حزمت أمري على أن أسمي هذا البوست "رأيت الخرطوم" متناصا مع شاعر فلسطيني عظيم هو مريد البرغوثي الذي كتب بمناسبة عودته إلى فلسطين بعد غياب دام ثلاثين عاما واحدا من أعظم الكتب العربية التي تتحدث عن الغربة، ألا وهو كتابه "رأيت رام الله".
وقد حدثني عنه كثيرا قبل سنوات خلت الصديق المبدع يحي فضل الله من خلال محادثاتنا التليفونية الطويلة الشائقة، وأبت شهامته الإبداعية إلا أن تبرني به بعد أن أرسله لي بالبريد من منفاه في كندا.
وكانت بالفعل-بادرته الخيرة تلك-هدية عظيمة، أهدتني نفحا أسطوريا من خلال أسلوب البرغوثي السلس الجميل. وتربطني بمريد البرغوثي وشائج كثيرة: فهو قد غاب 30 عاما عن رام الله، وأنا غبت 24 عاما عن الخرطوم. وهو قد سافر لإكمال دراسته في جامعة القاهرة عبر عمان، وأنا غادرت الخرطوم مساء 21-9-1986 إلى صوفيا لدراسة الاقتصاد، حسب المنحة، وغيرتها بعد ذلك لدراسة علم الاجتماع في جامعة صوفيا. ونشترك في كتابة الشعر، مما يعمق الغربة حسب ما كتب حين قال::
لكنني أعرف أن الغريب لا يعود أبدا إلى حالاته الأولى "ثم يواصل" حتى لو عاد، يصاب المرء بالغربة كما يصاب بالربو، ولا علاج للاثنين، والشاعر أسوأ حالا لأن الشعر بحد ذاته غربة".
***
لأسباب لا أستطيع الآن ذكرها كان لا بد أن أسافر إلى السودان في ظل أقصى درجات الكتمان. ولم أخبر عائلتي بخبر سفري إلا قبل يوم واحد. حينها أصابني وجوم وذهول، وبدأت أتساءل كما بطل نصي القصصي القصير"وللكمثرى وظيفة أخرى-" صرت أتساءل "كيف يمكن أن أواجه وطني؟"ولا يفهم ما قلت به إلا بقراءة الفقرة الختامية في مذكرات بطل نصي القصصي القصير"منصور السناري:":
Quote: مطار صوفيا مزدحم بالمودعين . . أصدقائي يحشون حقائبي بالخطابات والهدايا، ويحشون ذاكرتي بالوصايا للأهل والعشاق. حانت ساعة الدخول إلى صالة المطار وودعتهم واحدا واحدا في شرود أصيل وأسى مصطنع . . شعرت بوخز عميق في قلبي . . كيف سأواجه وطني؟ كانت هي تقف منزوية، لم تودعني، وكانت ترمقني بطرف عينها الثالثة . . كانت حزينة في إباء أنثوي مهزوم، وكنت مرتبكا قليلا . . رمقتها باشتهاء كسير . . ماذا ستكون في حياتي؟ . . داهمني هذا السؤال عند بوابة الدخول. . كنت أفكر فيه وأنا أتابع إجراءات السفر في تبلد. . فاحت رائحة كمثرى فسعلت . . تذكرت قولا لصاحبي بارودي "ليس من الضرورة أن تؤكل الكمثرى، ولكن لها وظيفة أخرى. . " الطائرة المغادرة إلى الخرطوم ستحلق بعد خمس دقائق. . حملت حقائبي وهرولت تجاه لغز قادم وسؤال يطاردني "ماذا ستكون في حياتي"؟
وللقارئة الكريمة/ القارئ الكريم أن تبدل/ يبدل اسم صوفيا بسان فرانسيسكو. .
آنذاك بدأت داخل النفس عملية جرد حساب عسير، وصرت أتساءل كما مصطفى سعيد في وصيته التي تركها للراوي"أنني لا أدري أي العملين أكثر أنانية، بقائي أم ذهابي. ومهما يكن فانه لا حيلة لي". ويمكن أن نحورِّ وصية مصطفى سعيد لنقول أي العملين كان أكثر نجاعة: بقائي في الوطن أم رحيلي في بلاد متعددة هي بلغاريا، ومصر وليبيا واليمن ولبنان والولايات المتحدة الأمريكية؟ قضيت نصف تلك المدة في الدراسة والتحصيل: درست ست سنوات اللغة البلغارية وعلم الاجتماع في بلغاريا، وحصلت على ماجسترين الأول في علم نفس إرشاد المجتمع community counseling psychology والثاني في التربية، ودرست 12 كورسا في علم السلوك التطبيقي.
قلت في "قامة الوردة الكوكبية"عملت بمهن عديدة أخرها حامل القات للسيدة". بالتأكيد إن حمل القات للسيدة، كان اختراعا شعريا، لكنني عمليا تقلبت بين أعمال هامشية مثل التنظيف في لبنان والولايات المتحدة، والعمل في مصانع كمبيوترات شركة كومباك، ومطعم للوجبات السريعة، وكعامل مبيعات في سلسلة المحلات الشهيرة "تارقت"، ثم في مهن أخرى كمدرس لعلم الاجتماع والفلسفة والمنطق في المدارس الثانوية في ليبيا واللغة الانجليزية في المدارس الإعدادية والثانوية في اليمن، وكمدرس مساعد في منطقة الاسكندرية في ولاية فرجينيا، وقضيت أربع سنوات ك therapeutic staff support في مدينة فيلادلفيا التي كتبت فيها نصوصا شعرية عديدة أدرجتها تحت عنوان "الفيلادلفيات" في ديواني الذي سيصدر في يناير القادم "لاهوت الوردة"، وأخيرا كبروفيسور مساعد في كاليفورنيا.
