ننشر هذه الدراسة عن مدى تجذر تأثير نجيب محفوظ في الثقافة العربية احتفالا بمرور عام على رحيل رائد الرواية العربية الكبير، حيث تكشف عن عمق تأثيره في الكتابة السردية المغربية وفي المخيال الروائي عامة.

صورة نجيب محفوظ في رواية المصري

محمد مشبال

لم يكن نجيب محفوظ في الثقافة المغربية وفي وعي الناس العاديين مجرد كاتب روائي أو أديب مصري، بل كان صورة ثقافية ونموذجا للاقتدار الأدبي وخلق عوالم فنية ساحرة تستطيع أن تجذب القارئ وتسمو بروحه في ملكوت الفن النبيل على الرغم من الأجواء الواقعية الوضيعة والهامشية التي حرص على تصويرها في أعماله.إنه الروائي العربي الوحيد الذي استطاع أن يتغلغل في وجدان جميع الفئات الاجتماعية،وأن يصبح على ألسنة الناس يذكرونه بإعجاب كما لو أنه اقترن في أذهانهم بالحكي الجميل والسرد الساحر.في هذا المقال نتطرق إلى صورة نجيب محفوظ كما صاغها روائيا محمد أنقار وكأنه أراد بذلك أن يجسد طبيعة العلاقة التي نسجت بين هذا الأديب وبين الإنسان المغربي.

* * *

تصور رواية "المصري"(1) شخصية أحمد الساحلي( السارد) الذي أدمن عوالم نجيب محفوظ والثقافة المصرية الأدبية والفنية إدمانا جعله يتوق إلى أن يكتب رواية عن مدينته تطوان كما كتب نجيب محفوظ عن مدينته القاهرة. وقد استبدت به هذه الفكرة القديمة مباشرة عقب موت صديقه عبد الكريم الصويري بعد تقاعده بأسبوع واحد؛ فقد خشي أن يلقى المصير نفسه وهو على مسافة شهر واحد من التقاعد، فقرر أن يستغل الأسبوع الأول من بداية فترة التقاعد في الخروج إلى أمكنة المدينة استعدادا لتنفيذ مشروعه الروائي؛ غير أنه في خضم مواجهاته لتلك الأمكنة لم يتوقف عن الشعور  بالعجز ولإخفاق والهزيمة،كما لم يتوقف عن استلهام صورة نجيب محفوظ والاستعانة بها في تحدي العوائق والمضي في مغامرته الروائية إلى أن أدرك الحقيقة التي ظل يراوغها، وهي أنه لا يستطيع تحدي عجزه وتنفيذ مشروعه.ولم يبق أمامه سوى انتظار مصيره وهو مصير كل بطل تراجيدي شاء أن يتحدى الموت.
إذا كانت حبكة هذه الرواية تحتمل أكثر من تأويل؛ فإن التأويل النفسي لمغامرة السارد يفيد أن رواية المصري مثل أي عمل روائي تنطوي في ثناياها على رواية أصلية قام الكاتب بإعادة صياغتها(2) ؛ إنها رواية الطفل اللقيط الذي يحلم بأسرة تحقق له المجد و تنسيه الإهانات. وأحمد الساحلي بطل يحلم بأسرة مصرية تحتضنه وتزيل من طريقه العوائق التي وضعتها فيه أسرته التطوانية. وقد مثل نجيب محفوظ أب هذه الأسرة ورمزا لكل الأدباء المصريين الذين شغف الساحلي بإبداعاتهم وشعر بقربه منهم. هكذا أصبح الساحلي التطواني مصريا يثير غيرة أسرته ويخشى انتقامها مما اضطره إلى إخفاء ما كان يقتنيه من مؤلفات مصرية. وعندما قرر خوض مغامرته الروائية وإنجاب عمل روائي مستوحى من علاقته بأسرته المصرية، كان عليه أيضا أن يتستر على مشروعه وكأنه يخشى عقاب أسرته الأولى على جحوده وتمرده.
