تتناول الباحثة الجزائرية في هذا المقال، أحدث أعمال الكاتبة المرموقة أحلام مستغانمي، وتستقرئ من خارج سياق التجنيس، نصا يستعصي على التصنيف ما بين السيرذاتي والروائي. لتصل الباحثة الى مفهوم النص الزئبقي محاولة قراءة دلالات سطوة الحكي من خلال تقنية "الروبورتاج". وإيجاد مساحات التناص ما بين نصوصها الروائية السابقة.

من الذاكرة إلى النسيان

سليمى لوكام

كنت أنتظر رواية "الأسود يليق بك" التي كانت الأديبة "أحلام مستغانمي" قد أعلنت سنة 2006عن انهماكها في كتابته، وبشرت بقرب صدورها. ولما بلغني خبر صدور كتاب "نسيان com" هذه الصائفة، رجحت أن تكون قد وقعت تحت ضغط فكرة لحوح بسطت عليها سلطانها لتجري على الورق مدادها المستجيب دائما في هطوله وانبعاثه لإملاء إله الكتابة، أو تكون قد استسلمت لدواعي كتابة فرضت إغراءها عليها وغلقت الأبواب أمام كل كتابة أخرى، وقالت: هيت لك، وفي كلتا الحالتين كان ميلنا إلى إمكان وقوعها تحت طائلة استبداد الكتابة التي لا يقوى على مراسها ومغالبتها إلا الراسخون في السلبية والتخاذل.

وقرأت الكتاب الذي تزيد صفحاته عن الثلاثمائة صفحة، وألفيت الكاتبة تصرح بنوع من المخاتلة، أن كتابها ولد من كومة نصائح كانت قد وجهتها عبر الهاتف إلى صديقة لها كانت قد منيت بخيبة عاطفية: نصيحة بعد أخرى، ولد من مكالمتها الهاتفية ومواساتي لها ما سيصبح كتابا، فقد وجدت أن ما أقوله لامرأة يستحق أن تأخذ علما به جميع النساء(1).

وأن ما حمسها على إنجازه فتاة قارئة اسمها "هدى"، "التي بفضل ابتهاجها بكل فكرة مجنونة أحدثها عنها، وإلحاحها كل يوم على أن أزودها بما كتبته ـ أنا المعروفة بكسلي ـ ما كان ينقصني من حماس لإنجاز هذا الكتاب في ثلاثة أشهر"(2).

وكدت أطمئن إلى هدين التصريحين التبريرين الواردين في الصفحات الأولى، واللذين صيرتهما الدافعين الأساسين للكتابة لولا أنني وقعت في تضاعيف ما يحفل به الكتاب على مؤشرات تؤكد وقوع صاحبته تحت تأثير عاملين أشد فعالية وأبعد مدى:

أولهما: مدافعة إحساس قوي بتبعة إزاء المرأة العربية، والعاشقة تحديدا حملها إياها موقعها الثقافي وموقفها الإنساني ورصيدها الإبداعي.

والمقاطع المبثوثة في ثنايا عملها، والتي نقتبس منها هذه الشذرات تعضد قراءتنا:

"النسيان قضية نسائية أكبر من أن أتخلى عنها خوفا أو ترفعا فما تخليت يوما عن قضية، مما جعلني الكاتبة الأكثر مقروئية في السجون الإسرائيلية كما العربية"(3)

بل إنها في موضع آخر تذهب مذهبا يشي بما غدت تؤمن به في ظل التغيرات العالمية: "أردته خاصة تحديا نسائيا أرفعه تجاه نفسي"، بعد أن أصبح شعاري "بلى أستطيع ذلك"(4).

وثانيهما، وهو الأكثر بروزا، ويتراءى في قمع رغبة كتابة سيرة ذاتية تنتصب فيها أحلام امرأة عربية راهنت لنجاحها على ذكائها وثقافتها وإبداعها، وأديبة آثرت المواجهة بديلا عن المسايرة، وروائية شقت لشعرية الرواية طريقا يبسا آمنا تبغي أن تشيد عليه صروح إبداعها.

لكنها كتبت "نسيان com"، وهي تمعن في التواري والقمع ضانة أنها أحكمت في قبضة يدها على تلابيب تلك الرغبة لكنها عبثا فعلت، فكثيرا ما خانتها فروج الأصابع التي كانت تسرب بين الفينة والفينة دفقات متشظية تقول الذات إذ ما فتئت تنزلق في سراديبها باحثة مغامرة، وتبوح بالذاكرة التي ظلت تقتحم مجاهلها نابشة منقبة.

