المحاولة الأولى: بعدما انفصلت عن زوجتي وتمّ الطلاق ووجدت نفسي معزولاً ومشرداً في الشوارع، بلا مال ولا دار ولا أطفال ولا كتب، تعرّفت على امرأة من كوريا الجنوبية تعمل نادلةً في حانة بمدينة بون الألمانية، اسمها جين. وقد بدا الاسم غريباً حينها، ولعلّه كان تشين، على أية حال، لم أكن آنذاك متبطراً، ومازلت، لكي اخضعها لاستجواب شرقي عن معنى الاسم ومغزاه. ولم تكن جين تجيد اللغة الألمانية. لكنها كانت مفرطة الحسّاسية، شأنها شأن بنات شرق القارة الآسيوية وأبنائها. فهم يضحكون بكثرة ثم يجهشون بالبكاء لأمر هيّن وصغير، ونادراً ما تجدهم في حالة وسط. لكنّ جين لم تبادلني الحبّ إلا فترة وجيزة، واضطررت بعدها أن أغادر بون. فكتبت قصيدة وداع إلى جين، جاء فيها: عينان كوريتان/ آه كم كنت قريباً منهما/ قرب الرحيل من الحقائب.
بيد أنني سرعان ما أدركت بأن العينين الكوريتين هما آخر ما يمكن أن يتغزّل بهما العاشق الحقيقي. فمحوت القصيدة وحاولت أن أمحو صورة جين من ذهني شيئاً فشيئا.
المحاولة الثانية: كنت قد تعرفت على امرأة عراقية من تكريت، لكنها أصبحت بعد سقوط نظام البعث ضحية التطهير الطائفي، السنّي خاصةً، في بغداد. فرحلت هي وأهلها إلى بلد مجاور، فلحقت بها. وحاولت الاقتراب منها وإقناعها بالمجيء معي إلى أوروبا، لكنها أبت وأصرّت على البقاء هناك. وحاولت أن أجعل من والدتي وسيطة، فأبلغتها بالهاتف بأنني وقعت في حبّ امرأة "سنيّة" ومن تكريت. فأصابتها الدهشة، إن لم أقل الهلع، بادئ الأمر وقالت "سوده بوجهي يمّه، عمت عيني!"، قبل أن تنفرج أساريرها وتبتهج حتى كادت تشرق بدمع فرحها، وهي نادراً ما تفعل ذلك مثل أيّ امرأة عراقية متشحة بالسواد والحزن. ولم تنفع الوساطات كلّها لثنيّ العراقية الشابة عن قرارها بعدم الرحيل إلى أوروبا: "هاي شخبصتنا بأوروبا؟ أيباخ!"
المحاولة الثالثة: رأيت صورة المرأة الثالثة في الفيسبوك، وكنت أعرف، وهنا بيت القصيد، بأن علاقات الفيسبوك سرعان ما ينتهي مفعولها مثل لايكات الأمس، لكنني مع ذلك تركت العنان لأفكاري، وقلت ما الذي سأخسره بعد ضياع العراق وسوريا وفلسطين من قبلهما؟ وعندما اتصلت بها جاء صوتها قوياً وغليظاً. فشعرت بالريبة وحسبتها رجلاً أوّل وهلة. فاستعنت بأقرب صديق لي وقال إنّ المرأة ذات الصوت الأجش تكون جميلة وساخنة جنسياً كالعسل المجرّش! فذهبت إلى الموعد أضرب ليس أخماساً بأسداس فحسب، بل أسباعاً بأثمان. وكنت متلهفاً لرؤيتها وصار قلبي يخفق باضطراب وعنفوان معاً. ووصلت قبل الموعد، التزاماً بالعرف الأخلاقي السائد وهو أن الرجل لا يجوز أن يدع المرأة تنتظره مهما كان السبب. وكانت محطّة قطار الأنفاق أصغر محطة في المدينة. فسمعت صوتاً يهتف باسمي، وبدا لي مثل نعيب الغراب، وأشدّ غلاظةً من صوتها في الهاتف. لكن لا مفر، فقد سبق السيف العذل، وليس هناك متسع للهرب. وكانت المرأة حليقة الشعر وبانت شبه قرعاء وواسعة الفمّ وكبيرة الأسنان وقصيرة القامة وترتدي دشداشة طويلة لا تتناسب مع قوامها، ونعلاً من الإسفنج. وفوراً سألتني: هل لديك مانع من الذهاب إلى سوق البراغيث؟ فلم أدرك ما قصدت، وفعلاً جعلتني أضرب أخماساً بأعشار، حتى أدركت بأنها تعني سوق الروبابيكيا أو العاديات أو الأشياء المستعملة. فنجحت في مباغتتي وصرت أفكر في براغيث الحارس التتري التي كانت تتقافز فوق فراء معطفه في قصّة كافكا "أمام القضاء". وأخذت تغذّ السير أمامي دون أن تلتفت لي. فمضيت خلفها إلى سوق البراغيث، التفت بحذر يمنياً وشمالاً، خشية أن يراني أحد يعرفني. وحالماً دخلت السوق صار نعلها يثير التراب كالمحراث. وكانت "تهف ربّ الكوّاد"! فالتفت أخيراً وقالت: خو ما تعبتك ويايّ؟ فقلت كلا. لكن أليس من الأفضل أن نجلس في مقهى ونتحدث قليلاً بهدوء؟ فردت عليّ: وهل شعرت بالضجر بعد خطوتين من السير في السوق؟ وبعدما أنهينا جولة كاملة في السوق المترب، تلقيت منها دروساً عن الكتابة والاقتراب من نبض الحياة اليومية: لعد شلون تكتب عيني؟ عايش بس عالخيال؟ اقتنعت بالذهاب إلى المقهى ولم تحتس سوى القهوة السوداء. وتحدثنا عن أشياء متفرقة، أو متفرفات بلغة الاجتماعات الحزبية، ثمّ رمقتني بنظرة ثاقبة وقالت: عيني هاي لويش مد تعلق على كتاباتي؟
وعندما تذكرت هذه الحالات الثلاث، أو الإخفاقات الثلاثة، هرعت إلى عيادة الدكتور زيغموند فرويد، لأنني لم أستطع، ولأسباب أمنية وسياسية واقتصادية، الذهاب إلى الإمام العبّاس، لأستغيث به!