هذا الوضع النفسي الذي وجد فيه الساحلي هو الذي يفسر لنا إخفاقاته المتعددة التي تعرض لها في مواقف مختلفة تصورها الرواية والتي تجسدت في المحصلة النهائية في عجزه عن تحقيق حلمه المصري بكتابة رواية عن تطوان. وكأن هذه الإخفاقات ضرب من العقاب على سلوكه المتمرد بالمعنى النفسي، وسخرية سردية من تخطيطه الغريب أن يتجول في دروب المدينة العتيقة وأمكنتها يستجديها أن تدر عليه أحداثا قصصية ينسج بها ما تراكم عنده من ملاحظات واقعية وأوصاف ونعوت عن عتاقة مدينته، وكأنه بذلك يريد أن يطبق مبدأ الكاتب الفرنسي الواقعي زولا الذي يرى أن الرواية مرآة تتجول في الطرقات. غير أن تطبيق هذا المبدأ جلب له عدة إخفاقات؛ منها خطته أن يقصد مقهى صغير بحومة "الطرانكات" رشحه للتصوير في مشروعه الروائي وما تعرض له هناك من موقف ساخر عندما أدرك رواد المقهى الشعبي في نهاية الأمر أن دخوله الغريب عليهم أمر لا خطر فيه عليهم مما دفعهم إلى تحويل الموقف لصالحهم؛ إذ حاصروه باللعب والضحك الهستيري وتدخين الكيف، ليجهزوا عليه أخيرا بنوع من التنكيت اللفظي اللاذع يصور خيبة أمل الساحلي وسوء تقديره للأمر وفشل خطط مشروعه(3) .
وفي موقف سردي مماثل كانت خطة الساحلي تقتضي أن ينحشر في الازدحام الشديد في درب "المصدع" المعروف ببيع السمك ويبدأ في تسجيل "أصدق الملاحظات"  والتقاط "أدق الأوصاف". غير أن وقوفه المشبوه أمام بائع الكمبري والتهيؤ لاستخراج أدواته والشروع في تدوين السمات الروائية البارزة، عرضه لإهانة شديدة عندما انقض عليه البائع الفتوة الذي كان متضايقا من وجوده وسط عدد كبير من المستفسرين عن ثمن السمك من دون أن يشتروا(4) . لاشك أن هذا الموقف السردي مثل سابقه - ينطوي على سخرية من مبدأ الوهم الواقعي الذي كان يرى الساحلي أنه يتحقق بأن يصبح مرآة صادقة ودقيقة لا تتوقف عن التجول في الدروب والأمكنة العتيقة. والحق أن صفتي الصدق والدقة اللتين يطلبهما الساحلي ليستا سوى وهم من أوهام واقعية الأدب والفن، بينما لا يعدو أن يكون التصوير الروائي في حقيقته نوعا من التخييل مهما بدا مشاكلا للواقع الخارجي؛ إنه يحقق صدقه ودقته بواسطة الخيال المبدع وليس بواسطة الملاحظة الخارجية الملموسة. لقد وقع الساحلي ضحية توهمه أن الواقعية تطلب في الواقع المحسوس فخرج يلتمس مطلبه، وكانت النتيجة ما حدث له من بهدلة كادت توقف مشروعه في منتصف الطريق.