حدث لي تطور كبير في ما يتعلق باللغات، فقد تعلمت لغة ثالثة هي اللغة البلغارية لدرجة انني كتبت بها أطروحتي للتخرج وكانت عن علم اجتماع الأدب، كما تحسنت لغتي الانجليزية قراءة وتحدثا، وأتيحت لي مصادر معرفية كثيرة عربية عن طريق ما سمي بثورة "الانفوميديا. وأصدرت خلال فترة الهجرة والنفي كتابين على نفقتي الخاصة وهما ديوان "انقلابات عاطفية" و"خطاب المشاء-نصوص النسيان"، وبسطت عشرات البوستات في الأسافير، وكتبت ديواني الثاني "لاهوت الوردة". وكتبت أيضا نصين قصصين هما "وللكمثرى وظيفة أخرى-الوقائع الخفية في حياة منصور السناري" و"المفارق الفكهة-موت مدرس متجول".
لكن كل ذلك التطور الذي حدث لا يمكن أن يمحي كلمات ادوارد سعيد في "صور المثقف" والتي صدّرت بها مقدمة كتاب"خطاب المشاء" وهي :"المنفى هو أحد أكثر الأقدار مدعاة للكآبة".
في الثامن من نوفمبر، عام 2010 ، انطلقنا أنا وزوجتي سلوى صيام من مدينة مونتري في الثامنة صباحا، ووصلنا بعد ساعتين إلى مطار مدينة سان فرانسسكو.
كنت مصابا بتمزق في قدمي اليسرى ولذلك كنت انتعل نعلا طبية خاصة، مع عرج خفيف ما زال يلازمني بشكل طفيف حتى بعد أن شفيت من آلام التمزق، لأنني تعودت على مدى شهر، أن أسير كالأعرج.
كنت مرتبكا جدا في انتظار إقلاع طائرة اللوفتهانزا التي ستقلنا إلى مطار فرانكفورت. وللاطمئنان على ان ارتباكي حالة طبيعية، سألت سلوى إذا ما كانت هي أيضا تحس بالارتباك مثلي. فأجابت بالإيجاب، وأضافت "أنا الذي زرت السودان العام الماضي أشعر بالارتباك، فما بالك أنت ؟ كانت الأوصال ترتجف، والقلب ينبض، وهو ما هو حسب تعبير الأستاذ محمود محمد طه باعتباره حاسة سابعة للإنسان، ناعيا على الطب الحديث أن يعتبره فقط مضخة للدم. يقول في مقدمته لرسالة الصلاة:
"وقد أخطأ علم الطب الحديث - علم وظائف الأعضاء- حين ظنه مجرد مضخة للدم . . والأمر كما هو عليه في الدين.
وصلت إلى مكان صعود الطائرة محمولا على كرسي متحرك. وصعدنا إلى الطائرة الألمانية. هبطنا مطار فرانكفورت بعد طيران دام 11 ساعة. وانتظرنا خمس ساعات حتى وصول الطائرة المتجهة إلى الخرطوم. آنذاك ازدادت ضربات القلب واعترى النفس شعور يترواح بين السعادة والحيرة والانقباض مجهول المصدر.
هبطنا مطار الخرطوم في الساعة الحادية عشرة والنصف مساء. لم يكن المطار مجهزا بحيث ندخل إليه من الطائرة، فركبنا الباص. دخلنا صالة المطار التي بدت قزمة مقارنة بمطاري سان فرانسيسكو وفرانكفورت. هنالك إعلانات كبيرة لشركات اتصالات ولا يوجد حمام للرجال. كانت إجراءات الدخول سهلة، ولم يقم ضابط الجوازات بإلقاء التمنيات بقضاء وقت جميل في السودان كما عهدنا في المطارات الغربية. ويبدو أن الموظفين لم يدربوا على فن الاتيكيت و"الكستمر سيرفيس". ثم حمل أحد العمال حقائبنا إلى خارج المطار، وسرنا خلفه حتى وطأت أقدامنا "الدرّاب" المتناثر خارج صالة الوصول.
للدرّاب سيرة أخرى، إذ قبل أن تطأه قدماك، تشاهد عشرات المستقبلين خارج الصالة التي لم تصمم أصلا لكي يعانقوا فيها أحباءهم. حتى في المطارات يصرون على "تهميش" المواطنين. ولم أنتبه لمرافقتي إلا عندما سمعت صوت بكاء على راحل. بعد ذلك رفعت الفاتحة وتناثرت روحي على بقايا الحجارة والطوب، لكن الألم الصادر عن قدمي نتيجة السير فوق "الدرّاب"، كان يعيدني من حين لآخر إلى سيرة البحر أي الدرّاب. لم أشاهد أحدا من أسرتي في انتظاري، فانقبض قلبي قليلا، "ربما أنهم ضائعون وسط زحام المستقبلين. ما سكّن هواجسي كان عبارة عن نصيحة قديمة بأن أجد لصاحبي سبعين عذرا. صعدنا إلى "أمجاد"، وانطلقت بنا السيارة. كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشرة مساء بقليل. إنها إذن "الخرطوم بالليل". اختلط صوت "عقد الجلاد" وهو يصدح "يا جمال النيل والخرطوم بالليل"، مع أول لافته صادقتني "جهاز الأمن العام-مكتب خدمات المواطنين". منذ متى كانت أجهزة الأمن في خدمة المواطنين، والخرطوم التي كنا نعرفها كانت مأوى لبيوت الأشباح والأفغان العرب ؟و أفراد "عقد الجلاد" كانوا يجبرون في "بيوت الأشباح" على الغناء وسط تهديدات الذين لا يعرف من أين أتوا. إذن فخلال غيبتي أصبح جهاز الأمن مهذبا. وحلم "تهذيب أجهزة الأمن" راود الشاعر محمود درويش حين عاد إلى فلسطينه من المنفى الباريسي، بعد عشرات السنين ليجدها مثلي في "حالة حصار". كتب من مخبئه عن حلم جديد بتأنيث أجهزة الأمن:
ومختلفون علي واجبات النساء
(ستُحْسِنُ صُنْعاً لو اخْتَرْتَ سيّدةً لرئاسة أَجهزة الأمنِ).
