أزعم أن الغرب ـ الرأسمالية ـ كانت حرية بان تعيش كذبة كبرى تسترا على التاريخ غير المكتوب والمسكوت عنه للمراكمة المالية، وأن كافة الجماعات والأفراد المرتهنة ـ بخاطرها أو إرادتها ـ بالرأسمالية بتنويعاتها تتواطأ على السكوت على تلك الكذبة، وتطويع كل شيء من اجل أن تمررها صباح مساء. وعليه فمن المفيد جدا التذكر دائما، أن التاريخ المكتوب يرتهن بأحداث بعينها، وان تلك الأحداث المزوقة Euphemised غالبا ما تحتل مكان الحقيقة الكاملة، وتخصم عليها. وبالمقابل تغدو الحقيقة ضحية. وثمن تكريس تلك المزوقات مما تستعصي معه كتابة التاريخ الموضوعي، وبخاصة تاريخ من عدى الحكام وحلفائهم ـ أي التاريخ الشعبي. وليس أكثر فضحا لتسارر الحكام وحلفائهم على سردية أسيادهم على الأحداث وكتابة التاريخ لصالحهم خصما على من عداهم من أحبولة أسلحة الدمار الشامل زيادة على ما تترى إحداثه إبان الأزمة المالية التي جاءت لتبقى طويلا. وكانت آخر تنويعات الأخيرة قد انتشرت متساررة منذ خريف 2007 وتمثلت معلنة صيف 2009 وتباعا[i].
1 ـ تزويق خصخصة الربح وتأميم الخسارة:
وازعم أن الاستعمار الكلاسيكي وصولا إلى الرأسمالية المالية ومشاريع الاستباق الدفاعي أو"حملة تحرير العراق" أو الدمقرطة أو/و مشروع الشرق الأوسط الكبير، ليست سوى مفهومات وسيناريوهات حرية بان تتناقض مع نفسها على نحو فاضح. ذلك أن أي منها يجد نفسه في محنة القول بشيء وفعل نقيضه في التوسعات الرأسمالية مثلما يفعل غالبا في المستعمرات الداخلية للمتروبوليتان الخ. وأجادل أن تلك السيناريوهات لا تقتصر على التوسعات وحدها، فثمة تنويعات تتعين عليها الرأسمالية ما بعد الصناعية، وبخاصة المالية، في المجتمعات الغنية نفسها، وبخاصة الأنجلو أمريكية الأنجلو ساكسونية أكثر من غيرها بمغبة تكريس المشروع الصهيوني الجديد أو ما يسمى مشروع القرن الأمريكى الجديد أو ما يزوق أحيانا فيما يسمى الاستثنائية الأمريكية Exceptionalism .
و تعني الاستثنائوية وجيزا أن الولايات المتحدة تملك الحق الإلهي في أن تجلب ما تسميه الحرية والديمقراطية تخاتلا لبقية البشرية قسرا. وتقيض الاستثنائية بهذا الوصف لأمريكا ادعاء إعادة تشكيل العالم ـ ليس على شاكلتها كما تزعم تزويقا للمفردات المتخاتلة انما ـ على الشاكلة التي تقيض المراكمة وأقسى الربح خصما at the expense of على المدخرين، وعلى منتجي الفائض الخ، في كل مكان. وأجادل أن أمريكا استدعت مفهوم الاستثنائوية من عشرتها الطويلة وأعراب الشتات ممن كان قد تعين على إعادة تشكيل العالم على ما يناسبهم هم خصما على من عداهم. وأجادل أن الاستثنائوية تشارف مشروع مارشال على الأقل وربما كانت تنويعا عليه.
فقد تعين مشروع مارشال على إعادة تشكيل أوربا بعد الحرب العالمية الثانية وصولا إلى ربط وإخضاع اقتصادها، بخاصة بريطانيا، وتليها فرنسا وألمانيا في درجات المقياس، فيما بات يسمى نموذج التنمية الأمريكي تباعا The American Model of Development. وقد ارتهنت الإمبراطوريات الأوربية الغربية ـ البرجوازية الصناعية ـ التي صفيت لحساب الإمبراطورية الأمريكية ـ الرأسمالية المالية البازغة تباعا ـ بالبنك الدولي وصندوق النقد، ثم بمنظمة التجارة العالمية. وهكذا جرت الدول الأوربية الغربية وامتدادات أمريكا وراء الأخيرة في عجلة أو طاحونة إنتاج وإعادة إنتاج الرأسمالية المالية. وقد ازدهرت الأخيرة بصورة غير مسبوقة ثم لم تنفك أن راحت تتداعى أمام أعيننا تباعا ما بين ثمانينات القرن العشرين إلى العقد الأول من الألفية الثالثة.
و حيث تعني الاستثنائوية Exceptionalism أن الولايات المتحدة تملك الحق الإلهي في أن تجلب ما تسميه الحرية والديمقراطية لبقية البشرية قسرا. ولا يعنى ذلك سوى التخاتل على حقيقة أن تلك الشعارات تخفى نظام الهيمنة التي أطلق عليها مارتين لوثر كينج قبل اغتياله بقليل "أكبر دليل على العنف في العالم". ويخفى نشر الحربة والديمقراطية في العالم فكرة أن التوسع الأمريكي مقدر من عند الرب. وقياسا فقد كان الانجليز قد بسطوا نفوذهم العنيف على العالم بوصف ان ذلك النفوذ والتوسع الذي يفترضونه كان غاية التقدم الطبيعي للجنتلمان المسيحي الذي يحمل عبء مدينة وحضرنة الأهالي"[ii]. ويتعين من ثم على فلاسفة القرن الأمريكي الجديد، ليس وحسب التوفر على وصف أكبر جريمتين في التاريخ الحديث: فيتنام والعراق، على نحو يراجع الحقائق وينقحها to expunge وإنما يخرج هاتين الجريمتين إلى الناس في صورة مبرأة من الفجر والعيب. وقياسا فان الخارطة الذهنية الأنجلو أمريكية ومعمار لغتها حريتان بان تتجاوزا الحقيقة أصلا بعدم ذكر الحقيقة إطلاقا.
فتاريخ أمريكا تاريخ بلا ذاكرة كما يقول جون بيلجر عن تايم ماجازين Time Magazine نهاية القرن العشرين. فمثل ذلك التاريخ الذي بلا ذاكرة يحصر الامريكان في نوع من الحاضر البدائى. فالامريكان ضعيفو الذاكرة فيما يفعلونه بغيرهم، قياسا على قوة ذاكرتهم فيما يتصل بما يفعله غيرهم بهم، مثلهم مثل أو لعلهم تعلموا من بعض طوائف اليهود. ذلك أن الإعلام وهوليوود والمؤرخين القدامى والجدد يكرسون انتقائية الذاكرة الامريكية. وكان هنري لوس Henry Luce مؤسس مجلة تايم Time وهو الذي كان قد نحت مفردة القرن الامريكى الجديد في 1941 قال "إن القرن الأمريكي هو انتصار اجتماعي وسياسي وثقافي أمريكي على الإنسانية بامتلاك أمريكا الحق في "أن تفرض على العالم أجمع ثقل الهيمنة الأمريكية كاملا، من اجل أي غاية تراها مناسبة، وبأي وسيلة نراها نحن مناسبة أيضا. فخيلاء أمريكا المجيدة وقف على الولايات المتحدة".
