدما يشفى من مرضه.
زعيم القرية: (يتحسّس الكيس بفرح) مرضه أحزننا جميعاً.
الشيخ: فعلاً. فعلاً.
زعيم القرية: أنا متفائل بشفائه، رأيته في المنام راكباً فرساً شهباء يطوف حول نبع القرية.
الشيخ: حلم خير إن شاء الله.
المساعد: في الحقيقة شفاؤه بين يديك.
زعيم القرية: (بدهشة) بين يدي!؟
المساعد: نعم، بين يديك.
زعيم القرية: كيف؟ إنّي أفتديه بعينيّ هاتين (يشير إليهما) لا بل بأولادي الثلاثة. من لنا أعزّ وأغلى من القائد!؟
المساعد: حقاً. إن شفاءه يتطلب التضحية بأحد أولادك.
زعيم القرية: (يتراجع إلى الوراء) أحد أولادي.
المساعد: ربما تعلم أنّ الأطباء عجزوا عن علاجه. أخيراً أعلمه المنجّم أنّه لكي يشفى من مرضه عليه أن..
زعيم القرية: (باضطراب) أن ماذا؟
المساعد: أن يشرب دم طفلك الصغير.
زعيم القرية: (بتعثّر) دم طفلي الصغير!
الشيخ: هكذا قال المنجّم.
(صمت)
زعيم القرية: أيّ طفل منهم؟ كلّهم صغار أكبرهم لا يتجاوز السادسة.
الشيخ: يقصد أصغرهم.
المساعد: نعم، أصغرهم.
زعيم القرية: مهدي.. دم مهدي علاج للقائد!
المساعد: هذه وصية المنجّم كما قال لك الشيخ.
زعيم القرية: (ببرود) المنجّم.
المساعد: نعم، المنجّم، كلامه من كلام الرب. لا يقول شيئاً إلاّ ويتحقّق، ولا يأمرنا بشيء إلاّ فعلناه.
زعيم القرية: أما ترى أنّه مطلب صعب، يا سيدي؟
الشيخ: صعب. لكنّه القائد.
المساعد: إنّه يساوي أطفال القرية كلّهم. ثم إنَّ عندك اثنين غيره.
الشيخ: فعلاً إنّه يساوينا جميعاً.
زعيم القرية: أمر لا يصدق أن يكون دم مهدي علاجاً للقائد.
المساعد: (بغضب) هل المنجّم يكذب؟
زعيم القرية: لا أظنّ هذا.
المساعد: (بتهديد) إذن ماذا تقصد؟
الشيخ: (بلطف) لا يقصد شيئاً، يا سيدي.
المساعد: كان يمكن أن أجيء إليك بالجنود وأجرّك وأولادك إلى القيادة. لكنّ الشيخ رجاني أن أجيئك بالحسنى. فما الذي تريده؟ دفعنا لك ديّة ابنك سلفاً، وعندما يشفى القائد نمنحك مثلها بل أضعافها. أمّا الزعامة فستبقى فيها مدى الحياة. هل يستحقّ ابنك أكثر من هذا.
الشيخ: (بتوسل) لا تغضب، يا سيدي. أرجوك.
زعيم القرية: (بهدوء) الأمر بحاجة إلى تفكير وروية، يا سيدي. لقد فاجأتني بهذا الطلب.
المساعد: (مهدّداً) الرفض ليس في مصلحتك أو مصلحة أولادك، أو حتّى مصلحة القرية.
الشيخ: (بتوسل) أرجوك، يا سيدي، أن تمهله إلى الصباح، حتّى يوطن النفس على تقبل الأمر. وتأكّد أنّ كلّ شيء سيتمّ كما تريده ويريده القائد.
المساعد: هل هذا ما تريده يا زعيم القرية؟
زعيم القرية: يكون كرماً منك.
الشيخ: اطمئن، يا سيدي. في الصباح سنكون في القيادة معنا مهدي. وسيشفى القائد، ويفرح سكان القرية جميعاً. سيحسُّ زعيم القرية بالافتخار لأنّ دماء ابنه تجري في عروق إنسان عظيم، مثل قائدكم.
(يتململ الطفل الكبير في السرير)
زعيم القرية: (ينتبه إليه) استيقظ نجم.
نجم: (يجلس في السرير) ما الأمر يا أبي؟
زعيم القرية: (بحنان) لا شيء يا ابني. الشيخ جارور ومساعد القائد في ضيافتنا. بإمكانك أن تعود إلى النوم.
نجم: طار النوم عن عيوني.
(يأتي ويجلس بينهم)
المساعد: (يقف فجأة) إذن موعدنا غدا في التاسعة.
(يخرج. صمت)
الشيخ: لا حول ولا قوة إلاّ بالله.
زعيم القرية: ماذا ترى أيها الشيخ؟ الأمر خطير.
نجم: أيّ أمر يا أبي؟
زعيم القرية: لا شيء يا ابني. يحسن بك أن تذهب إلى النوم.
نجم: سأظلُّ معكما.
(صمت)
الشيخ: (بتحسّر) والله إنّه لخطير.
زعيم القرية: بماذا تنصحني؟
الشيخ: (يعتدل في جلسته) لا شكّ في أنّك توافقني القول إنّهم قادرون على عمل أيّ شيء يحقق أهدافهم. تذكر كم قتلوا عند دخولهم القرية، وملأوا السجون بالأطفال والنساء، لا يعجزون عن شيء. كما لا تنس أنّا استقبلناهم بالورود والرياحين، فقابلونا بالاحترام والتقدير، وأغدقوا علينا الأموال، وبقيت أنت زعيم القرية، كلمتك مسموعة عند صغيرها وكبيرها. بصراحة، يا أخي، نحن الآن، أنا وأنت، مرتبطان بهم ارتباط السمك بالماء واللحاء بالشجرة.
زعيم القرية: كلامك صحيح. لا نقدر أن نقول لهم لا.
الشيخ: لا معناها أن نختفي من وجوههم، ونهرب إلى الجبال والكهوف، وإذا وقعنا في قبضتهم يكون مصيرنا القتل. بالتأكيد سيقبضون علينا. هل نقدر أن نملص منهم إلى الأبد؟ لماذا نجازف بأرواحنا ومصالحنا، ونحن نستطيع المحافظة عليها قبل فوات الأوان، والله جل جلاله يقول: "ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة" صدق الله العظيم؟ وأيّ تهلكة في مخالفة من إذا قال فعل!
(صمت. يستيقظ الطفلان الآخران، ويتسللان إلى المجلس)
زعيم القرية: كلّهم استيقظوا.
الشيخ: لماذا لا نعلمهم بالأمر؟
زعيم القرية: ليتك تفعل!
الشيخ: (يفتح ذراعيه) تعالوا، يا أحبائي.
(يقفون مترددين)
زعيم القرية: اقتربوا من عمّكم جارور. يريد أن يحدّثكم في أمر مهم.
(يحيطون به)
الشيخ: (بحنان) أعرف أنكم تحبّون والدكم كثيراً، ولا تقدرون على فراقه، أو رؤيته مريضاً أو حزيناً. كما يظهر حبّكم له في سماع كلامه، ونصائحه. أولاد طيبون حقّاً.
نجم: (بلا مبالاة) لا يوجد طفل لا يحبّ والده..
الشيخ: لكنّ والدكم قد يذهب بين لحظة وأخرى ولا يعود..
نور: نذهب معه..
الشيخ: إلى أين تذهبون؟ إلى الموت؟
نجم: الموت! أنت تخيفنا كثيراً يا عم جارور. نحن لسنا في المسجد الذي تخطب فيه.
الشيخ: افهمني، يا نجم. الله يرضى عليك. أنت تفهم أكثر ممن هم في مثل سنّك. أبوك يا ابني في خطر.
(تبدو على وجوههم علامات الخوف والدهشة)
نجم: خطر! (ثم إلى أبيه) خطر يا أبي.
زعيم القرية: مصيبة، يا نجم! مصيبة!
نجم: قل لنا، يا أبي. لا تحسبنا صغاراً. حتّى الصغار يفهمون، كما أنّا نحبّك، يا أبي.
زعيم القرية: (يجفف دميعات من عينيه) قل لهم أنت، يا شيخ جارور.
(يتّجهون بأنظارهم إلى الشيخ جارور)
الشيخ: القائد غاضب على أبيكم، وقد يقتله إذا لم يستجب لما طلب.
نجم: يقتله!
زعيم القرية: نعم، يا نجم. نعم.
نجم: لماذا لا تعطيه ما يطلب، يا أبي، وترتاح؟ هؤلاء قوم طماعون.
زعيم القرية: مطلبه صعب، يا نجم. صعب.
الشيخ: يمكن أن تفتدوا أباكم، يا نجم، وتنقذوه من حبل المشنقة، وتكونوا مثل إسماعيل عليه السلام، عندما قال له والده النبيّ إبراهيم عليه السلام: يا بني إني أرى في المنام أنّي أذبحك، فقال له أبي افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين.
نجم: نحن نفتديه بأرواحنا، يا عمّ جارور. إنّه أبونا. لكن قل لنا كيف نفتديه. هل نذهب إلى القائد، ونقول له اذبحنا بدلاً من أبينا؟ أنت يا عمّ جارور، تلف وتدور كأنّك تخاطب جماعة من الشيوخ.
الشيخ: مهدي الوحيد الذي يمكن أن ينقذ أباه.
مهدي: (بخوف) أنا!
زعيم القرية: أنت من ينقذني، يا مهدي. هكذا يريد القائد.
الشيخ: فقط سيهمّ بذبحه، كما فعل إبراهيم بولده إسماعيل ثم نأتي أنا وأبوكم ونفتديه بخروف أو حتّى بعجل سمين.
مهدي: يذبحني! أين أنت، يا أمي!؟
زعيم القرية: (بلطف) لا يمكن أن يذبح القائد طفلاً مثلك، يا مهدي. إنّما الأمر مجرد لهو ولعب. اخترعه القائد ربّما كي يعرف مقدار حبّنا له.
نور: وإذا ذبحه، يا أبي؟
زعيم القرية: ذبحه!
نجم: (يهزّ رأسه) هذا الأمر لم تفكر فيه، يا أبي.
الشيخ: يا ابني، علينا أن نطيع القائد. إذا لم نطعه عن طيب خاطر فسنطيعه غصباً عنّا. وفي هذه الحالة يقتلنا جميعاً.
(يضحك نجم بأعلى صوته)
زعيم القرية: (بغضب) ما الذي يضحكك، يا ولد؟
الشيخ: (بغضب أيضاً) أتضحك علينا؟
نجم: نعم، يا أبي. نعم يا عمّي الشيخ جارور.
زعيم القرية: ما الذي يضحكك فينا؟ وهل الموقف يحتاج إلى الضحك؟
نجم: (بهدوء) الابن في العادة يطلب الحماية من أبيه، وإذا كان يتيماً فمن شيخ الحي أو القرية. أمّا أخي الصغير فمسكين من أين له الحماية؟ منك يا أبي، أم منك، يا عم جارور؟
الشيخ: إنّها إرادة الله، يا ولدي.
زعيم القرية: لا تنسَ، يا نجم، أنّ القائد سيقتل أباك إذا لم يجب طلبه. أتحبّ أن يقتل أحد أباك؟ إذن تكون ولداً عاقاً.
مهدي: (بانفعال) سلامتك، يا أبي.
نجم: ستجدنا إن شاء الله من الصابرين (للشيخ) هذا ما تريد أن تسمعه منّا أيها الشيخ.
الشيخ: لا حول ولا قوة إلاّ بالله. بارك الله فيكم من أولادٍ صالحين!
(صمت)
نجم: (بتوسل) أرجوك، يا عمّ جارور، أن تقنع القائد أن يذبحني بدلاً من أخي مهدي.
نور: بل أنا الذي أحبُّ أن أذبح بدلاً منه.
مهدي: أمّي! أمّي! أريد أمّي!!
نجم: (يضع يده على رأسه) لا تخف يا أخي. لا تخف.
(علامات التأثر واضحة على وجه زعم القرية)
الشيخ: اذهبوا إلى النوم الآن. لا تفكروا بما قلناه الليلة. في الصباح يخلق الله ما لا تعلمون. قد يكون ما سمعتم هباءً منثوراً، كأنّه لم يكن.
زعيم القرية: أكملوا نومكم، كما قال عمّكم جارور.
ما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حالٍ إلى حال.
(يذهبون إلى فراشهم)
الشيخ: (يتنفس بعمق) الحمدُ لله هذا أمر انتهينا منه!
(صمت)
زعيم القرية: آه، يا شيخ جارور.
الشيخ: إنَّ الله مع الصابرين، أيّها الزعيم.
زعيم القرية: لا أدري ماذا ستقول أمّهم، عندما تعلم أنّي بعت ابنها للأعداء. لا شك في أنّها ستشق الثوب وتصرخ في كلّ واد وعلى رأس كلّ جبل: هل رأيتم يا ناس أباً يبيع أبناءه من أجل المال والزعامة. هي أمّ يا جارور. أمّ!
الشيخ: لتصرخ ما تشاء، لن يستمع إليها أحد. ماذا جنت على القرية بموقفها الأخير؟ شدَّد الجنود الحصار علينا، وساءت معاملتهم للسكان. أتمنّى أن يُقبض عليها، لينتهي آخر نفس للمعارضة والرفض! لا تقل أنّك ستحزن عليها.
زعيم القرية: لا أعلم أيّها الشيخ أحياناً تحدّثني النفس أنّها على حق. وفي أحيانٍ كثيرة أتمنّى لو أخنقها بيديّ هاتين؛ لأنّ من يقف في طريق سعادتي لا يستحقّ سوى الموت.
الشيخ: فعلاً. معك حقّ. والمرأة يجب ألاّ تخرج عن طوع زوجها.
زعيم القرية: ليست هي وحدها من سيطعن في أعمالنا، القرية كلّها ستتهمنا بالخيانة.
الشيخ: اطمئن. الناس هنا ينسون بسرعة. وعندما يتذكّرون يكتفون بأيّ مبررات نقدّمها لهم أو يجدونها بأنفسهم. وبمرور الزمن تصبح تلك المبررات حقائق. يوماً ما سيصفقون لك، ويمدحون بعد نظرك، سيقولون إنّك سابق العصر والزمان، وإنّك الوحيد الصالح من بينهم. أمّا منزلتك عند القائد وجماعته فسترتفع، وتظلّ زعيماً على القرية إلى الأبد، كما وعد مساعد القائد.
زعيم القرية: بعد ضياع ابني!
الشيخ: وما أدراك لعلّها مزحة.
زعيم القرية: هل صدقت الكذبة التي قلناها للأولاد؟ تعلم أن القائد مريض وعلاجه أن يمتص دم ابني، مهدي. هذا يعني أنّه سيذبحه. سيسجل التاريخ أنّي فرّطت بابني!
الشيخ: (محتجاً) أيّ تاريخ! أيّ خرافاتّ! أيّ كلام لا معنى له هذا الذي يسمونه تاريخاً!؟ ما التاريخ إلاّ سجل الحمقى تحت أسماء أبطال وفاتحين.
زعيم القرية: ما يحزّ في النفس أنّ أطفالي يحبّوني كثيراً. فضّلوا البقاء معي على الذهاب مع أمّهم. كما رأيت لا ينامون إلاّ بجوار أبيهم.
الشيخ: ليذهب أولاد الإنسان وأقاربه كلّهم في سبيل حياته ومنزلته.
زعيم القرية: يبدو أنّ الإنسان يا شيخ مسيّر تحكمه الظروف، وتتحكّم به الطبيعة الشيطانيّة. ألست معي في أنّنا نمتثل لما يطلبه الأعداء دون وعي ودون إرادة؟
الشيخ: (متضايقاً) إنّها إرادة الله. دعني أتركك لتنام. الفجر يطول مجيئه، وأنت بحاجة إلى الراحة.
زعيم القرية: كيف تنطبق جفوني؟ من أين لهذا القلب أن يهدأ؟! غداً أمسك بيد ابني، وأسلمه إلى قائد مريض، ليتلذّذ بشرب دمه أمام عينيّ!؟ ليتني متّ قبل هذا! ليت الغد يموت!
الشيخ: (لنفسه) ما هذه الأفكار الغريبة؟ إنّها تفسد ما نريده.
زعيم القرية: أسمعك تتمتم.
الشيخ: أدعو الله أن يوفقنا لما يرضاه.
زعيم القرية: يرضاه أم يرضي هؤلاء؟
الشيخ: كلّ شيء يتمّ بأمره.
(يخرج من جيبه علبة)
زعيم القرية: ماذا في هذه العلبة؟ كأنّّه قرآن.
الشيخ: بل أقراص تساعدك على النوم. (يفتح العلبة) خذ واحداً، وستنام في الحال.
زعيم القرية: أقراص النوم كلّها لن تستطيع أن تغمض عيني، وكلّ مهدئات الدنيا لن تقدر على أن تغيّب عن عقلي ما يحدث غداً.
الشيخ: (يبتسم بسخرية) أنت تبالغ، يا أخي. عيناك ستنامان، وعقلك سيغيب طويلاً وينام (يمدّ إليه) خذ. خذ.
زعيم القرية: (يتناول العلبة كلّها) يا لك من شيخ داهية!
الشيخ: أقراص مجرّبة. تناول قرصاً منها وستروح في النوم، لن تصحو إلاَّ عندما أجئ أنا فأوقظك.
زعيم القرية: (يتناول حبّة منها) أنت محتاط لكلّ شيء.
الشيخ: إنّنا نعمل للدنيا والآخرة، ونوازن بينهما. الدنيا كما اتضحت لي وربّما لك أيضاً عند هؤلاء، أمّا الجنّة ففي هذه الجبّة.
زعيم القرية: (يقف متمايلاً) أحسُّ أن القرص الذي بلعته قد ذاب قبل أن يصل إلى معدتي، وتحوّل إلى سائل ملأ عروقي، وها هو ذا يصل إلى القلب ليطوي أحزانه، ليته يصل إلى الدماغ فيطوي الحياة!
الشيخ: لا تقل هذا. فداك الأولاد جميعاً، لتسلم لأخيك جارور، الوحيد الذي يعرف قيمتك.
زعيم القرية: قل لي من أين هذه الأقراص، يا صاحبي. إنّها أقراص سريعة المفعول ـ كما قلت. كأنّي على وشك النوم.
الشيخ: إنّها من مساعد القائد، أعطاني إيّاها قبل المجيء إليك.
زعيم القرية: هذا أفضل ما عندهم لنا. إنّي على وشك السقوط، يا صاحبي.
الشيخ: (يقفان بجانب السرير) استلقِ الآن.
زعيم القرية: (باسترخاء وهو مستلقٍ) ما أحسن النوم!
الشيخ: نوماً هنيئاً، يا أخي. في الصباح أوقظك إن شاء الله.
(يطفئ النور. يخرج دون أن يغلق الباب. صمت.
يسمع صوت الأمّ يتجاوب في أرجاء الصالة)
الأمّ: أولادي أنا أمّكم. ألا تريدون رؤيتي؟ أحبّائي جئت كي أراكم.