ليست هذه الصور السردية الساخرة سوى أثر من آثار افتتانه بواقعية نجيب محفوظ وتوهمه أن محاكاتها تتأتى عن طريق نقل الواقع وتدوين المشاهد وتسجيل السمات؛ فكان يعد عدته للخروج بعناية فائقة وكأنه يتأهب لحضور حفل رسمي، متزودا بدفتر صغير وقلم رصاص. إن ما تعرض له الساحلي من إهانة وضرب هو نتيجة لوهم الواقعية وفتنتها، ومثل هذه الصور الساخرة تناظر ما كان يتعرض له ضون كيخوطي في رواية ثربانطيس من إخفاقات نتيجة قراره المجنون أن يصبح فارسا جوالا يسعى في الأرض "ببرذونه وسلاحه، وراء المغامرات، وأن يمارس جميع ما قرأ أن الفرسان الجوالين يمارسونه، فيصلح الأخطاء ويتعرض للأخطار.. حتى ينال بمجابهتها والتغلب عليها ذكرى لا تمحي أبدا"(5) . فكما أن ضون كيخوطي كان ضحية وهم محاكاة الأدب للواقع، كان الساحلي ضحية للوهم نفسه. وبينما كان بطل ثربانطيس مصابا بداء الفروسية كان بطل أنقار مصابا بداء الكتابة. ولكن كلا منهما اعتقد أن ما يقرأه في الأدب يجري على غرار ما يحدث في الواقع، لأجل ذلك توهم كيخوطي أن الفروسية واقع ملموس، و توهم الساحلي أن الكتابة محاكاة للواقع الخارجي؛ هذا على الأقل ما تعلمه من تجربة نجيب محفوظ الذي "أدمن جلوس المقاهي وتجول في الحواري الشعبية وتمرس بالوظيفة الإدارية ولم يعتمد على الموهبة وحدها.. و إنما اكتوى بنار التجربة إلى حد الاحتراق"(6) . لكن الذي لم يتفطن له الساحلي عمليا وهو أن هناك فرقا بين التجربة المختزنة التي تتحول بالخيال الروائي إلى إبداع أدبي وبين البحث المتعمد عن التجربة في الواقع العياني ومراقبة الأحداث من بعيد من دون مشاركة فعلية؛ فمثل هذا البحث لن يجود سوى بملاحظات ووقائع غير قادرة في ذاتها على أن تحمل أي رؤية إبداعية من دون استناد إلى تجربة مختمرة وخيال روائي.
إن معضلة الساحلي تكمن في تعويله على الواقع الخارجي لسد ما يعانيه من نقص في التجربة الحياتية وفي الخيال الروائي، أو في تعويله على الإرشادات والوصفات الجاهزة التي يمكنها أن تسعف في الكتابة الروائية؛ فقد كان يتحرق "شوقا في انتظار لو ينشر نجيب محفوظ مؤلفا شخصيا يطلعنا فيه على حيله الفنية ويقربنا من عوالمه الخفية. لكنه لم يفعل ذلك للأسف الشديد. هناك حوارات وذكريات و نصائح عامة فحسب وأخاف أن يموت الرجل أو أموت أنا من غير أن يظهر إلى الوجود مثل ذلك المؤلف العظيم"(7) . لاشك أن صوت السارد الذي وصف هذا المؤلف المرتقب بأنه "عظيم" يحمل نبرة الكاتب الساخرة من كلام السارد؛ أي إنه تركيب هجين يتكون من نبرتين أو صوتين. فالسارد المشغوف بنجيب محفوظ والمتلهف على كل ما يصدر عنه، يؤمن حقا بعظمة مؤلف يفصح عن حيل الكاتب الفنية؛ إنه بالنسبة إليه حقا "مؤلف عظيم"، لكن الكاتب (محمد أنقار) الذي يراقب- مثله مثل القارئ مشكلات السارد مع الكتابة يدرك أن مثل هذا الكتاب لن يجديه نفعا ولن يحل معضلته مع الكتابة الروائية؛ لأجل ذلك كانت كلمة الكاتب المتمثلة في صفة "العظيم" تشكل معنى آخر مخالفا لكلمة السارد وأفقا مناقضا له. فالكاتب هنا إنما قام بتصوير كلمة السارد والسخرية منها، وكأنه أراد أن يصور لنا حماقة أخرى من حماقاته، ويقول لنا إن ما يراه السارد عظيما من وجهة نظره وأفقه العاجز عن الإبداع، ليس كذلك من وجهة نظر نقدية تؤمن بأن لكل كاتب حيله الخاصة التي يصل إليها بالممارسة والمجاهدة. 
