يمكن الزعم اليوم بأن الثقافة العربية تتموضع في مفترق طرق، تنهال عليها الأسئلة من كل حدب وصوب، من قبيل الدور المنوط بالمثقف العربي في زمن التحولات السياسية، ففي ظل تحولات معرفية وفكرية وتكنولوجية ذهبت بالبقية الباقية من وسائل الاتصال التقليدية وفي مقدمتها المطبوع الورقي، كيف يمكن توظيف الفضاء الرقمي وشبكات الأنترنت مساحات لحرية التفكير والإنتاج والتداول الثقافي، تعزز مبدأ القراءة وتحفظ للمبدع حقوقه الفكرية والثقافية، وتحقق للفرد والمجتمع جرعة المناعة الكافية في محاربة الانحراف والتشويه بشتى أنواعهما وأشكالهما؟
فإذا كانت الثقافة العربية قد عايشت تغيرات وتبدلات كبرى عبر مسيرتها التاريخية، استطاعت أن تحقق نوعا من التلاءم معها، فإن العصر الرقمي لايطرح وسائل وبدائل فحسب بل ترسانة ثقافية ومعرفية ونظم جديدة للتواصل وترويج المعلومة لم يعهدها العالم من قبل، إلى الدرجة التي تحول معها العالم الافتراضي إلى عامل قوي في صنع التغيير على مستوى الذهنيات والأفكار والنظم السياسية، كصنيعة شبكات التواصل الاجتماعي في تحريك الشارع العربي للمطالبة بالكرامة والديمقراطية، تلك المطالبة التي لم تستطع تحقيقها النخب السياسية بمختلف أطيافها على مدى أربعين سنة أو يزيد.
هذه النقلة النوعية التي عملت على تسريع إنجاز المطالب وإحدات التغيير، وإن لم تحقق جل مطالب الشارع حتى الآن ستلقي بآثارها على الذهنيات المختلفة بما فيها الأنظمة السياسية ومصادر القرار والأطر الفكرية والفئات الاجتماعية، ومن ضمنها الفاعل الثقافي الذي أصبح بحكم ميكانيزمات التغيير الحاصل مطالبا بوضع تصورات جديدة تتوافق مع التغير الاجتماعي والسياسي وأطروحاته ورؤيته للعالم، تلك الأطروحات التي لم تعد حبيسة الأقبية والمكاتب المغلقة بقدر ما صارت ملكا مشاعا بين جميع منخرطي شبكة الأنترنت، وغدا الفاصل المفترض بينها وبين الواقع أقرب إلى الوهم، إذ لم يعد اليوم مقبولا الاعتقاد بأن العالم الافتراضي أو الشبكة العنكبوتية مجرد شطحات في الهواء أو لعبة لتجزية الوقت الضائع، كما الصورة المنطبعة لدى العديد من سكان العالم الثالث.
لاشك في أن الثقافة هي تحصين للذات والهوية، وتعزيز للقيم الإنسانية الكبرى والمشتركة بين مختلف الأجناس والقوميات واللغات والإثنيات، غير أن المشروع الثقافي ظل ولازال في ذيل المشاريع التنموية، لا يشكل إلا حلية للخطابات والبرامج المؤقتة للفاعل السياسي الرسمي والحزبي، ومن ثم لا تحظى الثقافة بميزانية تذكر في البرامج الحكومية طنا من أكثر الفاعلين السياسيين، ولاسيما الذين هم في مركز القرار بأن الأولية للخبز والأمن والصحة والتعليم، وتبقى الثقافة مطلب المتخمين حسب زعمهم؛ وفي ذلك يمكن البرهنة عن أكبر المغالطات، حيث أن مجمل الدراسات السوسيولوجية الراصدة لظاهرة العنف في المدن مثلا تعود مناطقيا إلى سكان الهوامش، وتتمركز أسبابها حول الفقر وانعدام المرافق الثقافية والترفيهية والرياضية، الشيء الذي يتطلب من نفس الحكومات مضاعفة ميزانيات الأمن ومكافحة الجريمة؛ إذ أمام انسداد الآفاق وفراغ اليد وزحف الإسمنت على الأخضر واليابس ومظاهر البدخ البادية على الواجهات الزجاجية اللامعة والسيارات الفارهة العابرة، يحس هذا الكائن الهامشي بقزميته وبمقدار العنف المسلط عليه رمزيا، مما يولد لديه الرغبة الجامحة في رد الفعل، أمام اختناقه المادي والمعنوي وضيق أو انعدام المؤسسات الحاضنة ومساحات الترفيه والتنفيس، ولن يكون ذاك الرد إلا عنفا ماديا انتقاما من مجتمع يولد أعداءه متى ما ضاقت فسحة الأمل.