ورغم ما يبدو من نعومة كلام باراك أوباما وتحايله على أن يحكى سردية مغايرة لسردية المحافظين الجدد، إلا أن باراك أوباما مثلا تعين على ما يشير إليه بارى جراي ب"خطة أوباما لنهب أمريكا[iii]. أي بتسليم أمر الاقتصاد الأمريكي والعالمي بالتماس لسوق المال والماليين، مما يعيد إنتاج سيناريو نهب الاقتصاد الأمريكي بمعرفة الإدارة 44 ومستشاريها، ومحاميها/ ومجلسي النواب. رغم أن الأخيران تتحكم فيهما أغلبية ديمقراطية.
2 ـ سفر تكوين ثقافة مكافئات المصرفيين الفاحشة والحرائق المالية:
كان الفكر الغربي الليبرالي قد نسب مراكمة الثروة إلى رأس المال الصناعي السلعي وأسلافه جميعا خصما على مساهمة العمل الحي في المراكمة والربح. ولم ينفك الفكر ما بعد الليبرالي ان راح سجأر بان المراكمة والثروة والربح تعود جميعا إلى ابداع المضاربين في أسواق المال وأصحاب المال للمنتجات المالية العبقرية Creative Financial products التى يخترعها الأخيرون. وقياسا تفترض ثقافة مكافآت Bonus culture المصرفيين في عز الأزمة أن الربح يعود إلى موهبة المصرفيين وليس لرأس المال الموظف مصرفيا. قياسا يغدو المال المتصرف فيه من حق المصرفي بوصفه الفاعل الأول في عملية المراكمة بغض النظر عمن كانت تلك المراكمة لحسابه إلا بقدر ما تضمن لحساب المصرفي. فحملة الأسهم وخاصة صغارهم ليسوا هم أصحاب المال، رغم إنهم هم اصحابه في الواقع، إلا بقدر ما يضحى بمودعاتهم، وسعر أسهمهم، وكذا مال دافع الضريبة لتعويض المصارف الهالكة جراء مغامرات المصرفيين، أصحاب المواهب غير المسبوقة في إحلال شرط المحارق المالية خصما على من عداهم هم. فالأرباح تعود على المصرفيين، والخسارة من نصيب صغار حملة الأسهم، ودافع الضريبة، اللذان يضمنان المصارف، ويجبران على شراء الأسهم السامة Toxic stock and shares. وتعبر الخسارة عن نفسها في الكوارث غير الطبيعية. أي التي من صنع الإنسان والطبيعية وفى الأوبئة والفيضانات والتحاريق والتصحر والمجاعات، إلى أن حلت ظاهرة راس المال الهارب Flight Capital بأشكاله، من المتسترة إلى المعلنة، في المجتمعات المضيفة للرأسمالية المالية بتنويعاتها الفطيرة إلى ما بعد الصناعية.
وكان موسي قد خرج بقومه ومعه ذهب سكان وادي النيل الاسراتى الشمالي( المسمى مصر) إن كانوا قد حلوا بها حقا[iv]. وخرج أبناء يعقوب باستلاب مدينة حمور والعماليق"[v] وعلى مدينة حبرون ـ الخليل ـ والعناقيين وعناب وجبل يهوذا واورشيم "عبر الاردن غربا وشرقا". ونهب داوود ملك جازر وملك زبير. وقد وصف "خروج" أعراب الشتات من تلك المدن والممالك بعد تدميرها أو تحريمها (بمعنى إحراقها عن بكرة أبيها) بما زوّق باكرا في "محارق" عمرت التاريخ الرسمي وسردية إعراب الشتات المتكاذبة. وقد تعلم الغرب من إعراب الشتات من طول المعاشرة والارتهان الفكري والتنظيمي جميعا منذ إن حل الأخيرون على شواطئ المتوسط الشرقية ـ واليونان وروما[vi]. و لم تكن المحارق سوى حلول شرط ازمات مالية و اقتصادية و كوارث طبيعية موصوفة يخرج بعدها اعراب الشتات الى البيداء مجدد مثلما فعل موسى مع قومه من ميصرام.
هل الأزمة المالية تنويع على المحارق المنوالية المسكوت عنها؟
أزعم أن الأزمة المالية الماثلة منذ خريف 2007 وتباعا، ليست سوى تنويعة مالية ما بعد صناعية على نظائر منوالية عبرت عن نفسها على مر التاريخ المسكوت عنه، فيما أعرفه إجرائيا ب"محارق منوالية" في كل مرة. وأجادل أن لعل الأزمة المالية الماثلة، كانت حرية بأن تؤلف شرط محرقة من تلك المحارق المتكاذبة، إلا أن الدول الغنية وقد ارتهنت بالديون لم تملك سوى أن تضمن أصحاب الأموال الهالكة. فلم تنفك الدولة أن أجبرت على "ضمان" الأعمال الهالكة جراء هجرة المال بعنف ـ ما اسميه رأس المال الهارب ـ وأناقشه في مقال مجادلة أخرى. ويلاحظ أن أوباما يسمي تلك المحارق باسمها. فقد راح يجأر في الأسابيع الأخيرة من يوليو 2009 وبعد مرور 6 اشهر وحسب على توليه السلطة معلنا انه "أطفأ الحريق الذي تمثله الأزمة". وقال "كان يجب أن نبدأ بإطفاء الحريق" وكرر "اعتقد أننا ابتعدنا عن الهاوية، اعتقد أننا أطفأنا الحريق".[vii]
ويجادل هذا البحث فرضية تترى عبر التاريخ المسكوت عنه خاصة وهى أن اللغة كان عليها ان تفضى إلى تبرئة الصفوات الأوليجاريكية بأنواعها منذ بدء التاريخ من مغبة وجود الأخيرة – الاوليجاركيات ـ أصلا في المجتمعات المضيفة. ذلك أن تلك الصفوات الأوليجاريكية المالية تربح، سواء انهار اقتصاد المجتمع المضيف، أو ربح مؤقتا. الأمر الذي ينبغي التستر عليه وإلا اندلعت الانتفاضات الشعبية كما في كل مرة على مر التاريخ ما أن ينكشف أمر تلك الصفوات النهابة. وتربح الأخيرة دائما كما تربح بصورة دورية على نحو فاحش يستحيل التستر عليه. فالاقتصاد المضيف ما ينفك أن ينهار إذ يمنى بعد الرخاء الوجيز بما يسمى في لغة الاقتصاد المالي المعاصرة خاصة ب"الفقاعة" Bubble. وتنفجر الفقاعة مع هروب رساميل الأوليجاريكيات الصفووية تلك في كل مرة منذ موسى حتى ريتشارد فلود الاصغر Richard Flud Jr. رئيس مجموعة مصارف الإخوة ليهمان Lehman brothers group الذى انهار منتصف سبتمبر 2008 ونظائره.