كان الساحلي يستمد جرأة المغامرة الروائية من حبه الصادق لنجيب محفوظ، ومن إيمانه بأبوته، ومن اعتقاده بأن هذا الكاتب ألف روائعه بتحمله مخاطر الاحتكاك المباشر بالحياة اليومية. لأجل ذلك لم يتقاعس عن تحمل مشاق جولاته في المدينة العتيقة. فقد كانت روحه في أثناء هذه الجولات متعلقة بصورة نجيب محفوظ: "لابد أن أكون في هذه اللحظة التاريخية جديرا بالاعتبار في عين نجيب محفوظ(8) ."  من الواضح أن السارد الذي استبدت به الرغبة في الكتابة الروائية بإيحاء من نجيب محفوظ لا يهمه - في النهاية - سوى إعلان ولائه لنموذجه ووفائه لأستاذيته ورغبته في نيل رضاه. إن الرغبة التي يحددها الآخر لا يمكن أن تسفر سوى عن رغبة الذات في تغيير كيانها ووجودها؛ فقد كان الساحلي يشعر باشمئزاز من الأجواء المحاصرة له في مجتمعه التطواني الضيق وبعبء العلل التي صاحبته منذ الصغر. من هنا جاءت رغبته في الاقتراب من شخصية نجيب محفوظ والتوق إلى اكتساب مزاياها وسماتها من قوة بدنية وشجاعة وموهبة وغيرها من السمات التي يفتقدها السارد، وكأنه بذلك يتوق إلى أن يصبح شخصا آخر غير الأستاذ التطواني العليل. كانت صورة هذا الكاتب المصري"المارد" و"الساحر" و"اللغز البشري المحير" تستبد به وتملأ مخيلته بصور قاهرته الروائية حتى وهو يخترق دروب مدينة تطوان العتيقة. فقد بلغ تأثيرها فيه مدى اختلط فيه الخيال بالواقع أو القاهرة المتخيلة بتطوان الحقيقية. ولعل هذا التأثير القوي الذي يسوغ حلمه الثقافي ، أن يمثل في الوقت نفسه عائقا يحول بينه وبين إنجاز ذلك الحلم. فهو مطالب بنسيان ما تحتويه ذاكرته من صور روائية استمدها من قراءاته المتكررة لنجيب محفوظ حتى يتمكن من ابتداع صوره الروائية الخاصة؛ غير أنه لا يتمكن من النسيان فتنهال عليه صور الذاكرة وهو يحاول أن يلتقط سمات مدينته العتيقة؛ فقهوجي حومة "الطرانكات" ظل غامضا مجهولا عنده بينما كانت صورة المعلم كرشة إحدى شخصيات رواية زقاق المدق واضحة في ذهنه.
يمثل نجيب محفوظ في رواية المصري صورة الكاتب الملهم والمحفز على التخيل والإبداع؛ فصوره الروائية عن فضاء القاهرة منقوشة في ذاكرة الساحلي تنفث في وجدانه السحر الجمالي وتغشى بصره فلا يكاد يرى من حوله غيرها؛ صور"قصر الشوق" و"القاهرة الجديدة" و"خان الخليلي" و"زقاق المدق" و"اللص و الكلاب" وصور روايات أخرى لم يستطع الساحلي أن يتحرر من سطوتها عليه؛ وكأن الكاتب أراد القول إن مشكلة الساحلي تكمن في عدم قدرته على امتصاص هذه الصور واستلهامها أو تحويلها. يتساءل السارد بعد مراقبته لتاجر من تجار دكاكين "حومة البلد" يمثل في نظره نموذجا جيدا للشخصية القصصية المحلية : " ولكن.. هل هناك إمكانية لتصوير التاجر القصير بعيدا عن صورة السيد أحمد عبد الجواد؟"(9) . إن معنى الاستدراك ومعنى الاستفهام الإنكاري الواردين في تساؤل السارد، يكشفان التوتر الذي يعيشه بين ملاحظاته الواقعية الملموسة وبين سلطان الصور الروائية المستعارة على خياله، تلك الصور التي تهزمه وتشل قدرته على الإبداع. 
إن نجيب محفوظ كاتب الرواية الواقعية الساحرة الممثل للنموذج الوسيط بين السارد وبين رغبته في الكتابة الروائية والمتربع في الأعالي تحيط به الحظوة، لم يمنع أن يكون في الوقت نفسه عائقا يحول دون تحقق رغبة البطل؛ أي إنه الوسيط والعائق في الوقت نفسه، لكنه ليس من طينة العوائق التي تتحول إلى موضوع كراهية الأبطال. فهذا النموذج الوسيط يظل بعيدا عن البطل لا يحتك به ولا يعترض طريقه بالمعنى المحسوس، ولأجل ذلك ظل يحظى بتقديره. إن مشكلة البطل تتمثل في وضع رغبته تحت سلطان هذا الوسيط القاهر الذي ظل في مكانته وموضعه ينفث فيه الرغبة الروائية ولكنه لفرط سحره ونموذجيته يصيب البطل المحاكي بالعجز وخيبة الأمل.