(تسمع حركة في السرير)
: هل استيقظت، يا صغيري؟
نجم: (يتمتم) أمّي. أمّي.
الأم: نعم، يا روح أمّك.
نجم: (يجلس في السرير) أين أنت يا أمي؟
الأم: أنا هنا. ليس مهمّاً أن تراني. إنّي أراك بقلبي قبل عيني.
(تسمع حركة الطفلين الآخرين)
نور: أسمع صوت أمّي.
نجم: هي أمّنا، يا نور. أيقظ مهدي كي يسمع أمّنا.
(يستيقظ مهدي. يجلس الاثنان كل منهما في سريره)
نور: كنت أعرف أنّك لن تتخلي عنّا، يا أمّي.
مهدي: أين أمّي؟ أنا لا أراها.
الأم: يكفي أنّي أراك، يا ابني. وأنت تسمعني.
نجم: نحن بحاجة إليك، يا أمّي.
الأم: لم ترغبوا في أن تعيشوا معي فضّلتم أن تكونوا مع أبيكم، ولم أجبركم على شيء. ماذا تريدون منّي الآن؟
نجم: مازلت غاضبة علينا، يا أمّي؟
الأم: الأمّ لا تحمل بغضاً لأولادها يا ابني، ولا تحقد على أحدهم حتّى ولو كان عاقاً لها. الآن قل لي كيف حالكم.
نجم: إنّه أبي، يا أمّي. أبي.
الأم: ما له أبوك؟
نجم: في الصباح سيأخذ مهدي إلى القيادة.
الأم: كلّ الآباء عادة يرغبون في اصطحاب أبنائهم معهم. إنّها الأبوة يا نجم.
نجم: (يصرخ) سيذبحون مهدي، يا أمي.
مهدي: (بخوف) سيذبحوني يا أمي!!
الأم: (متضايقة) رحمة يا رب! لماذا تعبثون بأعصاب أمّكم؟
نجم: نحن لا نكذب، يا أمي. مهدي سيذبح في الصباح، وسيأخذه أبي بنفسه إلى القيادة.
الأم: (بسخط) ولكن لماذا؟ يا الله كيف أصدّق هذا!؟
نجم: سيشرب القائد دمه علاجاً لمرضه. هذا ما سمعته من أبي ومن الشيخ جارور.
الأم: يا ويل أمّكم!! جُنّ أبوكم هذا الذي فضّلتم البقاء في حمايته.
نجم: ما العمل، يا أمّي؟ لا وقت للوم.
الأم: لا وقت إلاّ للعمل.
(صمت)
: افهموا ما أقوله لكم، واعملوا به بسرعة وإتقان.
نجم: سنفعل ما تأمريننا به، يا أمّي.
الأم: اتجهوا نحو الباب على رؤوس أصابعكم، لا تحملوا معكم شيئاً. اتركوا الأشياء النجسة لأبيكم. احذروا أن ترتطموا بشيء، لا تغلقوا الباب عند خروجكم. تسللوا كما تفعل القطّة، سأكون في انتظاركم أمام البيت. إيّاكم والخوف فإنّه يضعفكم، وإيّاكم والاضطراب ففيه الفشل والهزيمة.
نور: إلى أين ستأخذيننا، يا أمي.
الأم: إلى حيث يجب أن نكون، يا أولادي. سأعلمكم أشياء كثيرة، ما كان لكم أن تتعلّموها لو بقيتم مع أبيكم. ستخلقون من جديد. هيّا الآن. الفجر على الأبواب. الحمد لله الذي جرى كلّ شيء في الليل، أمّا في الصباح فسيفضح أبوكم وشيطانه إن شاء الله.
نجم: تعالوا، يا إخوتي، لنلحق بأمّنا.
(يمرّون بأبيهم وهو نائم)
نور: (بهمس) أنت لست أبي، ونحن لا نعرفك.
نجم: (يدفعه) لا تنسَ ما قالته أمّي.
(يخرجون.)
المشهد الثالث
(غرفة القيادة. الوقت صباحاً. القائد خلف مكتبه. المساعد يجلس على كنبة بجانب المكتب، ينظر إلى ساعته من وقت لآخر. القائد يراقبه بسأم)
القائد: انتهى الموعد.
المساعد: لا أدري لماذا تأخّروا.
القائد: ما كان يجب أن تستجيب لتوسلات جارور، فتمهلهما حتّى الصباح، وكان عليك أن تأمر الجنود بالبقاء في المكان. أخشى أنّ في الأمر حيلة للهرب بالأطفال أو إخفائهم.
المساعد: تعهّد جارور بإقناع زعيم القرية بتقديم ابنه فداء لك عن طيب خاطر، ووعد أن يكونا هنا مع طلوع الشمس. كما أنّ الزعيم نفسه ناشدني أن أمهله إلى الصباح حتّى يتهيّأ لتنفيذ الأمر، أنا لا أظنّ أنّ هناك خدعة.
القائد: سيكون الأمر في غاية الخطورة إذا لم يحضروا.
المساعد: اطمئن يا سيّدي. لننتظر ساعة أخرى حتّى يكون غضبنا له ما يبرّره. إنّ الاثنين من أنصارنا، ولم يظهرا العداء لنا منذ دخولنا القرية.
القائد: هل تعلم أيّها المساعد؟ هنالك صوت يهمس بي ألاّ ألوم زعيم القرية إذا هرب بأولاده، لكنّي أخمد هذا الصوت بقوة. ضع نفسك في مكانه. هل تأتي بابنك طوعاً كي يقتل أمام عينيك. لا أعتقد أنّك تفعل مهما كان حبّك للمال، أو الزعامة، أو خوفك من الموت.
المساعد: سيّدي، هؤلاء القوم يحبّون الحياة، وشعارهم اللّهم نفسي. فليس هنالك شكّ في أن يأتي زعيم القرية والشيخ جارور ومعهما الطفل. ثم إنّ صحتك تساوي أطفال القرية جميعاً...(يصمت قليلاً) هل أفهم أنّك لن تنتقم منهم إذا لم يحضروا؟
القائد: هذا الأمر مفروغ منه، أيها المساعد. ليس في سبيل صحتي فقط، ولكن في سبيل مصلحتنا العليا، وأهدافنا البعيدة أيضاً. لعلَّ مشاعري نحو البيت: الزوجة والأولاد، أنستني واجبي فنظرت إلى الأمر بحيرة. لا تعجب أيّها المساعد لقد اشتقت إليهم. سأرسل في طلبهم عمّا قريب.
المساعد: اشتقت إليهم أم إليها؟
القائد: كما تشاء. إليها.
المساعد: أوصيك ألاّ تفعل..
القائد: (بدهشة) لماذا؟
المساعد: عليك أن تطمئن على صحتك أولاً..
القائد: اطمئن على صحتي!؟
المساعد: أقصد بعد تناول وصفة المنجّم.
القائد: (يبتسم) ماذا تقصد..؟
المساعد: مجيء المرأة يتطلب منك.. عفواً.. سيدي.
القائد: (يضحك) نعم. نعم. المرأة راحة الجندي بعد الحرب..
المساعد: وقبلها أيضاً. هل تتذكر المرقص الذي أمضينا فيه ساعات لا تنسى قبل التوجه إلى المعركة؟
القائد: (يبتسم) أتذكّر كيف أعجبتك تلك الفتاة، ورحت تجرّها إلى غرفة داخلية؟ كانت تتمنّع وأنت تهاجمها كالبغل.
المساعد: كم أحنّ إلى ذلك المرقص، والرقص مع تلك الفتاة! إنّها رائعة كلّ قطعة من جسمها تزهو على الأخرى.
القائد: حالما أشفى من المرض، نخرج في إجازة طويلة، ندور فيها على كلّ مراقص البلد.
المساعد: (بفرح) متى؟! متى؟!
(صمت)
القائد: (بغضب) لم يأتوا..!
المساعد: ربما كان هنالك خطأ وقعنا فيه: الثقة بالشيخ، سوء فهم نوايا زعيم القرية..
(يقطع حديثهما جلبة بالباب وصراخ)
القائد: (يقف مندهشاً) ماذا يجري؟
المساعد: (يقف أيضاً) ربما جاءوا.
القائد: ذلك الجندي غبي. ألم نأمره أن يسمح لهم بالدخول فوراً؟
المساعد: (يتقدّم نحو الباب) سأرى ما يحدث.
القائد: أسرع، أيّها المساعد. أكاد أفقد صوابي.
(يلتقي بالباب الشيخ جارور وزعيم القرية. جبة الشيخ جارور ممزّقة عند الكتف. زعيم القرية حافي القدمين، وعقاله حول رقبته. يقف المساعد مندهشاً والقائد غاضباً).
القائد: ما هذا؟
الشيخ: لا حول ولا قوة إلاّ بالله. إنّهم الجنود بالبوّابة، سيّدي.
زعيم القرية: ضربونا بقسوة.
القائد: (ينظر إليهما بسخط) أين الطفل؟
زعيم القرية: دع الشيخ جارور يكلّمك، يا سيّدي، حتّى لا تظنّني أكذب.
الشيخ: ما جرى، يا سيّدي أنه في الليل اتفقنا على المجيء إلى هنا ومعنا مهدي..
القائد: من مهدي؟
المساعد: الطفل، يا سيّدي.
القائد: هذا الاسم يزعجني (إلى زعيم القرية) ثم ماذا يا جارور القرية؟
الشيخ: تركت زعيم القرية حتّى يرتاح، وناولته أقراصاً منوّمة، ليتغلّب على قلقه وأرقه. جئت إليه في الصباح. لم نجد الأطفال في البيت. بحثنا عنهم في كلّ مكان: في فراشهم، في الحديقة، لم نعثر على أحد.
المساعد: معقول؟
القائد: هل ابتلعتهم الأرض؟
زعيم القرية: هذه الحقيقة، يا سيّدي. لا نستحق عليها هذا الاستقبال بالبوابة. ضربونا كثيراً، عندما لم يروا الطفل معنا.
القائد: أنت تكذب. لا تستحق الضرب بل القتل!
المساعد: أخفى الأولاد، وأقنع هذا الشيخ المسكين (يشير إليه) بأنّهم هربوا ولا يعرف إلى أين.
الشيخ: (بارتياح) ربما، سيّدي.
زعيم القرية: (بغضب) كيف وقد أيقظتني من النوم بنفسك؟
(يبقى الشيخ صامتاً)
المساعد: (بهدوء) لو صدّقناك فعلاً، أيّها الزعيم، فأين يمكن أن يهربوا؟
زعيم القرية: (بأسف) لا أدري..
القائد: لا يمكن أن يهربوا دون مساعدة أحد لهم.
الشيخ: ربما ساعدتهم أمّهم على الهرب. الباب كان مفتوحاً عندما جئت لأوقظ زعيم القرية. المرأة ليس مستحيلاً عليها أن تعمل أيّ شيء في سبيل أولادها. كيف إذا كانت مثل أمّهم؟
القائد: إنّها ليست المنجّم حتى تعلم الغيب..
زعيم القرية: (مقاطعاً) لا، يا سيّدي. إنّها تعلم كلّ شيء يحدث في القرية. إنّها مثل روح هائمة تحوم حول البيت، وكثيراً ما أحسُّ بأنفاسها تضطرب في الصالة أو في المطبخ عندما يمرض أحد الأولاد، أو يصيبه أذى. إنّها أمّ والأمّ تحنّ إلى أولادها وبيتها.
الشيخ: هذا صحيح. كثيراً ما حدّثني عن أمور غريبة تحدث في البيت، لا يمكن إلاّ أن تكون فعلة تلك المرأة الشرّيرة.
المساعد: لا تصدّق، أيّها القائد. إنّهما يكذبان.
القائد: (يهزّ رأسه) أساطير وخرافات لإخراجنا من القرية. (يضحك) لا يعرفان أنّا أبناء الآلهة، وأرباب ما وراء الطبيعة وخدّامها.
الشيخ: والله إنّا لصادقان.
القائد: (بتهديد) لن تنجوا من العقاب.
الشيخ: عقاب!؟
القائد: من يخالفنا مصيره القتل.
زعيم القرية: لم نخالفك أيّها القائد... تقدر أن تجمع جنودك، وتلقي القبض عليها، وتخلّص الأولاد منها.
القائد: ليس قبل أن تعدما.
الشيخ: (بخوف) لكن أنا، ما ذنبي حتى أعدم؟
زعيم القرية: (لنفسه باستياء) شيطان في ثياب شيخ!
القائد:( للشيخ) أنت الذي منعت بتوسلاتك وحركاتك مساعدي من تنفيذ الأمر، وأقنعته بالانتظار حتّى الصباح. أنت الذي نقضت عهدك بالمجيء مع زعيم القرية ومعكما الطفل.. أنت. هل أعدد جرائمك؟ (للمساعد) أحضر المنجّم حتى يشهد على إعدامهما.
المساعد: أمرك يا سيّدي. لحظات ويكون المنجّم هنا.
(يخرج)
الشيخ: (لنفسه) وتقدرون وتسخر الأقدار. كنت سأشهد على ذبح الطفل، الآن سيشهد المنجّم على ذبحي.
القائد: (يشير بيده) انصرف لتتمتم في تلك الزاوية، ومعك صاحبك الأحمق.
(يبتعدان إلى الزاوية بينما يجلس على الكرسي، ويضع رجليه على المكتب أمام وجهيهما)
الشيخ: (بتحسّر) ليتني لم أتدخل في هذا الأمر! لم أكن أظن أنّه بهذه الخطورة.
زعيم القرية: لو لم تعطني الأقراص المنوّمة لبقيت مستيقظاً، ولم يتمكن الأولاد من الهرب.
الشيخ: ما جزاء الإحسان إلاّ الإحسان. أعطيك ما يريحك، وتجازيني بما ينكّد عيشتي.
زعيم القرية: (برقة) ليتك تعطيني غيرها!
الشيخ: لا فائدة منها الآن.
زعيم القرية: إنَّ فائدتها الآن أفضل من فائدتها في أي وقت آخر.
الشيخ: لكنَّها لن تؤثر فيك.
زعيم القرية: بل تجعلني أنام نومة طويلة، فيأتوا ويحملوني إلى المشنقة، وأنا نائم لا أحسُّ بشيء.
الشيخ: لم يبق معي أقراص، ابتلعتها أنت في الليل.
زعيم القرية: أنت تضحك عليّ.
الشيخ: (يبحث في جيبه) معي أقراص مهدئة.
زعيم القرية: (بتوسل) أعطني واحداً. أرجوك. أقدامي لا تقوى على الوقوف، وقلبي يزداد نبضه، وجسمي يحترق، كأنّه في مقلاة على النار.
الشيخ: (يخرج حبة مهدئ. يناولها له بخفية) ابلعها قبل أن يراك.
(صمت. تظهر علامات السرور على وجه زعيم القرية)
: كيف الحال الآن؟ تبدو كأنّك في الجنّة.
زعيم القرية: أقراصك قوية المفعول. لماذا لا تأخذ واحداً مثلي؟
الشيخ: المؤمن لا يحتاج إلى مهدئات، لأنّّه يعرف أنّ ما يصيبه من عند الله. " الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون"
زعيم القرية: لماذا تحملها إذن؟ أمرك غريب.
الشيخ: (يضحك) لضعاف الإيمان، أمثالك.
زعيم القرية: أنا لا أصدّق ما تقول، وأكاد أجزم أنّك تناولت منها في هذا الصباح، لكن ربما لم تؤثر فيك لأنّ جسمك اعتاد على الماريجوانا والحشيش. أعرفك يا جارور. (يستعيد ما قاله بهزء) "الجنة عند هؤلاء والدين في هذه الجبّة".
الشيخ: الحقّ عليّ في أن أصاحبك.
زعيم القرية: صاحبتني في سبيل مصالحك. لولا المال لما جئت تقنعني بتسليم ابني للأعداء.
الشيخ: (بصوت عالٍ) الأعداء. يقول الأعداء!
القائد: (ينتبه إليهما لكنّه لا يسمع ما يقولان) الموت في الطريق.
الشيخ: (يخفض صوته) وأنت لولا المالُ والزعامة، لما وافقت على ذبح ابنك.
زعيم القرية: أنت أسوأ شيخ رأيته في حياتي. لولاك لما وافقت على هذا. كان واجبك أن تقوّي عزيمتي على الرفض لا على الاستسلام. لكن الكيس الفارغ لا يقف مستقيماً. إذا نجوت من الموت فأعرف كيف أنتقم منك.
الشيخ: (ببرود) لا. لو يطلقون سراحك لن تفكر في شيء غير العودة إلى مجلس القرية، واحتضان الكرسي، وعدِّ أموالك التي جمعتها بالحرام.
زعيم القرية: (بغضب) متى تعرف الحلال والحرام، يا جارور؟!
الشيخ: أعرفهما أكثر منك.
زعيم القرية: (بحقد) أتمنّى أن أراك مشنوقاً قبلي..
الشيخ: قبلك أم بعدك ما دمنا سنموت.
زعيم القرية: أريد أن أبصق في لحيتك، يا وجه المصائب!
(صمت)
الشيخ: (بضعف) لا أدري لماذا تتكلم معي بغضب. كلانا في موقف لا نحسد عليه. سنعدم بعد قليل. سنغادر هذي الحياة الفانية، ونلقى وجه الله ليس معنا غير أعمالنا. أعترفُ أنّي تفوهت كلمات نابية في حقك. لكنّ المؤمن يصفح عن أخيه: "ادفع بالتي هي أحسن" ونحن إخوة. كم فرحنا معاً، وحزنّا معاً! كنّا نختلف لنتفق، نتباعد لنتقارب. أنسيت هذا، يا رجل؟ (يمدُّ يده) أرجو أن تصافحني حتى نموت ونحن أخوان.
زعيم القرية: (يبعد يده) شيطان. قلت إنّك شيطان رجيم.
(يدخل مساعد القائد. يصمت الاثنان. ينتبه القائد)
المساعد: (يؤدي التحية) لقد وصل المنجّم، يا سيدي.
القائد: (يقف) ليدخل في الحال.
(يدخل المنجّم. المساعد يفسح له الطريق. يلقي المنجّم نظرة احتقار إلى الاثنين. يتقدّم القائد لمصافحته. يتصافحان بحرارة)
المنجم: لماذا استدعيتني، أيّها القائد؟
القائد: لأستشيرك فيما جدّ من أمور. أخفى هذا الأحمق (يشير إلى زعيم القرية) أطفاله، بالتعاون مع هذا الشيطان. لقد تعهدا أمام المساعد بإحضار الأطفال وخاصة أصغرهم إلى هنا في هذا الصباح.
المنجم: (بهدوء) إنهما صادقان ولم يخفيا الأطفال.
القائد: (بدهشة) صادقان!
المنجم: الأطفال مع أمّهم أيّها القائد.
القائد: (بدهشة) أمّهم! أين هي أمّهم؟
المنجم: اختطفتهم من البيت إلى جهة غير معلومة.
القائد: لو أخبرتنا لألقينا القبض عليها، أو منعناها من أخذهم.
