توطئة
رغم الأذى الذي ألحقته جماعات من التيار الإسلامي بالحريات المدنية والمعيشة والسياسية في كل من الجزائر وسوريا في الربع الأخير من القرن العشرين، متسببة بإطلاق موجة عاتية من عنف غير مسبوق منذ تحررهما من الاستعمار الفرنسي، وهدر كمون موجب رُكِمَ خلال عقود. فقد بقي الأمل معقودا عند بعض العلمانيين العرب باحتمال تطور حركة نقدية إسلامية تفتح في زمن آت بوابة عبور لإصلاح ديني يسهم بدوره في انبثاق عصر نهضة عربي، سبق أن حلم الكواكبي وطه حسين والأفغاني ومالك بن نبي بهما. أنعش ذلك الأمل في العقد الأول من القرن الراهن أدبيات ومواقف لشخصيات إسلامية لامست أهمية الانفتاح على ثقافات أخرى، وكون العبادات لا تعبر ولوحدها عن الإسلام، وضرورة جب الصراع التاريخي بين المسلمين، والإصغاء للآخرين، ودور المرأة "المغيب". وبشر ذلك باحتمال مغادرة بعض جماعات الإسلام السياسي، وإن في زمن آت، لدوغما البحث عن السلطة، والتخلي عن مقولة حقهم الشرعي بها (تكليف رباني). أثمر جهد بعض أعلام ذلك التيار(منهم الدكتور هيثم الخياط) عن تقارب بين الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وإيران، رغم محاولات الشيخ يوسف القرضاوي إعاقته. تقارب وثق تفهما لأهمية التركيز على المدرسة السلوكية الإسلامية المرتكزة إلى مكارم الأخلاق وتجنب الخوض في الخلافات الفقهية بين المذاهب الإسلامية. انتكست بدايات المشروع النقدي الإسلامي إياه وسريعا على يد متشددين في الإسلام السياسي وضعوا السلطة العارية نصب أعينهم، ووجدوا في مشروع الشرق الأوسط الجديد الأمريكي الذي تدعمه أنظمة عربية وإقليمية، حمالة حطب لشبقهم(2).
وكانت قوى سياسية عربية "علمانية" قد يممت وجهها نحو عاصمة مشروع الشرق الجديد من أجل خاتم السلطة(3). هناك وعند أسوار كعبة النظام العالمي التقى حجيج سوري سياسي طاف وأقام صلاة استسقاء.
كان اليسار الاشتراكي العربي قد كتب خاتمة سيرته الذاتية، إذ قفز جله لسفينة الليبرالية الجديدة تاركا "الأممية" والبلاشفة والمناشفة في عهدة مكتبات الأرصفة، وكان اليسار القومي العربي قد أنجز رثاء "الحرية والاشتراكية والوحدة"، وحمل "أيفون". وكان الأخوان المسلمين يتابعون بثبات ما أسس له "البنا"، ربما من غير قصد، تدمير الوسطية. في كليلة ودمنه حكاية عن من يقطع غصن الشجرة الذي يقف عليه. قد لا يكتشف عرب ومسلمون إلا بعد فوات الأوان، أنهم يسهمون بقطع جذور تستقي منها كل شعوب المنطقة ما لا غنى عنه لتربية أطفال أصحاء جسدا وعقلا وعاطفة؛ المحبة والتسامح والتواضع والفرح والسلم. وأنهم ذاهبون بأنفسهم إلى عطش قد يذهب بالعقل والحلم.
في الوقت الذي كان يفترض فيه أن تتحالف كل شعوب المنطقة لتحمي بعضها من مفترسين عتاة، ولتنجز تأسيسا سليما لعمارة الديمقراطية، كانت بعض النخب تؤسس لتسهيل افتراس شعوبها. في 2008 وفي النشرة الدورية لمجلة جمعية حقوق الإنسان في سوريا (المرصد) كتبت: "ما يحدث هو هجوم جبهي ومباشر على العقل في هذه المنطقة من العالم. فهل الهدف هو تدميره وتحويل سكانها إلى معتوهين يفتكون ببعضهم بعضا؟ وهل ذلك تمهيد لاتهامهم لاحقا بأنهم خطر على الجنس البشري؟ هل نحن أمام محاولة لصنع مشهد الغروب الأخير لشمس حقوق الإنسان؟! أم نحن أمام تحد للنضال كي تشرق بنهار أطول من نهار قطبي؟ هل شعوب المنطقة، اليوم، على قاب قوسين من غروب تلك الشمس؟" هل تشهد البشرية بزوغ عصر فاشية كونية؟. ما هو دور تنظيم الأخوان والليبراليين الجدد في تقريب ذلك الغروب المحتمل في ديار العرب والمسلمين، في انفجار طاقة العنف، في اضمحلال نزعة التشاركية في المجتمعات العربية؟
هل واجهت النخب السورية الدفع لتقويض كيان الدولة، أم استثمرت طاقتها في ما يعزز مصالحها؟
مؤكد أن أطرافا أخرى غير الليبراليين والأخوان (سلطات وقوى سياسية وتشكيلات مجتمعية) كان لها دور مهم في تردي الواقع إلى ما آل إليه، لكن موضوع الكتاب ليس بذلك الشمول. نذهب لدور الأخوان أولا.
1. فجوة كمونية بين الهدف والإمكانات
كتب حسن البنا مؤسس الجماعة في 1928: "هي دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية.. وتسعى في سبيل الإصلاح الذي تنشده إلى تكوين الفرد المسلم، فالأسرة المسلمة، فالمجتمع المسلم، فالحكومة الإسلامية، فالدولة الاسلامية، فأستاذية العالم".