و الحق أن رواية "المصري" لا تخلو في تصويرها لشغف السارد بنجيب محفوظ من نبرة السخرية؛ فهي تصور في النهاية شغفا مفرطا واهتماما زائدا يتناقض مع النتيجة التي آل إليها هذا التعلق العاطفي والفكري. يقف الساحلي عاجزا مهزوما أمام الصفحة البيضاء يراقب الملفات التي جمعها عن المدينة العتيقة "صامتا كتمثال بوذي"(10). غير أن هذه السخرية لا تنطوي على أي نبرة هزلية؛ فالساحلي شخصية تراجيدية يثير عجزها عن الفعل وفشلها في الإنجاز الشفقة والعطف والجزع.إن أهدافه نبيلة ونواياه صادقة. وإذا كان قد سقط فإنه مسؤول عن سقطته، لا يلام على هذه النتيجة سواه؛ فقد انساق وراء حلم ينوء به حمله. ولم يكن هو غافلا عن هذه النتيجة غفلة تامة، بل لطالما استشعر سقطته وأدرك أن فضيلته غير كاملة، وأنه لا يملك الصفات التي تؤهله للخلود؛ يخاطب نفسه معترفا بالهزيمة أو بالسقطة التراجيدية المفضية إلى الموت: "تريد أن تضيف إلى ثرواتك ميزة الإبداع التي لم تستطعها؟ يكفيك أنك وقفت عند مشارف الحقيقة فلا تتجاوز حدك واعترف بهزيمتك تطوان ستظل منتظرة فارسا آخر غيرك ليصوغها قصيدة جميلة أو رواية ساحرة أما أنت فهيهات لك أن تكذب على نفسك وتدعي أنك كاره لعبة الشطرنج ودفء الكازينو ودغدغة العقارات والمال المجموع."(11)
وفيما يشبه التأهب للموت في الفصل الأخير من الرواية المعنون ب"الغروب"، مادام الفشل في الكتابة يعني الفشل في تحدي الموت ومقاومة المصير، يصور الكاتب البطل وقد تلفف بالبياض وكأنه مكفن، ثم يصوره بعد ذلك وهو يلتفت إلى ضريح "سيدي المنظري" باني مدينة تطوان، وكأنه قد قطع صلته بالعالم الدنيوي وسجل نفسه في قائمة الأموات الذين لن يذكرهم التاريخ: "هاهي أمانتك الوديعة أردها إليك.. لست في مستوى الأمانة.. أنت بنيت المدينة و كان لك مجد البناء و أنا عجزت عن وصف ما بنيت.. و أقسم بالله العظيم أني كنت مخلصا في نيتي و تجوالي و سعيي.. و قبل هذا وذاك كنت مخلصا في حبي.. أرجو المعذرة فأنا لست أول و لا آخر الفاشلين.."(12)  إن سقطة الساحلي هي سقطة تمرده على أسرته التطوانية بكل طقوسها الثقافية والاجتماعية وتوقه إلى أسرة مصرية خيالية؛ إنها سقطة ناجمة عن رغبته في السمو وتحقيق مكاسب جديدة بينما تغوص قدماه في بيئة طبيعية وثقافية لا تكف عن إفراز العوائق في طريق حلم ثقافي سام أو مكسب معنوي.
