تكشف قراءة الناقد المغربي لديوان سعدي يوسف الأخير عن تحولات الأخضر بن يوسف في هذا الشاعر الذي عمدته تجربته بالماء والنار، وكيف أرهفت هذه التجربة قدرته على الرؤية وشعره معا.

الشيوعي الأخير يدخل الجنة لسعدي يوسف

قرين جديد للأخضر بن يوسف معمد بالماء والنار

سعيدي المولودي

في عالم أسود تندحر فيه القيم آنا بعد آن، وتتلاشي روح الإيثار ورغبة الالتزام، وتذبل المبادئ كأوراق خريف جارف، وتتراجع الحقائق أمام الحرائق والحروب وأسلحة الدمار التي لا تتوقف، وفي واقع يزداد قتامة ولا يعلو علي الخرائب التي تتمسك بتلابيبه لتطلق يد الهباء فيه، لا يجد المرء مهربا غير أن يسند رأسه للشعر، الذي يحمل بعضا من الذكري والأمل، ويذكي حبات من دورة الاحتمال، وإرادة المقاومة، مقاومة ما لا يقاوم في واقع الأمر، أمام جنون النسيان وضراوة الهجوم، ويرعي فيه بعض رماد لحلم نرقبه لحظة لحظة وهو يتهاوي، أو يقترب من النثار. قد يكون الشعر طلقة من غبار، لكنه بالتأكيد يرعي رغبة ما في المواجهة، وفي زرع ألغام مهما كانت صغيرة في قلب هاجرة الألم، لينفخ في رمادها عساه يشتعل اشتعالا، أو علي الأقل يفتح بصيص كوة نحو بارقة الصمود والسير قدما في ثقل الواقع وليله العاتي. وربما من هذه الكوة يستدرجنا سعدي يوسف في ديوانه الشيوعي الأخير يدخل الجنة (1) ويوقظ فينا شهوة العبور إلي رماد أحلام تورق في البعيد، ولا يد تصل بهاءها، وقصائد الديوان لا تخفي هذا التعلق الآسر بالرماد، إذ هي مزيج من لغات ترتوي من تاريخ المعاناة وواقع المفارقات الرهيبة ، وذكريات الماضي العتيقة، وخطوات ذرات من أمل تتقد أو تخبو، وتمر مر السحاب لتغرس في الأفق بذور صحوة ما تتأرجح بين القبل والبعد ، والراهن والممكن، وما لا يكون.
ويشمل الديوان خمسين قصيدة تتحول صفة الشيوعي الأخير في كثير منها إلي بؤرة أو لازمة، توجه حركة الدلالات في اتجاهات ووجهات متباينة ، متعارضة أو متكاملة ومتماسة عبر سياقات توظيف واستثمار مجموعة من أفعال آنية تحمل في عمقها بعد الاستمرارية والإصرار، أي أن سياقها يتحرر من ظلال الزمن الماضي أو الموت، بمعني من المعاني، ليؤسس أفق حركة تتجه نحو المستقبل والآتي بقوة الأمل ذاته الذي يحدو تاريخ وسيرة الشيوعي الأخير. ويرسم سعدي، مثلا، من خلال فعل المشاهدة جزءا من سيرة هذا الشيوعي الذي يحضر أول أيار/ مايو في برشلونة(2)، أول أيار بما يرشح به من دلالات وقيم صغري أو كبري تحيل إلي تاريخ عريق لكفاحات ونضالات فئات الكادحين، غير أن المشهد هنا يتغير، إذ ينطق بمعطيات هذا العصر القلق أو الانقلاب الذي أرخي سدوله علي لون ورمزية هذا اليوم العتيد، ماذا لو كان الأمر يتعلق بمشهد في زمن الثلاثينيات حيث ضوء الدماء يغطي الأفق ويبني الحلم علي حافة المتاريس والأقدام العارية والسواعد التي تتقدم نحو امتلاك الهواء، والتحليق بأجنحة الانطلاقات العظيمة،أما اليوم فإن الشوارع تكاد تنقلب جنازة وتمضي الحشود الصماء فيها في طقس من صلوات الغياب، الهتافات لم تعد الهتافات، والرايات لم تعد هي