المنجم: حتى لو أعلمتك، أيّها القائد فإنّ أمّهم ستنقذهم. هي روح لا يمنعها أحد من تحقيق هدفها. ثم إنّي رغبت في أن تتأكّد من إخلاص هذين (يشير إليهما) وتعرف أنّك بالمال تستطيع أن تشتري كثيرين أمثالهم.
القائد: (معاتباً) مع إيماني بكلّ ما قلت، إلاّ أنّه كان من الأفضل أن تخبرني بكلّ ما سيجري.
المنجم: (بحزم) لا أيّها القائد. نحن نسير وفق تعاليم، وليس وفق نبوءة. أحياناً تكون النبوءة في غير صالحنا، وهي في النهاية كذلك كما رأيتها في الأسفار. ماذا نعمل؟ هل نترك هذه البلاد ونرحل؟ بالطبع لا. يجب ألاّ نهتمّ بما سيكون بل بما نعمله في اللحظة الحاضرة.
القائد: (بأدب) لا نستطيع أن نخالف لك رأياً، أيها الروحاني العظيم.
المنجم: ضع الاثنين (يشير إليهما) في السجن، لا أنصح بإطلاق سراحهما الآن..
المساعد: السجن!
القائد: افعل ما قاله المنجّم.
(يؤدي التحية. يتقدّم إلى الاثنين)
المساعد: أمامي.
زعيم القرية: ماذا فعلنا حتى نعامل معاملة الحمير؟
الشيخ: ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
المساعد: اطمئنا لن يصيبكما مكروه.
(يقتربان من القائد والمنجم)
القائد: (بلطف) إلى السجن الآن. بعد أيام نطلق سراحكما.
(يخرجان ومعهما المساعد)
المنجم: حسناً فعلت. الآن تسير إلى القرية تقتل كثيراً من الأطفال والنساء والشيوخ، وتحرق الزرع والبيوت، وتطلق الإشاعات عن تلك المرأة. قل إنّها تحتضر، وأنّ زعيم القرية أرسل إليها أولادها كي تراهم. بعد أيام -كما قلت- تطلق سراح الاثنين. ستجد أنَّ سيطرتك على القرية قد أحكمت، وربما يدلك بعض الأعوان على المكان الذي فيه الأطفال. عندئذٍ تعمل ما تحلو لك، وتشفى من مرضك.
القائد: هل هذه تعاليم أم نبوءة؟
المنجم: هل نسيت؟ النبوءة قد تقول شيئاً، وأهدافنا تقول شيئاً آخر.
القائد: (يهزّ رأسه) فهمت. فهمت.
(يتجه المنجم نحو الباب، والقائد إلى جانبه)
: سأعمل بما قلته، أيّها العالم الروحاني العظيم..
المنجم: (يصافحه) لا تنسَ إنّها تعاليم..
القائد: (يهزّ يده) فعلاً إنّها تعاليم..
المنجم: الآن إلى اللقاء.
القائد: إلى اللقاء
(يخرج المنجم. يتجه القائد إلى مكتبه. يسدل الستار. النهاية)
⃰ ⃰ ⃰
تخيّلت القاعة تلتقط أنفاسها؛ فلم أسمع وأنا في غرفة جانبية إلاّ الصمت المريب، عندما أسدل الستار، وأضئ المسرح، بدأ التصفيق، بدا كأنّه لن ينتهي. اكتمل ظهوري والممثلين أمام الجمهور، لفت انتباهي في الصفوف المتقدمة سلامة وخميس، كانا يصفقان بحرارة، ثم اندفعا نحو البوابة، وغاب مأمون وعطية، فوجئت بهتافات تدوّي في القاعة وربما سمع صداها في الخارج:
ـ لا للاحتلال.
ـ لا للظلم.
ـ لا للزعماء.
ـ لا للشيوخ.
كنت أتمنّى أن يبقى التأثير في الصدور، أو على الأقل لا يتعدّى التصفيق، ثم اكتسحنى الهلع عندما سمعنا إطلاق نار في الخارج. وتبع ذلك صوت سيارة إسعاف وأصوات سيارات الشرطة. تجمّعنا في صالة داخلية واسعة، وبعضنا يحملق إلى بعض،، كنت أحسّ بالاضطراب في وجوه الممثلين ما عدا آية، نظرت إليها بدهشة. قالت:
ـ نجحت المسرحية!
ما هذا النجاح؟ نجاح وسط الرصاص وهجوم الشرطة، سمعنا مكبّرات الصوت تدعو الناس إلى التفرّق، جاء ضابط أمن يرافقه ثلّة من الشرطة، طلب برقّة أن نأتي معه حرصاً على سلامتنا. احتجّت آية:
ـ نحن لا نخاف على حياتنا..
ـ لكنّا نخاف عليكم، يا آنسة، وخاصة عندما يكون هنالك قتلى وجرحى.
في المخفر، كان الأطفال في خوف أشد من الخوف، الذي جسّداه في المسرحية. طلبت من الضابط أن يسمح للجميع بالعودة إلى بيوتهم، رفض ذلك، وقال:
ـ أثارت المسرحية عاطفة الناس نحو مقاومة الظلم، واندّس بعض مثيري الفتن، وانطلقوا يخرّبون الأرض، ويعيثون فيها الفساد. وتدخّلت الشرطة بالقنابل المسيلة للدموع حتّى تضرّر كثيرون؟
ـ ما علاقتنا نحن؟ أنتم من أطلق القنابل والرصاص.
ـ هل تريدون أن نقف مكتوفي الأيدي ونترك جمهوركم ينهب الممتلكات ويقتل الناس؟
قالت آية:
ـ لم نقترف جريمة.
ـ اقترفتم الجريمة، يا آنسة، وجريمتكم التحريض على أعمال العنف.
ـ نحن إرهابيون إذن.
ـ التهمة موجهة إليكم، مسرحيتكم أشدّ من بيانات بن لادن. على كلّ حال هنالك رئيس المخفر سوف ينظر في أمركم.
وتركنا، ثمّ عاد بعد قليل ليدعوني لمقابلة رئيس المخفر. استقبلني الرئيس بابتسام:
ـ شاهدت المسرحية. رائعة.
ـ أين المشكلة؟
ـ المشكلة في الناس، لم يعتادوا مسرحيات من هذا النوع هم يريدون مسرحية تهريج في تهريج، أو مسرحية تنفيسية لا تدفع إلى الشغب والعنف..
ـ سيعتادون على ذلك، فلا يكون هنالك مشاكل في الأعمال القادمة إن شاء الله. نحن لا نحبّ الفوضى أو الشغب.
تلقّى هاتفاً، وهو يهزّ رأسه.
ـ سأطلق سراحكم.
ـ هذا ما توقّعناه منكم، تقدير الفن والفنانين.
ـ ولكنّ المسرحيّة...
ـ أرجوك.
ـ لن يسمح بتمثيلها مرّة أخرى.
ـ سيتساءل الناس عن ذلك، وتكون بلبلة في البلد.
ـ اطمئن. الناس مشدودون إلى ما يجري في المنطقة. ولا تهمّهم المسرحية ولا الفن.
ـ سيسجل التاريخ أنّكم ضد الفن.
ـ لاتقل هذا. نحن نقدّركم كثيرا، ونحترم الفن، لكنّا لا نريد مشاكل في البلد.
ـ لم اقتنع.
ـ ستدرك أنّا على حقّ. هذا الشعب لا يفهم المسرح، كما قلت غير أنه دعوة للفوضى والشغب.
ونحن خارجان لقيت آية، قالت إنّها علمت من الشرطة أن هنالك حالات إغماء من القنابل الغازية، وهنالك جريح ليس من إطلاق الرصاص بل من التدافع في البوابة. وعلّقت عندما أعلمتها خبر المنع:
ـ عمل إرهابيّ، ويقولون إنّهم يحاربون الإرهاب.
سلامة أيوب
أمّي تقف كثيراً بالنافذة، تشهق عميقاً. أسألها، فتجيب: أحسّ بأنّي أختنق. أتوسّل إليها: علينا أن نذهب إلى الطبيب لنطمئن على صحتها؛ فصدرها عزيز علينا. تبتسم: لا أرغب في أن يعبث طبيب بصدري، الأطباء يفرحون عندما يقع الإنسان تحت أيديهم، فحوصات، ومراجعات وأدويّة. والطبّ مكلف هذه الأيام حتى في المستشفيات العامة. اتركنا من وجع الرأس. أمزح: خلّينا في وجع الصدر.
في اللقاء، الذي دعاني إليه مأمون قبل اجتماعنا الكبير لم تغب أمّي عن عيوني، ولم أفقه كثيراً ما قاله مأمون، وأنا أوافقه على ضرورة محاربة الفساد المنتشر بين الناس. انتبه إلى شرودي. أعلمته ما يحدث لأمّي، اقترح أن أعرضها على الطبيب، وأمّا المال فهو يتكفّل به.
أعطاني مأمون مئة دولار. قلت لأمّي أن نذهب إلى الطبيب، دقائق ونعود، وأمّا البنتان فنتركهما عند الجيران. تأوّهت، وهي تتمنّى رؤية أختها الوحيدة، لكن أين هي خالتي سماح؟ لم نرها منذ فترة، كأنّها في بلد آخر وبعيد.راجعنا الطبيب. قال إنّه يخشى من وجود تورّم في القصبة الهوائية، لا بدّ من فحص الصدر بالأشعة. رفضت أمّي أن نبعزق المال؛ فهي وعكة وتزول.
كان اجتماعنا الكبير في منزل عطيّة. وكنّا جالسين على البساط في غرفة الصالون. سألت عن سمير، حملق مأمون إليّ، وكأنّه يريد أن يخنقني. ربّما اقترفت جرماً. قال خميس لم نعد نراه كثيراً منذ رحيله من البيت، شعرت باختناق، والشمس قد مالت إلى الغروب، ونسائم طريّة تداعب ستارة النافذة. بدأ مأمون حديثه معرّفاً بجاسر، قال إنّه جاء ليجاهد هنا، وهو يسكن الآن في الشقة أسفل منا، ثمّ تابع كلامه: ما يجري حرب صليبيّة يشنّها أعداء الإسلام على المسلمين في أفغانستان والعراق، يريدون طمس نور الله، والله حافظ نوره. هؤلاء الأعداء يتخبّطون في كلّ مكان. انظروا كيف تستعين أمريكا بأوروبا كي تنقذها من ورطتها في أفغانستان، ثم ها هي تجيء إلى العراق للاستيلاء على نفطه وتعزيز مكانتها في العالم. ويساعدها الحكّام والزعماء، والناس لا يحرّكون ساكناً. إنّ هجومها على المنطقة وسط هذه الفوضى التي جاءت بها، وإن كان ألحق خسائر كبيرة في السكان المدنيين تكمن فرصة ذهبية في تعزيز إمكانات المقاومة, وتصليب عودها، نحن متّفقون على عدم الوقوف مكتوفي الأيدي. هذا أمر لا يحبّذه الدين. الكفر ينتشر في كلّ مكان، والفسوق حدث ولا حرج، نساؤنا يتبرجن، وشبابنا يضيعون، وأطفالنا يلقوْن في الشوارع والحاويات والخلاصة نريد أن نموت شهداء، والشهادة تتطلب وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل.
كان يتحدّث بثقة. وعيناه تجذباننا إليه. على الرغم من أنَّ لي رأياً مخالفاً لرأيه، وربما كان لخميس أيضاً، فإننا لم نجرؤ على الرّد عليه، ووافقنا على أن يكون لقاؤنا كلّ جمعة في منطقة وسط البلد، يقلنا مأمون بسيارته وكذلك عطية إلى حيث مكان التدريب، وأعلمنا أن خميس سيقوم بتدريبنا على الأسلحة الخفيفة، وعمل المتفجرات، والقنابل اليدوية، وإعداد الأحزمة الناسفة. لم نستطع أن نسأله عن أيّ شيء. عندما أنظر في عينيه أحسّ بأنّي تحت تأثير مغناطيسي، وعليّ أن أنفّذ ما يريده. لم يكن مأمون الطالب الذي عرفته في الجامعة منذ سنوات.
هالني الشحوب الذي يرتسم على وجه أمّي لم تكن كذلك قبل أسبوع، أخبرتني شروق أنّها رأت دماً في سعال أمّها. ارتجفت كأنّ أعضائي تتقطع، لم أعد أسيطر على فكري، انحسر في المستشفى، المقبرة. لعلّها أول مرّة أضغط على الأصوات وأنا أخاطبها: أمّي يجب أن نذهب إلى المستشفى. لأول مرّة منذ مرضت لم تمانع. لملمت ثيابها على جسدها وخرجنا.
في المستشفى العام. بدا الطبيب الشاب لطيفاً. سحبني جانباً. قال أمّك عليها علامات المرض الخبيث. سأكتب تحويلها إلى مستشفى السرطان. دمعت عيناي، ورأيت اخضلال عينيّ الطبيب.
في مستشفى السرطان، شعرت أنّي في ساحة معركة؛ علامات الانهزام على الجميع. في الحجرات التي على جانبي الممر الطويل مرضى برؤوس حليقة، وهياكل عظمية، مكوّمون على أسرّة بيضاء. وكان بعضهم يتنقلون على أقدامهم أو في عربات،. في عنبر النساء تذكّرت أشباح ماكبث، وأنا أرى مجموعة من المريضات يتحلقن جهاز تلفزيون معلّق على الحائط، يشاهدن أخبار الجزيرة. كانت تعرض مشاهد لمجزرة في جنين وصوراُ حيّة لأطفال مشردين، وأفواه وعيون مشدوهة من الذعر.
قرّر الأطباء أن تبقى أمّي في المستشفى لإجراء فحوصات وتحاليل، ورجحوا أن يكون ذلك المرض، وأنّهم بعد ذلك، وكأن الأمر منته عندهم، سيبدأون بجرعات الكيماوي. أحسّت أمّي بما يجري، كانت تتمتم بآيات من القرآن الكريم، وبذكر الله. أوصتني بحنان وشروق: لست خائفة على حياتي بل على البنتين.
اتصل مأمون حدّثته عمّا جرى، جاء في الحال ومعه خميس. بدا خميس حزيناً أما مأمون فكان يقف إلى جانب سرير أمّي، وهو يمسّد لحيته كمن يتأسف على شيء. قبل أن يغادرا رجاني خميس ألاّ أقلق على المال، وواساني: الحياة والموت بيد الله، وما علينا إلاّ الصبر في المصائب؛ فهي امتحان من الله، أما مأمون فعلّق كأنه يتحدّث إلى نفسه:
ـ ما كان يجب أن تنتظر حتّى تمرض، على كل مسلم ومسلمة أن يجاهد ويموت في ساحة المعركة لا على سرير في مستشفى.
لم أتبيّن ما يرمي إليه الاّ بعد ذهابهما. ألم يكن سهرها وتعبها عليّ وعلى شقيقتيّ جهاداً؟ ألم يكن تحمّل هذا المرض جهاداً؟ هل الجهاد في ساحة المعركة فقط؟ وأين هي ساحة المعركة بالنسبة إلى أمّي؟ ألسنا محكومين بظروفنا يا مأمون؟
عندما اتصل مأمون أعلمته أنّي لا أستطيع أن أذهب إلى التدريب وأن أترك أختيّ شروق وحنان وحدهما، أحسست بغضبه، ليشرب البحر. وقال سنؤجل الموعد إلى يوم أخر.
ما العمل؟ أمّي تعيش أيامها الأخيرة، كما قال الطبيب، حتّى إنّه اقترح أن تموت في بيتها، ولكن، هل بيتها أفضل من المستشفى. عندما تتألّم، عندما تصرخ، ماذا يمكن أن نفعل لها؟ شرحت له إمكاناتنا، فعدل عن رأيه. أمّا شروق وحنان فمن يعتني بهما؟ اتصلت بخالتي، تهدّج صوتها، وتسّرب إليّ نشيجها عبر الهاتف. قبل المساء وصلت. كانت زيارتها وداعاً، قالت إنّها لا تستطيع ترك أولادها في البيت، عرضت أن تصطحب شروق وحنان ليعيشا عندها. تفرّقت أسرتنا. هل كلّ ما يجري مرتبط بالمصيبة الأولى موت أبي، أم إنّ الحياة كانت في غير صالحنا؟ في الصباح الباكر رافقت خالتي وأختيّ إلى موقف الحافلة. ارتاحت أمّي عندما أخبرتها. الآن أموت وأنا مطمئنة.
يوم الجمعة. الشمس دافئة، والجو صحو، لم تكن حركة وسط المدينة. كنت في سيارة عطيّة بينما كان خميس وجاسم في سيارة مأمون. كانت سيارة مأمون في المقدّمة. مرّت ساعة، أو ربما أكثر، ونحن نسير في طريق معبّدة ضيّقة، الإسفلت زال من أماكن منها لكن حجارتها ما زالت متراصة. قال عطية: إنّها بنيت في عهد الاستعمار. بعد ذلك وجدنا أنفسنا فجأة أمام الصحراء، فدخلنا طريقاً ترابية لكنها متماسكة على جانبيها كثبان من الرمال. انتهينا بعد مدة إلى مستند صحراوي. وقف مأمون، ثم ترجلنا جميعاً، أخرج خميس خريطة، وراح ينظر فيها، أشار إلى منخفض من الأرض، سرنا نحوه، كان هنالك ردم من الحجارة، أزاح مأمون بعض الأشواك والأعشاب الجافة، بانت بئر قديمة، كانت ممتلئة بالأسلحة والذخائر، انحنى مأمون يتفحصها. قال خميس، وهو يجول بناظريه حوله:
ـ هذا المكان لا يصلح لا للتدريب ولا للاختفاء. اقترح أن ننتقل إلى مكان آخر، إلى الجبال.
أخذنا ننقل الأسلحة إلى سيارة مأمون، وغطّيناها بالخيش. ثم كتب مأمون رسالة وضعها في مغلف وتركها بباب البئر. سرنا مسافة طويلة، بدا كأنّ اليوم سيضيع في البحث عن مكان، فجأة انتهت الصحراء، ورأينا الصخور المزروعة في الأرض، ووجدنا أنفسنا في واد سحيق، أوقفنا السيارتين في الوادي، وصعدنا نستكشف المكان، عثرنا على كهفين صخريين. استقر رأينا على اختيارهما. قبل الغروب نقلنا ما نحمله من أسلحة إلى الكهفين. قال خميس:
ـ في هذه المنطقة لن يسمعنا أحد، ولن يرانا حتّى الشياطين، أو طائرات الاستطلاع.
عدت إلى البيت، ربما، في منتصف الليل، كان خاوياً. هنا كانت أمّي. هناك شروق وحنان. المكان لم يعد هو. فكّرت أن أذهب إلى المستشفى إلى أمّي، أخذني التعب ونمت، ولم أستيقظ إلاّ في الضحى، مررت بالمكتبة، تفقدت العمل، ثم ذهبت إلى المستشفى. كانت أمّي جالسة وسط السرير تتلو آيات من القرآن. في البدء لم أستطع أن أملك نفسي، دموعي سالت، خرجت.عدت. كانت أمّي منحنية على فراشها. صرخت: أمّي. اسوّدت الدنيا، لم تعد للأسئلة إجابات غير النفي والخراب، واستشعرت طعم الهزيمة، ماتت أمّي. أيّ قهر لحق بالقلب؟! أي قتل غزا الروح؟! لماذا لم أسبقها؟! لماذا أتأخّر عنها؟! أما آن لهذا الإرهاب أن يتلاشى، ينتهي، يذهب بلا رجعة؟!. أمّي ماتت. صار المكان اللامكان، وفقدت الأشياء جوهرها.