و أجادل أن انفجار كل فقاعة كان يعبر عن نفسه عبر التاريخ في هروب الرساميل المالية عشية اندلاع الأزمة حيث يخرج أعيان وأعراب الشتات وحلفائهم بثرواتهم تاركين عامة الشعوب بما فيهم شعوب أعراب الشتات ورائهم يتدبرون أو لا يملكون تدبر أمرهم. وكانت رساميل الأوليجاركيات الصفووية من أعراب الشتات محصلة حقن الاقتصاد المضيف بالربا، مما كان وما يبرح يخلق شرط تخثر وتشوه الاقتصاد في كل مكان. وكان نشاط تلك الجماعات لا يزيد على تكريس تنويعة باكرة ما تنفك تعبر عن نفسها في تنويعات معاصرة من اللاقتصاد Non-economy أو الاقتصاد الافتراضي Virtual economy بمعنى أن تلك التنويعة من الرأسمالية الربوية، كانت تتم خارجا ووراء وتبقى فائقة على الاقتصاد المضيفHost Economy .
فالرأسمالية الربوية بهذا الوصف حرية بان تغدو رأسمالية فائقة على ما عداها-مما يسهل معه هجرة رساميل اصحابها باكرا فيما اسميه برأس المال الهاربFlight Capital قبل هجرتهم هم عشية ما اعرفه إجرائياOperationally ب"المحارق الاقتصادية" موضوعيا. وقد عبر رأس المال الهارب عن نفسه في كافة المجتمعات التى استضافت اذولس الربويين أو تلك الجماعات الربوية. وقد تعينت الاخيرة على التعبير عن نفسها في اوليجاركيات مالية كما خلقت أوليجاركيات مالية صفووية حليفة وسمسارة في المراكمة الربوية في المجتمعات المضيفة على مر التاريخ.
و كان غلواء الصفوات الأوليجاريكية المالية وحلفائها يؤلف وما يبرح يؤلف فضاء هيمنة الاخيرين العقلانية على مقدرات العالم قاطبة= بمالهم المبدون-منذ العالم القديم إلى العالم الجديد-كالرأسمالية المالية الفائقة-من كل مكان إلى كل مكان. ويتحور Mutates الاقتصاد العالمى بهذا الوصف واقتصاد كافة المجتمعات بمعنى يتشوه أمام أعيننا كل صباح إلى لا اقتصاد أو ما يمكن تعريفه باللاأقتصاد الذي يغلب عليه المكون المالى Highly financialized على نحو ماثل وبلا فرار خصما على الاقتصاد الحقيقيReal Economy وهو الاقتصاد الذي يتمأسس تبسيطا فوق-اعادة التوزيع التبادل الاستهلاك الانتاج عائدا إلى نفسه مرة أخرى production-distribution-exchange-consumption- production going back to itself a new. وكان الأخير قد بات يقود فيه القطاع الخاص في أفضل الأحوال القطاع العام the private Sector leads and overtakes the public sector ويكاد الأول يقضى على الثاني لحساب اقتصاد افتراضى اى رأس المال المالي[viii].
ورغم أن رأس المال المذكور يناصب القطاع العام العداء ويتربص به الدوائر ويؤبلسه بان يحرم على الدولة التدخل في الأخير لصالح المنتجين والمدخرين الصغار وحتى المستهلكين إلا أن تنويعة اللااقتصاد تلك تبقى على القطاع العام من أجل أن يقوم ـ دوريا وبصورة موقوتة كما في كل مرة ـ بانقاذ القطاع الخاص كلما ألمت بالأخير ملمة من تلك الملمات الدورية بدورها. والأحرى يبقى على القطاع العام كيما ينقذ المصارف الهالكة ويشترى الأسهم والسندات الوهمية أو ما بات يسمى بالأسهم السامة أي ينقذ رأس المال المالي بحقن الأخير بما يشارف الاشتراكية دون أن يجرؤ احد على النطق باسم الأخيرة. ذلك ان القطاع العام يمتص أزمات القطاع الخاص وبخاصة قطاع المال بتلك المكونات الاشتراكية بامتياز بوصف أن تلك المكونات لا تقل عن تأميم المصارف الهالكة. فكلما أصابت الرأسمالية المالية أزمة هرعت الأخيرة إلى الدولة ـ و قد أرغمت الأخيرة على ضمان رأس المال المالي بمال دافع الضريبة وغصبا عنه وإرغاما ـ من أجل إنقاذ رأس المال المالي. وتقوم أمريكا أكبر وأهم دولة رأسمالية في التاريخ وأكثرها ثراء بتأميم الديون الرديئة خصما على دافع الضريبة الأمريكي وعلى المدخرين وعلى أرباب المعاشات وعلى العاملين والمنتجين جميعا طوال الأسبوع الثالث من سبتمبر 2008. ويقول الشيخ الأمريكي تشارلز سومر Charles Summer الجمعة 19 سبتمبر 2008 إن الكونجرس يقوم بإنشاء وكالة مثل تلك التي أنشأت في 1989 لشراء الأسهم البائرة التي انخفضت أسعارها وأدت إلى انهيار المصارف والمؤسسات المالية الأمريكية التي تواجه الإفلاس أو تتعرض للإفلاس تباعا.
فقد تعين على دافع الضريبة الأمريكي أو الأحرى أرغم على شراء الأسهم المذكورة بغض النظر عن قيمتها الحقيقية أو المستقبلية زيادة على إذعان الدولة لشرط توفير السيولة في الأسواق بالمال العام، إنعاشا للاقتصاد تكاذبا ـ بما سمي التيسير الكمي Quantities Easing في سيناريو إنقاذ رأس المال المالي الشرس. ويقوم الكونجرس ـ بشقيه الديمقراطي والجمهوري ويعمره بالنتيجة شيوخ ونواب موالين للرأسمالية ـ وتسيطر عليه بالضرورة جماعات اللوبي الرأسمالية ـ يقوم بإنقاذ تلك العناصر التي تتسبب في ذوبان الاقتصاد بصورة دورية. ويخرج مدراء وكبار حملة الأسهم من كل ذلك رابحين مثلما فعل ويفعل جولدمان ساكس Goldman Sacksالذي كانت مصارفه وراء الأزمة الماثلة والأزمة الاقتصادية الكبرى في الثلاثينات قبل ذلك. وهو الذي تعين على "ترتيب دفاتر اليونان" على غرار ما فعلت شركة إينرون عشية 9 سبتمبر 2001 فأخفى خسائر وعجوزات ثم شجع بيع الأخيرة في أسواق المال أسهما سامة Toxic shares انتهت بخراب اليونان ما در عليه هو جماعات التي تتعاون معه مثل جي بى مورجان JP Morgan وستانلى مورجان Stanley Morgan أرباحا طائلة. وقياسا فعل المثل ريتشار فولد الاصغر Richard Fuld Jr. رئيس مجموعة مصارف الاخوة ليهام Lehman Brothers group الذي يملك قصرين وضيعة في ثلاث ولايات امريكية وطائرة خاصة وعدد من السيارات الليموزين. وقد تقاضى ريتشارد فلود صبيحة انهيار المصرف المذكور ما قدر بربع مليار دولارو منح ريتشارد فولد الاصغر Richard Flud Jr. رئيس مجموعة مصارف الاخوة ليهمان-الذى انهارمنتصف سبتمبر 2008 وجر معه انهيارات متسارعة في كل مكان-منح نفسه ما قدر ب 485 مليون دولار مقابل مدة خدمة 7 سنوات في ادارة المصرف. وقياسا منح مدير مصرف هبرزور HBros ـ أو الإخوان هاء ـ و قد افلس منتصف الأسبوع الثالث من سبتمبر 2008 وكان المدير المذكور يدير ازدا Azda احد اكبر 4 سوبر ماركيتات في بريطانيا ـ منح نفسه مليوني سهم في مصرف هبروز HBros الجديد الذي تمخض عن وشوك إفلاسه دمج الأخير وبنك باركليز الخميس 18 سبتمبر 2008. فأصحاب رأس المال المالي يربحون في كل الحالات:
ـ حالة ارتفاع أسعار الأسهم
ـ وحالة كساد سوق المال حتى الإفلاس.
