الندوة الفكرية نظمتها بشراكة مع مجموعة البحث في فلسفة الصورة، وبتعاون مع مؤسسة الملك عبدالعزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والإنسانية بالدار البيضاء، حول الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو بعنوان "فوكو اليوم، راهنيتُهُ والتلقي العربي لفكره"، وعرفت حضورا لافتا لعدد من الأكاديميين والفلاسفة والنقاد والباحثين وطلبة الدراسات العليا والإعلاميين.
شكلت الندوة لحظة معرفية قوية بشهادة كل المتتبعين والمتخصصين. وتميزت الجلسة الصباحية التي ترأسها د. محمد الشيخ بإلقاء كلمة اللجنة المنظمة التي تضمنت تلاوة الورقة الخاصة بالندوة مركزة على الغاية منها معرفيا وبيداغوجيا، تلتها الجلسة العلمية الأولى، والتي تحدث في بدايتها أ. د عبداللطيف محفوظ الذي قدم مداخلة موسومة بـ "فوكو واستراتيجية تأويل الأدلة الأيقونية" وقد تركزت حول المقاربة التأملية لميشال فوكو في لوحة (الوصيفات) للرسام الإسباني فيلاسكيز. حيث قدم في بداية مداخلته الإطار النظري لمقاربته، والتي تمثلت في نظرية ش. س. بورس السيميائية بعدها الأكثر إسعافا على رسم حدود قراءة فوكو التأملية.
وهكذا، وبشكل سلس، قدم نظرية المؤولات البورسية، منتهيا إلى اعتبار قراءة فوكو متوقعة في خانات المؤولات المنتمية إلى مقولتي الممكن والوجود، مؤكدا أنها لم تلتجئ، في أي وقت من تشكلها، إلى المؤولات التي تنتمي إلى مقولة الضرورة، ومن ثم فسر تغاضي فوكو عن الالتجاء إلى السياقات المناسبة لمكونات الدليل (لوحة الوصيفات)، والتي تؤشر على سياقات مسجلة في الموسوعة الفعلية، سواء تعلق الأمر بالسياق التاريخي أو الاجتماعي أو المتعاليات الفنية.. منتهيا إلى أن تحليل فوكو الذي يمكر بالسياقات الفعلية التي تؤشر عليها اللوحة، يهتم بالنوعيات عن طريق تحويل الدليل/ اللوحة إلى مجموعة من الأدلة الجزئية مأخوذة في جانبها النوعي وحسب، حيث يبدو التحليل الفوكاوي كما لو كان مجرد تشخيص للمرئي في شكل سردي، حيث العمل على توصيف وترتيق الفجوات الافتراضية داخل المحكي المفترض لحكاية اللوحة، وذلك عن طريق تحويل الساكن إلى متحرك، والثابت المنتهي إلى زمن داخل ديمومة مفترضة. إنه تأمل مبأر على العلاقات الخفية المتوارية في الغياب المؤشر عليه من قبل الحضور الماثل في شكل التمثيل ذاته.
كما ركز تحليل محفوظ على معالجة فوكو للنظرة ودلالاتها وفق تموقعاتها في الفضاء والزمن الافتراضيين.
وانتهى أخيرا إلى التساؤل عن إن كان فوكو، وهو يقرأ اللوحة، يتأمل الما يحدث بناء على تصور حكاية تنسجم مع موضوع اللوحة، أم فقط يتصور الحكاية انطلاقا من تصورٍ لما كان من الممكن أن يحدث؟ مؤكدا أن تلك هي سمات القراءات التي تهدم الأدلة من مستوى الوجود إلى مستوى الممكن، والتي تنكر وجود حقيقة ما بمقابل تشييد إمكانات لحقيقة ما مفترضة.
