تعد النقوش الكتابية القديمة من المصادر التاريخية المهمة التي تنقل لنا صورة موثقة للحياة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات القديمة، فهي وعاء لحمل الثقافات والحضارات والعلوم والفنون المختلفة عبر العصور المتعاقبة.
وهذه الأوعية التاريخية بمثابة وثائق يصعب الطعن في قيمتها، أو التشكيك في أصالتها، فهي معاصرة للحقائق والأحداث التي تسجلها، كما أنها محايدة، مما يجعلها تعوض النقص وتسد الفراغ في المصادر التاريخية، وتمتاز بصحة تواريخها والأعلام التي تذكر بها، وتفيد في مراقبة أقوال المؤرخين وإثبات صحتها.
وتعد شواهد القبور إحدى هذه الأوعية التاريخية، التي تحمل جانباً معيناً يتعلق بتاريخ بعض الشخصيات، ومكانتها ونسبها وفضائلها، تلك التي حرص من عاصروهم على تسجيلها على شواهد قبورهم بعد موتهم، وتعكس هذه الشواهد، وما عليها من كتابات، مظاهر اجتماعية ودينية ولغوية من مختلف العصور التي كتبت فيها.
والكتابة على شواهد القبور من أقدم العادات الإنسانية، يكتبها أصحابها إما قبل وفاتهم، وإما تكتب لهم بعد موتهم، ويعتقد البعض بأنه ينبغي على الإنسان أن يكتب شاهدة قبره بنفسه، ويختار العبارات التي تناسب شخصيته.
وقد انتشرت شواهد القبور في معظم المجتمعات، شرقية كانت أو غربية، وعلى مر العصور المتعاقبة، فنجد بلاد المغرب العربي على سبيل المثال تحتوي على عدد كبير من شواهد القبور التي تعود إلى فترات تاريخية متعددة، وتتميز بالتنوع والتعدد، من حيث مادة الصنع، والأساليب والطرز الفنية المتبعة في صناعتها والكتابة عليها، وهي تنم عن مدى التطور الذي بلغته هذه الصناعة، ومدى النضج الفني الذي وصل إليه فنانو المغرب، بحيث تسمح لنا بتتبع مسارها التطوري منذ القرن الثاني الهجري إلى نهاية القرن الثالث عشر الهجري، وهي تشكل صفحة تاريخية لهذه الصناعة التي ارتبط تطورها وازدهارها بعالم الأموات.
ونجد شواهد القبور العثمانية في تركيا، وما تتميز به من تنوع كبير، رغم أنها أعمدة من الرخام متشابهة، إلا أن لكل منها سمة تميزها عن الأخرى، فلكل شاهد غطاء أو قلنسوة مختلفة، وهناك إشارات عديدة، كل منها تدل على صفة من صفات الشخص المتوفى، حيث يدل الشكل الخارجي لشاهد القبر وأنواع الزينة الموجودة عليه على جنس الراقد، فبينما يكون على شاهد قبر الرجل ما يشبه القبعة أو العمامة، فإنّ شاهد قبر المرأة يزين بإكليل من الزهر، وهذه الزينات محفورة على شكل (مزهرية) أو على شكل زهور مختلفة.
وكما أن الأشكال والرموز المنقوشة على القبور تشير إلى جنس الراقد، فإنها تشير إلى مهنته أيضاً، فإن كان بحاراً، توجد إشارة أو رمز أو شكل يدل على مهنته، وإن كان المتوفى كاتباً ويعيش على قلمه، فلا بد أن تجد إشارة ترمز إلى هذا، مثل شكل لفائف الورق أو ريش كتابة أو قلم من القصب، وإن كان رساماً تجد شارة الريشة أو الملون، وإن كان عسكرياً ترى على شاهد قبره إشارة إلى مهنته إما سيفاً أو مدفعاً أو خنجراً أو قذيفة مدفع أو منظاراً مقرباً.
وعندما ننظر إلى مضامين الكتابات المسجلة على شواهد القبور، التي عثر عليها قائمة على قبور أصحابها، وتلك المعروضة في المتاحف بعدد من الدول العربية والإسلامية، نجدها قد تميزت بالتنوع في النصوص التي سجلت عليها.
فمن ناحية المضمون، نجد النصوص الدينية، وهي إما: آيات أو سور كاملة من القرآن الكريم، أو حديث نبوي، أو شهادة التوحيد، وقد ترد منفردة، أو ضمن نصوص دينية أخرى تشتمل على عبارات تتضمن (الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله)، فضلا عن عبارات توحيد، وتسبيح لله المتفرد بالوحدانية، وأنه حي لا يموت، متعزز بالقدرة والبقاء، وأن كل حي سواه مخلوق عبد، نهايته الموت والفناء. بالإضافة إلى عبارات دعائية للرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، وللمتوفى والمسلمين بالرحمة والمغفرة، والفوز بالجنة، والنجاة من عذاب القبر والنار.