الرايات، والشوارع لم تعد قادرة علي المشي، هذا ما جناه عصر الخرائب الذي يتأجج ويمضي بنا سريعا، حيث كل شيء تحول إلي مجرد أطلال دارسة تذروها ريح التقلبات الهوجاء، وكعبة للسواح يغرزون فيها أحقادهم الدفينة وينشرون فيها وعد الريح الجديدة العابرة للقارات، ولم يعد للرفاق بيوتات أو رايات وانطوت صفحة مجري حلم قديم كان المنارة، وانطفأ نجم كولمبوس الجواب أعماق البحار، ولم يبق غير حشائش الانتظار فما عسانا أن نفعل بها؟
وبقدر ما تؤسس القصيدة لحلم أيار الأبدي، المرفوع علي رفرفة الرايات الحمراء البهيجة والطلقات الصاعدة في وهج العرق والعمال القادمين من مدارات القهر، تضعنا أمام مفارقات هذا الزمن العصيب الذي يسير بكل الأحلام لحتفها، ويلغي سيرة النهر ويفتح باب انتظارات أو انكسارات علي ضفاف المجهول. وعبر توالدات الفعل يشهد يرتد الشيوعي الأخير إلي الفعل يذهب في مسارات أو متاهات ثلاث، تقودنا الأولي إلي السينما(3) والثانية إلي البصرة(4) والثالثة إلي باريس(5). في السينما هذه الخدعة الخلاقة التي تأسر أبصارنا وتسرق نبعها، يضعنا سعدي أمام آلياته العالية في قراءة امتلاك المكان والهبوط لجغرافيته العريقة، ويرسم هندسته الشيقة من خلال هذه الدوال: موقع السينما، موقع الشيوعي الأخير، الفيلم ، ثم تأملات الشيوعي الأخير في نهاية المطاف. وموقع السينما كما يرصده لا يحمل اسما ولا رسما غير الذكري التي تطاردها جبال النسيان، الذكري ـ البلاد التي لا يبلغها غير جوابي الآفاق والضفاف الراسخين في علم أرق الذكريات، الذين يستنشقون غور الأرض وأعماقها.
أما موقع الشيوعي الأخير فإنه يختار آخر الصف مقتعدا الأرض ليري الناس جميعا ويري الفيلم أكثر وضوحا، ومعالم الموقع إنما تكرس أو تعبر عن موقف في خضم التجاذبات التي تتولد عن البحث عن موطئ قدم في عز الصيف وبعد الدار، والفيلم المعروض ينهض بمهمة إضاءة المناطق المعتمة من هذا الموقف، وتزيده تأملات الشيوعي الأخير بهاء ووضوحا، هذه التأملات التي تعانق مبدأ تغيير العالم لا تفسيره، ومهمة الكفاح من أجل جعله يسير علي قدميه بدل رأسه، وجعل سفينة النجاة المحتملة تمخر عباب البحر، مجراها الحقيقي، بدل أن تتعلق بأطياف السماء، ولأن الموقف يبدو صعبا وخارج اللعبة فإن الشيوعي الأخير يضطر لأن يرفع الراية ويسري (يمضي) وحيدا في عراء الكون. أما الذهاب إلي البصرة فإنه يرصد قصة رحلة لا تنتهي مفتوحة علي ألق الجذور والشرفات العتيقة المضيئة، الراسبة في كل دلالات الوجود، وعلي دوي الأيام الجميلة التي دمرتها خيول أزمنة القهر والاستعباد، رحلة لا يتكلم فيها الشيوعي الأخير إلا لغة واحدة : المضي تحت موجة الراية الحمراء، حاملا عصفه الخالد، ولو أن البصرة الآن مجللة برايات بيض وسود، ورايات الملكة إليزابيث الملكة المتوجة علي رمالها ونخيلها وحدائقها ومائها،فإن إرادة الذهاب تتسلح بأمل جارف يقود للأعالي ويفتح باب القيامة، القيامة القادمة علي أجنحة الرايات المروية بالدماء، تلك التي تجعل النهاية أجمل والأرض أقرب إلي اللمس.