أما المداخلة الثانية فقدمها د عبدالمجيد الجهاد وكانت موسومة بـ "التلقي العربي لفكر ميشال فوكو، محمد عابد الجابري نموذجا" انطلق فيها من تباين المواقف في واقعنا الفكري العربي بخصوص إشكالية التعاطي مع الفلسفات الغربية، بين من اعتبرها قيمة مضافة من شأنها أن تغني سجلنا المعرفي، وتعزز من انفتاحنا على معطيات الثقافة الإنسانية، وبين من اعتبرها مجرد فضلة زائدة ينبغي تركها، بدعوى أنها قد تعمق من تبعيتنا للآخر الغربي، وتجعلنا عالة على منجزه الفكري.
كما تراوحت هذه المواقف - يضيف الباحث - بين: مواقف صريحة ومعلنة تجاهر بانتمائها المرجعي وانتسابها الفكري لهذا الاتجاه أو ذاك، وأخرى مضمرة تستثمر في استحياء بعض المفاهيم الغربية، من دون أن تكشف عن ارتباطها الصريح بهذه النظرية أو تلك، أو تتبنى المرجعية النظرية والخلفية الفكرية التي تصدر عنها.
وحاول في مقاربته الإجابة عن عدد من الإشكالات من قبيل: كيف تم تلقي فكر فوكو من طرف المفكرين المغاربة؟ ما هي أشكال ومستويات هذا التلقي؟ ما هي الشروط والسياقات التاريخية والمعرفية التي تحكمت في هذه التلقيات؟ ما هي الآفاق التي فتحتها هذه التلقيات في الحقل الفلسفي، والفكري عموما؟
في حين انصبت مداخلة د. محمد مزيان على "مسألة الذات في فكر ميشال فوكو" منطلقا من أن أسئلة فوكو على اختلافها هي تفريع لسؤال الذات.
إن فوكو لا يسأل ما الذات؟ بل ما شروط تكونها. وبذلك فعمله يندرج، نسبيا، ضمن تقليد كانطي يجعل الذات مفعولا لشروطها. وفي سعي هذا الفكر - الأركيولوجيا إلى تقصّي صيغ تولّد الذات يصطدم بمفهوم العصر كأفق أقصى لصيغ الخطاب والرؤية، فالعصر كوحدة إبستيمية هو نظام خطاب كما نظام رؤية يحدد مفهوم الذات وعلاقتها بذاتها وبالأغيار.
لذلك فالعبور من عصر النهضة إلى العصر الكلاسيكي ثم العصر الحديث هو عبور عبر مفاهيم مختلفة للذات تعبّر عن التداخل الوثيق بين عمل المعرفة وتقنيات السلطة في غمرة حرب ضروس لا هوادة فيها. فحقيقة مفهوم الذات كأية حقيقة هي معترك لقوى وأخرى مضادة ضمن مشهد تحايث ملموس بين تعددية السلطة وأصناف المقاومة.
ويضيف الباحث أن تغيرات مفهوم الذات تشهد على تواتر وتجدد التشكيلات التاريخية ذات الخصائص المتمايزة. فإذا كان العصر الكلاسيكي اشتق مفهوم الذات بالإستناد إلى التواشج بين الإنسان وخارج لامتناه تكثفه صفات الله، فإن التحول الذي عرفه العصر الحديث منذ القرن 19 هو تولّد مفهوم للذات على خلفية علاقة الإنسان بقوى التناهي المتمثلة في الحياة، الشغل واللغة.
إن هذه القوى الجديدة التي تخترق الإنسان وتتخطاه تعلن عن موت الإنسان. غير أن حدوده الإنسان تلك هي مصدر قوته وسموّه، إنه الأسمى بفعل تناهيه أو كما يقول رابينوف ودريفوس: "كائن هو سيّد لأنه عبد، كائن يمكنه أن يحل محل الله بموجب تناهيه بالذات".