لم أستطع تبين أسماء الشوارع، لأن مصابيحها كانت مطفأة، ولم أتعرف عليها إلا من صوت أحد المرافقين" هذا شارع كذا، وبعده شارع فلان ويوازيه شارع علان"، إلى أن أتى إلى ذكر شارع الجامعة. كان منبعا للمبادرات السياسية والفكرية والإبداعية والعاطفية أيضا. والآن تكسوه مسحة من القتامة والوحشة. شارع الجامعة، إذن. حلّقت روحي إلى الشارع المؤدي إلى مكتبة الجامعة. حينها كنت أدرس لامتحانات سنة "البرليم"، فإذا بنفسي تترك كراسات الفيزياء والكيمياء وعلمي الحيوان والنبات، لتفتش عن كتب الأدب. وانقلبت حياتي رأسا على عقب حين عثرت في رفوف منزوية ومكسوة بالغبار على أعداد من مجلة "مواقف" التي أصدرها أدونيس. فكانت تلك أولى عتباتي وأنا أرتقي درج "الحداثة".
شهدت في "شارع الجامعة" مولد أول نص قصصي لي وهو "أرجاس ود المجذوب"، وتكوين جماعة "الصحوة الأدبية"، وتأسيس إتحاد الكتاب السودانيين، ومولد عشق. كانت تشبه "صوفيا لورين"، وتتكلم كأنها تمارس الجنس، وأهدتني "انقلابات عاطفية" التي سميت باسمها ديواني الأول. الخرطوم بالليل، كان ثوبا جميلا ترتديه النساء اللواتي كن يملكن "القدرة على تثبيت البرق في الطرقات". أكتب عنك وأعرف أنني كايزابيلا الليندي ، "أكتب كتمرين متواصل عن الاشتياق".
بعد محادثات هاتفية ظهر أهلي: أختى "عوضية" التي حدّثت اسمها ل"هبة"، وأخي نزار الأصغر، الذي اسميته على نزار قباني، بينما ظن أهلي أنني أسميته على جد العرب، والشفيف زوج شقيقتي الصادق الهاشمي. أخيرا أشتم رائحة العائلة. وانطلقنا بعد العناق الطويل إلى حي "النزهة" الذي تركته باسم "العشش"، والتي تم ترحيلها إلى مكان آخر أسماه العنصريون "الوالي دقس" لأن سكان العشش قد حظوا ببيوت واسعة، وأرض مخططة، أو كما قالت أحاديث المدينة السرية.
لم أتمكن من ملاقاة الوالدة آسيا لأن الزمان كان الساعة الأولى من فجر الأربعاء. وفي العاشرة صباحا، كان اللقاء المليء بالكلمات والدموع, وفترات صمت حينما يعجز الكلام والدمع. لا تزال كما هي رغم مصاعبها في المشي: ذاكرة لاقطة حافظة خاصة لأشعارها، إنسانية متدفقة تجاه الغريب والفقير والمسكين، وبر -لا حد له- بصلة الرحم، التي تصر على مواصلتها متكئة على عصا السماحة والعطف والعرفان، ولا تجف الثمالة في كأس محبتها. نتذكر الماضي، وأسالها عن عرسها الذي كان حديث "كبوشية" لعقود. ولأن أخ العريس-أي أبي-كان الموسيقار "حسن خواض"، فقد أحيت حفلات العرس فرقة موسيقية كاملة، وعدة فنانين تذكر منهم أمي عثمان حسين وعثمان الشفيع. وتذكر لي كيف أن أبي كان حريصا على جمع مقالاتي وأشعاري، كما كان حريصا على ما تبقى من مكتبتي وجمع منها عدة حقائب ، أكلتها الأرضة في في بيوتنا في "كبوشية"، التي هجرها أهلي، مما أدى إلى تهدمها، وسكنها بعض من "العرب"، وهو الوصف الذي يطلقه السكان الأصليون على البدو والعرب الرحل.
***
اكتشفت أنها متابعة لما أكتبه عنها، فهي كانت تكرر مقاطع من رسالة كتبتها لها في الثامن من مارس عام 2004، وتحفظ منها بعض المقاطع. كنت قد كتبت:
انه الثامن من مارس يا أمي "آسيا الشيخ الخضر، "
اعرف انك لم تحتفلي به أبدا في حياتك،
وربما لم تسمعي به
أنا غير متأكد من ذلك
فعندما كنت طفلا وصبيا لم اسمع به أبدا في "كبوشية"
إلى أن ذهبت إلى الخرطوم
وبعد سنوات تعرفت على ذلك اليوم من صديقاتي "اليساريات"
ولم اعرف أهميته إلا بعد أن ذهبت إلى صوفيا
هنالك فقط عرفت كيف إن هذا اليوم "مهم جدا"،
كما عرفت أيضا أننا يمكن أن نحتفل بعيد "الحب"
ونحن قوم تعودنا ألا نبوح بمشاعرنا وعواطفنا،
فكيف يمكن أن نحتفل بها؟؟
انه الثامن من مارس يا أمي "أسيا الشيخ الخضر، "
هل أرسل إليك باقة زهور؟؟
لن أرسلها إليك لسببين:
الأول انك ربما ستقولين "ولدي جننوهو الامريكان ورسل لي قشّ"!!!ّ
أجي يا يمة!!!
آخر الزمن وليدي قايلني غنماية!!!