ولئن كانت هذه الظواهر التهميشية هي ما يراد للحكومات معالجتها من لدن مختلف الوزارات، فقد ازدادت الأمور تعقيدا مع ظهور صنف الجريمة الإلكترونية، والتي تعود في عمقها إلى جهل مركب بوسائل الاتصال الحديثة وبما يمكن أن تسببه من أضرار للفرد والمجتمع بل وللدول، وهدرا للأموال والطاقات، الشيء الذي لم يعد يتطلب تحديث الترسانة القانونية فقط، وإنما وضع تصورات استراتيجية لسياسة ثقافية ومعلوماتية وتعليمية، تشيع الثقافة الإلكترونية بمنظور جديد يتوافق مع المستجدات التكنولوجية الزاحفة تجاريا وتسويقيا والخالقة للرغبة والحاجة القاتلة.
قد يبدو بأن تكنولوجيا الاتصال والإعلام بما تطرحه من سلبيات وتأثيرات عميقة على مجتمعات العالم الثالث، هي فرصة لانتقادها، بل ورفضها من البعض، إما لجهل بها وبآفاقها المتعددة أو لحجم التحديات التي تجابه بها أفراد هذا العالم، بالنظر إلى كون إنسان العالم الثالث لم تتح له الفرصة الكافية للمساهمة في التطور الحضاري والمعرفي إلا بالقدر الذي يخدم الثقافات المهيمنة في سياقات اقتصادية لاهثة وراء الأسواق والمواد الأولية سواء كانت مادية أو رمزية، ومن ثم فرض عليه أن يظل حبيس خانة الاستهلاك الشره لمنتجات العالم الأول الآتية من وراء البحار.
لقد ترسخت في أذهاننا بأن المنتجات الثقافية والحضارية لا يمكن أن تكون إلا غربية او أمريكية، وتغذت هذه القناعة عبر السنين بحكم وسائل الإقناع والإشهار وتحقير الذات أمام المارد الغربي، وفي سبيل ذلك تم اعتبار الثقافات المحلية بما فيها من مصنوعات وموسيقى ورقص وغيرها تراثا فولكلوريا لا يرقى إلى سلم الحداثة، إلا أن دخلت دول الشرق الأدنى ممثلة في الصين والهند سوق المنافسة في التجارة العالمية ومن ورائها تصدير ثقافاتها لمختلف دول العالم، حينئذ تحركت المؤسسات الثقافية الأكاديمية بشكل أخص لإعادة مفهوم الثقافة ومنتوجاتها المتنوعة لنصابه، باعتباره مفهوما يتسع لكل الإثنيات والقوميات والأمم، مفاده كون الثقافة ما أضيف إلى الطبيعة الفطرية للإنسان، غير أن الدراسات الثقافية الأكاديمية لم تتحول إلى فاعل في دواليب الاقتصاد المحلي إلا في حدود ضيقة لعدة اعتبارات وولاءات مؤسساتية ومالية وغيرها.
لذلك ظلت الصناعات الثقافية ممثلة في الكتاب مثلا رهينة رؤى لحظية ومناسباتية، فيما يشبه خللا تدبيريا وفقدانا للبوصلة، كما هو الحال بالنسبة للعديد من وزارات الثقافة في العالم الثالث وضمنه دول العالم العربي، والتي لم تستطع الحفاظ على انتظام دورياتها بالشكل المطلوب، وانبرت لطبع الأطروحات الجامعية نيابة عن الجامعات، وهو نفس الصنيع الذي تقوم به بعض القنوات التلفزيونية، عندما تخصص جوائز للرواية والقصة والشعر عوض السيناريو والفيلم التلفزيوني والمسلسل. بينما لم يراوح الإنتاج السينمائي لدى أكثرية هذه الدول عتبة سينما المؤلف في أحسن أحواله، بالرغم من الدعم المالي المرصود له، وفي غياب شبه تام لأعمال سينمائية ذات مدلولات حضارية أو أدبية أو إنسانية الطابع والميسم.
ومن ثم يتأكد بأن المنتج الثقافي، بكونه صناعة متعددة مصادر الإنتاج لا يستند إلى أية استراتيجية علمية أو إنتاجية، أو أي تواصل معرفي سواء كان اجتماعيا أو نفسيا أو جماليا أو أدبيا أو اقتصاديا، ما دامت روح العمل المؤسسي مغيبة أمام استحضار الذوات المتنفذة في اتخاذ القرارات، وإن قامت بتغطيتها باللجان والمجالس ولقاءات الاستهلاك العمومي.
تبعا لذلك لم تستطع الصناعات الثقافية في مجمل دول العالم الثالث تحقيق النتائج المرجوة منها سواء على مستوى التنمية المستدامة أو تطوير الإنتاج الصناعي والإعلامي السمعي البصري والثقافي عموما وتسويقه، استنادا إلى تفشي الأمية وإعادة إنتاجها وشيوع أنماط التقليد المبتذل من جهة، والعداء المترسخ للثقاقة المحلية والذي يدين بالولاء للثقافات المهيمنة، إلى حد المطالبة بالإنسلاخ عن الهوية اللغوية والحضارية لصالح هذه الثقافات، في زمن أصبح فيه فضاء الاتصال والتواصل مع مختلف الحضارات ممكنا وقابلا للتداول الرقمي.