إن فوكو لا يهدف وراء نقده خطاب الذاتية للعصر الحديث إلى تهديم الذات بل إلى التأريخ لها إيذانا بخوض تجربة جديدة للذات، فقد أظهرت تحليلاته لمختلف العقلانيات القطاعية، لتجربة الجنون - مثلا - مع الحجز والسجن منذ العصر الكلاسيكي، أظهرت نفس ما أظهرته تجربة الجنس منذ القرنين 18 و19 مع التحليل النفسي والخطاب الطبي، أظهرت – بوصفها معارف - أنها لا تخلو من سلطة تراقب وتعاقب، لا تعنّف بالضرورة، لكنها تضبط وتؤدب وتطوّع النفوس والأجساد، لينهي مداخلته برهان فوكو بعد انسداد أفق الطرح الميتافيزيقي لسؤال الذات على "إعادة تشكيل وتطوير ممارسة للذات تكون فيها هي صانعة جمال حياتها الخاصة"، الرهان هو ذاتية مغايرة في أفق الحياة كأثر فني وهذا غير ممكن اليوم إلا إذا وضعنا نصب أعيينا سؤال: كيف نحكم أنفسنا بأنفسنا؟ هذا السؤال هو المهمة الكبرى للفلسفة اليوم، لأن هذا السؤال هو ما تخشاه الفاشية، لأن الفاشية تخشى القرارات والإختيارات الشخصية لأنها قتل للزعيم.
بعد ذلك أعطيت الكلمة د. السعيد لبيب، الذي كانت مداخلته تحت عنوان "فوكو ودراسات النوع" أكد من خلالها عدم إمكانية الحديث عن الدراسات التي تنشغل بقضايا المرأة والجسد دون استحضار مكانة فوكو في تحرير هذه الدراسات، خصوصا مع ما سمي بنظرية الكويير مع بتلر، من مسلمات التنميط والعنف الرمزي المحايث لكل تحليل لعلاقة الفرد بالجنس تحليلا لا يعمل سوى على تكريس المعايير إلى فصل بين حياة عادية تقبل العيش في أطر انسانية.
لقد مكن فوكو بتلر من هدم خطاب يدعي الحقيقة وينزع الشرعنة عن الأقليات بسبب نمط الجنسانية التي لديها (المثليين والسحاقيات والمتحولين جنسيا ومزدوجي الرغبة الجنسية) من هنا ظهرت الرغبة العارمة من أجل التفكير في هذا المكون الاجتماعي، تلك الرغبة التي اعتبرها المجتمع أجسادا مغلوطة غير واقعية وغير معقولة بسبب نسق قانوني/شرعي، سياسي ولساني لخطابات مهيمنة.
من هنا تأتي أهمية الاعتراف بهذه الأنماط من العلاقة مع الجسد، والتي لا فضاء لها سوى الهامش، لأنها لا توجد "في السجلات الرسمية للسلطة" كما يقول ليوتار. لهذا كان الانشغال بالبحث عن فهم أفضل للرعب والمعاناة التي تنتج عن أن تكون مختلفا، حالة شاذة في النسق بسبب الخوف من فقدان المكانة والمكان الذين كان هذا الاختلاف الانطولوجي سببا فيه.
أما الجلسة الثانية التي ترأسها د.أحمد الصادقي فقد افتتحت بمداخلة د. دخيسي عبدالمجيد وسمها بـ "الاعتقال والرقابة الاجتماعية في نظرية فوكو: من استعباد الأفراد إلى تدجين الجموع" تحدث فيها عن الإبستيمي الذي شيده فوكو من خلال شكل جديد للهيمنة بوصفه سببا للاهتمام به. موضحا أن الهيمنة لم تعد في منطقة محلية بل صارت كونية. وكيف أصبحت العقلانية تضبط جميع سلوكيات الأفراد، وقد ركز في الشطر الأخير من مداخلته على مفهوم التفردن.