رغم أنني اعرف أن "القيامة ليست الآن", وانك لست غنماية،
إلا أن السبب الثاني مرتبط بعلاقتي المتدهورة بالزهور
فبالرغم من الرأي السائد ان الشعراء من أكثر الناس ارتباطا بالزهور،
فان علاقتي بالزهور اضطربت وساءت بعد أن أقنعني صديق في" صوفيا" أن نذهب لحفلة ميلاد "صاحبة صاحبو البلغارية"
ورغم إنني لم أكن مدعوا إلا إنني تشبّثت بروح القطيع التي تربيت عليها كقروي جعلي صغير كنت اعرف أن الأرقام الفردية والزوجية تلعب دورا مهما في كيفية اختيارك لباقة الزهور ذهبت إلى بائع زهور وأفهمته ما أريد وما استشكل علي من أرقام. بدهاء التاجر اخبرني عن الإمكانيات المتعددة حول عدد الزهرات. فاخترت ما يتواءم وجيبي الضعيف. وحينما حملت تلك الباقة المتواضعة من الزهور داهمني إحساس بأنني شخص أخر. ولم أكن اعرف كيفية التعامل مع الباقة:
هل احملها باليمين ام الشمال؟
كيف سأناولها للمحتفى بها؟
هل سأضعها على الطاولة ثم أصافحها؟
أم أصافحها ثم أضعها على الطاولة؟؟
أم أضعها في اباطي والنجم، وابتسم لها؟؟؟
أم؟ أم؟ ام؟ أم؟
إنّه الثامن من مارس يا أمي "أسيا الشيخ الخضر"،
ولذلك سأرسل إليك بطاقة اعتذار لك عن ذكوريتنا القامعة
وأرجو أن يرسل الآخرون ، خاصة الذكور، والأخريات بطاقات اعتذار
لأمهاتهم وأخواتهم, وخالاتهم، وعماتهم وكل النساء اللواتي قمعن
إنّه الثامن من مارس يا أمي
وهذا البوست يا أمي- "أسيا الشيخ الخضر"-
مخصص للاعتذار إليك
ولكل نساء العالم عن أخطاء آبائنا وأجدادنا الذكور
وسأعود يا أمي
ابنك أبدا
أسامة،
ولكن ليس بن لادن
ابنك المشاء:
"أسامة الخوّاض"، ابن "آسيا الشيخ الخضر"
***
وتحكي لي أمي أن أبي كان أيضا حريصا على جمع أشعارها في فايلات، ضاعت في الرحيل من بيت إلى بيت. وقد فاجأتني أمي بأبيات طازجة عن حضوري فجأة - كما سبق أن قلت أنني أخفيت سفري بقدر الإمكان:
حمدت الله أسامة علي عاد
وعاد بالصدفة من غير ميعاد
أنا أسامة لي طال شوقي
منتظرا هو إن مرضت يقف فوقي
يخت راسي ويجر "واسوقي"
كناية عن الحضور وقت الوفاة والدفن.
أنهم لا يأبهون بالموت ولا يخشونه، مثل حال الأستاذ الراحل المقيم والصديق عمر علي تروس الذي –حسب رواية أمي-أعجبه أحد عناقريبها ، فقامت بإهدائه له، فحمله ثم أعاد تجليده تجليدا محكما ، وكان يقول "دا عنقريب الموت"، وفعلا كان حمل أن عليه حين توفى. وعدم الخوف من الموت ينطلق من الفكر الجمهوري التوحيدي الذي يرى أن الفرق بين الموت والحياة هو فارق درجة لا فارق مقدار. وأمي مشهورة بأنها تتكلم مع الموتى ، بعد رحيلهم، وكان من العادي أن يأتي أقرباء الموتى ليسألوها إذا ما كان أن كلمتهم ، وكيف حالهم في البرزخ، وإذا ما تركوا معها أية وصايا وخاصة في ما يتعلق بالديون. وروت لي بعد أن عدنا من رحلة الحج إلى السادة المراغنة في "كسلا"، انها عندما زارت أحدهم، وجدته جالسا فوق قبره، وتحيط به "ناموسية"، وكلمها ، وهذا ما يسميه أهلنا الصوفية بالرؤية يقظة.
وتقول مؤرخة لغيبتي عن السودان:
يا ناس "العجمي" و"القرّاي"
وينكم بي نظركم جاي
وين يا رجال "القوز"
أسامة البأدب محروس
يتم ولي شهادتو يحوز
وين يا التسعة وتسعين
يا الفي القوز هناك راقدين
ليه تخلوا أسامة عشرة سنين
في هذا النص نجد الشخصيات المحورية في تاريخ الأسرة الخواضية أو ما يسمون بالخواويض والقراري وأضاف آخر "السماسعة "من سمساعة" أي سم الساعة وهو كناية عن شفائه الفوري للمرضى في مقامه العيسوي. ويطلق عليهم النسّابة عثمان حمدنا الله "هل هو والد الشهيد فاروق عثمان حمدنا الله؟ "الخواضين"و "القرّاوين" حين تحدث عن "عجمي التاكا" قائلا: جد عموم القراويين والخواضين بالسودان المتوفى في أواخر القرن العاشر الهجري والمدفون بقوز الفقراء رضي الله عنه. هو محمد المشهور بالقراي العجمي التاكي بن البركة الشيخ إسماعيل المتوفى ببغداد بن الشيخ سليمان الحلنقي نسبة لأمه من قبيلة الحلانقة المنسوبة إلى (هوازن). . . ثم واصل النسب إلى الشيخ شعيب الهرري الذي هاجر – أي هرر ببلاد الحبشة.
ويتصل الشيخ سليمان الحلانقي في الشيخ شعيب في 13 من الأجداد ثم وصل هذا بالشيخ عبد الله الدمشقي في 4 من الأجداد. وقد يصل النسب من الدمشقي إلى سيدنا عثمان رضي الله عنه". "والتسعة وتسعون المذكورون في نص أمي الشعري، هم أولياء الله المدفونون في قوز "الفقراء" المسمى أيضا القوز الأبرص في "الجبلاب". و"العجمي والقرّاي" اسمان لجد العائلة الذي أتى من جبال التاكا. وفي الأساطير المؤسسة للعائلة الخواضية أن القرّاي لقب بذلك لأنه كثير الترتيل للقرآن، وفي رواية أخرى لأنه كان معلما للقرآن، ولا أدري كيف يتفق ذلك مع عجمة لسانه؟؟ والعجمي، كما أرى، تومئ إلى انه لم يكن فصيحا في نطق العربية الدارجية، لأنه يسمى في مقام آخر بعجمي "التاكا" أو "رطّان التاكا"، ويبدو أنه من "الحلنقة" الذين هاجروا إلى "كبوشية". وسمعنا في الطفولة كرامات كثيرة عنه. ومن ذلك أنه كان يملك أراض زراعية شاسعة ولم يوجد في ذلك الوقت عمال زراعيون، أو مزارعون يتولون زراعة الأرض عن المالك لقاء أجر بالتراضي كالعشر أو الثمن وخلافه. فكان أن "السلوكة" كانت تقوم بنفسها دون تدخل عامل بشري بحفر الأرض وكانت "قرعة" البذور معلقة في الهواء، وتتولى مهمة إلقاء البذور في الحُفر التي تحفرها "السلَّوكة". ومن ذلك –أيضا- أن بعض الناس شكّوا في ولايته وكراماته، فكان أن تحداهم بدفن شيء ما في غيابه وأنه سيخبرهم به. فكان أن أحتشد قوم كثير لمشاهدة امتحان ولاية القرّاي "عجمي التاكا". وقام الذين تحدوه بدفن أربع بقرات ذات لون أسود. وبعد ذلك حضر "القرّاي"، وحين سألوه عن الشيء المدفون، قال بصوت واضح النبرة تسيل منه ثقة مطلقة"أربعة خيول، غر و"محجلات"، فضحك الذين تحدّوه، وقالوا "كضبا كاضب"، وحين نبشوا لحفرة، فإذا بهم أمام "أربعة خيول، غر و"محجلات".
