نشرنا في العدد الثالث من (الكلمة) رواية على بدر الجديدة، وقد صدرت مؤخرا في كتاب، وها هو الناقد العراقي المقيم بلندن يتناول هذه الرواية المهمة بالتحليل في قراءة تفتح الباب أما قراءات أخر.

علي بدر يركض وراء الشيوعيين

حسين الكناني

بعد روايته المثيرة للجدل "مصابيح أورشليم: رواية عن إدوارد سعيد"، أصدر علي بدر رواية إشكالية جديدة، ومثيرة للجدل أيضا، بعنوان "الركض وراء الذئاب" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، تتناول الرواية حياة مجموعة من الشيوعيين العراقيين الهاربين من قمع نظام صدام حسين أواخر السبعينيات إلى أفريقيا، ومن ثم الالتحاق بالجيش الأممي الذي أسسه الضابط الأثيوبي الشاب هيلا مريام منغستو في أديس أبابا، وتدور أحداث الرواية المشوقة في هذه المدينة الأفريقية، وبهذه الرواية يواصل علي بدر مشروعا روائيا يتم من خلاله مراجعة لجانب مهم من الثقافة السياسية العربية بشكل عام والعراقية بشكل خاص. صيغة المشروع تغلب على كتابة علي بدر، ورواياته خاضعة لستراتيجيات فكرية تقوم على مراجعة الثقافي والسياسي ونقده وفضحه. وإن كانت السخرية السوداء والتهكم الفلسفي وروح الدعابة السريالية تغلب وتطغى على روح وأسلوب علي بدر، غير أنه يتمكن من التحليل الدقيق والنظرة العميقة والقدرة على الاستنتاج والحكم، وهو أمر واضح في جميع رواياته تقريبا، بدءا من روايته الأولى "بابا سارتر".
تبدأ أحداث روايته الأخيرة " الركض وراء الذئاب" بعد سقوط نظام صدام حسين مباشرة، ومن مدينة نيويورك، حيث تكلف وكالة الصحافة الأجنبية في أميركا أحد مراسليها، وهو أميركي من أصل عراقي بكتابة تقرير مفصل أو ريبورتاج عن شيوعيين هاربين إلى أفريقيا أواخر السبعينيات، ومن خلال السرد نتعرف على حياة هذا الصحفي الذي يقوم بسرد الأحداث، وبالبحث عن هؤلاء الشيوعيين الهاربين. إنه صحفي أميركي مشهور ولامع، من أصل عراقي يبلغ من العمر الخامسة والأربعين، يعمل باسم مستعار محللا للأخبار في قسم الشرق الأوسط من الوكالة، كان قد ذهب إلى أميركا في العشرينيات من عمره للدراسة أولا، ثم تزوج من أميركية، وتجنس بالجنسية الأميركية، كان في بداية حياته يساريا، إلا أنه يتأثر شيئا فشيئا باليمين المحافظ، ويصبح من أتباع المفكر اليميني ليو شتراوس، ثم يبدأ مسيرة أخرى في الدفاع عن أفكار اليمين المحافظ مثل بول وولوفتز وريتشارد برل وفؤاد عجمي وكنعان مكية وغيرهم، ويتوصل إلى هذه النتائج من خلال علاقته السرية مع عشيقته البولونية فيرسولوفا، والتي يطلق عليها فيفي.
بين هاتين الحياتين، العلنية مع زوجته وابنه وابنته، والسرية مع عشيقته، وبين تجاذبه لفكرين معا، الفكر اليساري القديم بعدالته والفكر اليميني بهيمنته وتقدمه، يبدأ هذا الصحافي بالبحث عن الوثائق والمعلومات والأخبار الصحفية التي تتناول حياة هؤلاء الثوار في العراق، حيث تتقدم الرواية بشكل بارع بالمزج بين خطين متوازيين، الأول يتناول المسيرة الفكرية لهذا الصحافي العراقي الذي يعيش في أميركا، والخط الثاني أثر حياته الجديدة في إعاقة تقدم فكره اليساري الذي جلبه من منطقة الشرق الأوسط، وإيمانه شيئا فشيئا بالفكر اليميني. يسرد هذا المراسل مراحل تطور حياته، وتفكيره، ووصوله إلى أميركا، وتحولات فكره، وعلاقته بالشرق الأوسط، حيث يعتقد أن علاقته به تعتمد على المشاكل هناك، كلما زادت المشاكل في الشرق الأوسط كلما كبر الاهتمام به في أميركا، حتى الوصول إلى النقطة الحاسمة، فبعد سقوط صدام حسين يبدأ هذا الصحافي بالمجاهرة للمرة الأولى باسمه، ويبدأ بإقامة علاقات مع الجالية العراقية التي كان يتجنبها فيما مضى، وبعد أن تنتدبه الوكالة في هذه العملية، عملية البحث عن الشيوعيين الهاربين إلى أثيوبيا يبدأ هو بإقامة علاقات متعددة مع العراقيين في الخارج والداخل، بحثا عن المعلومات والوثائق والصحف التي تناولت هؤلاء العراقيين.