وبعد النصوص الدينية نجد الكتابات التاريخية والنصوص الأدبية على شواهد القبور، والتي اشتملت على أحداث تاريخية، عبارة عن سرد لوقائع وأحداث عاشها صاحب الشاهد وأشخاص آخرون غيره من المقربين له، فضلاً عن تسجيل تاريخ وفاة أصحاب الشواهد، واشتملت بعض الشواهد على تاريخ ميلاد أصحابها، والألقاب والنعوت الخاصة بالموتى.
ومن حيث المضمون، لا تقتصر أهمية الشواهد على ما تتضمنه من آيات من الذكر الحكيم، وعبارات دعائية لصاحب الشاهد وغيره، بل توفر من خلال تراجم أصحابها مادة تاريخية، تساعد في بعض الأحيان على إلقاء الضوء على أحداث تاريخية مختلفة، متعلقة بصاحب الشاهد، وأحياناً بآخرين، كما تتضمن تراثاً من اللغة والأدب، بما تتضمنه من قصائد من الشعر الموزون، أو أرجوزات، تتضمن إلى جانب الألفاظ والمترادفات اللغوية، سرداً لوقائع تاريخية عاشها صاحب الشاهد، وفضلاً عن ذلك تمدنا كتابات الشواهد بحصيلة زاخرة من الألقاب والنعوت، قلما نجدها في كتابات أخرى.
والنصوص الأدبية، التي سجلت على شواهد القبور عبر العصور، إما كتابات نثرية أدبية، أو قصائد من الشعر الموزون، اشتمل بعضها على عشرات الأبيات، والبعض الآخر اقتصر على أربعة أو خمسة أبيات من الشعر، من بحور شتى أهمها: الطويل والبسيط والكامل والسريع والخفيف والمتقارب، أو أرجوزات معظمها غاية في الطول. أو مقطوعات من النثر المسجوع، والنوعان الأخيران اقتصر تسجيلهما على الشواهد الكبيرة.
وما يهمنا هنا هو دراسة بعض النصوص الأدبية التي وردت على شواهد القبور في القديم والحديث، لنرى من احتوته من روائع في العظة والاعتبار، وذكر مآثر من كتبت عنهم، وكما يقول الأديب مصطفى صادق الرافعي، فإن الكلمة بعد الموت عن الميت خالصة مصفاة لا يشوبها كذب الدنيا على إنسانها، ولا كذب الإنسان على دنياه، وهي الكلمة التي لا تقال إلا في النهاية، ومن أجل ذلك تجيء وفيها نهاية ما تضمر النفس للنفس.
فنجد السلطان أبو محمد عبدالله الغالب بالله السعدي، أحد ملوك المغرب العربي، في دولة الأغالبة، والذي توفي يوم الجمعة 28 رمضان 981هـ الموافق 21 يناير 1574م، ودفن عند ضريح أبيه بقبور الأشراف، كتب على شاهد قبره هذه الأبيات:
أيا زائري هب لي الدعاء ترحماً
فإني إلى فضل الدعاء فقير
وقد كان أمر المؤمنين وملكهم
إليّ، وصيتي في البلاد شهير
فها أنذا قد صرت ملقى بحفرة
ولم يغن عني قائد ووزير
تزودت حسن الظن بالله راحمي
وزادي بحسن الظن فيه كثير
ومن كان مثلي عالماً بحنانه
فهو بنيل العفو منه جدير
وقد جاء إن الله قال ترحماً
إلى ما يظن العبد بي سيصير
ويقال إن ابنه أبا عبدالله المعروف بالمسلوخ، لما قرأ هذه الأبيات، عاقب ناظمها، وقال له إن في قولك ملقى بحفرة دسيسة وتلويحاً إلى الحديث: «القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار»، فهلا قلت ببلقع أو نحوه.