ـ ومرة ثالثة يبقون هم وحدهم القادرين على شراء الأسهم البائرة في السوق بانتظار ارتفاع أسعارها مجددا وهكذا في دورات فيزيقية.
فإن انخضت أسعار الأسهم في الوقت الذي يصيب الناس فيه الزعر من السوق والإملاق لا يبقى من يملك شراء الأسهم سوى الرأسماليين الماليين غالبا مثلما حدث في روسيا المرسملة وفى الجمهوريات الاشتراكية سابقا مما خلق الأوليجاركيات الروسية الشهيرة[ix]. هذا وقد سجلت الاموال ـ الرأسمالية المالية الفائقة-معدلات هائلة من الدول الاشتراكية كالاتحاد السوفيتي وجورجيا والمجر غب سقوط الأخير وفى غيرها مثل انجلترا وأمريكا وإسرائيل ناهيك عن الاستحواذ على ثروات الدول النفطية او-و ابتزاز دول النفط يوميا وقد جأر هنري كيسينجر- وزير الخارجية الأمريكية الأسبق ـ الاسبوع الثالث من أكتوبر 2008 صراحة ـ رغم ما سرقته أمريكا من المال الخليج علنا ـ "أن ثروات النفط الخليجية هى خطأ فاحش بحق حركة المال الطبيعية- أي من الجنوب إلى الشمال. فكل ما عدى ذلك شاذ وغير طبيعي وينبغى وضع حد له"[x]. وقد نهب الشمال رساميل مماثلة من النمور الأسيوية والبرازيل وبخاصة الأرجنتين. وقد أفلست الأرجنتين جراء الرساميل الهاربة Flight Capital عشية 2001 حتى شارفت اقتصاد الجمع والالتقاط مما كتبت فيه بالصحف اللندنية وقتها.
وحيث تتعين الرأسمالية المالية على خصخصة الربح وتأميم الخسارة إلا إن الرأسمالية ما تبرح ـ وهي جاثية فوق ركبتيها ـ تملي شروطها هي والاهم لغلتها على خطاب الأزمة. وتكاد بعض فصائل الطير والنبات بل والبشر تنقرض والثقافات تقوض تباعا والعالم يشارف الهلاك مرة واحدة والى الأبد فيما تثرى أوليجاركيات من الأقليات الصفووية خصما على من عداها at the expense of all else.
يفوح برائحة التأميم، يقف ويمشى كالتأميم، إلا أن أحدا لا يجرؤ على النطق باسمه:
اضطرت الأزمة المالية الماثلة منذ خريف 2007 والتى لم يعلن عنها حتى صيف 2008 اضطرت الدول الغنية إلى شراء ما يسمى بالأسهم والسندات السامة من المصارف ـ المضاربة ـ التجارية ـ الهالكة بغاية إنقاذ الأخيرة من الإفلاس وإلا قامت قيامة غير مرغوبة أي ليست تلك القيامة التي يعد لها اليسوعوقراط والصهاينة ويزوقون أنفسهم بالمسيحيين اليهود. وقد تعينت الدول على شراء تلك الأسهم السامة بمال دافع الضريبة حتى باتت تلك المصارف ملكا لدافع الضريبة اى انها تكاد تكون باتت ملكية شعبية اى مؤممة بلغة الاقتصاد التي نعرفها. ولعل تخاتل التاريخ الغربي على الحقيقة الموضوعية ينقشع مع ثورة المعلومات. إلا لغة الاقتصاد ما بعد الرأسمالي ما بعد الليبرالي راحت تعرف ظاهرة التأميم بأنها إعادة رسملة Re-capitalisation. وقد تصاحبت تلك الظاهرة وضخ السيولة إنعاشا للاقتصاد تكاذبا ـ بما سمي التيسير الكمي Quantities Easing. فقد كانت مضاربة المصارف المذكورة ـ أو ـ رأسمالية الكازينوـ قد جففت الاقتصاد. ويقول بعض المحللين ان مثول تلك الظاهرة اى "التاميم" المزوق Euphemised nationalisation ذاك أو سمه ما شئت(ي) ينذر على الأقل فيما ينذر بنهاية الأنموذج الأمريكي للتنمية أن لم يبشر بحلول شرط نهاية المشروع الأمريكي الصهيوني أو الليبرالي الجديد. وكانت مثل تلك الأحداث حرية بان تشعل على مر التاريخ غير المكتوب مما بقى يزوق في مفردة "المحارق". فقد كانت رساميل الأقليات الاوليجاركية تملك الهروب من كل مكان إلى كل في كل مرة عشية اندلاع الأزمة وقد خلق هروب تلك الرساميل ما اعرف في كتاب الإسلام السياسي ورأس المال الهارب(1992) بمفهوم رأس المال الهارب Flight Capital من كل مكان ومنه اموال خليجية هائلة وغير مسبوقة وصولا إلى الأزمة.