كنت على وشك الخروج لأدبّ في الأرض، فكّرت أن أذهب إلى سمير، شعرت أنه الوحيد الذي يحسّ بمصيبتي، ولم يفارقني في الأيام الماضية، لمست أن الحزن لا يفهمه إلاّ الفنان. طرق الباب، فتحته. كان مأمون. جلسنا وسط فوضى الأشياء على كرسيين حول الطاولة القديمة.
قال مأمون:
ـ ماتت الحاجة، رحمها الله! في موتها عظة لنا في أن نرى الدنيا قناعاً زائلاً، وما عند الله خير وأبقى، علينا أن ننظر إلى ما بين أيدينا. ماذا يمكن أن نعمل من أجل أن نصلح دنيانا ونكسب آخرتنا؟ ليس أمامنا والله إلاّ الجهاد في سبيل الله. ولا جهاد إلاّ في هذه الأمّة الضالة التي تنكّبت الخير، وتجافت عن الصواب والحق.
بدا متأثراً وانتهى مرشداً. كنت أستمع إليه متراخي العقل والجسم. كل ما أراه لا أراه، ليس للشيء وجود، وأنا لا شيء وسط الخراب. صحوت. قلت:
ـ أتمنى الموت!
ـ لا تقل الموت بل الشهادة، إن شاء الله.
تبعته كالمضبوع:
ـ متى؟
اقتربت شفتاه من أذني، تذكّرت ياغو في عطيل:
ـ في الحقيقة، بعد أن أكملنا التدريب على الأسلحة الخفيفة والقنابل اليدوية حان وقت تنفيذ بعض العمليات. نمي إلينا أن بعض الجماعات هنا من إخواننا المجاهدين يخطّطون للقيام بعمليات. نحن لا نريد أن يسبقنا أحد، نريد أن نكون في مقدمة المجاهدين. الوقت مناسب لتنفيذ عملية مهمة وبخاصة وأنّ الطغيان يتزايد، والكفر يتكاثر، والأعداء ينتبهون إلى ما يجري في الأمكنة المتوتّرة، فأيّ عملية تربك الوضع هنا، وتدفع الناس إلى النهوض وتحويل البلد إلى قاعدة للإسلام والمسلمين.
لماذا الحياة بعد موت أبي وأمّي، وفراق شروق وحنان. ما قيمة أن أحيا وحيداً بلا أمل، بلا هدف. الدراسة حرمت منها، الأهل حرمت منهم. المجتمع يعيش في واد وأنا في آخر، ظلم في ظلم، لمّا استقّر بي الحال في مكتبة عطية على راتب يقينا الفقر والفاقة جاء السرطان ليأخذ أمّي. ما هذي العيشة؟ ظلم. فقر. مرض. موت. توسّلت فجأة:
ـ أخي مأمون، أريد أن أموت..!
ـ شهيداً بإذن الله.
ارتأى مأمون أن تكون العملية الأولى من العمليات التي لا تتطلب الشهادة، رغب في تأجيل شهادتي، وافقته. ما دمنا نسير في طريق الجهاد والاستشهاد. ترك لي أن أقتل أيّ شخص من الأجانب، والأفضل أن يكون أمريكياً؛ لأنّ الأمريكان أصل البلاء في أمتنا الإسلاميّة، وقد أشعلوها ضدنا حرباً صليبيّة.
خطر ببالي مدير مركز المعلومات الأميركي؛ فهو شخصيّة ثقافيّة، دائم الحركة والتنقل، عرفته في إحدى زياراته للمكتبة في وسط البلد، جاء دون حراسة ليشتري كتباً، وهو يتكلّم اللغة العربية. كان الرجل دمثاً ولطيفاً. كيف سأقتله مع هذه الصفات؟ لا يهمّ فهو أمريكي، وهذا كافٍ لشطب كل ما عدا ذلك.
فكّرت في أن أطلبه على الهاتف، وأدعوه لزيارة المكتبة. هنا في حي الجامعة، وأقوم بقتله. هذه طريقة ساذجة وغبية، إذا نجحت في قتله لا أنجح في الفرار من القبض علي أو قتلي. فكّرت في قتل أحد السياح في منطقة أثرية على أطراف المدينة. سرت في طريق الفعل. خرجت من الصباح الباكر، جهّزت المسدس الكاتم الصوت وخبأته تحت الجاكيتة الطويلة. راقبت السياح، كانوا طاعنين في السن، يرتدون ملابس قصيرة رغم برودة الجو. جاءوا ـ كما حدست ـ يودّعون الحياة بمشاهدة بعض جوانب الشرق، الذي تعاديه حكوماتهم. كانت امرأة عجوز متأخرة عن فريقها، مرّرت بجانبها، تحسّست مسدسي. ارتعش عقلي. إنّها في عمر أمّي التي ماتت بل تكاد تشبهها. ما ذنبها؟ ماذا فعلت حتّى أقتلها؟ ماذا لو قتلتها؟ ننتصر في حربنا ضد أمريكا وإسرائيل؟ تعود الحقوق العربية والإسلامية؟ نبنى دولة الإسلام العالمية؟ ما هذه المهزلة؟ كم أنا حقير. جاهل. تافه! تخطّيتها إلى فريق آخر كان يلتحق بحافلتهم. لو أقتلهم جميعاً وأموت، ربما يكون أكثر بطولة وشهامة من قتل نفس مفردة، ولكن هذا اليوم سيئ. اقتربت سيّارتا شرطة من الحافلة، ومن التردد الذي غزاني؛ فانسحبت من المعركة.
أحسّ بارتياح أنّي لم أقتل أحداً هذا اليوم. تبخّر هذا الشعور عندما اتصل بي مأمون غاضباً:
ـ ماذا حدث معك؟
ـ لا شيء.
ـ كيف؟ كان الكلّ ينتظر ماذا ستعمل اليوم. ستتهم بالجبن والتردد، ويخشى أن يتحول هذا إلى التولي يوم الزحف، وفي هذه الحالة لن تنجو من العقاب.
عجبت كيف أعلم أميره بهذه السرعة. يهدّدني الآن بالقتل. هذا ما يعني اتهامه لي بالتولي يوم الزحف، لكن، أيّ زحف؟ من أعلنه؟ وأي عدو نزحف عليه!
ـ الظروف لم تكن تساعد على تنفيذ أيّ عملية تجاه المسؤولين الأميركيين والسياح الأجانب.
ـ لتقتل أي مسؤول في الدولة حتّى ولو كان موظفاً بسيطاً. المهم أن تهتز الحكومة ويتحرك المسلمون ضدها.
ـ إذا كان الأمر كذلك، ففي الغد أقضي على أحدهم إن شاء الله. ولا تكرهوا أمراً عسى أن يكون خيراً لكم..
في المكتبة رأيت رجلاً يتصفّح عناوين الكتب على أحد الرفوف. لا أعلم كيف خمّنت، أو خطر ببالي أستاذي بالجامعة. اتجهت نحوه، كان لقمان حقاً، صافحته بحرارة، سألني عن أحوالي، أجبته عن عدم عودتي إلى الجامعة، أخذتني الحياة فبعد موت أبي مرضت أمي وماتت. نخلص من ظلم المجتمع إلى مشاقّ الحياة، نتنقل من عذاب إلى آخر. سألته:
ـ ما زلت بالجامعة؟
ـ لا. فصلوني. يريدون أن يكتموا صوتي، رفضت، فقرروا أن يقتلوني جوعاً، لكنّي ما زلت قادراً على الحياة رغماً عنهم. جئت هنا أبحث إن كان هنالك كتب صدرت في الفكر الإسلامي. لم أرَ غير كتب ساذجة تدّعي معرفتها بالآخرة، وهي في الوقت نفسه لا تعلم من أمر دنياها شيئاً، فهنالك كتب في عذاب القبر، ووصف الجنة والنار، ووصف الشيطان وأتباعه، وكتب تحت العنوان لا: لا تبكِ. لا تحزن. لا تضحك. لا تفرح. هل هذا فكر إسلامي؟ أين كتب ابن رشد والطبري وابن تيمية وإخوان الصفا ونصر حامد أبي زيد وحسن حنفي وفهمي الهويدي وغيرهم.
ـ الكتب التي قلت عنها لا يطلبها الناس.
ـ لا يطلبها الناس؛ لأنها تناقش الواقع، وتبتعد عن دنيا أسماها الله سبحانه وتعالى عالم الغيب. الناس يهتمّون بالفكر الذي يمنحهم الصبر على المصائب، وهم في الحقيقة يحتاجون إلى الفكر الذي يعينهم على مواجهتها.
لا أدري، ضاع الحاجز بيني وبينه:
ـ لكنّك لم تواجه من فصلك من الجامعة..
ـ من قال؟ ما زلت أواجههم. نشرت مقالات، واشتركت في حوارات وندوات، عرضت فيها قضيتي. تصفّح الإنترنت ستقرأ كثيراً عن ذلك..
ـ هل هذا مفيد؟
كدت أقول: مت يا حمار..
ـ الطريقة المثلى أن تحارب المجتمع الذي تعيش فيه بقوانينه وقيمه العليا، ليس هنالك من حلّ آخر. إذا استخدمت العنف ـ كما يفعل إخواننا المجاهدون ـ ينتشر الظلام، ولا تعرف من أين تأتي الضربة، ولا تفهم لماذا قتل فلان، ومن قتله. تغدو فتنة، والفتنة أشد من القتل، والذكي يتجنبها، فكما قال عليّ بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ: "كن في الفتنة كابن اللّبون، لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب"
ـ لكنها قوانين وقيم ظالمة لا توصلك إلى الحق.
ـ قد يكون الأمر كذلك، لكن الخروج عليها أشدّ ضرراً من الامتثال لها. انظر ماذا فعلوا بسقراط، هذا الرجل الذي ثقّف أثينا، حكموا عليه بأن يتجرّع السمّ، وعندما عرض عليه تلاميذه أن يهربوا به من السجن رفض، فضّل أن يتجرّع السمّ على أن يخرج على قوانين أثينا. الصراعات لا تحلّ بالعنف بل بالحوار والتسامح. انظر كيف تعامل الرسول مع الصراعات في المجتمع الإسلامي عندما دخل مكة، عفا عن مفسديها وأشرارها وعبدة أصنامها، وكلّ من اشترك في قتاله وتهجيره. ليظلمني المجتمع ما شاء، فلن أكون إرهابياً مثله.
بعد انتهاء عملي تهت بالشوارع. إرهاق القدمين يريح العينين. ما إن وصلت إلى البيت حتّى نمت. صرت أتنقل في أثينا وأطرافها، انتهيت إلى فضاء واسع. تحت شجرة خروع وارفة، صُفّت ثلاثة مقاعد، السحب السوداء تتراكم في السماء، فجأة يظهر القضاة الثلاثة أحدهم امرأة، يرتدي الجميع ملابس ثقيلة، القاضيان ملتحيان والمرأة منقّبة وملفعة بعباءة، بدت كالشجرة في المقعد الأوسط، وعلى جانبيها جلس الآخران، وهما يفركان أيديهما، صرخت:
ـ أدخلوا المتّهم.
صوتها خشن كصوت مأمون. انبثق من الشجرة رجل كبير السن، ذو لحية بيضاء، حافي القدمين، يرتدي عباءة رثة تحتها معطف قديم ليس له أزرار أو حزام. كان يدفعه من الخلف حارس قصير سمين يشبه جاسم. سألت:
ـ الاسم؟
أجاب باستهانة:
ـ سقراط.
قال أحد القاضيين:
ـ هذا المتهم يستحق الإعدام؛ لأنّه كافر أفسد شباب أثينا بأفكاره الإلحاديّة.
طلبت القاضية من المتهم أن يدافع عن نفسه.
أجاب بلا اكتراث:
ـ اعدموني. أريد أن أشفى من مرض الإرهاب.
قالت القاضية:
ـ باسم أيسوكلاب، حكمنا على المتهم بتجرّع السم حتى الموت.
انزرعت نظراته الحائرة حول الشجرة. تكلّمت القاضية مع زميليها ثم اتّجهت إلى سقراط.
ـ هل من سؤال قبل أن تعدم؟
تحسس ملابسه، ثم أخرج ديكاً صغير الحجم. صاحت:
ـ ما هذا؟
ـ إنّه ديك، أرجو منكم أيها القضاة أن تقدّموه إلى أميركم ايسكولاب سداداً لدين في ذمّتي..
صاحت بالحارس:
ـ خذ الديك منه واعدمه في الحال قبل أن تمطر السماء.
لم أستيقظ إلاّ على جهاز الخلوي. كان مأمون يحثني على تنفيذ العملية: ليكن اليوم، أمامنا عملية أوسع، وسألني بلطف هذه المرة:
ـ ألا تريد الجنّة؟
أهذا سؤال يسأل لمسلم، أو حتى لصاحب كتاب أو ملّة. طبعاً أريد الجنة.. مرّ بذهني شريط حياتي، توقّف عند مدير شركة التأمين، ذلك السكّير الكافر، رحت أجمع في عقلي الصور والأفكار التي تحثني على قتله: مغازلاته النسائية. اهتماماته الكلابية، عربداته المنكرة. قتلت أستاذي لقمان، وقبرت فيلسوفه سقراط، وحتى إنّي لعنت غاندي الذي أتاح للبريطانيين أن ينفذوا المجازر في الهند، كان يمكن أن يستخدم أقل من ضحاياها في طردهم.
في الصباح ذهبت إلى شركة التأمين. لم أنتظر نزول المصعد. صعدت الدرج إلى الطابق الثاني. لم يكن أحد في المكتب، أغلقت الباب وخرجت مهرولاً، انتظرت بباب البناية. انتبهت إلى مجيء سيارة فارهة. توقفت بجانبي، تحسست المسدس. لم يترجل المدير. لابدّ أن ينتظر حتّى يفتح الباب لسيادته. استدار السائق، مدّ يده تحت إبط سيده وسحبه برفق، خرج متكئاً على كتفه. المدير متهالك والزمن هدّه. سأقتله لأثأر من ظلمه وإهانته، وأريح الآخرين منه. لن يحزن عليه أحد، ربما يتذكّره الصغير، الذي أمرني بحمله إلى الطبيب. أمّا عشيقته ذات الركبتين المنفرجتين فلن تحزن عليه. هل أتركه للزمن والله يحاسبه؟ هل قتله سيغير البلد، ويحرك الناس كما يقول مأمون ليغيّروا النظام ويقيموا حكم الخلفاء الراشدين وينتهي عصر الجاهلية الثانية؟ هل يستحق أن أقتله؟ من يرى أنّي على حقّ وهو على باطل؟ وإن كان على باطل هل يستحق القتل؟ ومن يقرر أنا أم مأمون أم..؟ يا إلهي! هذا الرجل روح بريئة، أيّ شريعة سماويّة أو غير سماويّة تبيح قتله؟ التقت عيناي بعينيه، وهو يخطو نحو البوّابة، لم يعرفني، طأطأت رأسي، ربّما خجلت من أستاذي لقمان أو سقراط. لماذا نبيح الدماء دون حقّ؟ لعنت مأمون وصحبه أجمعين. عزمت أن أذهب إلى عطيّة وأحدّثه بما عزمت عليه، وإذا أصرّ. عطيّة مسيّر من مأمون. فسأترك العمل في مكتبته. الرزق على الله، لا يمكن أن أكون قاتلاً أو مجرماً. أوقفت سيارة تاكسي لتقلني إلى مكتبة الانشراح، لفت انتباهي كثرة السيّارات القادمة من وسط البلد، سألت السائق. قال إنّه لا يعلم، ربّما أحد من الزعماء في ضيافة الوطن.
فاجأتني نفسي. تفكيري باتساع الصحراء، وزمام عقلي بين يديّ، وعواطفي في بئر مستقرة. الآن لا يستفزّني خيال الماضي، ولا وهم الحاضر. أحسّ بسعادة حتّى إنّي تذكّرت أختي شروق وحنان. تمنيت رؤيتهما. خطر ببالي أن أطير إليهما، وأبقى عند خالتي أياماً أو دهراّ، وأنسى مأمون وجماعته، وأقول وداعاً للحقد والعنف. الحمد لله لم أقتل أحداً !
في المكتبة، وجدت عطية يروح ويجيء، لم أبالِ بهمه، قلت بانفعال:
ـ ما كان لمأمون أن يطلب منّي قتل أناس أبرياء..
قطع حبل تفكيره وتوقف:
ـ هل طلب منك أن..؟
ـ أمرني أن أقتل أيّ أميركي أو أجنبي أو حتّى مسؤول في الدولة..
ـ عليك أن تنفّذ.
ـ وإن لم أفعل؟
ـ لا أدري، ستكون في خطر. أنا..
ـ تخفي عني؟
ـ طلب مني تفجير سينما نواعم، وضعت القنبلة في وسط القاعة، وضبطتها لتنفجر بعد نصف ساعة. مرّ أكثر من ساعة، لم نسمع الانفجار.
ـ ما فعلته فظيع!
ـ هل تصدّق؟ أتمنى ألاّ تنفجر. لماذا نفعل هذا؟ هل ستنتهي الأفلام العارية بعملنا؟ هل تحوّل الجهاد إلى مراقبة الفسق والخلاعة، وتفجير دور السينما؟
ـ لا أدري، كيف لم نجرؤ على مصارحة مأمون وخميس! نحن جبناء، يا صديقي..
رنّ هاتفه الخلوي، انزوى بعيداً، ثم عاد وهو يغلقه. قال:
ـ مأمون يشكرني على ما فعلت. لم يزد. ترى كم عدد القتلى والجرحى من الكفّار كما نصفهم.
رنّ الهاتف الأرضيّ هذه المرّة، كان بقربي، ناولته السماعة. كانت زوجته على الطرف الآخر كما يبدو. صرخ بعد لحظات: ابني يذهب إلى السينما! ثم تخانقت كلماته، وسقط على الأرض. أسرعت، وضعت مسدسي خلف أحد الملفات في الخزانة، التي في صدر المكتب، ناديت اثنين من الموظفين ليساعداني على نقله إلى سيارته، كانت زوجته على الخط، أبلغتها أنّه أغمي عليه، ونحاول نقله إلى المستشفى، انطلق الصراخ في الهاتف. مسكينة! ربما صارت في مصيبتين.