من كل المقابلات التي أجراها مع ثوار متقاعدين التقى بهم في أميركا وأوربا، ومن كل الوثائق التي وصلته، أو التي حصل عليها من العراق، أو الوثائق التي حصل عليها عن طريق الوكالة، هنالك ثلاث شخصيات ركز عليها قبل الرحيل إلى أفريقيا، الشخصية الأولى، هي: الصحفي جبر سالم: ثوري معروف، كان يعمل صحفياً بالقطعة، جاء من الناصرية إلى بغداد في الستينيات، وقطن في حجرة قذرة في البتاوين وسط العاصمة، وكل الوثائق التي بين يديه تعرفه بأنه ثوري نادر. الشخصية الثانية هو أحمد سعيد: ثوري عقائدي، عاش طفولته وشبابه في بغداد، ثم التحق بالثورة الشيوعية في الأهوار، وقد شارك في حرب العصابات في الجبال أيضاً، ثم انتقل إلى بيروت بعد أن أطاح البعثيون بالثورة، ثم انتقل إلى أديس أبابا بعد صعود الضابط الشيوعي منغستو إلى السلطة في أثيوبيا. الشخصية الثالثة هي ميسون عبد الله التي أحبها أحمد سعيد ورافقته في مسيرته النضالية، من الأوكار الحزبية إلى حرب العصابات، واشتهرت بمقاومتها الضارية للبعثيين في ذلك الوقت، وكسجينة سياسية عانت من أكثر صنوف التعذيب شراسة ووحشية. ومن خلال هذه الرواية نتعرف على العمل الشاق في الحركة السرية الثورية في بغداد حيث كان يجلس الشيوعيون في مقهى المعقدين ومقهى البرلمان، وتتوالى الأحداث حتى يجمع هذا الصحفي أكبر قدر ممكن من المعلومات، وبعد ذلك يرحل إلى أفريقيا.
لا تتحرك الرواية فقط على الأحداث، إنما تتحرك وسط التحليل السياسي والثقافي الاجتماعي لتحولات فكر يساري، تروتسكي تحديدا إلى فكر يميني محافظ، فالبطل قادم من الشرق الأوسط، يعيش في نيويورك، متزوج من امرأة أميركية، ويخونها مع مهاجرة بولونية، ولديه أولاد أميركيون لا يعرفون شيئاً عن الشرق الأوسط ومشاكله، كان مؤمناً باليسار، وبالحركات الثورية، ومتعاطفاً مع القضية الفلسطينية ومع الاستقلال، ويعمل في مؤسسة أميركية يملكها مردوخ، أكبر كارتل صحافي يميني في الغرب. وهكذا تتوالى تناقضات هذه الشخصية: فهو يساري من الداخل ولكنه مؤمن بالديمقراطية وبحقوق الإنسان مثل أكثر الغربيين، يميني في الوكالة ومنفتح مع عائلته جداً، لم يكن يوماً ضد الحداثة أو معادياً للغرب، وقد درس في جامعة شيكاغو، حيث قرأ منظري المحافظين الجدد مثل ليو شتراوس ومايكل ليدن وغيرهم. حتى آمن أن الديمقراطية يجب تعميمها بالقوة. كان وصول البطل إلى أفريقيا عسيرا، فهو من جهة يجد في البحث عن الشيوعيين الهاربين من بغداد، ومن بطش النظام السابق، ومن جهة أخرى يقع في قبضة صحافيين أفريقيين، لاليت وآدم، حيث يعرفانه على أفريقيا زمن انهيار الثورة، ويخضع هو لابتزازهما. نصل في هذا الفصل إلى مفهوم جديد تطرحه الرواية هو فكر ما بعد الثورة، أو الفكر الناقد للثورة بعد انهيار وسقوط الثورة ... مرض الشك الدائم، فهذا المرض ملازم للثوار، ما أن تصبح ثورياً حتى تصاب بهذه العدوى: الكل يتآمر ضدك. وحينما تكون لديك السلطة، والسلاح، والقوة، وكي تحافظ على نفسك ووجودك تعلن بداية قطع دابر المؤامرة (المصطلح الذي كان يستخدمه صدام ومنغستو لتصفية معارضيه)، وهكذا تبدأ حملة التصفيات بالمنشقين ـ أو المشكوك بولائهم ـ ومن ثم تتحقق أسطورة الثورة، الثورة مستمرة يعني أن الجريمة مستمرة بأبشع صورها.