ولأجل ذلك، وحسب الوجهة التي توليها الكاتبة، كنا نقف كل مرة على ملمح من الملامح المتعددة التي تكون هذه الشخصية:

فهي المرأة التي ترفع عقيرتها جاهرة بحلمها: "سنظل نحلم أن تكون لنا بهؤلاء الرجال قرابة. أن نكون لهم أمهات أو بنات.. زوجات أو حبيبات... كاتبات أو ملهمات"(5).

وهي الكاتبة التي قادتها كتابتها إلى الاضطلاع بمسؤولية كبرى: "لكني دوما وجدتني متورطة في قصص حب قرائي حتى الرجال كانوا يستنجدون بي لحل مشاكلهم العاطفية (حين صدرت ذاكرة الجسد قبل خمسة عشرة سنة التفت حولي كل طوائف العشاقٍ)"(6).
وهي الصديقة التي تنزل الصداقة المنزلة الجلي، فتنبري إلى كتابة آلام من تصادق، وتصغي إصغاء رهيفا لمعاناتهم، ففي موضع تقول عن الصديقات: (أصبح مطلب الصديقات أن أكتب ما سيكون دليلا نسائيا للنسيان، وخاصة صديقتي الغالية الدكتورة...)(7).

وفي موضع آخر، تؤكد موقع هؤلاء الصديقات في نفسها: (كما في تلك الجلسات الجميلة جوار المدفئة في بيت صديقتي الجميلة بارعة، التي ترجمت أعمالي إلى الانجليزية، وتبرع في قراءة أحاسيسي والتوحد معي حزنا وبهجة...)(8).

وهي الابنة التي تستظهر دائما بالأمثال الشعبية التي كانت والدتها ترددها على مسمعها، مثل "خلات راجلها ممدود وراحت تعزي في محمود"(9)، و "وربي يكثر المهابل حتي يعيشوا الفاهمين"(10).

وهي الأم التي أنجبت ثلاثة أطفال: "حتى أقسمت أمي أنها سحرتني وإلا كيف أعفيها من الاهتمام بأطفالي الثلاثة وأكرس وقتي لخدمتها..."(11).

وهي التي كتبت ذاكرة الجسد أثناء إقامتها قبل عشرين سنة في باريس، وهي من قال عنها نزار قباني قولا طريفا: (حتما كان نزار علي حق في ما كتبه عن ذاكرة الجسد حين قال للدكتور سهيل إدريس رحمه الله: دعها تجن فإن الأعمال الإبداعية الكبرى لا يكتبها إلا مجانين)(12).

(وهي صاحبة رواية "فوضى الحواس" التي حق لها أن تتباهى بها، دلك أنها كانت "قبل مدة عثرت علي روايتي" "فوضي الحواس" تباع في صيدلية في شارع الحمراء، مع كتب الحمية وعلاج السكري...)(13).

وهي أيضا الحاصلة على درجة الدكتوراه من جامعة السوربون: "مما يجعلني أفكر في أن أتنازل عن هذا اللقب الذي أمضيت خمس سنوات في متاهات السوربون للفوز به، والذي في جميع الحالات لم أستعمله في حياتي..."(14).

وهي العابدة التي لاتني توثق صلتها بربها، وقد أدت منسك العمرة: "قرأت هذه القصة بعدما أديت العمرة قبل سنة من الآن"(15).

والأهم من ذلك كله، هي الروائية التي ما كان في مقدورها مغالبة فتنة القص التي ظلت تراودها علي امتداد الأجزاء والمقاطع المشكلة لجسد النص، فقد صدرت الكتاب بقصة صديقتها التي أوحت لها بفكرة الكتابة بعد سماعها نصيحتها، فكانت تلك اللافتة التي انتصبت عتبة أولى بعد العنوان، وثبتت علي الغلاف الخارجي الخلفي للكتاب وباللون الأحمر: "أحبيه كما لم تحبه امرأة وانسيه كما ينسي الرجال"(16).

وأتبعت تلك القصة بقصص أخرى كثيرة قصيرة وطويلة، كانت منزلتها فيها تنوس بين الحكواتية والروائية وناقلة الخبر.

وفي كل، كان أقوى ما في الأمر غلبة القص إلى الحد الذي نجدها تارة، تلوح به مهددة متوعدة كما في: "ستستمعين إلى تلك القصة لاحقا، سأروي لك كل يوم قصة، مع الفارق أن قصتي تحكى في النهار لا في الليل، وأنني لا أريد بها إنقاذ رأسي من شهريار، بل الإطاحة بشهريار المعشش في رأسك..."(17).