وحين تم افتتاح القباب التي بناها بعض الخيرين وتضم الرموز الدينية للأسرة الخواضية حضر الشاعر الفذ الراحل (الجبلابى) شاعر الانصار محجوب سليمان (سمورة) ، ألقى قصيدة عدّد فيها الأولياء المدفونين تحت القباب:
سلام الله عليكم أيها الأحباب
سلاماً يرضى للآباء والأصحاب
الليلة القبائل نالن الإعجاب
بتقويم القبب ياما انلتو ثواب
مما ختو ساسن وقام بناهن طالع
اصبحت المقابر ليها نوراَ شالع
تشوفن من بعيد كالبدر حين قام طالع
وان قطعة فى الليل تلقى نورن والع
قبباً تحتها رجال كان تقيم الليل
وقبباً تحتها رجال كان فعالا جميل
قببا تحتها عرفوا بالتكميل
وعبدوا المولى حتى
جاوزوا الاكليل
وكت المولى راد بعد الدرس تقويم
قومتو القبب فى احسن التنظيم
تحتهن الولى القراى ابى ابراهيم
عجمى التاكا عند المولى قدرو عظيم
وبعدو القائم الليل بى خضوع وخشاعة
وجار السبحة دوماً ما بيغفل ساعة
يلحق فى الدرك زى البرق بى سراعة
القراى الصغير جدكم سمساعة
عن ذكر الله ديل لااتكاسلو ولازهجو
وتحت القبة ديك ابنو المعسل لهجو
قوموا يارجال هيا بى ثناهو ابتهجو
هو عبدالسلام ابنو اللقام فوق نهجو
غير ذكر الله لاعندو بيع لاشروة
ومهرول كل عام بين الصفاء والمروة
عبادة ربه يوت يراها زى الثروة
الفكى ابراهيم خواض البحر بالفروة
قبيل السابقين ضربوا المثل بى صراح
وما دخلت قبور البركة قولاً صاح
خليفتن الفكى ابراهيم تقى وناصاح
وحين تنظر وجهه تعرفو عندو صلاح
رجلا كفو مبروك مو جديد شئ قديم
وتلاى لى كتاب الله القديم وعظيم
متواضع دوام للضيف بشوش وكريم
وكل الناس تقول صح فى الفكى ابراهيم
يا اولاد القرارى افلحتوا فى فكرتكم
وبى تقويم القبب كل البلاد شكرتكم
نهضتوا ليهن جميع خفيتوا لى حركتكم
قومتوا القبب المن بركتن بركتكم
محجوب اقتتطف من شعرو حاجة قليلة
ولو كنت بكتب او بقراء كنت بجيد تفصيلا
نيابةً عنى والجيران قبيلة قبيلة
نشكر للقرارى الاخطو خطوة جميلة
هناك فى القوز الابرص التحتو الرجال راقدين
يعلمن الله فوق للتسعة والتسعين
بى جاهن نفوز انشالله فى الدارين
وقولوا معاى جميع يامسلمين امين
نلاحظ أن الشاعر وضح أن القراي ليس هو ابراهيم خواض البحر بالفروة، نافيا زعم الذين يرون أن عجمي التاكا هو نفسه أبراهيم الخواض.
و يقال أن الشاعر ود ضحوية قد "نده " القرّاي قائلا:
زمن الدهاريب والسماء الهراج . . . حقب قريبنى فوقى وعتمر اللجاج
ياجد القرارى للبحر فجاج. . . . . . سريع النهمه ما يهبرن شروكو القاج
و يعتقد أن هذه "النديهة" كانت السب في نجاة ود ضحوية من المفتش الانجليزي.
وقد أثير قبل عام نقاش في "شبكة الجعليين" حول نسب الخواويض والقراري. وهو امتداد لبوست افترعته بعنوان "في وداع أبي صاحب السجادة الخواضية" ففي ذلك البوست كما يورد أحد المتناقشين " ومنها مداخلة لأحد أبناء الخواويض، في موضوع كتبه الشاعر أسامة الخواض، وقد ورد في نص المداخلة: (المتداخل يكتب عن نسبه) نزار ابراهيم الشيخ الخواض بن الشيخ عبدالرحمن بن الشيخ محمد عشرة بن الخليفة ابراهيم الخواض بن الشيخ الفكي احمد بن الخليفة ابراهيم الخواض(الصغير)، بن الشيخ عبدالسلام ابو إيدا صاقته، بن الشيخ القراي سمساعه*(امه مدينه بنت الشيخ عمر بن البلال، اخت الشيخ حامد اب عصاة لأبيه) بن الخليفة الخواض (الكبير) بن الاستاذ العالم العامل التقي الورع الزاهد الشيخ محمد المشهور بالقراي العجمي، الشاذلي طريقة، المالكي مذهبا، الاشعري عقيدة، المتوفى في اواخر القرن العاشر الهجري والمدفون بقوز الفقرا (الفقها) بالقرب من الجبلاب، شمال طيبة الخواض (مركز الخلافة) غرب مدينة شندي – بن البركة الشيخ اسماعيل المتوفى فى بغداد، بن الشيخ سليمان بن الشيخ عيسى بن الشيخ عمر بن ابراهيم بن موسى بن سليمان بن محمد بن الخضر بن داود بن سالم بن ابي بكر بن عمر بن سالم بن ابراهيم بن شعيب بن علي بن محمد بن العباس بن عبد الله الدمشقي بن احمد بن محمود بن الحسن المدني بن جعفر بن عثمان بن عمر بن محمد المذهب بن عبد الله العرجي بن عمرو بن ذي النورين عثمان بن عفان بن ابي العاص بن امية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي القرشي العربي . . . . . آدم.