كان الساحلي يرى في أسرته التطوانية مصدرا ينغص عليه تنفيذ مشروعه، بينما يجد في نجيب محفوظ (والأسرة المصرية) كل أسباب العون للمضي نحو مجد أدبي يتمم به ما يتوفر عليه من غنى في الممتلكات ونسب في العائلة. هكذا بدت زوجته رقية عاملا معاكسا لمغامرته الروائية، في حين بدا نجيب محفوظ عاملا مساعدا. وبينما تختزل رقية تطوان بطقسها الاجتماعي والطبيعي المعاكس، يختزل نجيب محفوظ الثقافة المصرية بإيحاءاتها الملهمة والمساعدة. ففي إحدى خرجاته إلى السويقة حارة أمه وأجداده، ستتعرض مغامرته الروائية لإخفاق آخر من إخفاقاته المتعددة؛ حيث طارده أحد الأفاقين الذي اشتبه بحضوره الغريب وهو يرقب تحرشه بصبية لعوب ورغبته الجنسية في معاشرتها. ولم ينقذه من هذه المطاردة المرعبة سوى كتاب مصري عن "حياة الرافعي"؛ فقد كان للجوئه إلى إحدى المكتبات وانتقائه لذلك الكتاب مناسبة سانحة لتفادي الخطر المحدق. تتحدث الفقرة التي انغمس في قراءتها بالكتاب عن مفهوم الحب عند الرافعي الذي كان يختلف عن مفهومه عند بقية الناس: "إن الحب عند الناس هو حيلة الحياة لإيجاد النوع، ولكنه عند الرافعي هو حيلة النفس إلى السمو والإشراق و الوصول إلى الشاطئ المجهول، وهو نافذة تطل منها البشرية إلى غاياته العليا"(13) .
ولا يخفى علاقة هذه الفقرة بالسياق الروائي الذي وردت فيه، حيث لاحظ السارد كما أشرنا سابقا أن السويقة تشهد في اللحظة الراهنة تبدلا في القيم ومنها قيم الحب. وليس في لجوئه إلى كتاب "حياة الرافعي" سوى حيلة لإنقاذ نفسه من التهديد الذي تعرضت له حياته سواء على المستوى الوجودي الملموس أو على المستوى الروحي القيمي. على هذا النحو يجد السارد مرة أخرى ملاذه الآمن في الثقافة المصرية المتناغمة مع قيمه السامية. وفيما مثلت هذه الثقافة مصدرا يحتضن مغامرة السارد ويحميها، كانت ثقافته التطوانية التي ترعرع فيها، تلفظها وتنفيها. فالبطل العليل موسوم أيضا بالخضوع للمرأة وعدم الشجاعة في مواجهتها. يقول السارد: "لقد علمتني رقية الامتثال كالكلب المطيع"(14).  فقد صورت الرواية رقية امرأة تطوانية نموذجية في طريقة أكلها ولبسها وتفكيرها وهدوئها وحرصها على أن يؤدي زوجها الواجبات الاجتماعية على نحو حرفي سواء في المآتم أو حفلات الزفاف، كما أنها كانت تأبى إلا أن تشركه في تفاصيل تأثيث البيت، وهو ما كان يرى فيه عاملا معاكسا لموهبته الأدبية: "تخيلت الأثاث جمادات مجرمة سرقت إلى الأبد وقتي الثمين. وبرأت نفسي من علة العجز الأدبي وأرجعتها إلى رقية التي تلزمني بما لا يلزم"(15) .
لقد مثلت رقية على المستوى السردي عاملا معاكسا لمغامرة البطل الروائية مثلها مثل الجو الشرقي والرطوبة والضعف الجسدي والإحساس المرهف بالمشكلات الطارئة ومجموعة من العادات اليومية كمتابعة نشرات الأخبار والمسلسلات. إن وظيفتها السردية تتقابل مع وظيفة أم كلثوم ونجيب محفوظ وباقي أعضاء الأسرة المصرية في الرواية الذين مثلوا عاملا مساعدا للبطل في مغامرته. ومع ذلك ينبغي التنبيه إلى أن الكاتب يصور شخصياته الروائية بعيدا عن الدلالات الثابتة والوظائف السردية الأحادية الاتجاه؛ فرقية التي صورتها الرواية عاملا سرديا معاكسا للمغامرة الروائية والشخصية الممسكة بزمام الأمور إلى حد التسلط، مثلت بالنسبة إليه- من جهة أخرى- أيضا الزوجة الشريكة ومصدر البهجة والراحة. كما أن أم كلثوم ليست الصوت الغنائي الملهم فقط ولكنه أيضا الصدى الساخر المعبر عن حالة الإخفاق. وليست صورة نجيب محفوظ في الرواية مختلفة عن هذا التعدد الوظيفي؛ فهو أحيانا مصدر للإلهام وأحيانا مصدر للإعجاز.