ذلك أن التنويعة الرأسمالية ما بعد الصناعية كانت قد تعينت على كل من استقطاب كل آلية للسلطة والقوة وهيمنت عليها بصورة غير مسبوقة مرة واحدة فيما يبدو والى الابد من ناحية. ومن ناحية أخرى لم يعد ثمة سبيل أمام احد غير تلك الأقليات الاوليجاركية عمل شئ بشأن شئ ولو إلى حين. والمهم فورا فحيث يذهب المال العام لضمان تلك المصارف خصما على الاقتصاد الحقيقي ـ صناعة السيارات في ديترويت مثلا ـ وعلى خلق فرص العمل من ثم وعلى المفقرين فقد قضى على الحلم الامريكى ـ ولم يكن سوى مشروعا فاشيا ـ نحبه جراء الأزمة المالية التي خلفت ما قدر في خريف 2009 ب 1.2 مليار نسمة من المفقرين والجياع في العالم . وتهدد أزمة انهيار أسواق المال بصورة غير مسبوقة باندلاع السخط الشعبي أي نشوء شرط المحرقة كما في كل مرة. فقد خصمت خسائر المصارف المالية عالميا على الشعب الامريكى وغيره من الشعوب في كل مكان. ذلك أن أمريكا لم يعد لديها بعد ما سمي بأكبر أزمة في تاريخ البشرية ما ترشو به الشعب الامريكى كما فعل روزفيلت في 1929 بما يسمى بالتصادق الجديد أو التعاهد الجديد New Deal بل العكس فان أمريكا تلجأ إلى الشعب الامريكي كي يضمن المصارف الهالكة وشراء ما يسمى بالديون والأسهم والسندات السامةToxic Shares & Toxic Stocks تسويغا لفكرة أن الشعب يمتلك أسهما في تلك الثروات الوهمية مثلما فعلت بريطانيا وغيرهما مع دول بكاملها مثل الدول النفطية الخليجية. وكانت الديون السامة فيما بات نتيجة توفير الدين لمن ليس لديهم مكافئ يضمن دفع الدين الا ما خلا عقارهم مثلا. ولما كانت الأخيرة قد ارتفعت أسعارها بصورة فلكية متقصدة فقد راح أصحاب العقار يستدينون بضمانة عقاراتهم مما كان يصدر عن مفهوم الدين الذي لا يقابله مكافئ يوازى قيمة الدين اى ما يسمى بالانجليزية Sub-prime . والأخير في الواقع الموضوعي تزويق لما هو عبارة عما هو اقل من ضمان الدين. وقد رفعت تلك الصفقات:
ـ نسبة القدرة على الاستهلاك بين المواطنين
ـ ورفعت أسعار الأسهم والسندات في سوق المال إلى أسعار خيالية بدورها
ـ مما خلق ما يسمى بفقاعة سوق العقار Property Market Bubbleأو انكماش (قيمة) العقارProperty Crunch .
ولما انهارت أسواق الائتمان العقاري انفجرت الفقاعة كما في كل مرة. وكان مفهوم الدين تعريف لمن ليس لديه ضامن أو مكافئ أو مواز Collateral مقابل لدينهSub-prime lending وعندما نشأ المفهوم لأول مرة في 1967 كان مفهوما محترما. ومع نهاية رئاسة جورج بوش الأب في ثمانينات القرن العشرين اكتسب المفهوم سمعة سيئة. المهم يلاحظ الناس في كل مكان كيف ان السخط الشعبى يندلع في كل مرة تنفجر فيها الفقاعة من فقاعة الدوت كوم Dot-Com إلى فقاعة إغراق السوق بالعملات وصولا إلى فقاعة العقار. وتستدعى امريكا وغيرها مغبة ذلك السخط. وكان السخط الشعبي قد اندلع غب الازمة الاقتصادية الكبرى في ثلاثينات القرن العشرين. وقد جاء روزفيلت بالصفقة الجديدة New Deal استباقا للسخط الشعبي برشوة الشعب بإعادة إنتاج وتأميم بعض وسائل الإنتاج والمصانع. على انه اذا كان روزفلت قد جاء بالصفقة الجديدة عندما اندلع السخط الشعبي غب الأزمة الاقتصادية الكبرى في ثلاثينات القرن العشرين استباقا للسخط الشعبي إلا أن أمريكا لم يعد لديها ما ترشو به الشعب الامريكى بل العكس.
فأمريكا تلجأ إلى الشعب الامريكي كي يضمن المصارف الهالكة وشراء ما يسمى بالأسهم والسندات السامة. وقياسا تستبق أمريكا اندلاع السخط الشعبي غب انفجار فقاعة سوق العقار بصورة غير مسبوقة بتدابير بوليسية. فأمريكا لا تستبق اندلاع السخط الشبعى بالرشوة وإنما راحت بالمقابل تدرب الجنود على مواجهة انتفاضات محلية محتملة. ذلك إنها تدرك أن السخط الشبعى في هذه المرة ليس وحسب جراء الأزمة وحدها. فقد اتسعت الهوة بين الأثرياء الذين يزدادون ثراء من وراء أحبولة أن ثروات الأخيرين حرية بان تخلق الرخاء والعمالة وبين المفقرين الذين يزدادون فقرا. ففي أمريكا أحياء ومدن وقرى تشارف العالم الثالث، ويقف المفقرون صفوفا تصل أكثر من ميلين للحصول على طعام صدقة أمام ما يسمى مطابخ الحساء.[xi]Soup Kitchens
هل نشهد نهاية نموذج التنمية الامريكى؟
رغم أن معظم الدول الغربية باتت تملك ـ غب أزمة أسواق الائتمان ـ بمال دافع الضريبة ما يشارف 60% من أسهم وسندات وأرصدة أهم وأكبر المصارف. إلا أن ما يشبه ويفوح برائحة التأميم ويبدو تأميما بقى غير مذكور. ذلك أن أحدا لا يجرؤ على النطق باسمه بوصفه كذلك أو كمثول لموت النموذج الامريكي للتنميةThe American Model of Development تلك المفردة المشبوهة ـ ناهيك عن أن يعرفه كتنويع على الاشتراكية. فليس واردا تسمية هذا الشئ المخيف ـ التأميم ـ باسمه حتى لا يقيض ان يملك الشعب-ذلك المفهوم المؤبلس بدوره ـ ان يملك الشعب بماله كدافع ضريبة وصاحب المال العام تلك المصارف المالية التى قد تندرج تحت تصنيف وسائل الإنتاج أو اللاإنتاج سمها ما شئت(ي). وتزوق أمريكا تأميم المصارف السامة-كما باتت تعرف في أدب الأزمة الأخيرة غير المسبوقة ـ غب انهيار المصارف المالية والتجارية وتزوق بريطانيا التأميم على انه محض إعادة رسملة المصارف Re-capitalization كون التأميم تجديف بحق الرأسمالية. والواقع أن تلك التسمية وراءها ما ورءها. فان لم يطلق على التأميم اسمه الحقيقى فان ذلك يجعل إعادة رسملة أو خصخصة المؤسسات المؤممة يسيرا. وقد رغبت الحكومات الغربية بريطانيا وأمريكا مثلا عن تسمية التأميم باسمه لأنهما كانتا معنيان بإعادة المصارف إلى ما كانت عليه اى خصخصتها بصورة متسرعة وفطيرة وكأن النمط الرأسمالي ما بعد الصناعي يتعين على ما كان النمط الشرقي يتعين عليه كلما ألمّت بالمجتمع كارثة، أو أزمة أو تحاريق أو فيضانات إذ كاد الأخير يخلق شرط إعادة النظام إلى ما كان عليه قبل الأزمة بخاطر وإرادة المجاميع الشعبية التي لم تكن ترغب أو لم تكن تملك سوى أن تعيد النظام على ما كان عليه قبل الأزمة. أي أن الرأسمالية ما بعد الصناعية تتربص بسانحة إعادة خصخصة المصارف ما أن يسترخى السوق وتذهب الأزمة مثلما يلمح إليه تباعا منذ أواخر يونيو 2009 بالنسبة لمصرف نورثارن روك Northern Rock . وكان الأخير أول المصارف التي هلكت علنا. ذلك أنه بعد تلك الفضيحة المجلجلة، راحت الرأسمالية بتواطؤ الدولة والحزب الحاكم، وحتى المعارات تتواطأ على التستر على هلاك المصارف حتى فاحت رائحة الفضائح. وتزوق الرأسمالية ما بعد الصناعية أو المالية الماثلة بمغبة الأزمة مفردات جديدة أو مجددة ـ مثلما تقول بما معناه افتراضا ما بعرف اليوم بالمحافظاتيه Conservatism ويطلق على إعادة ما يشارف العافية أو عافية غرفة الإنعاش بالمال عن طريق طباعة الأوراق النقدية ـ بلا رصيد ـ اى إنعاش الاقتصاد تكاذبا ـ التيسير الكمى Quantities Easing الخ، ويخلق الأخير السيولة في أسواق تكاد تجف الخ، بدلا من رفع الضرائب غلى الموسرين وأولئك اللذين كانوا السبب في الأزمة مثلما تفعله الصين مثلا، تحت نفس الظروف دون أن يكون أثرياء الصين قد تسببوا في أزمة تذكر بقدر ما تعلقت أقدارهم بأسواق المال وبالعولمة.