ولا أدري من هو "أبو أيداً صاقتة؟
ودار نقاش بين من يرون بأن أصل الخواويض من الحبشة، ومنهم من يرى غير ذلك، ومنهم من يتخذ موقعا وسطيا حين يقول" جد القراري قدم من دار الحلنقا . . ودي مأكدة . . لكن جده قدم من اليمن . . ثم تزوج جد القراراي من أخت الشيخ حامد ابو عصا . . يعني القراراي كلهم أخوالهم الجعليين العمراب . . ثم تزاوجت الذرية مع الجعليين والآن القراري أكثر جعلية من الجعليين أنفسهم.
بينما ترى باحثة هي الدكتورة " بدرية يونس عبد الرحمن " أن أصل الخواويض من الجبرت" ، حين كتبت عن مملكة إيفات جبرت كبرى ممالك الطراز الإسلامي في شرق إفريقيا- مؤتمر الإسلام في إفريقيا : ذكرى مرور 14 قرن هجري. - الخرطوم: مركز البحوث والدراسات الإفريقية - جامعة إفريقيا, 2006. - 22ص، " وصل المهاجرون الجبرت الهاربون بدينهم من سلطان الحبشة . متتبعين للنيل الأزرق ونهر تكازي (سيتيت أو عطبرة) في جنوب شرق وشرق السودان وشماله . واختلطوا بالقبائل العربية السودانية . وانتسبوا إليها . أو تبدلت أسماؤهم بألقاب أطلقها عليهم أهل المناطق التي نزلوا فيها . مثل (الخواويض) الذين ينتسبون إلي الجعليين ، وتحالفت مجموعات منهم مع قبائل البني عامر الممتدة بين ارتريا والسودان. ثم تقول عن الخواويض:
"أما في شمال السودان فكما ذكرنا سابقا في مناطق الجعليين في ود الحبشي ، وديم القراي (تعني المقرئ وهو جبرتي ) ومنطقة وقبائل الخواويض ، الذين سموا بهذا الاسم لخوضهم نهر العطبرة وصولا إلي أهل المنطقة ". ونرى أن الباحثة أخطأت في إرجاع اسم "الخواويض" إلى أنهم خاضوا نهر العطبرة، ووقع الخطأ حين أهملت التاريخ الموازي الشفاهي وهو مما يندرج في فانتازيا الهوية. فالخوض لم يكن مجازيا، بل كان حقيقيا من خلال خوض نهر النيل بواسطة الفروة من الغرب إلى الشرق من الفكي إبراهيم الذي سمي بخوّاض البحر بالفروة، ومن حينها فكل من يسمى "الخواض" فاسمه أيضا إبراهيم، وقد كنا نحن الذين ولدنا في كبوشية نسمى بأولاد الخواض، والذين تمت ولادتهم في المستشفيات سموا بالاسم الرسمي لأبي وهو إبراهيم أحمد الخواض.
ثم تضرب الباحثة مثالا لأحد مشاهير الجبرت حين تقول:
مجذوب الخليفة : (من الخواويض):
من كبار قادة الحركة الإسلامية بالسودان، عمل واليا للخرطوم ثم وزيرا للزراعة في عهد الرئيس عمر البشير.
ويوضح أحد الخواويض من أين أتوا حين قال:
استوقفنى كثيرا الحديث عن نسب الخووايض وانا بن هذه الأسرة وتوجب على ان اوضح ما التبس من حقائق نسبة لكونى امتلك كثير من المعلومات تركها الوالد عليه رحمة الله فى كتاب من ما يقارب خمسمائة ورقه عن نسب القرارى وارتباطهم بالجعليين وان شاء الله سوف يجدوا الكلام الوافي في هذا الامر. ينتسب القرارى لجد أموي ينتسب لسيدنا عثمان بن عفان رضى الله عنه من جهة الاب وللسيده فاطمه بنت الحسين بن على بن ابى طالب من جهة الام وهذا الكلام موثق وعندا فيه تحقيق سوف ينشر قريبا عند طبع الكتاب , هاجر الاجداد بعد سقوط الدوله الأموية نسبة لمطاردة العباسيين لهم لنفوذهم السياسي المؤثر في الدولة الأموية نحو الشرق دخلوا السودان عن طريق الحبشه واستقر جزا من الامويين فى منطقه هرر بالحبشة وأسسوا فيها مراكز اشعاع قرانى معروفة.
وفى شرق السودان تزوج جدنا من الحلنقه ( والحلنقه من هوازن وهم اهل ام الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت هوازن تقول للنبى الكريم نحن مرضعوك وحاملوك اى نحن احق الناس ببرك وفضلك ). ومن ثم هاجر جدنا القراى الكبير الى منطقة الجعليين واسس فيها مركز اشعاع قرانى قبل خمسمائة عام فى خلوه مشهوره بمنطقة طيبة الخواض وكانت وظيفة الاباء الاساسيه هى تعليم القرآن وصاهر ابائنا جميع فروع الجعليين من العمراب والسعداب والعالياب وغيرهم فهم جميعا اخوالنا فنحن منهم وهم منا ان شاء الله. نكتب هذا الكلام ليس دعوة لعصبيه ولا جاهليه ولكن رغبة منا وجهدا فى الحفاظ على خصاصئنا ولتعرف اجيالنا اقدارها وعلاقاتها بالاخرين وصولا لمقاصد صلة الارحام المرجوة. نلاحظ أن الخواويض في دفاعهم عن نسبهم لا ينطلقون من مبدأ المفاخرة والمباهاة وإنما من منطلق ديني يدور حول أهمية "صلة الرحم"، كما نلاحظ أيضا الجهد المبذول أي "خمسمائة صفحة لاثبات ‘عروبة" الخواويض والقراري. ويبدو أن شكوكا كانت تحوم حول "عروبة" الخواويض، خاصة عندما تردد أن الانقاذ في بداياتها، قالت لأهل الشرق الذين اشتكوا من عدم اشراكهم في السلطة، بأنها أعطتهم دكتور مجذوب الخليفة ودكتور تاج السر مصطفى وهما من الخواويض. وفي هذا قول واضح أن أصل الخواويض يرجع إلى "الحلنقة". فكان أن قام مجذوب الخليفة بزيارة دار الوثائق السودانية للبحث عن أدلة تبعد شبهة الحلنقة.