وصلنا إلى المستشفى العام. أناس كثيرون متجمّعون بباب الطوارئ. عمّ الصمت، وحملقت الأعين إلى باب السيارة، تعاونت مع ممرض على سحب عطيّة إلى عربة الإسعاف، تنفّس بعض الناس الصعداء، فالقادم ليس من ضحايا السينما. أدخل بسرعة غرفة العناية المركّزة، أكّد الأطباء إصابته بجلطة دماغية حادّة، جاءت زوجته وابنتاه، استمّرت الأمّ في البكاء والعويل، خشيت أن تقع مصيبة أخرى، فرجوت البنتين أن يعودا بأمّهما إلى البيت. لم أنجح في توسلاتي إلاّ بعد الغروب، فاصطحبتهن بسيّارة عطيّة إلى البيت، وفي الطريق تأكّدت من البنتين أنَّ أخاهما علاء قتل في تفجير السينما، ووضعت جثته في ثلاجة المستشفى مع الآخرين في انتظار ما يقوله الطب الشرعي. تأوّهت أمّهما:
ـ يا الله! الولد وأبوه في نفس المستشفى!
تركتهما في السيارة، وخرجت على غير هدى. فتحت الخلوي. انثالت رسائل كثيرة كلّها من مأمون. يحوقل فيها ويبسمل ويسترجع ويهلهل. يريد أن يعرف عن العملية التي قمت بها. لم يحدث شيء يا مأمون ولن يحدث أمّي ماتت قتلت بالسرطان عطيّة الله أعلم هل إلى الجنة ربّما لا أظنّ سمير أذكانا لم يتلوث بدماء السينما عطيّة لماذا لم تسألني عنه إنّه يرقد هنا بجانب ابنه أنت أمير مأمون أمير هه هه أيّ خليفة أمّرك عمر بن الخطاب لم يزل يبحث عن خالد بن الوليد أمّي لن تقوم من نومها وحنان وشروق في الأحلام لماذا لم نقتل صاحب نوبل. نجا نوبل الأول بيغن. لماذا ينجو شمعون بيريز اسمع أنت لست مأمون أنت إرهابيّ مثل عطيّة مثل السرطان مثل أنا أريد أن أموت يا ربّ خذني إليك.
كانت ساعتي تشير إلى الثانية عشرة، قدماي تحملاني دون وعي. القمر يرسل نوره. نسيمات الليل عذبة، وحركة الناس شبه معدومة، لا أدري كيف خطر بعقلي أن التقي سمير، مرت أيام دون أن أراه، فكّرت أن أزوره، قبل هذي اللحظة لم أر روحه مرحة، ورؤاه مستحبّة، وكلامه عذباً. وصلت إلى الحيّ الذي يقيم فيه. جئته أول مرّة من الجنوب حيث المسجد، أما اليوم فأجيئه من الشمال حيث الكنيسة. كانت المنطقة هادئة، الأضواء في الطريق الرئيسة خافتة، كثيرة، تمنح الإنسان الإيمان والطمأنينة، وتوقد في نفسه الخوف. سمعت حركة خلف سور المسجد. تقدّمت. هنالك كلام. اثنان يتجادلان، وصوت طفل يبكي. أريد أن أذهب إلى البيت. تحسّست المسدس. آه لو أنّه معي! لكني اندفعت بجرأة، وكنت بينهم:
ـ ما جمعكم في نصّ الليل؟
قال الشيخ:
ـ الخير، يا ابني، الخير، إن شاء الله.
بينما قال الخوري:
ـ من أنت وما تريد؟
ـ أنا من البحث الجنائي. وستعرف ذلك في المخفر.
قال الشيخ بلهجة رخوة:
ـ يا ابني توكّل على الله، ليس في الأمر ريبة، كلّ ما هنالك أنّا كنا في ضوء القمر نتباحث في أمر الصراع الديني، ونحاول أن نجد فيه رأياً، نفيد به أتباع ديننا..
ـ في نصّ الليل، يا شيخ. وما دخل هذا الطفل في الصراع الديني؟
قال الطفل، وهو ينشج:
ـ أنا يا عمّو هربت من والدي، وجدت أبواب الكنيسة مفتوحة، فقلت أنام فيها حتى الصبح،رآني أبونا الخوري فركض خلفي، فاتجّهت لأحتمي في المسجد، لاقاني الشيخ ووقف أمام الخوري، الحقّ أن نيتهما عاطلة، يا عمّو..
ـ تعال معي. رجال دين آخر زمن!
سحبت الطفل من يده وتركتهما واقفين في ظلال المسجد، حمدت الله أن المسدس لم يكن معي، ربما جعلت دماءهما تلطّخ سور المسجد وجدرانه.
كان الطفل يتلفت وراءه من وقت لآخر، لكنّه بدأ يهدأ شيئاً فشيئاً، واسترجع أنفاسه وانتبه إليّ. قلت في نفسي: لماذا لا يخافني، وأنا لحيتي مثل لحيّة ذلك الشيخ وذلك الخوري. سأتخلّص منها يوماً.. فاجأني:
ـ عمّو شو صراع ديني..
ـ صراع ديني يعني أن هناك اثنين مختلفين في الدين، ويرى كلّ منهما دينه هو الأفضل والأصح، مثل الخوري والشيخ، فيتقاتلان دفاعاً عن رأيهما.
ـ ربنا لا يحبّ الصراع الديني. صحيح عمّو..
ـ صحيح. أنت في أيّ صف.
ـ أنا درست الصف الأول، وخرجت من المدرسة لأساعد أهلي.
ـ ماذا يعمل أبوك..؟
ـ كان يعمل في البلديّة ثم تقاعد.
ـ وأنت كيف تساعده؟
ـ أعمل في دكان بقالة على رأس الشارع. عندما أرى الطلاب ذاهبين إلى المدرسة أحنّ إلى الدراسة.
تذكّرت حنان وشروق، تمنيّت أن أكون معهما، وتحسّرت أن والديّ لم ينجبا لي أخاً، مثل هذا الصبيّ. ثمّ حمدت الله أنّي لم أرزق حتّى لا يتعذّب مثلي. انتبهت. من هنا بيتنا، يا عمّو. سرنا في زقاق ضيّق. بيوت من اللبن مسقوفة بالزينكو وقطع متنوّعة من الصفائح التنكيّة، ذكّرتني بباب بيتنا، جفلت على طقطقة الزينكو. كانت قطّة تطارد فأراً على ضوء القمر، رأيتها تمسك به، ثم راحت تداعبه قبل أن تأكله. ابتسمت. حتّى القطط تمارس الإرهاب. صحوت:
ـ عمّو هذا بيتنا.
وقفنا أمام بيت يشبه صندوق كبير من الزينكو وقطع التنك الملونة. قلت:
ـ الآن، يخرج إلينا أبوك، عليك أن تسرع فتقبّل يده وتتأسف،ولا تكرّر الهروب من البيت. أنت ولد ذكيّ، والذكيّ يطيع والديه. وطاعة الوالدين رضى من الله، يا ابني.
ـ هل ستخبرهم عن عمل الشيخ والخوري. أرجوك يا عمّو لا تفعل.
ـ اطمئن يا ابني. اطمئن.
خرج إليّ عجوز منحني الظهر، ومن خلفه برزت امرأته، وهي تحمد الله أن يوسف عاد لها سالماً. هو الوحيد الباقي لنا في الحياة. هي ساعة شيطان، يا ابني، حين طردناه من البيت.
نهرها العجوز:
ـ اسكتي، يا امرأة.
اتّجهت إلى بيت سمير، لم أجده، ولم أر سيارته التي حصل عليها بمساعدة والده. أيقنت أنّه بقضي الليلة في مكان ما، أو ربما، أستغفر الله، في مرقص. انفلت الرجل بعد تركه عصابتنا الإرهابيّة. تركت له ورقة كتبتها على ضوء المصباح الشاحب، الذي بالباب: "عندما أحتاج إليك لا أجدك أيّها المخرج المغرور!"
قبيل الفجر، وصلت إلى البيت، وقد هدّني المشي. تذكّرت أمي، بكيت. فتحت التلفاز. كانت نشرة الأخبار بادئة قبل مجيئي. أخبر مقدّم النشرة أنّه سيقدّم مشاهد من المجزرة. جثث مترامية بين المقاعد، ودماء تلطّخ المكان، أطراف ورؤوس في كل موضع، ثم ظهر ليعلن عن اكتفائه بهذه المشاهد، ثم تابعت زميلته تقديم نشرة الأخبار قائلة: وفي أفغانستان دمّرت القوات الأمريكية قرية على سكانها تدميراً كاملاً، وانتقد كرزاي بعنف وقوع المجزرة. ورافق الخبر مشاهد من بيوت مهدّمة، ورجال يحاولون إخراج الجثث من بين الأنقاض، وانتهت النشرة بخبر عن قتل ناشطين من كتائب القسّام، كما دمّرت القوات الإسرائيلية بيتين في قرية بيت حانون على أصحابها، وعرضت مشاهد للبيت، وصورة طفلة تبكي، وثلاجة في المستشفى تطل من أدراجها جثتا الشهيدين. ما هذا العالم؟! إرهاب في إرهاب! أغلقت التلفزيون، وضربت رأسي بالفراش.
مأمون عبد الحكيم
في ذلك اليوم الأبيض كان الفرح سيّد مشاعري. الشاشات الفضائيّة ملطّخة باللون الأحمر. الفسق والخلاعة والفجور ضربت في أمعائها. وصراخ المسؤولين يعلو: التكفيريّون ينسفون سينما. الإرهابيّون يسفكون الدماء البريئة.
لا شكّ أنّ الأمير يشاركني الفرحة الآن، لكن. عطيّة. لم أكن أتوقّع ما جرى له، كيف ينهار بمجرد أنّ ابنه توفّي، يعلم علم اليقين أنّ ابنه عاص، ومن عصى الله ينل عقابه في الدنيا والآخرة، لا ذنب له فيما حصل لابنه، ما ذنب نوح عندما أخذ الطوفان ابنه وزوجته؟
عطيّة نجح في عمليته، إن مات فهو شهيد، ستزفّه الملائكة إلى جنّات الخلد، أما سلامة فأمره عجب في عجب، ما زال يراقب فريسته، لم تعد روحه كما كانت قبل وفاة أمّه، لا بدّ من شحذ همّته حتّى يبدأ بالجهاد، متى بدأ تسلك طريقه الجهاديّة، في النهاية تتكلل بالظفر؛ فطابور الشهادة طويل، كلّنا مصطفّون فيه.
تركت خميس في الفراش يعاني من أنفلونزا حادة، أصبح يمرض كثيراً هذه الأيام، كأنّ لدينا وقتاً للمرض. خرجت إلى المستشفى الخاص، لم أجد أحداً في زيارة عطيّة. كان ملقى في غرفة العناية المركّزة مغمض العينين، أجهزة وأنابيب كثيرة تنطلق من أنفه ويديه وصدره. ابتسامته تخترق شفتيه، كأنّه سعيد بما جرى، تخيّلته طائراً أخضر يحلّق فوق الحقول والوديان، ثمّ يقع على نهر الكوثر يداعب الماء، ثم يواصل الطيران، وبين براثنه قنبلة كتلك التي وضعت في السينما.
جاء سمير، ليتني لم أره! كانت برفقته آية! لعنت من سمّاها بهذا الاسم الذي لا تستحقّه، ذكّرتني بشعرها الشيطانيّ، ولباسها الأمريكاني، وحراكها البهلواني براقصات الباليه، اللواتي كنت أشاهدهنّ على القنوات الفضائية أيام الضلال. وقف بجانبي، أدام النظر إلى عطيّة، لامس جبينه الحاجز الزجاجي. شعرت أنّه يبكي. هكذا رجال الفن ينحنون لأيّ انفعال.قلت:
ـ الرجال لا يبكون.
أجاب وهو يفرك عينيه:
ـ بل يبكون يا شيخ، حتّى الأنبياء يبكون. الرسول بكى ابنه إبراهيم، ويعقوب بكى ابنه يوسف حتّى ابيضّت عيناه..
ـ صحيح، لكنّ أبناءهم لم يكونوا عصاة.
ـ حرام عليك يا شيخ! شاب مراهق ذهب إلى السينما صار عاصياً؟ ألم تكن تذهب إلى السينما وأنت في عمره؟
حاولت آية أن تتكلم فنهرتها: حين يتكلّم لرجال تخرس النساء. فاتجهتْ نحو الحاجز الزجاجي، وهي تتمتم، لا شكّ كانت تشتمني. تمالكت نفسي. لو أنّا لسنا في مستشفى، وأمام غرفة إنعاش ربّما ضربتها. وجعلتها كعطيّة. للأسف يعتبرونها امرأة، وهي لا تحمل من الأنثى غير ملابسها.
دخل سلامة ذابل العينين، مصفّر الوجه، لاحظت ارتعاشة في يده، وهو يصافحني. كدت أشكّ في أنّه سلامة. نظر إلى عطيّة، وتأوّه:
ـ مسكين!
قلت:
ـ نحن المساكين. هو في حلم لذيذ.
ابتسم بسخرية أغاظتني:
ـ حلم لذيذ، وهو يموت؟!
جاءت ممرضة، دخلت الغرفة، سألها سمير عن حالته، أجابت:
ـ ما زال وضعه حرجاً.
غادر سمير وآية المكان. بقيت وسلامة وحدنا، عاتبته على عدم اتصاله بي، وسألته أن يعجّل في تنفيذ العملية. ارتخت شفتاه وشرد بعينيه، وربما بعقله:
ـ الوقت كما ترى غير ملائم، وعمليات من هذا النوع تحتاج إلى إعادة نظر.
ـ ماذا تقصد؟
ـ الحكومة متنبهة الآن بعد حادثة السينما، حواجز كثيرة وتفتيش على المشبوهين. والحقيقة أني لا أرى فائدة من قتل المدنيين؛ فهذا ليس من الدين في شيء، ما ذنب مدير شركة أو مسؤول إغاثة، أو موظف حتى نقتله بدم بارد؟
ـ إنهم كفار ويحلّ قتلهم.
ـ من جعل لنا الحق في تصنيف الناس؛ هذا مؤمن وهذا كافر، ولا يعلم ما في القلوب إلاّ الله.
ـ أفكارك غريبة هذا اليوم، ماذا يقول الشرع والدين في أصحاب الخمارات ودور السينما والنساء المتبرجات وباعة أفلام الخلاعة والفجور. أليسوا من المفسدين في الأرض، ويحقّ قتلهم؟ انتهينا من النقاش في مثل هذه المسائل، واتفقنا على العمل على تغيير الواقع الفاسد.
ـ نحن نسير في طريق مظلم، إذا بدأنا القتل فلن يتوقف سيل الدم، ولا يبقى أحد منا على قيد الحياة، ونفنى عن بكرة أبينا.
ـ ألا تعلم أنّك تخرج من سلك المجاهدين؟
ـ ليس هناك من عدو أقاتله، فأنا لست في العراق أو فلسطين، والناس هنا أبرياء، لا يحقّ قتالهم، وسفك دمائهم.
هدّدته:
ـ ما تقوله لا تدرك خطورته.
لم يأخذني كلام سلامة بعيداً، فالرجل لا شكّ يسيطر عليه الموت، وربّما لم أكن موفّقاً في الحديث إليه عن الجهاد في المستشفى، وإن انتابتني الشكوك في أنّ عطية أبلغه بعملية السينما؛ فالاثنان على اتصال دائماً، إن فعل هذا عطية فقد ارتكب خطأ فادحاً، يهدّد عملنا في الصميم، عليّ تدارك الأمر، ومعرفة أسرار سلامة، وما الذي يريده في النهاية.
في البيت، حدّثت خميس عن سلامة، وأظهرت مخاوفي منه:
ـ لم يعد سلامة الذي نعرفه، بدا كمن يخفي شيئاً أو يخاف من شيء، يظنّ أنّا وراء حادثة السينما.
رفع رأسه عن الوسادة، وحملق إليّ، ثمّ هزّ رأسه، سألته سر هذه الحملقة، فجلس في فراشه، وقال:
ـ تقول كأنّه يظن ذلك. هل يعقل أنّه لا يعرف أنّ العملية من تدبيرنا؟ على كلّ حال، لن نقّر له بذلك؛ ليظلّ متردداً، ولا يملك اليقين عن شيء.
الوقت غير مناسب لخلاف جديد، يكفي سلامة في هذه المرحلة. قلت:
ـ أرى أن تتصل به، وتحاول إعادته إلينا، نحن لا نحتمل أن نخسره بعد أن خسرنا عطية؛ فكما يؤكّد الأطباء حالته ميؤوس منها.. أغره بالمال، أو هدّده إن اقتضى الأمر.
ـ سأفعل في القريب. ادع لي بالتوفيق.
ظلّ كلّما أسأله عن سلامة يخبرني أنّه لم يره. كأنّ الأرض ابتلعته، وتتكرّر إجاباته: ترك العمل في المكتبة، لا يعرف عنه زملاؤه شيئاً، ذهب إلى بيته، وجده مقفلاً، قال الجيران إنّه باع البيت، وخرج لا أحد يعلم إلى أين، وحدّث أحد جيرانه إنّه ارتحل إلى جنوب البلاد ليقيم عند خالته مع شقيقتيه.
غطّت أحداث العراق على غياب سلامة، الفوضى تغدو وتروح في هذا البلد، أحلام تتبدد بطرد الاحتلال الأمريكي، المجتمع منقسم على نفسه، الكلّ يعادي الكلّ، لا يعرف أحدهم من أين تأتيه الضربة، السجون تمتلئ، والوضع في صالح الأمريكي، أنباء كثيرة عن تدمير بيوت على ساكنيها في ديالي والرمادي والفالوجة، وجنود أمريكيين يغتصبون النساء، فضائح سجن أبي غريب، تعرّي الديمقراطية، وتكشف زيف الاحتلال وأعوانه.
تذكّرت أمي وشقيقتي، ماذا يفعلان الآن؟ أنباء تتوارد عن نزوح كثير من السكان إلى الحدود مع العراق، وغارات أمريكيّة تلاحق الهاربين. من أين أحصل على أخبارهما؟ لو أنّهما على قيد الحياة لاتصلت بي أمّي، ربما قتلتا مع الآلاف الذين قتلوا. ماذا لو اتصلت بأبي وسألته، إنّه القاضي المتنفذ، وعنده اتصالاته مع الحكومة والأمريكان وحلف الناتو. والدي لا يعبأ بأحد سيقفل الخطّ بوجهي. لماذا القلق وأمّي وأختي لو قتلتا فقد نالتا الشهادة. لو أنّي في بغداد لأشرت عليهما أن يتزنّرا الحزام الناسف، ويذهبا إلى الجنّة، وهما يجرّان بعض الكفار إلى جهنم. خسارة أن يموت الإنسان دون أن يصطحب معه بعض المجرمين واللصوص.
اندفعت للاتصال بأبي، على الطرف الآخر صوت امرأة ليست امرأته، ردّت: عطوفته غير موجود، أعلمتها أنّي ابنه وأريد أن أكلّمه في أمر مهم. قالت انتظر على الخطّ. تكذب هذه الأنثى، هدر صوته:
ـ ما زلت حياً، يا مأمون.
ـ نعم حيّ أرزق من الله سبحانه. أريد أن أسأل عن أمّي وأختي، إن كان هنالك أخبار عنهما.
ـ أنا قلق أكثر منك. اتصلت بسفارتنا في بغداد، وهي جادة في البحث عنهما، حالما تتوافر معلومات سأخبرك، اطمئن والدك ليس قاسياً كما تظن.