وانطلقت مداخلة د. محمد الشيخ الموسومة بـ "فوكو ونقاده" من قناعة المتدخل بأنه لا يوجد مفكر كبير إلا ووجد له نقاده ومناقضوه، يلفي محمد الشيخ أن فوكو ـ شأنه في ذلك شأن كل كبار مفكري العصر ـ وُجِدَ له نقاد ومناقضون كثر.
وفي مداخلته يقف على ناقدين يعتبرهما من أكبر نقاد فوكو ـ هما ميشيل دو سيرتو وبول فاين، اللذان حاورا فوكو، كل من منطلقه (الأنتربولوجيا والتاريخ)، محاورة عميقة، وذلك بسبب من معرفتهما العميقة بالمؤلف وبصلة الصداقة التي كانت تجمعهما به؛ كل ذلك بناء على فكرة هايدجر القائلة بأن الحوار بين المفكرين حوار أوداء.
أما المداخلة الأخيرة فكانت للدكتور عبدالعلي معزوز تحت عنوان "فوكو: راهنيته والتلقي العربي لفكره" وقد حاول الإجابة عن السؤال التالي: ماذا يمثلُ فكر ميشال فوكو اليوم؟
مجيبا بأنه أولا جهاز مفاهيمي، ومعجم فلسفي خاص، حيث يكفي ذكر مقولات صارت رائجة في الفكر المعاصر من مثل السياسة الحيوية، وتدبير الذات، واستعمال المُتَع، والتذويت، والجنسية، والخطاب، والممارسات الخِطابية لمعرفة ذلك.
يمكنُ القول إن ثمة عُلْبَةَ مفاهيم وأدوات خاصة بفكر فوكو. ذلك أن فوكو لمْ يبتكر فقط مفاهيم للتحليل، وإنما موضوعات للتفكير. إن هذا الجهاز المفاهيمي المُبْتَكَرِ من طرف فوكو هو من أجل فهم أعمق للزمن الحاضر. فمفاهيم مثل الجنون والجنسانية والطب العقلي والسجن تمَّ استئناف التفكير فيها خارج القواعد المُكرَّسَةِ في المجتمعات المعاصرة.
كما يعود الفضل إلى فوكو في ابتكار مفهوم مجتمعات الرقابة. مضيفا أن فوكو ذاتُهُ الذي هَدَمَ الحدود بين الاختصاصات في العلوم الإنسانية والاجتماعية واستطاع أنْ يجعَلَ منها وسيلة للتفكير ومعاودة التفكير في أهمَّ معضلات عصْرِنَا. وجعل من التاريخ وسيلة ليس لاستعادة الماضي وإنما لفهم الحاضر. وحسب فوكو ليستْ الفلسفة تأملا في الأبديّ وإنما وسيلة لفحْصِ الحاضر وتشخيصه من خلال الحفاظ على المسافة النقدية معهُ، من أجل التفكير بشكل مغاير وبطريقة أخرى.
كان السؤال بالنسبة إليه هو معرفة تحت أي ظروف، وفي ظل أيِّ شروط نفكر ونتصرفُ بالطريقة التي نفكِّر ونتصرَّف بها. إن مهمة الفلسفة في نظره تتأتَّى من نزوعها واتجاهها نحو النظر النقدي في الحاضر ومساءلة الحداثة على غرار السؤال الكانطي ما الأنوار؟
ولا غرابة في أنْ خصَّصَ فوكو تأويلا للنص الكانطي على نحو يجعلُهُ معاصرا لنا مُحاوِلاً الاحتفاظ بنفس حِدَّة سؤاله. فنحنُ المعاصرون محتاجون إلى النظر في شَرْطِنَا المعاصر بكيفية تميطُ اللثام عن ما خفيَ منهُ ، وتنزع الحُجُبَ عن ما توارى فيه بلا هوادة. ذلك هو الدرس الذي يعلِّمُنا إياه فوكو في علاقتنا بالزمن الحاضر والشرط الراهن فيما وراء صَخَبِ وضوضاء الوقائع للوصول على ما يعْتَمِلُ فيه من أحداث كبرى.