وهنا شهادة أحد الخواويض الذي أصر على كتابة اسمه مطولا هكذا عمر الخواض أحمد محمد سمساعة، حتى يُلْحق "سمساعة" بالخواض، وفيها يتحدث عن ذهاب مجذوب الخليفة إلى دار الوثائق بحثا عن إثبات لنسب الخواويض:
""إن تاريخ الأجداد من القرارى او الخواويض او السماسعة لا يجحده إلا من كان في نفسه شيء خاص فتلك من أمراض النفوس التي لا تعالج فعندما ذهب ابنهم مجذوب الخليفة الى دار الوثائق السودانية وجد وثيقة النسب المتسلسل حتى عثمان بن عفان (رض) وهى مكتوبة بمداد الدواية (العمار) الذى كانوا يعلمون به كثير ممن تطاولوا الآن وكثير ممن صاروا ارقاماً يراها من كان اعمى فى تاريخ السودان وانا املك منها نسخة فى حين انه لم يجد لكثير من الفروع اى توثيق فى تلك الدار وأقول إن لكل فرع أجداد وكلهم يعتزون بأجدادهم لم اقصد دفاعاً عنهم ولكن يجب ان نوضح ما يخفى على بعض الناس". "وسبق أن كتبت عن علاقتي بشجرة العائلة ، ويبدو أن إثبات النسب كان مرتبطا بظاهرة الرق التي كانت منتشرة، وساهم الخواويض في تبنيها، وقد استفدت من ذلك في نص سردي قديم اشتركت به في مسابقة نظمتها مجلة الشباب والرياضة، وكان بعنوان "التاريخ الجنسي للسيد "س". وقد كان الشاعر الكبير محمد المهدي المجذوب من ضمن هيئة التحكيم، حسب رواية الصحافي نجيب نور الدين. ودافع عن نصي السردي دفاعا مجيدا، ومن ضمن ذلك أنه أمّن على ما أشرت إليه من علاقة الرق بالجنس، لأنه عاش في عائلة توجد بها "رقيق". وأصر أن يحرز نصي الجائزة الأولى، وحين أصر بقية أعضاء اللجنة على أن ينال الجائزة الثانية، أقترح المجذوب إما أن يحرز النص الجائزة الأولى أو يستبعد، وكان أن استبعد.
وقد كتبت عن كيف أتيح لي أن أصل إلى شجرة العائلة:
كنت ألاحظ أن المتنفذين في العائلة من الرجال والنساء،
يذهبون الى ذلك المكان السري،
من وقت لاخر. ويبدو من طريقة تلفتاتهم الحذرة، ونظراتهم، أنهم ذاهبون الى مكان يثير فضول ذلك الطفل الوحيد الذي كنته في طفولتي الباكرة.
وانتظرت زمنا طويلا حتى تهيأت لي فرصة الدخول إلى ذلك المكان المحاط بسرية وتكتم غريبين.
وكان ان دخلت تلك الغرفة المهجورة، والتي نسج العنكبوت خيوطا كثيرة في بابه المخلَّع، وكانت مظلمة، ويبدو انهم اختاروا هذا المكان لاخفاء وديعتهم الغالية، لانه لا يثير الريبة، ولم انجح في دخول تلك الغرفة المهجورة، الا بعد محاولات متكررة، اذ أنني كنت اطلق ساقي للريح، كلما سمعت "كركبة" قريبة. وكان ان وجدت:
شجرة العائلة.
والخواويض من أوائل الذين لحقوا بركب التحديث، فانخرطوا في مؤسسات التعليم الحديث، ولذلك قال أحد الكتاب الإسفيريين " ويعتبرون محظوظين لانهم تعلموا قبل الاخرين وامتلكوا الاراضي الشاسعة والسواقي والجناين . . ومسكوا النظارات".
ثم يورد كاتب اسفيري أمثلة على ما قدمته العائلة:
"عمر احمد عبد الرحيم الخواض الذى شغل منصب قاضى قضاة السودان قبل السبعينات واللواء الخواض محمد احمد الذى شغل منصب القائدالعام لقوات الشعب المسلحة والذى له الفضل الكبير فى معركة جبال( كرن)التى لولاهم لكانت منطقة القلابات وكسلا وجزء من القضارف خارج خارطة السودان". ويقول كاتب آخر" هذه العائلة الكريمة خرجت أول قائد سوداني للجيش بعد عهد الانجليز، وخرجت عدداً من النجباء والأذكياء، ممن حازوا على أعلى الدرجات العلمية،
ومنهم عدد من قادة العمل السياسي بالبلاد".
وقد كان جدي أحمد الخواض، عاملا في قسم "المناورة" في السكة حديد في عطبرة، وسمي أحمد أفندي "أب شبال" كناية عن الطربوش. وكان أول من استقدم "طقم الشاي" إلى كبوشية، وهرع سكان المنطقة من كل حدب وصوب ليروا هذه الظاهرة العجيبة. وقد استفدت من ذلك في نصي السردي "المفارق الفكهة-موت مدرس متجوِّل"، إذ يرد في نهاية النص تعريف "للحمار":
الحمار: هو حمار الملابس. وسمي بذلك لظهره المستوي الذي يحمل أثقالا كثيرة من الملابس. وقيل للسكسكة الصادرة عنه، وهي تبدو متقطعة الصوت كما النهيق. وقد دخل الحمار قرية "سعيد الطيب" بعد طقم الشاي، وقبل "التانج"، والآيسكريم. لكنه لم يحظ بالاستقبال الذي حظى به "طقم الشاي"، الذي أحضره لاول مرة، جد "سعيد الطيب" أحمد أفندي أب شبال الذي كان يعمل بالسكة الحديد في عطبرة. آنذاك توافدت الجماعات من شرق النيل وغربه من القرى المجاورة لترى الأكواب المزخرفة ذات الأحجام المختلفة ، ويتوسطها براد كبير، يشبه ديكا "فيوميا"، وكلها جاثمة على صينية برّاقة البياض. بدا المشهد كله للعامة جذابا ومثيرا، وشبيها بدجاج يمرح في حقل أبيض، فأسموا الطقم "حقل الدجاج الأبيض". وكما قلت في بوست سابق، فإن عدم وجود "كتاب" هو الذي جعل العائلة الخوّاضية لا تقوم بتأسيس كيان منفصل لها، وتكتفي بتبني الطريقة الختمية في الغالب الأعم، مع وجود جماعة اخترت ان تنتمي للانصار. والطريقة الختمية تملك كتبا مثل "تاج التفاسير" و"المولد النبي"، وتنظيما منضبطا كتنظيم "الشباب" الذي كان يقوم بقيادته رجل أعرج، ومن سماحة القوم أنهم لم يمنعوا واحدا من "ذوي الاحتياجات الخاصة" كما نقول بلغة اليوم، من أن يقود "الشباب" وهم يقومون بعروضهم البديعة. وبلغ حب الخواويض حدا عجيبا، حين وهبوا أخصب أراضيهم لآل الميرغني، وكادوا أن يهبوا خالتي "نور" لكي تعمل خادمة في "تكية" الميرغني في الخرطوم، لولا تدخل "طلائع التحديث" ، المتمثِّلة في من نالوا " تعليما حديثا في المدارس.