وقياسا فقد ضمنت الحكومة الأمريكية المصارف الهالكة ب 700 مليار دولار، وضمنت بريطانيا مصارفها الهالكة ب 400 مليار إسترليني، وابتاعت أسهم فروع المصارف الأمريكية الهالكة ببريطانيا مثل نورثارن روك Northern Rock. وخفضت البنوك الأوربية المركزية كافة ـ مذعنة ـ أسعار الفائدة بنسب متفاوتة إنقاذا لاقتصاد العالم، بجاه الرأسمالية الهالكة. وقد طلع غوردون براون رئيس وزراء بريطانيا على الناس الاربعاء 8 سبتمبر 2008 معلنا أن المصارف هامة بصورة حيوية لحياة الناس. ويكرس مثل ذلك القول الاعتقاد في أن الاقتصاد واللااقتصاد صنوان، أو متلازمان، وان لا سبيل إلى حياة اقتصادية، بل لا سبيل إلى استمرار ما يسمى بالحضارة الغربية، بدون الرساميل المالية التي تخترق الاقتصاد بالربا أو الفائدة أو سمه ما شئت. ولا يذكر احد أن حضارات الصين والهند وفارس ووادي النيل وقرطاج وصولا إلى الحضارات العربية الاسلامية المشرقية والمغربية حتى الأندلس، كانت تزاول التجارة وتتبادل وتخلق مجتمعات عامرة بالحركة الاقتصادية والثقافية، بدون المصارف المالية الربوية غالبا حتى اخترقها الأخير فأودى ذلك الاختراق بها تباعا، مما أناقشه في الجزء الأول من بحث بعنوان من بابل إلى الأندلس.
و من المفيد تذكر أن اعتماد الاقتصاد الغربي وملحقاته المذعنة بالطبع على الخدمات المالية لم يعد يقلق الدولة، بل إن الحكومة تعلن اعتمادها على الدين العام وهى تبتسم. وكانت غواية الناس العاديين طويلا بالمديونية الفردية، مثلما كان الحال مع المديونية الريفية على مر التاريخ، قد خلقت شرط قبول المصارف وأصحاب المال من ورائها، بوصف أنها قدر محتوم. وقياسا بات شراء الأسهم السامة بالمال العام إنقاذا للاقتصاد، حريا بان يعود على عامة الناس بالمنفعة. فقد كان أصحاب المال ـ و قد راحوا يديرون الاقتصاد الأمريكي والبريطاني كما يدار كازينو ـ يجأرون بان المغامرة من الصالح العام Taking risks is for the public good. ولا يكفى دفاع الحكومات عن رأس المال المالي بل:
ـ تشعل الحكومات الحروب من اجل تكريس شرط مراكمة الرأسمالية المالية في كل مكان بلا حواجز أو حدود.
ـ وتبرز فتنتشر ظواهر لم تكن معروفة أو كانت خافية مخفية منذ سقوط الامبراطورية الرومانية كظاهرة الجيوش المخصخصة مثل بلاك ووترز Black Water وساند لاين Sandline وغيرهما. فقد قيض المرتزقة سواء مدنيين كالمحافظين الجدد، والليبراليين الجدد، والعقلانيين الجدد، أو العسكريين مثل الجواسيس الجدد من متنفذى الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA والمكتب الفيدرالي الأمريكي FBI والاستخبارات البريطانية المحلية MI5 و الدولية MI6 والكى جى بى KGB السابق بعد سقوط حائط برلين، ونهاية الحرب الباردة افتراضيا.
هل يلتقي الليبراليون الجدد والماركسيولوجيون؟
يقول المحافظون الجدد أنهم تروسيكيين وأنهم هم اليسار الذي ينبغي التطلع إليه لإحداث الثورة التي اخفق اليسار التقليدي في إتيانها. فهم اللذين تعينوا على خلق شرط الثورة ـ ولا يقولون أي ثورة، وهى ثورة مضادة بالتأكيد. وان ثورة المحافظين الجدد خليقة بتثوير عملية التطور مرة واحدة إلى الأبد. ويسرق المحافظون الجدد، كما ينتحل ذراريهم الليبراليون الجدد، المفردات اليسارية الثورية الألقة وقد اختطفوا خطاب اليسار، والفكر الاشتراكي، بل الماركسية بغاية إحراقها جميعا مرة. ومرة أخرى حتى يتسنى لهم استقطاب الناس حتى أكثرهم ذكاء في خطابهم الذي يستحيل إن يختلف معهم فيه احد. على انه من المقيد تذكر انه رغم ذكاء وأحابيل خطاب ومفردات المحافظين الجدد. إلا ان الناس باتت اذكي بكثير وأكثر إحاطة بالأحابيل اللامتناهية التي تلح عليهم بها أدوات الاتصال التي يحتكر معظمها محافظون جدد، وصهاينة بامتياز. فق
تسببت أجندة المحافظين الجدد في خلق شرط أزمات عبرت عن نفسها في انهيارات كبرى. كادت ـ لولا تدخل الدول ـ تحل شرط انتفاضات كبرى بدورها. ولعل الأزمات التي يتعين على خلق شرط نشوئها من أسميهم الخوارج، أو المعتزلة السياسيين الجدد، حرية بأن تحقق شرط قيام الاشتراكية، رغم أن الرأسمالية المالية كانت قد تعينت منذ 1980 وتباعا، على كسر ظهر الحركات المطلبية في الدول الغنية قاطبة، بترحيل العمالة من الأخيرة إلى الدول النامية والمفقرة، بغية تخفيض تكلفة الإنتاج خصما على أجور العمال وتنظيماتهم النقابية. وكانت مغبة الرأسمالية المالية العولمية قد تمثلت في البرازيل في ثمانينات القرن العشرين، وفى جنوب شرقي آسيا في تسعينات القرن العشرين، وفي الأرجنتين مع مطلع الألفية الثالثة. وفى كافة العالم في العقد الأول من الألفية الثالثة في التعبير عن أزمة حقيقة ومتلاحقة منقطعة النظير.