ونجد المعتمد بن عباد ملك أشبيلية، وكان شاعراً أريباً، عندما وقع أسيراً واستولى المرابطون على أشبيلية عام 484هـ (1091م)، نقل مكبلاً في أغلاله مع نسائه وأبنائه وبناته إلى منفاه بقرية أغمات بالمغرب، واستقر به الحال هناك فقيراً معدماً، فلم يكن مقامه فيها معتقلاً عادياً، بل كان سجناً شنيعاً بكل معاني الكلمة، ضيق فيه على المعتمد وأهله أشد التضييق، ولم يكن يقدم إليهم ما يكفيهم من النفقة، فكان المعتمد وزوجته اعتماد الرميكية التي كانت تسطع في الأندلس بجمالها وخلالها البارعة وبراعتها في الشعر والأدب، وأبناؤه الأمراء وبناته الأقمار، يرتدون الثياب والأطمار الخشنة، وهي محنة قل أن يتعرض لها أمير أو ملك، فقد أنزله يوسف بن تاشفين عن عرشه وجره مكبلاً في قيوده إلى أغمات حيث ظل سجيناً إلى آخر حياته. وبعد أن كان آمراً ناهياً أصبح مأموراً منهياً، يأمره حارس السجن فيطيع، وينهاه فيمتثل، وكان يستشعر آلاماً عميقة، فزوجته أصبحت خادمة في بيت صاحب الشرطة الذي كان أقصى مناه أن يوسع الطريق أمام موكبه.
والشاهد هنا أنه عندما أحس المعتمد بقرب أجله رثى نفسه بأبيات شعرية، وأمر أن تكتب على قبره، فأنفذوا وصيته وكتبت على شاهد قبره الموجود حتى اليوم في المغرب، وهذه الأبيات يقول فيها:
قبر الغريب سقاك الرائح الغادي
حقاً ظفرت بأشلاء ابن عباد
بالحلم بالعلم بالنعمى إذا اتصلت
بالخصب إن أجدبوا بالري للصادي
بالطاعن الضارب الرامي إذا اقتتلوا
بالموت أحمر بالضرغامة العادي
بالدهر في نقم بالبحر في نعم
بالبدر في ظلم بالصدر في النادي
نعم هو الحق حاباني به قدر
من السماء فـــوافاني لميعاد
ولم أكن قبل ذاك النقش أعلمه
أن الجبال تهادى فوق أعواد
كفاك فارفق بما استودعت من كرم
رواك كل قطوب البرق رعّاد
وكتب على شاهد قبر الحاجب المنصور بن أبي عامر، أحد ملوك الأندلس:
آثاره تنبيك عن أخباره***حتى كأنك بالعيون تراه
وفي مدينة صعدة اليمنية نجد ضمن التراث الأثري الضخم الذي تزخر به المدينة شاهد قبر القاضي حسين بن عبدالله الدواري، وقد نقشت عليه قصيدة من 21 بيتاً، ورد فيها:
يا قبر جاد عليك العارض الهطل
فبين تربك حل العلم والعمل
وفي ضريحك طود الحلم مستتر
عنا وفي اللحد بحر العلم مزدمل
فافخر فقد نلت دون الأرض مفخرة
لما ثوى في ثراك البحر والجبل
غيبت طلعة من نلنا بطلعته
مراتب دونها في برجه زحل
فكل قلب بنار الحرب مشتعل
وكل طرف بماء الدمع منهمل
وصعدة الشام تبكي وهي مقفرة
كأنها بعده ما حلها رجل
وجملة الضعفا والساكنين بها
ضاقت عليهم بها من بعده السبل
وكل ذي حاجة في الناس أو أرب
لم يبق فيها لهم من بعده أمل
فيا مشاهد قبراً قد حوى جسداً
جد بالدموع ونار الوجد مشتعل
وقف به ساكباً للدمع معتبراً
فالموت يفعل ما لا تفعل الأسل
ويا صفائح لحد ضم أعظمه
ليت الجفون لكم في لحده بدل
أبا علي وددنا أن نكون معاً
نفديك لولا قضاء الله والأجل
فرحمة الله طول الدهر دائمة
عليك متصلٌ منها ومنفصل
أما أبو العلاء المعري فقد أوصى أن ينقش البيت التالي على شاهدة قبره:
هذا ما جناه أبي عليّ
وما جنيت على أحد!
ولكن لم تتحقق وصيته، وربما كتب هذا البيت على شاهده فاقتلعه خصومه الذين حكموا عليه بالزندقة.