وكان "الديوان" المهجور في بيت جدي "الشيخ الخصر" يعج بصور معلقة على الحوائط لبعض من رحلوا من الميرغنية". وحين قمت بفك الخط، وتلقيت قليلا من التعليم، كنت أتساءل، موجها الحديث لأمي وأبي لماذا يكتبون تحت صورهم "الذي احتجب يوم. . . "، ولا يكتبون "الذي مات أو توفي". ولم أجد إجابة شافية، إلى أنْ قرأت أصحابنا الصوفية الذين يقولون بحياة أخرى للولي.
***
مثل الراوي في "موسم الهجرة إلى الشمال"، كان برنامج يومي الأول. يقول الراوي "كانت امي لي بالمرصاد، تذكِّرني بمن مات، لأذهب وأعزي، وتذكِّرني بمن تزوج، لأذهب وأهنئ. جبت البلد طولا وعرضا معزّيا ومهنِّئا". لكن أمي اكتفتْ بتعداد الزيجات، ومن الأموات اختارت أقربهم إلى قلبها، وقد كانت جد عملية وبراغماتية، فلا يمكنني أن أتقمص راوي "موسم الهجرة" الذي غاب سبع سنوات عن قرية خاملة الذكر على منحنى نهر النيل، وأنا عدت يا سادتي بعد ربع قرن، انصرمت خلالها ثلاثة أجيال، وتغيرت "حكومات"، وانهار "المعسكر الاشتراكي. "
***
كان سائقي ودليلي أخي الأصغر نزار، الذي سميته على "نزار قباني"، وابتهج الأهل بالاسم لأنه جد الرسول. امتطينا "مركوبنا" كما يسمي القذافي "وسائل المواصلات"، وانطلقت بنا سيارة الصادق الهاشمي البيضاء. كانت الشوارع ضيقة، وكثيرة الازدحام، وأعداد السيارات والحافلات والبصات والركشات أو الكاروهات، أكثر بأضعاف مضاعفة من قدرة الشوارع الطاعنة في الذبول. مسار الحركة جد بطيء، والسائقون يتنافسون في "سرقة الشارع" في جنون هستيري. ومن النادر أن ترى إشارات المرور إلا في "الأحياء الراقية". ولذلك انتشر رجال المرور بأشرطتهم البرتقالية وسيقانهم النحيلة، يشيرون بأياديهم ، في مدينة محرومة من "صواني الحركة". لذلك يكتفي أولئك الشرطيون بكومة "درّاب" يتحلّقون حولها، ولهم فيها مآرب أخرى، أهمها قذف السائقين العصاة بفتات "الدرّاب"، ويتبعون ذلك بشتائم من النوع أبو كديس على شاكلة "يا ابن ال. . . . "، ولكن لا حياة لمن تشتم.
المدينة وقد اكتمل ترييفها، تئنُّ من كثرة الخلق والأسمنت. عشرات المباني قيد الإكمال، وفوضى بصرية تنشر أجنحتها على فضاء المدن الثلاث. المدن تشكو قلة الخضرة والماء وتعج بالوجوه العابسة التي تحاول بابتسامات مختلقة طرد الزهايمر المبكر. أسماء المحال التجارية تعرّي هوية الأثرياء الجدد. والأسماء توزعت على حقلين دلاليين: إسلامي وأعجمي. وجه كوزمبوليتي بقناع ديني. شلنا الفاتحة، وتقهوجنا كثيرا، واجترعنا بعضا من العصير الحديث، وتحدثنا عن العرب، والغرب، والغربة، وافترقنا وسؤال يطاردني من أفواه المتلقين للعزاء:
"متى ستعود مرة أخرى"؟
لا أحد سألني ولو مجاملا، إنْ كنت أنوي الاستقرار.
شفق الخسران:
لم تشفع لي جولاتي الليلية وسط حُفر الأحياء التي ما تزال بلا شوارع تقود ابنا ضالا عاد مثلي كما الطير، فلامني البعض سرا وعلانية لأنني لم أتفقد البيوت واحدا واحدا. لم يشفع كوني نصف "عضير" أتوكأ على نواياي الحسنة وأتفيأ ظلال ابتسامة جاهدت ربع قرن كي أجعلها وشما دائما على مرآة وجهي وحديقة روحي، لم يشفع لي كل ذلك لسهوي عن منازل كنت أسير إليها كأعمى أضاع مكان غواياته المتوارية. ولم تسلم عنقي من التفاف حبل اللوم، وأطواق الملامة، "ما عليَّ" بحتُ لقلبي وكبدي، فقرون استشعاري كانت تجاهد كي تلتقط تفاصيل الدور الصامتة، الكابي على جدرانها نصف عتمة. وانسربتُ، صاعدا ببطء وتمحْرك درج شقة عائلتي، إلى فضاء البيتوتيّة.
كاتب سوداني، يقيم في الولايات المتحدة الأمريكية