وكانت أزمة الثلاثينات نذيرا بالتطويح إما إلى اليسار كما في اسكندنافيا، أو إلى اليمين كما في أمريكا ـ مع فترة وجيزة من تنويع على ما قد يشارف إعادة التوزيع، باقتسام فتاة الثروة بالأحرى في صفقة روزفيلت الجديدة The New Deal. وقياسا يلاحظ بعض المحللين أن كتاب ماركس "راس المال" بات الأكثر مبيعا في ألمانيا وحتى في أمريكا. وان الناس يعودون إلى نبؤه ماركس في أن الرأسمالية لا بد أن تمر بسلسة من الأزمات، تنتهي إحداها حتما بالرأسمالية إلى حتفها. ذلك أن ثيولوجية حرية السوق، وحرية الاقتصاد، وتقليص الدولة إلى وكيل من الدرجة الثالثة، نيابة عن رأس المال المالي على الخصوص، كانت حرية بان توقع الرأسمالية في أزمة قد تبقى طويلا. فقد صعد ما اسميه الاقتصاد الافتراضي Virtual Economy أو ذلك الذي لا ينتج شيئا، أو اللااقتصاد بالأحرى خصماat the expense of على الاقتصاد الحقيقي Real Economy. وقد تقلص الأخير وسرحت أعداد متزايدة من العمال الصناعيين المهرة، وذوى الياقات البيضاء جميعا، وانخفض الإنتاج السلعي تباعا. ولم تلبث الدولة أن غدت الدائن الأول ـ فيما يرتفع الدين العام وتصبح الدولة مدينة للاوليجاركيات المالية، في دائرة جهنمية مفرغة. ولا معدى من أن تغدو الدولة المخدّم الأول، مما يعود في دورة كاملة إلى تكريس القطاع العام، خصما على القطاع الخاص، جراء هروب المال من كل مكان إلى كل مكان وراء اقتصاد افتراضي.
ويترتب على تلك الدورة ما يشارف التأميم والاشتراكية، عبر فترة شديدة الاضطراب. وكانت الدولة قد باتت ضامنا لسوق عمل موات لأصحاب العمل ولصالح رأس المال ـ و قد حوّل الأخيران الاقتصاد إلى اقتصاد يتمأسس فوق الائتمان والدين، حتى لم يبق لدى أحد سوى أصحاب المال والأثرياء وغيرهم من بعض أعضاء الطبقات المسماة متوسطة أو وسيطة، فلسا أو عقارا. وقياسا فليس غريبا أن يقول احد الأمريكان، ممن يعيشون في بريطانيا، أن أمريكا قد أخذت تدرب الجنود على مواجهة انتفاضات محلية. ويقول انه فيما يتصل بسياسة أمريكا الخارجية، فان أمريكا تحتاج للمال لضمان الحلفاء، ورشوة الخصوم، من اجل تمرير سياستها الخارجية. وأقول انه قد لا يكون قد بقى لديها ما ترشو به أحدا، سوى معسول كلام باراك أوباما، وابتسامته الأخاذة، وكأنه المسيح الدجال.
وتبرع الاوليجاركيات، التي كانت وما تبرح تسيطر على مقدرات المجتمعات المالية منذ البابلية والفارسية والرومانية الخ فالإمبراطورية الأمريكية عشية سقوط الأخيرات في فلسفة وتزيين خطاب باهر ألق مزوق، يصدر عن أقصى تنويعات المجاز Spin. فتجأر تلك الجماعات بما لا يزيد ولا يقل عن مصادرة على مطلوب الحقيقة، حتى يختلط الأمر وصولا إلى ما يسمى الفوضى الخلاقة ـ لحساب جماعات بعينها. ويخطف ذلك الخطاب ومفرداته العقلانية، حتى النخاع بالوصف أعلاه وتباعا، ألباب الكثيرين مع نضوب نبع المعرفة، والفكر، والعلم، إلا ما خلا ذلك الذي يخدم المال وأصحابه، ومزيد منه منذ عشية سقوط الإمبراطوريات السابقة على الرأسمالية في المجتمعات القديمة من وادي النيل الأسراتي واليونان، إلى الكلاسيكية كروما، وعبورا بالخلافات الإسلامية والنمساوية والمجرية، ووصولا إلى الرأسمالية الصناعية فالمالية الربوية.
اكسفورد مايو – آيار 2010
[i] الا ان الحكومة البريطانية مثلا لا تحتشم من نقد ايران وغيرها فى حين انها بقيت تنشئ لجان تحقيق الواحدة تلو الاخرى تحت الضغط الشعبى فى اسباب اعلان الحرب على العراق من لجنة لورد هاتون Hutton الى لجنة بترلرButler وصولا الى لجنة سير تشيؤكوت Chilcot Inquiry after its chairman, Sir John Chilcot التى اعلن عن قيامها الثلاثاء 17 يوليو 2009. وكان شيلكوت Chilco عضوا فى لجنة بتلر. وفى نفس اليوم يجأر الاعلام البريطانى بمطالبة ايران بحق الشعب ايرانى فى التعبير عن نفسه وبالشفافية والديمقراطية.
انظر(ي) John Pilger: Mourn on the 4th. Of July Newstatesman: 13th. July 2009:PP:36-39
[iii] .انظر(ي) خطة اوباما لنهب امريكا The Looting of America:Barry Grey :April 10.2009:Information Clearance house :
[v] انظر(ي) سفر صمويل1- 15:3
[vi] نهبت روما التى لم تكن اكثر من اكواخ من الطين والقش قرطاج سيدة الحضارات الشرق اوسطية وقتها ونقلت حضارة قرطاج بكاملها مثلما يفعل الاسرائيليون مع تاريخ وثقافة وزيتون الفلسطيين. ولم تنفك روما ان اشعلت النار فى قرطاج ثلاث سنوات متصلة بغاية القضاء على اى دليل على قرطاج. ولا يبقى بعد من قرطاج على وجه الارض الا اثار رومانية.
[vii] انظر(ي) وكالات الانباء –الثلاثاء21 يوليو 2009.
[viii] كما يقول جيمس جالبرايث James Gailbraith المستشار الاقتصادى لباراك اوباما مرشح الحزب الديمقراطى الامريكى فى انتخابات نوفمبر 2008.
[ix] انظر(ي) Amy Chua:2006:World On Fire: How Exporting Free-Market Democracy Breads Ethnic Hatred &Global Instability: Chapter 7 Particularly : pp:78-9.
[x] ما تبرح بعض الدول الخليجية مثل قطر وابو ظبى تعير مصرف باركليز-البريطانى-الجمعة 31 كاتوبر 2008 8.5 مليار دولار. ويفضل المصرف ذك على اللجوء الى وزارة الخزانة البريطانية سعبا للحفاظ على حريته التجارية. زيقيض ذلك للمصرف تفادى تدخل الدولة البريطانية ورقابتها على المصرف-كشرط للدين-على ما يدفع لكبار مدراء المصارف من مرتبات وامتيازات وعلاوات فائقة مما كان قد خلق بعض شروط افلاس المصارف التجارية والمالية. وكان غردون براون رئيس الوزراء البريطانى السابق قد توجه صبيحة الاعن الازمة الى السعودية يللب اليها الاستثمار فيما اسما البنى التحتية للاقتصاد البريطانيى ولم يحظ فقد تعلم معظم العرب قوانين اللعبة.