وفي جميع الأحوال، لا تختلف صورة "كوكب الشرق"(16) عن صورة نجيب محفوظ في وظائفهما السردية ودلالاتهما الروائية؛ فهما معا يحيلان إلى الهوى المصري الذي يكون وجدان السارد ومخيلته، على نحو ما يشكلان ملاذا يحتمي به من المخاطر التي تهدد مشروعه الروائي، وقوة  تسند ضعفه في سبيل مغامرته الشريفة. إن وضعية الساحلي أشبه ما تكون بوضعية ضون كيخوطي الذي تطلبت منه الفروسية الجوالة التي قرر الدخول في نظامها، البحث عن سيدة يستعين بعشقها على مواجهة المخاطر التي تعترض سبيل مغامراته لإصلاح الأخطاء ورفع المظالم. ولما كانت مغامرة البطل العليل تنحصر في الإبداع الروائي، فإن المخاطر المحدقة بها ذات علاقة بالمزاج والخيال والذهن، وهي أحوال نفسية تتأثر بالأجواء الطبيعية والمشكلات الاجتماعية. فالجو الشرقي بتطوان لا يسعف على القراءة أو التفكير أو الكتابة، مثلما لا تسعف العادات اليومية و"رقية القادرة" كما يصفها السارد مشيرا إلى ما تتمتع به من سمات الأنوثة المتمكنة التي لا تتأثر بالجو وتعرف كيف تحتفظ ببهجتها وأناقتها وجمالها مع مرور الزمن. يروي السارد كيف أنه كان يتغلب على الجو الشرقي ويخفف من ضيقه بالاستماع إلى صوت أم كلثوم والنظر إلى " صورة فوتوغرافية لنجيب محفوظ وقد جلس على كرسي واضعا رجلا فوق رجل وهو يدخن النارجيلة. ومن فرط ما سحرتني الصورة كنت أعود إليها كلما تملكني إحساس الانطماس. وأنا في هذا الصباح الشرقي منطمس بالفعل. تأملت الصورة مليا فانفجرت مجرة النجوم. ليالي القاهرة ودخانها ومشربياتها وأسرار أركانها."(17).
إن استعانة الساحلي بصورة نجيب محفوظ الفوتوغرافية في تنفيذ المغامرة مثل استعانته بصور أزقة القاهرة الروائية ومقاهيها لوصف المدينة العتيقة، ليست في أحد معانيها سوى هزيمة الروائي المغامر المرعبة أمام إبداع إنساني خارق ومعجز. لم يعد الساحلي يملك في لحظة الإنجاز سوى أن يستسلم إلى سلطان الصور الساحرة ويسمو بروحه إلى آفاق الإبداع الحقيقي الذي لا يجود به خياله ولكن يجود به خيال "المصري" المارد. إن الساحلي لا يملك في لحظة الإبداع الحقيقية إلا أن يتماهى في نجيب محفوظ؛ أي أن يلغي ذاته ويتقمص شخصية الكاتب المصري ويحل في الأمكنة المتخيلة لرواياته وكأنه قد انفصل عن العالم الملموس الذي يحاصره إلى حيث يتحول إلى شخص آخر ينتمي إلى فضاء مختلف. وفي هذه اللحظة يكون قد استسلم لسحر الإبداع وفقد السيطرة على أدواته وفكره بينما توهم أن ذلك الإبداع مفتاح يلج به العوالم المغلقة ويبدد به الأحوال العقيمة. على هذا النحو تتحول صورة نجيب محفوظ والأمكنة المتخيلة الساحرة إلى نماذج للإعجاز بينما كان يستحضرها باعتبارها نماذج ملهمة: "أعددت عدتي من النعوت والأوصاف المحتمل استعمالها، قطعت تيار الفكر هنيهة وأغمضت عيني كما لو أني أمارس اليوغا، وشحذت القريحة ثم ملأت خياشيمي بروائح المدق والعباسية والحسين وخان الخليلي والغورية والسيدة زينب، واستحضرت صور المقاهي القاهرية التي تردد عليها نجيب محفوظ أو كانت له بها صلة ، وأصبحت محفورة في الذاكرة مقهى عرابي، والفيشاوي، وكازينو صفية حلمي بالأوبرا، وسفنكس، وريش، ولاباس، وجروبي، وعلي بابا، وقشتمر، والفردوس، ومقهى السيد عبده، وركس، ولونابارك، والمقهى الصغير في سوق الحمزاوي، ومقهى السي علي بالصنادقية، ومقهى المعلم كرشة بزقاق المدق، ومقهى بترو بالإسكندرية".