خاطبته في نفسي: "لا أدري لماذا هجرتها إن لم تكن قاسياً، من أين جاءتك الرحمة، يا أبي؟ لعلّها جزء من مركزك، لا بدّ أن تعرف ما يجري لابنتك وزوجتك، إنها سمعتك التي لا تتخلّى عنها، على كلّ حال سنظلّ جزءاً من حياتك، لن تنفكّ عنا ما دمنا على قيد الحياة: ستتبع خطواتنا، تحيك المؤامرات علينا، تقتلنا، نعرفك، يا أبي، تريد أن تجمع الخيوط كلّها بيدك، الخيوط التي تكبّلنا، لكن، هيهات، انطلق المارد من القمقم، ولن يعود إليه!
لم تفاجئني وفاة عطيّة، قرأت نعيه في صحيفة الحقّ اليومية. اشتركت في تشييع الجنازة، لم أرَ أحداً من معارفي، حتّى سمير لم أره، وخميس لم يكن في المدينة، كان يسعى ـ على حدّ علمي ـ في معرفة ما يجري لسلامة. يا للعجب، دفن عطيّة بالقرب من ابنه. شهيد بجوار عاص!
صعدت الدرج، قبل أن أفتح الباب، صحوت وانتبهت خلفي، كان الأمير. يا ساتر! كيف جاء إلى هنا؟ متى كان يسير خلفي؟ كيف لم أره؟ ماذا يريد في هذا الوقت، الأخبار تصل إليه باستمرار عن طريق البئر المهجورة؟ لا شكّ هنالك أوامر جديدة وراء حضوره.
جلسنا في غرفة الاستقبال. قال:
ـ عملية السينما موفّقة، استفزّت أجهزة الدولة، ونبّهت الناس إلى مخاطر ذهاب أبنائهم إلى أوكار الرذيلة، قلّ رواد السينمات كثيراً. نريد عمليات مثلها في القريب.
ـ إن شاء الله ولكن..
ـ خير؟
ـ نعاني من بعض المشاكل: عطيّة ـ كما تعرف ـ استشهد، سلامة انهار بعد موت أمّه، وما جرى لصديقه عطيّة، وخميس ـ كما تعرف ـ لم يقتنع بعد بجدوى مثل هذه العمليات على مؤسسات الحكومة. لم يبق غير جاسم وزوجته، وهما الآن تحت الإعداد لعمليتين ستهزان الدولة، وتقوّضان أركانها.
ـ خليتكم في طور التلاشي، لا بدّ من تطعيمها بعناصر أخرى، سلامة لا بدّ له من حل؛ إذا حاول أن يترك المجموعة فيجب ذبحه، أتسمع؟! ربما يشكّل خطراً علينا، أما خميس فيجب الاستغناء عنه، فهو يميل إلى جماعة إسلامية معتدلة، وهذا قد يجرّ علينا المتاعب، وربما الاصطدام به.
بعد ذهابه رحت أحلل الواقع: عطيّة رحل، سلامة لن يعود كما كان، يجب ذبحه، خميس صار عبئاً علينا ومصدر قلق يجب طرده، جاسم وزوجته سيرحلان في عمليتين استشهاديتين، لن يبقى أحد غيري، بعدما أنتهي من تصفية حسابي مع سلامة وخميس، وحتى سمير وآية يجب أن أنضم إلى خلية أخرى، لماذا لا أكون أميراً على المنطقة كلّها؟ إذا حدث هذا سأجعل الأرض تغلي تحت أقدام الكفار. سيقترب اليوم الذي تتحقق فيه أحلام الصالحين بانتصار الإسلام على غيره من أصحاب الشرك، وعبدة الطواغيت.
قطع أحلامي مجيء سمير، كان مغبر الوجه، جلس دون أن يتكلم. سألته عن سلامة، تنفس بعمق:
ـ سلامة لا وجود له. بحثت عنه في كلّ مكان وصلت إلى الجنوب، لم أجده في بيت شقيقته، إنّها لا تعرف عنه شيئاً، وكذلك ابنتاه، جاء أول مرّة، وقدّم لخالته مبلغاً من المال، ربّما هو ثمن البيت، الله أعلم أين ذهب: إلى العراق، أم إلى لبنان، أم إلى مستشفى المجانين؛ بدا مذهولاً لما جرى لعطية.
الوقت ضحى، نزلت الدرج إلى شقة جاسم، طرقت الباب. سمعت وقع أقدام منتظمة، تحّول الوقع إلى حركة ناعمة، انقطعت عند العين السحرية. ثمّ انشق الباب، أطلّت عافية، لمحت من النظرة الأولى عينيها الواسعتين، شعرها الأسود المنسدل على صدرها، ذراعيها العاريتين، أيقنت أنّها انسلت من الفراش إلى الباب، تراجعت:
ـ جئت أسأل عن جاسم.
فتحت الباب، تخطّت العتبة، أمسكت بطوق قميصي:
ـ تفضل!
أبعدت يدها برقّة:
ـ أحضر في وقت آخر.
أسرعت أقفز عن الدرجات إلى غرفتي، جسمي يرتعش حتّى لحيتي شعرت باهتزازها. دخلت الفراش، وأنا أحمد الله وأستغفره وأعوذ به من الشيطان الرجيم. رحت دون وعي أستعيد التماع عينيها، ارتجافة جسدها، تفاعلات الجسد عندما لمستني، هذي المجاهدة كيف ستلقى ربها، اللهم اغفر لها، وارحمنا، يا أرحم الراحمين! تواصل ارتعاش الجسد. لا بدّ من أن أتزوج لأحمي نفسي من المرأة، لو كنت متزوجاً لا تقترب مني لا عافية ولا صافية، ولأفرغت الشحنات الزائدة حيث يجب. راحت عافية تلتصق بي، وأنا أستعيد ما حدث، انفجر توتري، ثم استقرّ، وأنا ألعن الشيطان.
صليت العشاء في المسجد، مررّت بشقة جاسم، كان في البيت، فتح الباب ودخلت، كنت أحسّ بحركة عافية في المطبخ. حاولت أن أنسى ما جرى وأفكر في الجهاد. بادرني أنّه حلم ليلة البارحة، رأى نفسه تحت شجرة وارفة، انبثقت منها شجرة رمان، راحت تصعد إلى السماء شيئاً فشيئاً، وهنالك أطيار تحطّ عليها وأخرى تغادرها، أصواتها تكاد تضيء السماء. وأنا جالس تحت الشجرة مرّ بي شيخ بملابس بيضاء، كان يتأبط كتاباً، ناولني إياه، تصفّحته، وقع نظري على صفحة تتوهج، قرأت فيها: "الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه الله لخاصة أوليائه"
قلت:
ـ إنّ الله يعدك بالجنة.
أضاف:
ـ وزوجتي أيضاً!
شرحت له ما جرى في لقائي بأمير الجهاد، وأنّه يتعجل الشهادة لنا، ويرى أن نقوم بالعملية الأولى في مطعم السنونو، والأخرى على جسر المشاة قرب مجمع السيارات الرئيسي.
في الليل قبل تنفيذ العمليتين جئت بحزامين ناسفين تفقدتهما جيداً، وضع جاسم الحزام الناسف على خصره، وعاين جهاز التفجير، وطلب من عافية أن تأتي، حاولت ألاّ ألتقي بعينيها، وضعت الحزام الناسف تحت فستانها، ثم ارتدت العباءة، لم يظهر أن هنالك شيئاً غريباً تحت عباءتها السوداء.
قالت، وهي مطأطئة:
ـ سنموت في سبيل الله، نرجو ألاّ تعلنوا عن أسمائنا وأخبارنا، نحن نحتسب دماءنا عند الله سبحانه وتعالى، وعسى أن نكون مقدّمة لتحرير الأرض والإنسان.
بينما قال جاسم:
ـ اللّهم إنّي أعجّل إليك لترضى.
اتفقنا على أن تتم العمليتان في وقت واحد عند الضحى، حيث يكون الناس في هذا الوقت ذاهبين إلى أعمالهم، كانت الساعة منتصف الليل حين تركتهما.
في تلك الليلة الحمد لله! لم يكن خميس في البيت. لا أدري ماذا جرى له لا يكاد يستقّر في غرفته. لم تغف عيناي، كنت أنتظر الفجر بصبر شديد، أذّن للصلاة، توضأت، وصليت، دعوت الله أن يوفقنا في عملنا، وينصرنا على القوم الكافرين، ويعزّ الإسلام والمسلمين، ويهزم أعداء الإسلام أعداء الدين. ثمّ نزلت الدرج، طرقت الباب بخفّة، فتح جاسم. كلّ شيء جاهز كما يبدو، نادى عافية، جاءت، أغلقت الباب بعد خروجها، سرنا صامتين، ثمّ دعوتهما إلى الإكثار من التكبير والتشهد والدعاء إلى الله بنصر المؤمنين.
صعدت عافية، جلست في المقعد الخلفيّ من السيّارة، وجلس جاسم بجانبي، فتح القرآن، وراح يقرأ بينما كانت عافية تنظر إلى الحياة في الشارع تارة وإلى المرآة تارة أخرى، التقت عينانا عدّة مرّات، كنت أنا الذي يبادر بتحويل عيني عنها.
كانت الساعة السابعة ونصف تقريباً، الشوارع بدأت تعجّ بالمارّة، والناس يتحركون بنشاط إلى أعمالهم ووظائفهم، ترجّل جاسم من السيارة بالقرب من المطعم دون أن يودّعنا، ربما خشي أن يضعف، أو يثير الانتباه، فكان هنالك جمع من السياح أمام حديقة المطعم. لكن سمعته يقول، وهو يلوّح بيده:
ـ موعدنا الثامنة والنصف.
أسرعت إلى مجمع السيارات. قالت عافية وبحة حزينة في صوتها:
ـ اليوم سأموت.
ـ بل تكونين شهيدة.
ـ شهيدة!
ـ نعم، لأنك تموتين في سبيل الله، ستستقبلك الملائكة إلى الجنة، هل عندك شكّ؟
لم تجب شعرت أنّها متلبّدة الذهن، أوقفتُ السيارة تحت أقدام الجسر، تهيّأت للنزول، قالت قبل أن تفتح الباب:
ـ لدي رغبة أخيرة.
التفت إليها، مدت جسمها نحوي، جذبتني من كتفي، هوت بفمها على شفتيّ، لم أستطع أن أتملّص منها، ثم فتحت الباب وكانت في الطريق. تحرّكت بالسيارة قليلاً. ثم توقفت أنظر إليها في المرآة، كدت أصرخ أن تعود، لكنّها كانت قد اختلطت بالزحام.
أوقفت السيارة في مقابل الجسر، ووقفت أراقب الحركة عليه، كان يغصّ بالمارّة. لفت انتباهي امرأة تسير بتثاقل، أدركت أنّها عافية. ها هي تتقدم شيئاً فشيئاً، تتمهل، تنظر حواليها، رفعت رأسها إلى أعلى، ظننتها تراني، رفعت يدي إليها ملوّحاً أن تعود. توقفت، بزغ عمود من الضباب على الجسر، ظهر الأمير أبو قتامة، وقف بجانبها، كأنّي سمعت صوته يحثها على الفعل. ها هو يسرع أمامها. دوّى الانفجار. غبار وأعضاء وأشياء تتطاير في السماء... أدرت السيّارة وانطلقت إلى البيت.
في الطريق السيارات مسرعة، سيّارات الإسعاف تطلق صراخها. الناس يتّجهون دون هدف. الاضطراب في كل مكان. حين بلغت البيت، ألقيت نفسي على الفراش، لم أهدأ. نهضت لأصنع القهوة، وضعت الغلايّة على النار، غلا الماء حتّى تبخّر معظمه، أطفأت النار. ذهبت إلى غرفة الاستقبال، قلّبت الفضائيات، الخبر لم ينتشر بعد. ثمّ قرأت في الشريط أسفل الشاشة: انتحاريان يفجّران نفسيهما: الأول في مطعم يرتاده السيّاح الأجانب، والثاني على جسر للمشاة، سيّارات الإسعاف تسرع في نقل القتلى والجرحى، انتقل إلى محطة أخرى. هنالك بثّ حيّ ومباشر. حادث المطعم قام به انتحاريّ. وانتقلت الكاميرا إلى المكان. المقاعد والطاولات متناثرة والدماء على بعض الصحون والجدران. الحادث الثاني. انفجار الجسر نتج عن انتحارية فجّرت نفسها بحزام ناسف، هنالك فتحة في أسفل الجسر، بعض المصابين معلّقون بأسلاك الجسر وقضبانه.
إلى الجنّة يا عافية، إلى جنّات الخلد يا جاسم، دماؤكما ستطهّر ما نحن فيه من نجاسة.
دخل خميس وهو يرتجف:
ـ هل رأيت ما جرى؟ ما ذنب رواد المطعم أو المارّة على الجسر؟ ما ذنبهم في أن يقتلوا؟ من فعل هذا؟ في أيّ دين نزل ذلك؟ أيّ إله يدعو إلى سفك الدماء؟
ـ على مهلك يا خميس. إن وزر هؤلاء في عنق الحاكمين الذين أفسدوا الأرض، هذه الدماء التي نزفت ستكون دافعاً للتغيير، سيدبّ الخوف في كلّ مسؤول، ويسأل لماذا حدث هذا، إنّه الظلم والكفر والاستئثار بالحكم.
ـ أسألك يا مأمون هل لنا ضلع في هذين العمليتين اصدقني القول. أين جاسم وعافية؟
ـ خوفك هذا لا مبرّر له، وإذا ظلّ مسيطراً عليك سوف نلاقي المتاعب. في الحقيقة من قام بالعمليتين هما جاسم وزوجته رحمهما الله وأسكنهما الجنّة!
ـ الجنة! غريب هذا العالم؛ أمريكا تقتل باسم الدين، ومن يقتل في رأيها يذهب إلى الفردوس، ونحن كذلك قتلانا شهداء مأواهم الجنّة؛ لأنّهم ينفذون أمر الله. لا أدري كيف نبرّر قتل أناس أبرياء؛ فهؤلاء الذين جاءوا إلى المطعم لتناول الإفطار، نتناولهم بالقتل، وهؤلاء الذين يسيرون على الجسر ذاهبين إلى أعمالهم ورزقهم نفاجئهم بالمتفجّرات. بربك ماذا نجني من ذلك؟ ما الفائدة التي نحقّقها؟ لا الحكام يستقيلون، ولا الناس يخرجون عليهم. إنّنا على النقيض من ذلك نقدّم خدمة كبيرة لحكّامنا، فيزداد قمعهم بحجة مقاومة الإرهاب. ثمّ هل بأعمالنا حررنا شبراً أو طردنا المحتل؟ نحن نعيش في عماء مطبق. لم نعد نرى عدونا، لدينا، فقط، سلاح يجب رفعه حتّى ولو على أنفسنا. لا يلام الجيش إذا أعلن حالة الطوارئ، وجاء لاعتقالنا، نحن تستحقّ ذلك.
ـ اهدأ يا خميس. سأصنع لك كأس عصير، أو انتظر هنالك حبّة فاليوم تفيدك.
أخرجت من درج الطاولة واحدة وناولته إيّاها بلعها، وهو يقول:
ـ حسبي الله ونعم الوكيل! حسبي الله ونعم الوكيل!
ـ اطمئن لن يشي أحد علينا، فلن نعلن عن العمليتين، كما أنّي أخبرت صاحب الشقة، كما أعلمه جاسم أنّه سيغادر إلى العراق في مطلع الشهر، ويترك له الشقة، بالتأكيد ليس هنالك ما يديننا في هذا البيت. تعلم أنّي لا أترك شيئاً له علاقة بعملنا. اطمئن، ولا تضعف، إنّ الله معنا..
الأنباء تتوالى عن اعتقال العشرات، وبدء التحقيقات لمعرفة من وراء العمليتين. وأعلن وزير الداخلية أنّهم أمسكوا بالخيط الذي يقودهم إلى مصدر الجريمة. وواصلت برقيات الشجب والمؤازرة ترد على الحكومة من كلّ مكان، لم تعلن أيّ جهة مسؤوليتها عن التفجيرين، وفي بيان أخير قالت الحكومة إنّها تتهم جهات أجنبية بالحادثين الإجراميين، وستكشف عن التفاصيل حالما ينتهي التحقيق.
على الرغم من سعادتي بالأخبار لم أستطع النوم؛ بعد قليل تأتي الشرطة، وتجرّنا إلى التحقيق، ما صلتكما بالمجرمين؟ ألم تشاهدانهما وهما يعدان لعملهما الإجرامي؟ لماذا لم تبلّغا عنهما؟ حلمت أنّي أمام حبل المشنقة أردّد الشهادتين، وألعن الذين قادوني إلى هذا المصير، وأصيح: أنا بريء. أنا بريء.
في الصباح استيقظت على طرقات بالباب. جاءوا. لم أحرك ساكناً. سمعت خميس يسرع لفتح الباب. كان موظف الكهرباء يريد أن يقرأ العدّاد. همست كأنّي أخاطبه: هذا وقت العداد، حطّمت ركبي.
انتصبت عافية أمامي، راحت تعاتبني: لماذا تركتني للموت؟ كنت أحبّك، وأحبّ أن أبقى معك لا أن أموت مع هذا الرجل جاسم. عندما صحوت انتبهت إلى نفسي وأنا أردد: استغفر الله العظيم، ربما أنا كافر، أنا إرهابي، أنا لست عالماّ أو شيخاً. يا الله ارحمني برحمتك!
سمير فاضل
رجعت إلى البيت أجرّ قدميّ، ارتميت على السرير، ماذا حدث لي؟ كنت نشيطاً، في اجتماع رابطة المسرح، شرحت رؤيتي لما يجري. الإرهاب يعمّ العالم، والقتل على أشدّه في الشرق والغرب. أصبح العالم غابة صغيرة، ينهش الناس بعضهم بعضاً، الكلّ يبدع الانتقام، من نُدين القاتل أم المقتول؟! اقترحت أن يتضمن البيان، الذي سيصدر عن الرابطة فضح الأسباب التي تخلق الإرهاب قبل فضح الظاهرة نفسها. زملائي في الهيئة الإدارية رفضوا، اكتفوا بلعن الإرهاب، ومن قاموا بعمليتي المطعم والجسر، ونعتهم بالمفسدين والخارجين على القانون والدين.
وددت لو أقدر أن أصل إلى المطبخ، وأصنع القهوة، ربما تتحسن حالتي، مشاعر غامضة جعلت الرغبة تراوح مكانها، وتركتني سجين السرير، تمنّيت لو أنّ آية أو أمّي تشرق في المكان، أمّي جاءت مرّة، وأنا في مثل هذه الحالة، دبّت الحركة في البيت، تسارعت كؤوس العصير في إنقاذي، لم تعد إلى القرية، وعندما اتصل أبي، أجابت إنّها لا تستطيع أن تترك ابنها المريض.
قرع الجرس. همست:
ـ أمّي!
ثم صحت:
ـ تفضل. الباب مفتوح!