وتتسلح به تارة أخرى، ناصحة واعظة كما في القصص العشر التي جمعتها في الجزء الذي وسمته بـ: "قصص النساء الغبيات"(18)،

بل إنها تتزيا بأردية القص وهي تلوذ بالذاكرة، وهي تنشد النسيان، وهي تنفجر شعرا وتتشظى أبياتا، فقد كان حظ القص غير قليل في تلك النصوص الشعرية التي عج بها النص من مثل: "أكبر الخيانات النسيان" و "حان لهذا القلب أن ينسحب" و "أشياء وأخرى"، ولعل المقام هاهنا، يبدي حاجة إلى أن ندرج مقطعا من المقاطع الكثيرة التي التبست فيها شعرية القص بقصصية الشعر:

"أخدنا موعدا
في حي نتعرف عليه أول مرة
جلسنا حول طاولة مستديرة
لأول مرة..
ألقينا نظرة على قائمة الأطباق ونظرة على قائمة المشروبات
ودون أن نلقي نظرة على بعضنا
طلبنا بدل الشاي شيئا من النسيان
وكطبق أساسي كثيرا من الكذب"(19).

ولا تقنع الكاتبة بكم القص الحاضر في هذا النص، ويأخذها الحنين إلى قصها السابق، فتعمد إلى توشية نصها أو قصها الجديد بنصوص مقبوسة من "ذاكرة الجسد" "وفوضى الحواس" و "عابر سرير"، ويسافر بها الشوق إلى ارتياد عوالم المحكي، فإذا هي تتحسس ومض الرواية بين شقوق نتف قصصية تسردها، فنجدها تقف عند إحداها وتسجل على استحياء، وبين قوسين: "(والقصة تستحق رواية)"(20).

يتحصل لدينا مما سبق أن الكاتبة، وإن اجتهدت في أن تكتب ما يند عن محاصرة القص، فإنها بعد سرد قصة الصديقة التي زجت بها في هده المغامرة، راحت لتبحر في سيل من الأخبار والطرائف والنوادر والنصائح والأشعار والمأثورات والخواطر لكنها ما لبثت أن عادت لترسو على مرافئ الرواية، فتنعطف إلى القصة ذاتها التي بدأت ولم تنته، تخبرنا بما آل إليه أمر الصديقة، وهنا طالعتنا "أحلام" وهي تضع بصمتها الروائية المعهودة: سردها، حوارها، شعريتها، تخييلها، واقعيتها، خرقها لأفق الانتظار، ذاتها والآخرون فيها... كأنه لم يكن بمقدورها أن تنهي نصها ـ أو نصوصها ـ بغير هده الطريقة: "ها أنا وحدي، في حقيبة يدي معاهدة النسيان.. وفي حقيبتها تذكرة سفر إلى جزر الحب! يللحماقة"(21).

وقصارى ما نصل إليه، ونحن نسائل هدا النص المتزأبق على التصنيف أن نقر بنجاح الأديبة في لعبة المخاتلة إذ لم نستطع أن نقطع بأن ما بين أيدينا "رواية" وإن كان من أبناء جنسها، كما أننا لم نهتد إلى ما يسعفنا بأن نجزم بأنها كتابة سير ذاتية، وهي التي ركحت على الذات وتقلبت في أعطافها، إنها تفانت وبإصرار في تأدية دور مقدم "الروبورتاج" الذي يكتفي بنقل الخبر حرفيا، وتحليله بموضوعية، والتعليق عليه بحياد، ويسوق لأجل إقناع القارئ كل ما يقع تحت يده من نصوص وشواهد، حتى وإن كان في الأعم الأغلب قصصيا.

وبعد هذا أوليس من التجني ملاحقة النصوص الإبداعية بسياط التجنيس لإعادتها إلى مضارب التصنيف؟

باحثة من الجزائر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ أحلام مستغانمي، نسيان com، دار الآداب بيروت، 2009، ص 37.
(2) ـ المصدر نفسه، ص 41.
(3) ـ م. ن، ص. ن.
(4) ـ م. ن، ص. ن.
(5) ـ م. ن، ص. 14.
(6) ـ م. ن، ص. 22.
(7) ـ م. ن، ص. 38.
(8) ـ م. ن، ص. 39.
(9) ـ م. ن، ص. 60.
(10) ـ م. ن، ص. 39.
(11) ـ م. ن، ص200.
(12) ـ م. ن، ص 39.
(13) ـ م. ن، 60.
(13) ـ م. ن، ص 236.
(14) ـ م. ن، ص 234.
(15) ـ م. ن، 82.
(16) ـ م. ن، ص 5.
(17) ـ م. ن، ص 57.
(18) ـ م. ن، ص 263.
(19) ـ م. ن، ص 217.
(20) ـ م. ن، 60.
(21) ـ م. ن، 321.