أما الذهاب إلي باريس فيحيل إلي رحلة المعاناة وقسوتها، وإلي حرقة الألم والفراق والوحدة، بحثا عن قارب معني، وعن سر الحياة الجميلة ونباتها المر حيثما يكون، ولذاك يصر علي الارتباط بكل ما يمكن أن يهب الحياة ويعرف مكان كل شيء.  في اعتماد الفعل يدخل تتم الحركة في اتجاهين: الجنة(6)، والنفق(7)، في طقس الدخول إلي الجنة، ـ ويكتسب بعض تجلياته كذلك من خلال قصيدة موعد في الجنة (8) ـ يستنشق الشيوعي الأخير ريح دوامة من حلم مثقل بالأرق والآفات العابرة، والإحساس بالغربة والغرائبية، وهي الأحاسيس الكبري التي تفتح باب الحلم ليخرج من فيضها الملاك السري، ويعلن تعبه من الطواف في الآفاق وإخفاقه في الرسو علي خط الفضائل (الطهر والعدل) ويمد يديه إليه ليدخل برج السماء المفتوح لوهج الشمس. وقصة الهبوط للجنة تتداعي أطوارها في غمار الليل المورق كالكتاب، أي أنها صيغة للخروج من الظلمات إلي النور، بينما طقس الدخول في النفق يتم علي حافات هوامش صباح صيفي، يرتد فيه الشيوعي الأخير إلي وحدته في الشرفة، ويرمي أجنحته للنهر والموسيقي علي غمر من رماد، دون أن يفارق شرفته ليغشاه النبأ العظيم: الأمريكيون أقاموا حفلة قتل لعراقيين شباب.
ـ أين ؟
ـ متي ؟ (ص103):
وتظل هذه الـ أين والـ متي بلا جواب، لكنهما في العمق تحملان في ذاتهما الجواب: شهوة القتل الأرعن التي يؤججها الأمريكيون، والظمأ الشرس لدماء الأبرياء، وتعميم شعائر القربان العمياء في كل العراق، وهو ما يجعل الشيوعي الأخير يستلهم نبيه كارل ماركس ليشحن رؤياه ويصلي للخلد الأحمر الذي يحفر في النفق، طريق العابرين إلي قاع النور الأبدي.  إن إيقاعات الرؤية في فضاءات الديوان تتحرك في تصاعد لترسم صورة الشيوعي الأخير وهو يعتصر الأزمنة والحروب المصطفاة ، والشعارات والمقامات المقدسة ، ويشق طريقه للثورة والتمرد علي كل شيء والمضي بعناد نحو القبض علي معدن لطيف يطفئ هجسه ويفتح بين يديه حضرة اللغات ، وقبة الحقيقة، ولذلك يضع بينه وبين الواقع مسافة من رؤية تحول تتسع باتساع الوقائع وانبعاثاتها وأزمنتها، فهو مثلا يمارس لعبة خيار النقد الذاتي كأنما يشير إلي لحظة وداع لألواح عهود مضت كالرفات ، ويركب غواية تعديل النشيد الأممي، ليقول إننا لم نتغير بعد، ولم نتقدم كثيرا، ونشيدنا ما زال محفوفا بقليل من الغموض أو الالتباس أو الاحتباس، وأن جنون العصر يرتفع علي موج النشيد، ولذلك مضي يعدل كلمات النشيد ويغنيها، لكنه كالعادة يصطدم بجدار الاغتراب الذي يضعه في المأزق كله، السؤال الذي يجتاح الأعماق:
من سيسمعه إذا غني؟ (ص 111).
وعلي الرغم من قسوة هذا اليأس المحدق، فإنه يتوكأ علي رفضه يهش به علي رؤياه، ويرفض أن يتحول من طريقه ليتولي امتهان الصباغة، كيما يغرس ضلالاته في عدة الألوان، ويمارس الخداع، ليخفي سمت الأشياء ويجعل من الأقنعة حقيقة، ويضفي ألوانه الزاهية علي الوجوه المقيتة التي خذلت صدقها واستسلمت للنوم تحت أقدام أمهات الغزاة. لذلك يخرج متظاهرا، معلنا أنه حزب نفسه، سيلف شعاراته ويمضي كما تمضي العواصف ليصرخ في براري العراق: يسقط الاحتلال (9). لا يملك الشيوعي الأخير غير الحطام ، ولكنه يصر علي أن يكتب (10) وأن يرسم بشعره طريق اللمعان البعيد، إنه يمشي في عالم مشبع بعزلة الخرائب، عالم مات فيه بوح الشعراء وصمتوا، ولا أحد يسمع أنين النخلة، ولا أحد يري ما جري: القيامات والدمار الشامل والمدن والقري المنهارة كالجليد تحت سطوة الرعب، وشظايا القصف المذيب، ولا أحد يقرأ أثر العابرين والماضين في وحشة الصحراء ليدفنوا البلاد في قبر من سواد، مع ذلك فإنه يشق قارات أحلامه المترددة ويكتب ويصرخ، ويخرج من خليج الصمت والتواطؤ الباذخ الذي استنزف شرر الشعراء وأخرسهم كالأموات أو كالأذناب.