[xi] انظر(ى) طابور الرغيف فى امريكا بقلم ماثيو بيج Mathew Paige وتيم جينورTim Gainur : العرب العالمية. ويقول ماثيو بيج وتيم جينور انه في أغنى دولة على ظهر الأرض تصطف أعداد متزايدة من الافراد للحصول على طعام مجاني لانهم يجدون صعوبة في توفير الغذاء لاسرهم. وتقول سكند هارفيست Second Harvest اكبر مورد لبنوك الطعام في الولايات المتحدة وتضم 200 بنك في شبكتها ان الطلب على بنوك الغذاء في الولايات المتحدة زاد بما بين 15 و20 في المئة على مدار العام الماضي وان العديد من بنوك الطعام يواجه صعوبة في ملاحقة الزيادة . وتشتري شبكات بنوك الطعام منتجات طازجة لا تفسد سريعا وتخزنها في صوامع قبل توزيعها عبر سلسلة من بنوك الطعام في ارجاء البلاد . ولا يعرف اجمالي عدد المستفيدين من بنوك الطعام ولكن الاقبال المتزايد يدل على تراجع الاقتصاد فيما يعاني كثيرون من اصحاب الدخول المنخفضة اوالمتعطلين عن العمل نتيجة ارتفاع تكلفة الوقود وأسعار السلع الاساسية .وتقول تلك البنوك إن أعدادا اكبر ممن يشغلون وظيفة ثابتة يترددون على مراكزها ويقفون في صفوف لملئ استمارات والحصول على حصص طعام سواء مجانا أو بأسعار مخفضة. .وفي تطور مواز زاد ايضا الطلب على كوبونات الطعام الحكومية. وفي نورث داكوتا North Dakotaحيث نحو نصف الاسر التي تحصل على كوبونات طعام تضم بالغا واحدا او اثنين يعملون الا ان ذلك لا غيير من وضع تلك السر كثيرا. وتقول مارسيا بولسون المتحدثة باسم بنك طعام جريت بلينز Great Blenz ”لم لم تعد وظيفة منخفضة الاجر كافية لاعالة اسرة. . كما ان العمل بوظيفتين اوحتى ثلاث لم يعد كافيا” وتوضح قصة ماريا اولجا محنة كثيرات وكثيرين من اصحاب الاجور المنخفضة الذين يقولون انهم يعتبرون حاجتهم شبه الدائمة بلا مخرج فى الافق للحصول على طعام مجاني امرا مهينا في دولة تفخر باستقلالها وتؤكد على العمل كطريق مضمون للنجاح.
وتعمل ماريا اولجا بدوام كامل في رعاية كبار السن بمنازلهم في دوجلاس على حدود اريزونا مع المكسيك. وقالت انها تكسب 1100 دولار شهريا لتعول والديها وابنها المريض ولكنها تعجز عن الوفاء باحتياجاتهم بسبب ارتفاع تكلفة الطعام والوقود والعلاج والدواء .وفي معظم الاسابيع تجمع ماريا اولجا الحليب والفاكهة والخضروات من مستودعات للمخلفات خارج متجر سيفواي.Safeway وفي احد الايام في الشهر الماضي انتظرتماريا اولجا في الصف مع 147 اخرين خارج بنك الطعام بمنطقة دوجلاس للحصول على معونة من سلع البقالة لانها لم تملك خبزا. وتضيف وهي تضع نظارة شمسية "تخفي دموعها ”نتحمل الكثير من المذلة للبقاء. انه امر مهين ولكننا جوعى والجوع مرير.“ وفي مستودع ضخم في مونرو بجورجيا يعمل عشرات من المتطوعين والعمال المستأجرين في تحميل الطعام فوق شاحنات ضخمة. والمستودع تابع لمنظمة انجيل فود منستريز التي تعمل في جميع ارجاء البلاد وتبيع الطعام لمن يحتاجه بنصف الثمن. وتشتري المنظمة وهي ترتبط باحدة الكنائس المواد الغذائية بكميات كبيرة بسعر منخفض وتوفر الطعام لاكثر من 500 ألف اسرة تستعين بخدماتها في 35 ولاية حيث يتم توزيعها من خلال مجموعة من الكنائس الاخرى. ويقول جوزيف وينجو مؤسس المنظمة إن الاعتقاد بأن أداء الاقتصاد الامريكي هو أفضل مما يتردد في الانباء الا ان مثل ذلك التصريح يفشل فى ان يضع في الاعتبار واقعا مختلفا لملايين الامريكيين من بينهم مسنون. وقال وينجو ”اذهب لاي مجتمع دمرته الازمة وفقد وظائفj وستجد ان عدد اكبر مما تتوقع اوتعتقد من المواطنين ممن يصارعون من اجل توفير احتياجاتهم من الغذاء.“
وبالنسبة لسيلينا لويس28 عاما وهي صاحبة متجر صغير في الفاريتا بولاية جورجيا فإن الذهاب لبنك طعام نورث اتلانتا كوميونيتيي North Atlanta Community ينطوي على مفارقة إضافية فقبل عام تبرعت سلينا لويس ببعض المال للبنك كعمل خيري. ولكن التراجع الاقتصادي اضعف الطلب على متجرها وفي بعض الايام تبيع قطعة واحدة والحصيلة غير كافية لسداد ديونها وتوفير الطعام لها ولابنها مما يضعها في معضلة حول ما اذا كان عليها ان تغلق المتجر وتبحث عن عمل اخر . وتقول سيلينا لويس انها تركت وظيفة في مجال التسويق تدر أجرا مرتفعا لتفتتح المتجر وتضيف ”لا اريد التخلي عن حلمي لان اصعب شيء هو البداية.“ وتبين قصتها كيفية تضرر اصحاب الاعمال الصغيرة من تراجع الاقتصاد ولكن المشاكل قائمة عند شرائح اخرى من حيث السن والفرصة. وتقف بريندا سالازار في الصف امام بنك طعام دوجلاس وهي امراة في سن التقاعد ترتدي ملابس انيقة وكانت قد عملت في مجال التمريض في المدينة على مدار 25 عاما. والان بعد ان اصيبت بإعاقةفان بريندا سلازار تحصل على مبلغ شهري 944 دولارا وكوبونات طعام ولكن بعد سداد الايجار وفاتورة المرافق وتموين سيارتها بالوقود لا يتبقى لها سوى 16 دولارا للطعام. وتقول ”اشتريت جالونا من الحليب وكيسا من البصل الاخضر وكيسا من العنب. انفقت 17 دولارا. اشتريت ثلاث سلع فقط.. الان ادعو الله كي اتمكن من تزويد سيارتى بالوقود.