لم تكن تلك الفلاحة الجميلة. دخل خميس، ذابل الوجه، واهن الجسم، مخطوف الفؤاد كأحد الناجين من عملية الجسر. حمد الله لأنّه وجدني، ارتمى على كنبة بالقرب من الباب، مدّ قدميه، أمري لله، نهضت إلى المطبخ أحضرت القهوة، تمنّى لو استشرته؛ فهو يموت من أجل كأس شاي، قلت إنّه من يصنع الشاي، بعد أن نحتسي القهوة، اعتدل في جلسته وتناول فنجانه.
ـ حقّقوا معي..
ـ الجماعة.
ـ نعم. أطلقوا سراحي، بعد معرفتهم أنّي كنت في جنوبيّ البلاد، عندما وقعت الأعمال الإرهابية. رأوا تصريح ذهابي إلى هناك.
ـ في الجنوب؟
ـ كنت أبحث عن سلامة. لم يعد إلى عمله بعد موت عطيّة.
ـ والشيخ العتيد؟ وجاره جاسم؟
ـ لا أدري، مأمون قلق هذه الأيام على أمّه وأخته، قيل إنّهما يحاولان الخروج من بغداد، إنّه يتقرّب الآن من والده كي يتحرّك لدى المسؤولين لتأمين رجوعهما إلى البلد. أمّا جاسم فعاد وزوجته إلى العراق.
ـ أفهم أنّكم نجوتم من الأمن، سلامة لا وجود له، أنت كنت في الجنوب، وشيخك ربما في الشمال، وجاسم غادر المدينة، لكن من كان وراء العمليتين؟
ـ الحمد لله! لو أنت من رجال الأمن أو مسؤول في الحكومة لوضعتنا جميعاً في السجن!
ـ لو كنت من رجال الأمن لأمرت باعتقالكم جميعاً؛ فالشكوك في كلّ منكم: عطيّة يموت بعد حادثة السينما، وسلامة يختفي، والشيخ مأمون يفلت من العقاب. في رأيك من قام بالعمليتين؟
ـ تعرف أنّي لست مع هذه الأعمال، يمكن أن أقبل مثلها ضد الجنود والقادة الإسرائيليين، أمّا القتل العشوائي فهذا لا يقبله دين، ولا ذو عقل، الله يقول: "قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحبّ المعتدين " وأنا حسب إيماني على الإنسان أن يموت في الوقت والمكان المناسبين.
بدا منهكاً أكثر منّي، حملت صينية القهوة إلى المطبخ، عدت، وجدته يغطّ في النوم، أرحته على الكنبة، ورحت أفكّر في حديثه، انتهيت إلى قول الشاعر:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأنباء من لم تزوّد
كثرت لقاءاتي بخميس، لاحظت شروده، وضعف روحه، عجبت أنّه لا يطيق الحديث عن مأمون. هل تغيّر خميس، وقتل علاقته بالماضي؟ راودتني الفكرة عندما اشتركنا معاً في تظاهرة غاضبة عما يحدث. سار في المقدّمة، يهتف مع المتظاهرين:
ـ لا للقتل من أجل القتل!
ـ لا لقتل الأبرياء!
ـ لا لأعداء الحياة!
في نهاية التظاهرة سرنا إلى مشفى الوطن؛ عدنا بعض جرحى التفجيرين. كان يتأسى، وتتلاحق أنفاسه، ويتهدّج صوته، وهو يتحدّث مع الجرحى. سمعته يهمس، ونحن خارجان من المشفى: في أيّ زمن نحن؟ كيف يقتل الإنسان ذاته؟ أيّ حجر صار قلب الإنسان؟ اللّهم ارحمنا برحمتك، يا رب!
ذابت التظاهرة، عاد الهدوء إلى الشارع، وسكن الغضب. وصلنا إلى الشارع الفرعي، الذي تركتُ فيه السيارة، تردد في الصعود، بدا كطائر لا يدري أين يحطّ، قلت له أن نعود إلى البيت، ردّ إنّه أثقل عليّ في اليومين الماضيين، ويريد أن يريحني منه. عرضت أن يشاركني السكن؛ فإن ضاق المكان يتّسع الصدر، سعد بقولي كأنّه كان ينتظره.
قبل الغروب، رنّ الجرس الخارجي رنيناً طويلاً، أسرعت لفتح الباب، وأنا أتساءل عن هذا القادم المهتاج. كانت أمي تحتجّ على تباطئي في استقبالها، وتتهمني بالكسل كالعادة، كانت تحمل سلة على رأسها، وفي يدها كيس.
ـ أمّي!
هجمت على يدها. قالت:
ـ خذ السلة قبل كلّ شيء.
أنزلت السلة عن رأسها، احتضنتني، وهي تحمد الله على سلامتي من التفجيرات التي حدثت في المدينة:
ـ كنت خائفة أن أراك بين الجرحى او القتلى. اتصل والدك أكثر من مرّة لم تردّ. قلنا الولد مات.
ـ كانت شبكة الهاتف معطّلة بسبب الأحداث.
تقدّمتني في الدخول. كانت السلة ثقيلة. كيف قدر رأسها على حملها؟ أسرعت تفتح النوافذ، وتلومني على فوضى الأشياء في البيت، صادفت خميس، وهو يخرج من غرفته، عرّفتها إليه، دعت أن يحرسه ويحرسني الله، ثم خاطبته:
ـ اسأل صاحبك يتزوّج ابنة الحلال حتّى نرتاح منه؛ ولا يعذّبنا.
ـ قولي الله يساعدنا على زماننا، يا حاجة!
أسرعت ترتّب ما أحضرته. عجبت كيف حملت هذه الأصناف من اللحوم والأجبان والخضراوات: فخذة كبيرة ودجاجتين بلديتين، وبيضاً، وأقراصاً من اللبن الجميد، وصندوق تفاح، وتنكة زيت زيتون صغيرة. كانت قد انتهت من عملها. قلت:
ـ من ير ما تحملينه، يا أمّي يظنّ هنالك مجاعة في المدينة.
جفّفت قطرات العرق التي تلألأت على جبينها، وعدلت من جلستها على الكنبة:
ـ أنت لا تنظر إلى حالك في المرآة؛ جلد على عظم. على كلّ حال، هذا من خير الله، يا ولدي، وخير الأرض التي لا تريد العودة إليها.
قال خميس:
ـ اطمئني يا حاجة سيعود. نحن أبناء الأرض لا نطيق البعد عنها، مهما ابتعدنا في النهاية نعود.
وسرد عليها قصّة طرده من الأرض، وهدم منزله وتشريد أهله. تأوّهت:
ـ للظالم نهاية، يا ولدي !
أمضيت الليل في سماع أمّي تحدّثني عن إخوتي وجيراننا، ودكان الحاج مصباح. قبل أن ننام، اتصل أبي يسأل عن زوجته، لم يسأل عنّي، ربما نسي أنّي ابنه، ذكّرته، أجابني المهم أمّك، ثم أمّك. توسلت إليه أن يسمح ببقائها عندي يوماً أو يومين، أبي يعرف زوجته، فترك لها الخيار.
لم تنجح محاولاتي في إبقائها:
ـ كيف أترك والدك وحده؟!
ـ وحده ! عنده من البنين والبنات محمود وعبد الكريم وسمير وفاطمة وخديجة وسالمة. الله يبارك!
في الصباح اصطحبتها في سيّارتي إلى موقف الباصات. سألتني عن آية، ثم كشفت عن رغبتها في أن تراها امرأتي، بنت حلال وتليق بك. وعدتها أن أفكّر في الأمر.
فكّرت طويلا في ما قالته أمّي. العمر يتآكل، آية لعلها تنتظرني، ابتسامتها دفء القلب، وحضورها عطر الروح، ما الذي يمنعني من الخطوة الأولى؟ هل انتظر حتى تصارحني: انا احبّك. أنا أريدك زوجا. هل هنالك غيرها؟ إذن، لماذا هاملت؟ لو حدّثت أمّي لأسرعت إلى عمّتها، وعمّتها لا تريد لابنة أخيها أن تظلّ عانسا مثلها. يدور في ذهني: الفن يقتله الزواج، ربما، ولكن هناك عباقرة وفنانون تزوجوا فتألّق إبداعهم: شكسبير وإيليوت وبيكاسو وطه حسين ونجيب محفوظ، ثم أنا من أنا؟ مجرد فنان مغمور، لم تتح له الحياة غير بضع مسرحيات، أهمّ مسرحيّة منها لم تعرض سوى مرّة واحدة، قبل أن تخفت الروح عليّ بأية، وحدها تحيي روحي.
عزمت أن أخطو الخطوة الأولى.
قبل أن تودّع الشمس سماء المدينة، عجبت من جرأتي. وقفت أقرع جرس الشقّة التي تسكنها مع عمّتها، سمعت حركة وراء الباب، عندما انفتح، التقت عينيّ بعينيّ عمّتها، ابتسمت بمكر. سألت عن آية، أجابت إنّها خرجت إلى الدكانة، وستأتي بعد دقائق، حاولت أن أعود أدراجي، ألحّت أن انتظرها حتّى تأتي، لم أمانع، قادتني إلى الصالة، دارت عيناي، تسمّرتا عند لوحة على الجدار، صورة فلاح نحيل يكابد في جرّ عربة، عجلاتها معطلة، محملة بصناديق ذخيرة، وفوقها ثلاثة كلاب، وهنالك جندي يرفع بندقيته في وجه الفلاح..
لم أحسّ بمجيء المضيفة بالشاي، انتبهت إليها، وهي تقول:
ـ أعجبتك اللوحة.
ـ جميلة ومؤلمة.
ـ هذا واقعنا يمتزج فيه الجمال بالكآبة..
تناولت كأس الشاي، قبل أن تأتي آية، عليك أن تبدو كممثل، تتقمّص الدور، وتبتعد عن الذات. قلت:
ـ تعرفين علاقتي بآية، ولكن أرغب في معرفة رأيك...
انتبهت، وهزّت رأسها تحثني على الحديث.
تابعت:
ـ بصراحة أريد أن أعرف رأيّك في زواجنا.
أشرقت عيناها كأنّها هي التي ستتزوج:
ـ ما أسعدني بهذا! لكن آية..
ـ لا أظنّ ترفض.
ـ هذي بنت لا تفكّر في الزواج.
قطع حديثنا دخولها. جلست بجانب عمّتها. حمدت الله أن رأتني سالماً بعد الأعمال الإرهابيّة، ثم تابعت:
ـ أشكّ في أن شلة مأمون وراء عميلتي الجسر والمطعم.
ـ لا، مستحيل أكّد لي خميس هم بريئون.
اندفعت:
ـ أين رأيت خميس؟ ومتى..؟
ـ لماذا غضبت؟ يقيم عندي منذ أيام، ولا نكاد نفترق.
امتعضت ولكنّها علّقت:
ـ على كل حال، خميس أفضل من الشيخ مأمون المأفون.
انتهت زيارتي، وخرجت. سخرت من نفسي؛ لأنّي تركت مصيري في يد عمّتها، واستهزأت بضعفي أمامها، هل يمكن أن يكون للحبّ هذه القوّة التي تمنعنا من البوح به؟ في الطريق اتصلت بآية؛ لأصارحها بقلبي، هاتفها معطّل.
دعت الرابطة وزير الفكر والإعلام ليتحدّث عن دور المسرح في محاربة الإرهاب. جاء الوزير، كنت من وقت لآخر أنظر إلى الباب. لم تأتِ آية. قال الوزير: منذ أن وجد المسرح كانت وظيفته تطهير نفوس الناس من مشاعر الحقد والبغضاء، وتوجيهها نحو الخير والسلام، فمن الواجب على المسرحيين في بلدنا أن يعيدوا للمسرح دوره الأول في غرس قيم التسامح والمحبّة، وإشاعة روح الديمقراطية..
بعد أن انتهى الوزير من كلامه، فُتح باب النقاش، تساءلت ممثلة شابة عن موقف الوزارة من منع عرض بعض المسرحيات على الرغم من أنّها لا تخرج في مضمونها عما طرحه معاليه، أجاب إن الوزارة لم تعترض على أيّ نصّ مسرحي، ولم تمنع أيّ عرض. وقفت:
ـ اسمح لي معاليكم، هنالك مسرحيّة عرضت مرّة واحدة، ثم منعت، إنّها مسرحيّة" الخرافة والمنديل". هل يعلم معاليه بذلك؟ هل يستطيع أن يعدنا الوزير برفع سيف الرقابة عنها؟
ـ لا أعلم بمسرحيّة بهذا العنوان، لكنّي أعد بمراجعة ما حدث، ومحاولة إصلاحه. نحن نرفض قمع النصوص لأنّه يوازي أيّ عمل إرهابي.
لم يفسح رئيس الرابطة باستمرار النقاش، وغادر الوزير دون أن يشارك الحاضرين شرب الشاي، وأكل البسكوت.
تهت في الشوارع، في ذهني كلام الوزير يمتزج برغبتي في رؤية آية، مررّت بحديقة العاشقين، تذكّرت عشقي، اتّجهت نحو مقعد يستند إلى جذع شجرة صنوبر، جلست وزقزقة العصافير تتخلل أوراقها الكثيفة، شجعني الفضاء على الاتصال بآية، ردّت هذه المرّة، قالت إنّها كانت مريضة؛ لهذا لم تأت إلى الرابطة. طلبت أن نلتقي في صالة فندق الربيع، وافقت لكنّها تساءلت عن سر اختيار هذا الفندق، أجبت حتّى لا تقول إنّي بخيل.
وصلت إلى الفندق قبل مجيء آية، بالبوابة سيّارة عسكريّة بمدفع رشاش، ورجال أمن يراقبون الداخل والخارج، جلست في الصالة بجانب حوض مائي. كثير من الأجانب في الصالة، موسيقى ياني تتردّد في المكان، انشغلت في تأمّل الأسماك في الحوض. لم تسلم الأسماك من الإنسان. انتبهت إلى الشرطيّ يراقبني، اقترب منّي رجل أجنبيّ، طلب السماح بالجلوس بلغة عربية ركيكة، أشرت إليه بأنّي لا أمانع، لكنّي أخبرته أنّي أنتظر فتاة، ابتسم وجلس، وأنا أتمنّى ألاّ يكون أميركيّاً أو إنجليزيّاً، فمن السهل أن تنثال على عقلي المصائب التي جاءتنا بسبب الإنجليز والأمريكيين. سألت:
ـ أمريكي؟
ـ نعم.
ـ لا تخاف من المجيء هنا؟
ـ صحيح، حصلت تفجيرات من إرهابيين لكنّ البلد آمن، ونحن نحبّ الناس.
ـ والناس؟
ـ لا يكرهوننا.
ـ غريب أمركم أيّها الأمريكان؛ تحتلون بلادنا، وتقتلون نساءنا وأطفالنا، وتسلبون نفطنا، وتهينون كرامتنا، ونقاومكم في كلّ مكان، ثم تجزمون أنّا نحبّكم!
لم أطق حديثه، متى تأتي آيه؟! طالت. رحت أنظر إلى ساعتي. قدمت فتاة شقراء، تكلّمت مع الرجل بالعبريّة، تكدّست على الطاولة دير ياسين وقبية وبحر البقر وقانا وبيت حانون. هممت أن أمسك بعنقه، في هذه اللحظة جاء الشرطي ووقف بجانبي، تراجعت بغيظي.
ـ أنت إسرائيلي..
ـ نعم..
ـ كذبت عليّ؟!.
ـ لا. أنا أحمل الجنسية الأمريكية أيضاً..
ـ الآن. ازدادت كراهيتي لك.
ـ أنت ضد السامية.
دخلت آية، هرعت نحوها، أعلمتها أنّ المكان يعجّ بالأعداء، وأشرت إلى الرجل، همّت أن تهاجمه بحقيبتها، أمسكت بيدها، وخرجنا إلى الشارع.
هدّنا التعب، وضجيج السيارات، وضوضاء المارة. هنالك خواطر لم ترَ النور، ظلّت مختفية في ركام كلامي على القرية، وما جرى في لقاء الوزير. أخيراً صارحتها:
ـ لا شك أنّ عمّتك حدثتك عمّا جرى بيني وبينها في زيارتي الأخيرة.
ـ نعم.
ـ ما رأيك؟
توقّفنا. نظرت إليّ بعينين نديّتين، وتهدّج صوتها:
ـ أصارحك، أنا لا أصلح أن أكون زوجة. أفكاري. تركيبي النفسي، وربما الفسيولوجي لا تتناسب ومواصفات الزواج.
ـ هذي أعراض أحسّ بمثلها أحياناً لكنّها تتغير في أوّل خطوات الزواج.
ملنا نحو سور قصير على جانب الطريق، جلستْ، وبقيت واقفاً. قالت:
ـ لماذا نتزوج؟ العالم تغيّر. الحياة الاقتصادية تتفاقم. كل يوم يمضي يلعن ما قبله. العلاقات
بين الناس اسودّت. الحبّ الذي تتحدّث عنه يتبخّر بعد الزواج. انظر إلى المحاكم، انظر إلى ما فيها من طلاق وخلع وشكاوى. الزواج يكون على حساب ما نحلم به. ستتغير علاقتك بي بمجرد أن أكون زوجة لك. أنت تصبح الآمر الناهي، لا أخرج إلاّ بإذنك. لا ألبس إلاّ ما يروقك. لا أتكلم إلاّ بما يعجبك. لا أشرب إلا ما تستسيغه.. باختصار تقتل حريتي، ربما تقول الآن غير ذلك، لكن من المؤكّد، مؤسسة الزواج تقتل الحرية. دعنا نعش حياتنا كما هي؛ نلتقي كصديقين. أما حاجات الجسد، لماذا لا نقولها؟ الجنس، فالإنسان يستطيع أن يستغني عنها، ويعيش عفيفاً إذا داوم على نوع من اليوغا ومراقبة الجسد. بصراحة أرفض الزواج في الوقت الحاضر؛ لأنّه عمل إرهابي، إرهاب الزوج للزوجة، وإرهاب الاثنين لأولادهما. ربما الصداقة هذه الأيام أسمى من الزواج.
كأنّّي، فجأة، فقدت كلَّ شيء، الآن فهمت لماذا ينتحر المحبون، ولماذا ييأس العاشقون.
لم أستطع مقابلة وزير الفكر والإعلام، في كلّ مرّة تمنعني مديرة مكتبه: معاليه مشغول بالسياسة الإعلاميّة والثقافيّة لمواجهة الإرهاب، لا وقت لديه للنظر في مسائل تافهة. صرخت في النهاية:
ـ لن أتحرّك من هنا حتّى أقابل الوزير.
ـ الوزير لن يقابل أحداً هذا اليوم.
ـ باق هنا.
ـ إذا لم تخرج سأستدعي الشرطة.
خرج الأمين العام للوزارة، من مكتبه يتساءل عن هذا الذي عكّر هدوء المكان، عرفني. دعاني إلى مكتبه، طلب من الآذن إحضار القهوة، ذكّرته بوعد الوزير بالسماح لعرض مسرحية" الخرافة والمنديل"، قال وهو يجلس، وراء مكتبه:
ـ تعرف أنّ الوضع دقيق في هذه الظروف، والنّاس تثيرهم أيّ أفكار خارجة عن المألوف. المسرحيّة التي تتحدّثون عنها أثارت الجمهور في أول عرض لها، نحن لا نريد أن نكرّر ما حدث، أبلغني معالي الوزير عدم السماح بعرض المسرحيّة، لكن لا مانع لديه من نشرها في كتاب.
