مع اختلاف الأسباب والحيثيات، تشبه قصة الخارجين من معتقل تازمامارت قصة أهل الكهف عندما استفاقوا ليجدوا أن الواقع لم يتوقف لينتظرهم، بيد أنه إذا كان أهل الكهف قد عادوا إلى رقادهم، فالخارجون من ظلام المعتقل لم يكن أمام الكثير منهم خيار سوى محاولة التأقلم مع الحرية.
أحمد المرزوقي واحد من هؤلاء. شاهد على فظاعات المعتقل السري الرهيب وعلى بعض التفاصيل الدقيقة لما يعرف في المغرب بسنوات الرصاص. في كتابه الأول "الزنزانة رقم 10" الصادر سنة 2000 نحت من شجرة الألم شهادته للتاريخ حول المحن التي عاشها أو المآسي التي عايشها، خلال ما يناهز 20 سنة من الاعتقال، أما في كتابه الثاني "محنة الفراغ" الصادر أواخر 2012 عن منشورات طارق بالدار البيضاء، فقد اختار أن يعلن عن نفسه كاتبا بحصر المعنى، ليخرج بذلك، خلافا للعديد من زملائه ممن جاوروه في محنته، من أسر ذاكرة الشجن، وإن بشكل جزئي، فهو يعود بين القصة والأخرى وبين الفكرة والأخرى ليلقي بالقارئ في زنزانة قديمة مستعادة أو في خضم ذكرى أليمة ملحاحة لا تكاد تفارق الذهن.
"محنة الفراغ" مجموعة من القصص القصيرة تنطلق بإهداء مما جاء فيه "إلى أرواح من سقطوا في جحيم تزممارت، وإلى الناجين منها، أصدقائي، أصحاب الكهف.. أهدي هذه القصص البسيطة التي خرجت من رحم صراعي مع الفراغ"، لترصد تفاعلات لقاء شخص خارج من ظلمة السجن مع أسباب الحياة الجديدة ومع تحولات كائناتها. هل الأيام لا تزال محافظة على الوتيرة ذاتها قبل عشرين عاما، وهل أولئك الناس الذين كانوا جزءا من حياة الكاتب ما زالوا على قيد الذكرى وأنه بإمكان العلاقات الإنسانية أن تأخذ إيقاعها الطبيعي وكأن الزمن لم يوقفه؟
لا يجيب المرزوقي على هذه الأسئلة بشكل سريع، بل يحبك سِيَرا بين الواقع والتخييل ويسرد وضعيات ويختلق أحداثا كأي قاص مبدع حتى ينتهي القارئ إلى أن المصالح والرتب في السلم الاجتماعي والخوف أحيانا ووجود من ينتحل صفات لتحقيق مآرب معينة على حساب ألام الآخرين كلها تلتئم لتجعل من اندماج معتقل سياسي سابق في السيرورة الاجتماعية الطبيعية مسألة معقدة.
إذا كانت الكثير من الكتابات التي أنتجها الخارجون من سجن تازمامارت شهادات على ظلمات الأقبية وأعمالا تتوخى، في الغالب، صيانة الذاكرة ومعالجة جروح النفس والجسد، خاصة أن "الجسد هو الذاكرة" الحقيقية الجلادون بما وشمه على تفاصيله ، فإن "محنة الفراغ" شهادة على ظلم سجن جديد وإن بدا بلا جدران أو قضبان.
لقد شكل خروج معتقلي تازمامارت في أوئل تسعينيات القرن الماضي حدثا سياسيا وإعلاميا كبيرا، إلا أن هذا الخروج كان بابا لأسئلة كثيرة بالنسبة لهولاء. أسئلة تفرضها مظاهر التبدل التي طرأت على البنايات والمنشآت والواجهات والسيارات. ترى هل تغير الناس أيضا؟: "كل شيء تبدل باسم الله الرحمان الرحيم. الناس... السيارات... والأخلاق... اللباس... العادات... إلا الأصدقاء..." يقول عبد الله، الشخصية الرئيسية في إحدى القصص، بنبرة من تملكته الدهشة واعتراه العجب، ولكنه يخلص بعد عناء اللقاء مع صديق قديم إلى "أن الدنيا قد تبدلت حقا". الدنيا بكل شساعة المعنى! وبذلك يكون عبد الله قد أدرك أنه داخل سجن آخر. سجن "الفراغ". فبأي شيء كان يحلم المعتقلون، أو على الأقل بعضهم، أكثر من استعادة الدفء الإنساني الذي أوقفه الاعتقال في الزنازين الانفرادية الباردة؟ وهو ما يعكسه الاستثاء الذي استبق به الأحداث: "إلا الأصدقاء".
قراءة "محنة الفراغ" بالشكل الذي كتبت به من لغة سهلة وسخرية لاذعة أحيانا، ومن استحضار الأزمنة وتداخلها لتوليد المعاناة وإنتاج المرارة، تنتهي إلا الإقرار بأن الكتابة هي في نهاية المطاف، من خلال هذا الكتاب على الأقل، محاولة لإعادة الاعتبار للذات المسحوقة قبل وبعد وأثناء الاعتقال. هذا الأخير جعل الذات تدرك أن العالم منذور للتحول، وأن عليها أن تجد لنفسها مساحة لتتكيف وتعيش وتنتصر على الموت ولو مؤقتا، وأن عكس ذلك معناه الركون إلى الصمت واجترار الآلام أو الذهاب طواعية إلى هاوية الانتحار.
إعادة الاعتبار للذات في "محنة الفراغ" تتخذ في أحيان كثيرة نوعا من "تصفية الحساب" مع الواقع الجديد ورموزه، سواء عن طريقة السخرية منه أو فضح عدد من الممارسات والظواهر نكاية في الحضور الطاغي لهذه الرموز ولوطأة هذا الحضور. يبدأ المرزوقي معركته مع الواقع باستحضار "قبطان" من زمن الاستعمار وتحدي شاب أعزل له، ليصل إلى شخصية "غوجبان" الذي بالرغم من وضعه الاجتماعي الميسور مريض بسرقة أشياء الآخرين، دون أن يمنعه هذا الداء العضال من الترشح للانتخابات "بنية نشل مقعد في البرلمان يمكنه كما زعم من خدمة وطنه بانتشاله من براثن الفساد والمفسيدين". هكذا يقلب المرزوقي كل "الآيات" كي يكتب الواقع الحقيقي وقد تغير كثيرا عما كان عليه قبل عشرين عاما.
لم يقتصر الكاتب على سبر آثار سنوات الاعتقال، ففي هذه المجموعة القصصية تتجاور موضوعات عدة وقضايا متفرقة بين السياسي والاجتماعي والهروب إلى فيافي الذاكرة القريبة والبعيدة، وهو بذلك كمن يحاول الاحاطة بكل شيء استدراكا لما فاته من الحياة، وإمعانا في مقاومة الألم.
(محنة الفراغ، قصص، أحمد المرزوقي. منشورات طارق، الدار البيضاء، المغرب، 2012)