تلامس بعض قصائد الديوان هاجس الإحساس الفائض باللاجدوي، حيث كل شيء يتحول إلي حكاية بيضاء ويلبس لا معناه، ويغدو الوجود قفزا في الظلام، ينشطر فيه الليل والنهار وتتقدم الحياة إلي الوراء تشرب ماء الليل الطويل الذي لا ينجلي، ليل امرئ القيس الذي يستعيره سعدي ويرسم علي هامشه تنويعات تستضيء بواقع التماس أو التقاطع الذي يحكم واقع الشاعرين، وفي ذاكرة هذا الليل الجالس كالمتسول يتساءل سعدي إلي أين يذهب، وتذهب سيرة الأحلام التي عليها أن تذهب في البعد وترسم رحلة الضياع، الرحلة التي لا تفضي إلا إليها وتنادي: حي علي السفر.
إن محور حركة قصائد الديوان تتكثف في اتجاه فضاءات ترتوي من عمق أقاصي الذات، وتحوك تحولاتها عبر وشائجها التي ظلت تجسد العناصر الكلية التي ما فتئ سعدي يبني بها كل مرة تجربته ويضيء قصيدته، إن الاتكاء أحيانا علي البعد التجريدي لا يلغي تلك الآصرة التي تجعل القصائد منغمسة في ملموسيتها وفي الهبوط إلي تفاصيل الأنقاض والجراح التي تمتد من نخيل البصرة لدمار بيروت والضواحي الغريبة،و لكل الكون، لرعب الطريق الذي يجعل العراق ضفافا مثقلة بالآلام ترسم جغرافيته أقدام الغزاة والأوباش و السماسرة واللصوص.
ويبدو لنا أن الشيوعي الأخير يصعد، أو يولد امتدادا أو خلقا جديدا للأخضر بن يوسف قرين الماء والنار، وبيوت النسيان المغلقة علي الغياب، فسعدي يصل قواه بذاكرته ليستعيد بهجة الشمس البعيدة التي تقترب، وتخترق أسوار وجدران الذكريات القديمة، ويفتح باب اللقاء لينظر الشيوعي الأخير في وجه الأخضر ويرتفع فوق أطلاله، ويبادله الإحساس بالحياة الجديدة التي حمل أثقالها، ويمضي بها نحو موجة الحب الهائل للحرية والأرض، ولكل الناس النائمين تحت السموات المحصنة والمدججة بالأشباح وعناقيد القنابل المحرقة، من هنا تبدو القصائد جسرا ممدودا إلي برية تلك الإيحاءات المتحولة التي جسدها الأخضر وتحدث بها وعنها بصوت خافت أو صارخ، لتلقي بسيلها في مدارات الشيوعي الأخير الذي يرسم تضاريس واقع لا يقل قتامة مشبع بأفلاك الفجيعة والاغتراب، وهذا يعني أن التجربة لدي سعدي تكتب عزمها الأكيد علي عدم التنازل عن شيء من أحلامها، وتجدد كيانها وبنيانها في سياقات تتحول إلي إمكانيات متعددة تتسع علي مستوي توظيف اللغة والصورة والرؤية ونسج الواقع والوقائع بشكل متجدد يمنحها شحنة رمزية جديدة تؤهلها لاستيلاد طاقات دلالية بمقدورها إغناء نبض القصيدة وتجاوز حس التناهي في إمكاناتها التعبيرية.

ناقد من المغرب 
________________

1 ـ سعدي يوسف: الشيوعي الأخير يدخل الجنة. دار توبقال للنشر. الدار البيضاء. المغرب. الطبعة الأولي 2007.
2 ـ الشيوعي الأخير يشهد أول أيار في برشلونة. ص.69. 
3 ـ الشيوعي الأخير يذهب إلي السينما. ص.72.
4 ـ الشيوعي الأخير يذهب إلي البصرة.ص.79.
5 ـ الشيوعي الأخير يذهب إلي باريس.ص.87.
6 ـ الشيوعي الأخير يدخل الجنة. ص.85.
7 ـ الشيوعي الأخير يدخل النفق.ص.101.
8 ـ ص: 38.
9 ـ الشيوعي الأخير يخرج متظاهرا. ص.106.