ـ المسرحيّة تكتب لتمثل، يا عطوفة الأمين العام..
ـ عُرضت مرّة واحدة، هذا يكفي. ابحثوا عن مسرحية ذات موضوع آخر غير القتال والعنف. لماذا لا تجدون مسرحيّة غيرها؟ هنالك مسرحيّات كثيرة تتناول موضوعات مهمة: العلاقة بين الرجل والمرأة، سوء معاملة الأطفال، الشذوذ الجنسي، السّلام العادل.
عدت بخفيّ حنين. اتصلت بآية أخبرتها، لم تُفاجأ، دعت إلى تحرّك رابطة المسرح وجميع المؤسسات الثقافيّة في وجه هذا الإرهاب الفكري، المسرحيّة رفضت، آية رفضتني لم تعد المدينة تطيقني، شوارعها تحاربني، وبناياتها خناجر تنغرس في قلبي. خطرت أمّي نسمة لامست روحي، وصلت إلى البيت كالمذبوح، كتبت لخميس "أنا ذاهب إلى القرية، سأمضي أسبوعاً أو أكثر في حضن أمّي".
حين عرجت إلى مدخل القرية كانت الشمس تودعها، وتفسح المجال لنسمات رقيقة، لتجفف الحرارة من الجو، بدت الحقول المزروعة بالقثّاء على جانبي الطريق مطرّزة في صفوف من اللون الأخضر، مشهد يقتل في الذهن صور البنايات المتعانقة في المدينة، تشمّمت رائحة الأرض، عانقت الرائحة ثنايا الجسد، انتشيت، أوقفت السيارة، انحدرت إلى الحقل، كان صاحبه في وسطه، انتبه إليّ، أشرت إليه، فهم ما أردته، فرفع يده محيياً، تناولت واحدة من القثاء، أزلت عنها زغبها الأشقر، قضمتها كأنّي لم أقضم فقوساً قبل اليوم.
بانت القرية بعد دقائق، بنايات إسمنتيّة بجانبها مبان قديمة من الطين، بواباتها عالية، وأحواشها واسعة، مررّت بدكان الحاج مصباح المتهدّمة، وبجوارها سوبر ماركت كبير، كان مصباح يجلس أمام المحلّ وابنه وموظف آخر يعملان في الداخل، توقّفت لأصافحه، سألني عن المدينة والوظيفة، وتعجب من بقائي في المدينة مع أنّ قريتنا صارت مدينة.
لم أجد والدي في المنزل الجديد الذي بنوه في غيابي، ذهبت إلى منزلنا القديم، والدي لا يطيق العيش بين جدران من الإسمنت، أدرك بفطرته أنّ عليه مسايرة الطبيعة، فلا يرهبها؛ في إرهابها إشعاعات تضرّ بجسمه، كنت أسمعه يردد: الحجر يجرح التراب.
لم يتغيّر والدي كثيراً غير أنّ التجاعيد كثرت في وجهه، وزاد انحسار شعر رأسه، لكن ظلّت في ملامحه ليونة تراب القرية، وفي عينيه صفاء سمائها، وحافظت قامته على اعتدالها كمعظم أشجار القرية. انتابني، وهو يعانقني، ويتشبث بي لحظة تأنيب عن غيابي الطويل، لماذا نلتصق بالأهل في الطفولة والصبا ونفارقهم عندما نكبر؟ عندما جاءت أمّي، شعرت أنّي أخلق من جديد.
هرعت العائلة إلى الدار القديمة، تحلّق الجميع في الحوش، وأضيئت المصابيح الكهربائية، ثم جاء الجيران بزوجاتهم وبناتهم ليسهروا معنا، وهبّت أخواتي بإشراف أمّي يعددن القهوة والشاي، ويهيئن قوارير النارجيلة، ونبحت بعض الكلاب لتشارك في الاحتفال وسط رائحة القهوة وصراخ الأطفال.
قال أبي:
ـ ما للناس جنّوا في المدينة؟ كلّ يوم عمليّة إرهابيّة.
قال أبو صبري:
ـ كأن المدينة ناقصها فساد.
قالت الحاجة بهيّة:
ـ كلّه من النسوان الكاسيات العاريات.الله يحفظنا!
قالت أمّي:
ـ الله يستر على الولايا!
قال أخي محمود:
ـ اسألوا أمريكا عن الإرهاب، هي نشرت الرعب في العالم.
قال أبو صبري:
ـ اتركونا من السياسة ووجع الراس، وأخبرنا عن مشاريعك، يا سمير.
قال أبي:
ـ مشاريعه؟ ليس له مشاريع غير الصمود في الوظيفة، والجري ورا التمثيل.
سألتني أمّي قبل انتهاء زيارتي عن آية، أخبرتها أنّها لا تنوي الزواج، رأت أن تذهب ووالدي لرؤيتها. بنات الناس يا ابني لا تطلب أيديهن في الشارع، وهنّ في البداية يتدلّلن ثم يقبلن، قلت:
ـ آية لا تفكّر في الزواج.
ـ لا أصدّق. هل توجد بنت لا تفكّر في زوج؟!
عدت إلى المدينة. اتّصلت بآية، ردّت عمّتها: سافرت إلى عند والدها، وتركت لك رسالة، سافرت وتركتني، لم تخبرني يا لقسوة قلبها، أسرعت إلى عمّتها، رفضت دعوتها بالدخول، أحسّت بحزني، ناولتني الرسالة، استدرت خارجاً.
سمير، أيّها الفنّان الشقيّ. لم أخبرك أنّي تعاقدت للعمل في فضائية عربيّة في الخليج لأكون مع والدي وأمّي، سئمت البقاء في البلد، سئمت مراجعة وزارة الفكر، إنّهم لا يسمحون للنصوص الجيدة أن تظهر، يطمسون كل ما يساهم في تطوّر المجتمع وتقدّمه.
اطمئن إذا تزوّجت لن أتزوج غيرك، لكنّي سأبقى بعيداً عن مؤسسة الزواج، لا نريد أن نتناقض مع أفكارنا؛ نرى الزواج إرهاباً ثم نمارسه.
آمل أن تكون أيامك سعيدة، وسنواتك القادمة إنجازات مهمّة، وأن تحقّق ما لم نستطيع تحقيقه نحن الاثنين.
لك التحية وللأهل السلام."
أوقفت سيارتي في شارع جانبي في وسط المدينة، سرت إلى مقهى كنت أعلم وجوده في نهاية الشارع، لمحت رجلاً نحيلاً ذا لحيّة سوداء كثّة، صحت: سلامة! نظر إليّ، لم يقف، حاولت اللحاق به، لكنّه مرق في زقاق ضيق، لا يمكن أن يكون سلامة. أين قامته المنتصبة، وحيويته المتدفقة؟ أين جسمه المتماسك؟ هيئته لا تغيب عني، أنا على يقين بأنّه سلامة. حزنت. لقد غدا مشرّداً صعلوكاً، آماله ماتت في شوارع المدينة.
تحدّثت إلى خميس عمّا رأيت، أكّد أنّه سلامة كما وصفته، ورأى أنّه لم يستطيع أن يتعايش مع الواقع، فخسرناه.
كنت لمّا أزل في الفراش، تمرح في عقلي صور كثيرة، توقّفت في سوق المدينة، اشتريت لأبي عباءة تليق بشيخ قبيلة قويّة، ولأمّي ثوباً وملابس داخلية، ستضحك عندما تراها، وخاتماً لأنّي رأيت أصابعها عارية، ربما ضاع الخاتم الذي كان يزيّن يدها، أو أهدته إلى إحدى بناتها. طفت في شوارع القرية، وقرص الشمس يحاول أن يبرز من وراء التلال، عبق الطوابين ينعش روحي،، وقطط تلعب على المزبلة وسط القرية، وكلاب تنبح نباحاً أليفاً.
أيقظتني حركة خميس، خرج منذ الفجر، كعادته كلّ يوم، يصلّي في المسجد، ويحضر معه صحيفة الحقّ اليوميّة. ألقى الجريدة إليّ، واتّجه إلى المطبخ، جلست، أتصفح العناوين، توقّفت. في صفحة محليّات، قرأت: " يصل صباح اليوم إلى الحدود الشماليّة جثمانا الشهيدتين: وفاء وابنتها هناء اللتين استشهدتا في غارة أمريكية، وهما متجهتان خارج بغداد، والشهيدتان هما زوجة القاضي عبد الحكيم الزين وابنته، وسيكون وزير العدل، وكبار المسؤولين في الدولة في استقبال الجثمانيْن "
ناديت خميس، قلت له إنّ أم صاحبه مأمون وأخته قتلتا في بغداد، سحب من يدي الجريدة ليتأكّد من النبأ، ثم تناول جهازه الخلوي وراح يتصل بمأمون، ثم اتصلت أنا به، بدا من خلال كلامه غير حزين على رحيلهما. وافقني خميس على الوقوف إلى جانبه؛ فما هو إلاّ جار وصديق قديم.
خرجنا في سيارتي المتهالكة، لم نستطع الوصول في الوقت المناسب، صادفنا موكب الجنازة قبل الحدود بقليل. قفلنا مع الموكب، كدت لا أتبين أنّه مأمون عندما رأيت خميس يعزيه بحرارة، كان يرتدي بدلة داكنة، ذات ربطة حمراء، وقد قصّر شعر رأسه، وأعدم لحيته، وحفّ شاربيه، تساءلت إن كان الموت يتطلب إخفاء حقيقتنا، وتغيير صورتنا. في خضمّ طقوس الموت برزت آية، لو أنّي أراها! تأكّد لي أنّ صور الموت وملحقاته تتلاشى عند رؤيتها، استحضرتها بحماس، وخاطبتها: أيّتها الصبيّة أعطني يدك.
في المقبرة كان مأمون يتجنب رؤيتنا، ولفت انتباه خميس أنّه كان يجامل المسؤولين كثيراً. شعرنا أنّه لا يحتاج إلينا، فدعوت خميس أن نعود إلى البيت، فاستأذن من مأمون واعداً بالمجيء إلى بيت العزاء بعد صلاة المغرب. في الطريق قلت:
ـ مأمون تغيّر.
ـ تغيّر؟!
ـ الموت أعاد علاقته بوالده، وأفسد علاقته بذاته.
ـ ماذا تقصد؟
ـ واضح أنّه طرح مبادئه على جثمان والدته، لم يعد هذا التكفيريّ المتعصّب..
ـ أنا أعرف مأمون، ليس من السهولة أن يغيّر مبادئه، ربما هي الظروف التي أجبرته على هذي التصرّفات الغريبة.
قبل الغروب، كنّا نتهيأ للخروج إلى بيت العزاء، دوّى في المدينة انفجار رهيب، ثم سُمعت أصوات سيارات الإسعاف. لم نتحرّك، تسمّرنا أمام التلفزيون.
توالت الأنباء: انتحاريّ يفجّر نفسه في خيمة عزاء. الانفجار يودي بحياة ثلاثين رجلاً، وأكثر من مئة جريح. ظهرت على شاشة إحدى الفضائيات صور أشلاء تناثرت على أرض الخيمة، وفوق المقاعد. اتصلت بمأمون، لم يردّ، حدّقت إلى خميس، دار في ذهني، لم يبقَ من الجماعة غيره، ثمّ استنكرت هذه الفكرة. لكن من قام بالجريمة، سألته، أجاب:
ـ من يعرف؟ نحن، يا صديقي، في سوق تعرض كلّ شيء، يدخلها من يشاء، ويخرج منها من يشاء. يمتزج فيها الصدق بالكذب، والأمانة بالخيانة. من الصعب على الإنسان المؤمن أن يهتدي إلى موضع قدميه.
ـ سوق مريبة يصعب فيها معرفة من هو خصمك، في النهاية الكلّ أعداء الكلّ.
بدت تتضح الأنباء، جماعة مجهولة تتبنى العمليّة تدعى جماعة الشهاب الإلهي، هدفت ـ كما قالت في بيان لها ـ إلى قتل وزير العدل والقضاة المفسدين الذين تجمّعوا في بيت العزاء، وذكرت بعض الفضائيّات أسماء القتلى، من بينهم مأمون ووالده.
قبل أن أذهب إلى النوم اتّصلت بوالدي وطمأنته أنّي بخير، وبعيد عما حدث، بقي خميس أمام الشاشات الفضائيّة، استيقظت في منتصف الليل أو بعده، الظلمة مخيّمة، والبيت يتزيّن بآيات من القرآن الكريم، كان خميس يتلو في غرفته: "وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ. ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَٱتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ. ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ" ربما أحسّ بحركتي، فانتهى من التلاوة، وخرج يعانقني، رأيته منتفخ العينين، سألته:
ـ تبكي على مأمون؟
ـ لا، تذكّرت الماضي؛ فخانتني قوّتي.
جلست بجانبه. أمضينا ما تبقّى من الليل، أحزاننا تفيض، ونحن نشاهد صور المجزرة.
لم يعد خميس إلى البيت، أين ذهب؟ اعتقل في التفجيرات الأخيرة؟ عند أقاربه؟ أله أقارب هنا؟ أصابه مكروه؟ دهسته سيّارة؟ اختطفته عصابة؟ عندما اتّصلت أمّي حدّثتها عنه، رجتني أن أبحث عنه في المستشفيات، ومخافر الشرطة. الولد عندما شفته أول مرّة، قلت في نفسي ليس ابن عيشة. لم أعثر له على أثر، طال غيابه، تخيّلته يتنقل بين العراق وكشمير والشيشان. أو يحاول التسلّل إلى الجولان، أو مزارع شبعا، أو غور الأردن. تذكّرته قبل فراقه، هنالك غموض في عينيه، أو ربّما أسرار في صدره. لماذا فترت علاقته بمأمون وجاء إلى السكن معي؟ أيّ ذكريات رحلت مع جاسم وزوجته؟ هل هما الآن في العراق أم قتلا في العمليتين الأخيرتين؟ كيف الوصول إلى الحقيقة وسط الموت والخراب؟
ضاقت بي الدنيا، اتّصلت بآية أخبرتها عن الوحدة بعد ذهاب خميس، تألّمت لي، ثمّ تذمّرت من العمل في الصحافة الإلكترونية لكنّها رفضت المجيء.
كنت أمام شاشة التلفزيون. انقطع البث. ظهر خبر عاجل، عملية في معسكر للجيش الإسرائيلي، عشرات القتلى في صفوف الجنود، العملية قام بها فدائيون يقدّر عددهم عشرة. لم تعلن أيّ جهة مسؤوليتها عن الحادث. على شاشة فضائية أخرى كان هنالك بثّ حيّ ومباشر من المكان: قتلى كثيرون وجرحى، وطلقات مدويّة، وطائرة تقصف. سيّارات الإسعاف تصل إلى المعسكر، بدأت النار تتوقف. انجلت المعركة: ثمانية قتلى وعشرون جريحاً كلّهم من الجنود المتعصبين من بينهم زعيمهم الحاخام العسكري عفريم. وفي خبر عاجل من رويتر أنّ من قام بالعملية لم يكن ثلاثة أو عشرة من المخربين كما قيل بل مخرّب واحد، اقتحم المعسكر قبيل الفجر، وهو يحمل رشاشاً وقنابل يدويّة، وقد تمكّن الجيش من قتله. بدت صورة المقاتل تنمو على الشاشة. صرخت: خميس! كان ممتلئ الجسم، على وجهه الملطخ بالدماء علامات التحدّي والعناد، بدا كشجرة زيتون معمّرة، رحت أتنقل بين نشرات الأخبار. إنّه خميس، لكن لم تتعرّف إليه أيّ جهة.
في نشرات لاحقة توالت التعليقات على العمليّة. استنكر البيت الأبيض الهجوم. كثير من العرب اعتبروا من قام به شهيداً يستحقّ التخليد، وبعض أغنياء الخليج استعدّوا أن يقفوا إلى جانب أهله، وأقيمت خيام العزاء في مواضع كثيرة من العالم العربي حتّى في العراق، أقامت جماعة رجال الشمس أماكن لقبول التعازي بالبطل الشهيد، وصلّت الجموع صلاة الغائب على روحه. وكتب صحفي في جريدة الصدّق مقالاً يصف ما قام به هذا الفدائي المجهول على أنّه عمل بطولي يُقتدى به في محاربة العدو.
في الليل عرجت على مركز إنترنت، جمعت في قرص مدمج مشاهد من المعسكر، وصور الجنود القتلى والجرحى، وفي البيت، أبحت لنفسي البحث في أشيائه التي تركها، وجدت في حقيبة جلديّة بعض الملابس القديمة وأعداداً من الصحف، وعثرت في حقيبة أخرى صغيرة على صورة له تشبه الصورة التي رأيتها في الفضائيّات لكن غير ملطّخة بالدم، كما وجدت رقعة ورق مكتوب عليها بخط اليد: "أيّ قتل هو إرهاب، ولكن ماذا تفعل إذا كان عدوّك يرفع السكّين في وجهك، أتسمح له أن يقتلك؟ هكذا الصراع في ظلّ الاحتلال، عدوّك يريد قتلك فأنت مجبر على مقاومته، في النهاية سيبقى صاحب الحق، ويزول الاحتلال. وأجمل ما قاله آباؤنا: لا يضيع حقّ وراءه مطالب. أرى النور في نهاية النفق نفق طويل يضيق بالضحايا والشهداء."
عزمت أن تكون غرفته متحفاً لآثاره وما يتّصل به.
في الصباح اتصلت بآية، قالت إنّها تابعت العمليّة بفخر، هذه هي المقاومة أن تقتل وتحيا في الوقت والمكان المناسبين، سألتها عن أحوالها، وما يجب لتكريم صديقنا. قالت:
ـ سأحضر إلى البلد، لن أبقى في هذه المدينة، سئمتها، حضارة هشة، ومظاهر خادعة. أمّا عن تكريم الشهيد خميس فسنعرض المسرحيّة التي أحبها" الخرافة والمنديل"، سنعرضها مهما كان الثمن.
لم تسعني الحياة، طرت، وأنا أتهيّأ للقاء آية، ودخول معركة جديدة.
يسعى الروائي الأردني في هذه الرواية إلى إظهار الكيفيات التي تشكل ما يسمى بالإرهاب وطرق انتشاره في المجتمع الأردني الذي يمثل نموذجا للمجتمعات العربية. وتنبني الرواية على تعدد الأصوات الذي يكشف منظور كل شخصية في تلك القضية وكيف ترتبط بتفاصيل حياتها اليومية، كما يكشف عن تباين وتناقض الخطابات الفكرية التي ينطوي عليها المجتمع. ويتبدى هنا الفن خاصة المسرح كأداة مقاومة لكل أنواع الإرهاب ،ويصبح الصراع من اجل استمرار عرض المسرحية المقدمة كأمثولة في النص الروائي الإمكانية الأكثر إشراقا في الواقع المظلم.
سوق الإرهاب
(رواية)