فالرواية تصور دولا كثيرة انهارت بهذا الشكل الكارثي لتعود أسوأ مما كانت عليه من قبل، تبتلي أولاً بالكولنيالية، ثم تأتي الثورة لتخلص الناس من نير الحكم الكولنيالي، لكن الثورة يقودها دكتاتوريون يعيدون السياسة الكولنيالية بصورة أبشع من السابق، وهكذا تبدأ الانشقاقات ويتم إجهاض الثورة. ولكن الأمر لا ينتهي إلى هذا الحد بل تبتلي البلاد بالحروب الأهلية والفوضى. وتصور الرواية أيضا رطانة المثقفين فيما بينهم وأينما كانوا: مصطلحات الماركسية. البنيوية. السيميولوجيا. آثار الصورة. ما بعد الكولنيالية. فالراوي يعتقد أن المثقفين في كل مكان يجترون الكلمات ذاتها، وهم خليط بين عبودية وتحرر، مزيج بين ثقافة وكراهية، خليط بين تقليد أوربي وتراث أفريقي فاضح. وبعد ذلك تنتقل سوسينا المثقفة الماركسية الجميلة للعيش مع البطل في شقته، أما آدم فقد كان يلتقي معه كل يوم تقريبا، غير أن صديقيه الأثيوبيين يخفيان جميع المعلومات عنه، ويتعمدان عرقلة اتصاله مع الشيوعيين الهاربين هناك، غير أنه وبالمصادفة يلتقي بإحدى هذه الشخصيات، وهو جمال وحيد، يلتقي به في فندق المسكال في أديس أبابا. ويتعرف على حياته:
كان جمال وحيد يعيش في بغداد السبعينيات شيوعيا، ألقي عليه القبض بعد وصول صدام حسين إلى الحكم وشروعه بمذبحة الشيوعيين في العام 1979، فيودع في السجن لمدة شهرين ويتعرض إلى تعذيب شديد، غير أنه يطلق سراحه بعد ذلك، فيهرب إلى الاتحاد السوفيتي ويعمل في وكالة نوفستي فترة من الزمن، بعد ذلك يطرد ويلاحق من الشيوعيين أنفسهم إذ يتهم بالعمالة للمخابرات العراقية، فيصل إلى أديس أبابا للعمل في مؤسسة أوربية لحماية الحيوانات البرية، ولا سيما الذئاب. كانت المعلومات التي استقاها من جمال وحيد سطحية ومعكوسة، ولكننا في نهاية الرواية نتوصل شيئا فشيئا إلى حل لغز حياة جمال وحيد، ذلك أن خروجه من السجن كان لقاء اعترافه على رفاقه، غير أن هذا الاعتراف كلفه غاليا، لا بشكوك رفاقه به فقط، إنما جعله تحت وسواس الاضطهاد القهري، وفي الليلة الأخيرة التي يعترف فيها للبطل بكل تفاصيل حياته، يعترف له أيضا أنه لا يعمل في مؤسسة أوربية لحماية الحيوانات البرية، إنما في مؤسسة لمطاردة الذئاب في أفريقيا وقتلها وبيع جلودها، وما حماية الحيوانات البرية إلا غطاء لأعمالها.
نهاية الرواية هي المثيرة حقا، فتغرق الرواية بتحليل موضوعة الثورة والثوار، ومما يدهش حقا فضلا عن التفكير الثقافي والتحليل العميق هنالك القدرة الفذة على كتابة الرواية الفنية بكل صورها وأشكالها، ونادرا ما تجتمع هاتان الموهبتان في شخصية واحدة، ففضلا عن أن علي بدر يزودنا في رواياته بقدر هائل من الأفكار والمعلومات، نحن ندخل في رواية عظيمة في شخوصها، بارعة في أسلوبها، وهائلة في أحداثها. 


كاتب عراقي لندن