وأما المجاهد السوري فخري البارودي، فقد أوصى أن تكتب هذه الأبيات على شاهدة قبره في مقبرة الباب الصغير بدمشق، فنفذت وصيته، والأبيات تقول:
قفوا أيها الزوار قربي هنيهة
وقولوا سلاماً أيها الميت الحر
وطوفوا حيال القبر صحبي وفكروا
بموت أكيد ثم يتبعه حشر
تروا أن كأس الموت حق على الورى
وكل له يوم وإن ألّف العمر
ونقش على قبر عبدالرحمن الكواكبي بيت شعر يقول:
قفوا وأقرؤوا أم الكتاب وسلموا
عليه فهذا القبر قبر الكواكبي
وكتب الشاعر محمد الماغوط، على ضريح زوجته:
"هنا ترقد
آخر طفلة في التاريخ
الشاعرة الغالية
سنية صالح"
وكتب الشاعر نزار قباني على ضريح ابنة:
"أتوفيق كيف أصدق موت العصافير والأغنيات
وأن الجبين المسافر بين الكواكب مات
وأن الذي كان يخزن ماء البحار بعينيه مات
بأي اللغات سأبكي عليك؟
وموتك ألغى جميع اللغات"
أما قبر الشاعر نفسه، فلم يحظ بنصوص أدبية، ولكن كتب عليه:
(إن إلى ربك الرجعى.. مثوى فقيد الشعر العربي نزار قباني)
ونجد ضريح الشاعر محمد مهدي الجواهري، كتب عليه، وفي زوايا مختلفة منه، العديد من الأبيات الشعرية المفردة، التي نظمها في أوقات مختلفة. لكن القصيدة التي استحوذت على الشاهد حملت اسم (يا دجلة الخير)، التي نظمها الشاعر عام 1962م، وفيها يقول:
"حيّيت سفحك عن بعد فحييني
يا دجلة الخير، يا أمّ البساتين
حييت سفحك ظمآناً ألوذ به
لوذ الحمائم بين الماء والطين
يا دجلة الخير يا نبعاً أفارقه
على الكراهة بين الحين والحين
هنا بعيداً عن دجلة الخير يرقد محمد مهدي الجواهري
شاعر العرب الأكبر (1899-1997م)"
وقبل موته كتب الجواهري على شاهد ضريح شقيقته نبيهة في مقبرة السيدة زينب، هذه المقطوعة الشعرية التي يقول فيها:
"حبيبتي نبيهة
نبيهة .. إن الليالي ملعبه
ونحن فيها .. طابة ومضربه
رهن الليالي كيف مادارت بنا
كعقرب الساعة رهن الذبذبة
حبيبتي نبيهة كيف ذوت
معجلة بسمتك المحببة؟
حبيبتي نبيهة سنلتقي
عما قليل عند هذي المتربه
أخوك محمد مهدي الجواهري"
وفي التراث الغربي حظيت شواهد القبور بعناية كبيرة، وزينت بعبارات نثرية أو شعرية قصيرة تصف -في الغالب- حياة صاحب الضريح، بالسلب أو الإيجاب، بحسب واقع تلك الحياة. ومن ذلك، ما نقش على قبر أسخيلوس أبو المسرح اليوناني، حيث كتب على شاهده: "هذا القبر يغطي رفات أسخيلوس ابن يورفيون الذي ولد بأثينا، ومات في سهول جيلا الخصبة، وإنه لفي استطاعة غابات الماراثون الشهيرة المقدسة، وفي مقدور المديين ذوي الشعور المرسلة أن يتحدثوا عن علم مكين بجراءته وشجاعته وإقدامه في ساحة الوغى". وحمل قبر أريبيوس الروماني العبارة التالية: "أيها المار من هنا: كما أنت الآن كنت أنا، وكما أنا الآن ستكون أنت، فتمتع بالحياة لأنك فان".
أما قبر ماكسميليان روبسبير جلاد الثورة الفرنسية، فنقش عليه ما يلي: "أيها المار من هنا: لا تحزن على موتي، فلو كنت أنا مكانك لكنت أنت مكاني". وأوصى شكسبير بدوره بأن تكتب هذه العبارة على قبره: "فليبارك الله من يحفظ هذه الأحجار، ويلعن ذلك الذي يحرك عظامي".
وفي العصر الحديث تطالعنا شواهد قبور الغربيين بالعديد من الطرائف والنوادر، من خلال ما يكتب عليها من عبارات. ففي قبور إيطاليا، نجد أحد القبور كتب عليه:
"هنا يرقد..
كان زوجاً محباً ... وأباً رائعاً .. لكنه كان كهربائياً سيئاً".
وكتب على آخر:
"ارقد بسلام ... من جميع أبنائك
ماعدا ريكاردو فإنه لم يدفع لجنازتك"
وكتب زوج على قبر زوجته:
"هنا ترقد زوجتي العزيزة .. أيها الرب استقبلها بسعادة.. كما أرسلتها إليك".
ومن أطرف ما كتب على أحد قبورهم:
"هذا شكله حرامي .. ارقد بسلام أنت الآن بين يدي الرب".
(المصدر شذرات عربية)