لاشك أن آثار الإبداع الجمالية والثقافية في المتلقي متعددة لا تنحصر في الإيهام بواقعية ما يروى والاندماج في العوالم المتخيلة، مثل حب الساحلي لعايدة وشغفه بفضاءات القاهرة، فقد يمثل الافتتان بصورة  المؤلف الحقيقي للعمل الإبداعي أيضا شكلا من أشكال تأثيره الجمالي في المتلقي. ولعل هذا الشكل من التواصل الجمالي أن يكون إحدى مزايا نجيب محفوظ الذي لم يقتصر في تواصله مع القراء على العوالم الروائية التي بناها، بل نجح في إذاعة اسمه ونشر صورته بين عموم الناس. ومعنى ذلك أن التأثير العميق للأدب في المتلقي خليق بإنشاء  الحب والتواصل الإنساني، لأجل ذلك كان يشعر الساحلي دائما أنه أقرب إلى نجيب محفوظ منه إلى بنعيسى المحامي الذي لم يكن يعترف بالرواية ولا يؤمن سوى بكتب القانون والفكر. تحكي رواية أنقار ـ في تصويرها حب الساحلي لنجيب محفوظ ـ قصة العلاقة التاريخية والوجدانية والفكرية بين الإنسان المغربي والثقافة المصرية؛ فأحمد الساحلي المشغوف بنجيب محفوظ وبذخيرة الثقافة المصرية لم يكف عن الاستعانة بهذا الشغف في مواجهته عقم الكتابة الروائية ومقارعة شبح العجز عن تنفيذ مشروعه الروائي. وإذا كانت رواية "المصري" تسوِّغ هذا العجز وتصوره تخييليا، فإنها من جهة أخرى تفسح للقارئ مجالا للتفكير في هذه الحبكة الروائية وتأويلها؛ أو بمعنى آخر إن القارئ مطالب بتأويل الرواية في سياق العلاقة التي تنسجها بين الإنسان المغربي والفضاء المصري أو بين الروائي المغربي والإبداع الروائي المصري. وعلى نحو عام تدعونا الرواية إلى تأويل قصة الرواية في سياق التواصل الإنساني والثقافي بين الشعوب(18).

ناقد من المغرب

-----------------------
(1) صدرت الطبعة الأولى عن روايات الهلال بالقاهرة  العدد 659 نوفمبر 2003. و قد أعيد طبعها في سلسلة روايات الزمن بالرباط سنة 2004. وقد اعتمدت في هذا البحث طبعة دار الهلال.
(2) Marthe Robert,Roman des origines et origines du roman, ed. Gallimard,Paris, 1972.
(3) نفسه. ص. 101.
(4) نفسه. ص. 131-132.
(5) ثربانطيس، ضون كيخوطي، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار المدى للثقافة وانشر، ط1 ، 1998 ، ص. 36.
(6) الرواية. ص. 60.
(7) نفسه. ص. 150.
(8) نفسه. ص. 130.
(9) نفسه. ص. 66.
(10) نفسه. ص. 153.
(11) نفسه. ص. 181.
(12) نفسه. ص. 182.
(13) نفسه. ص. 144.
(14) نفسه. ص. 154.
(15) نفسه. ص. 43.
(16) نفسه. ص. 81.
(17) نفسه. ص. 115.
(18) لقد قمت بتحليل مستفيض لهذا العمل الروائي في كتاب تحت الطبع بعنوان: "الهوى المصري في المخيلة المغربية".