يعلق فرانسوا باسيلي على قول البنا: "الجماعة إذن في هذا التصور هي كل شيء، وبهذا تصبح لا شيء محدد، وهذه الشمولية الرومانتيكية هي من طبيعة الفكر الشبابي المراهق غير الناضج. فالنضج يؤدي بصاحبه إلى إدراك ضرورة التخصص في حياة أصبحت مركبة متشعبة لا تحتمل هذه الرؤية الهلامية"(4). ويضيف: "هذا التعبير "أستاذية العالم" لا يصدر إلا عن شاب في طور المراهقة الفكرية، ينظر إلي العالم والحياة برومانسية شديدة غير متصلة بالواقع، ولكنها تخلب ألباب الشباب بما فيها من سمو الحلم وراياته المرفرفة بعاطفة الحماس واندفاع المراهقة، دون وجود الإمكانات والموارد اللازمة لتحقيق ولو جزء صغير من هذا الحلم المراهق". نضع تعبير باسيلي "في طور المراهقة"، و"المراهقة" جانبا، ونركز انتباهنا على العلاقة بين الحلم والإمكانات. لطالما فرضت ظاهرة التناقض بين الحلم والإمكانات والموارد اللازمة لتحقيقه، وعبر التاريخ، نفسها على الجنس البشري، فحرضت الفلاسفة وتناولها الأدب والفن. "دون كيخوتة"، "الشيخ والبحر".. الخ.
عندما يتكون فرق كمون كبير بين الإمكانات والموارد اللازمة لتحقيق هدف وبين تلك المتوافرة فعلا، يتولد تحريض للمخيلة والفكر بحثا عن حل. وتنبثق خيارات، منها تخفيض سقف (الحلم) لتصبح الإمكانات المتوافرة ملائمة أقله لتحقيق جزء منه، ومنها ترجمته إلى عبرة وحكمة "الشيخ والبحر". عندما يبنى أحد ما تصورا استراتيجيا لمسار تحقيق هدف، من غير أن يمرره في مراحل اختبار وتدقيق مرتبطة بالمتاح راهنا، وبالممكن أن يتاح لاحقا وفعلا، آخذا بعين الاعتبار عامل الزمن والمحيط والمتغيرات المحتملة، يكون في أساسه ضعيف الارتباط بالواقع أو منفصلا عنه. نقع في نص " الجهاد في الإسلام"، بقلم"أبو الأعلى المورودي" (صادر عن لجنة الشباب المسلم، عربه عن الأردية الأستاذ مسعود النووي واعتمد من دار العروبة للدعوة الإسلامية) على: "لا مندوحة للمسلمين أو أعضاء الحزب الإسلامي عن الشروع في مهمتهم بإحداث الانقلاب المنشود والسعي وراء تغيير نظم الحكم في بلدانهم التي يسكنونها، أما غايتهم العليا وهدفهم الأسمى فهو الانقلاب العالمي الشامل المحيط بجميع أنحاء الأرض"(ص43). وفي الصفحة 51، الحزب الإسلامي يضاد ويعارض الممالك القائمة على المبادئ المناقضة للإسلام ويريد قطع دابرها ولا يتحرج في استخدام القوى الحربية لذلك، وغير خاف عليك أن الإسلام حزب، فليس له من هذه الوجهة دار محدودة بالحدود الجغرافية، يذود ويدافع عنها ويستميت بالدفاع عنها، وكذلك لا يحمل على"دار" الحزب الذي يعارضه ويناقضه، وإنما يحمل ويصول على المبادئ التي يتمسك بها. ولا يغيبن عن بالك أنه لا يريد بهذه الحملة أن يكره من يخالفه في الفكرة على ترك عقيدته والإيمان بمبادئ الإسلام، وإنما يريد الحزب الإسلامي أن ينتزع زمام الأمر ممن يؤمنون بالمبادئ والنظم الباطلة حتى يستتب الأمر لحملة لواء الحق ولا تكون فتنة ويكون الدين كله لله". في الصفحة 32 يتحدث المورودي عن جوهر حلمة وهو:"سعادة المجتمع البشري بأسره". ربما ذرف الدمع وهو يكتب متأثرا بصدق مشاعره، وإيمانه بصواب ما يرنو إليه.
يوحد النص دلالة "الحزب الإسلامي" و"الإسلام حزب"، ثم "يريد الحزب"، أي أن ما يريده ذلك الحزب هو ما يريده الإسلام. وخيار الآخر الوحيد هو أن يخضع لسلطة الحزب. هناك مئات من الأسئلة والمراجعات التي يفترض أن تطرح وتنجز، قبل اعتماد مشروع بحجم مشروع المورودي، أو مشروع البنا، وهما تجنبا طرحها. الكواكبي والأفغاني ومالك بن نبي وغيرهم من العلماء والباحثين المسلمين، جهدوا بحثا عن الأسئلة ليستقيم منطقهم ويتماسك، و"الآخر" كان ماثلا أمام بصيرتهم حاملا لكرامته وحقوقه كبني آدم. ليس تابعا أو ضالا بل صاحب حق في أن يخاطب بكلمة طيبة، يختار ما يقتنع به، ينتقد ولا يخضع لسلطة مستبدة غاشمة فكرية أو سياسية.
في نصه، يستعير المورودي تعريف الطغيان من اللغة، بأنه "مجاوزة الحد"، ورده المقترح عليه هو:" أما المقاتل في سبيل الله فهو الذي غايته أن يرفرف لواء القانون الالهي العادل على العالمين وتعلو كلمته في الدنيا، بحيث يتبع المقاتل في سبيل الله ذلك القانون العدل بنفسه، وكذلك يحمل غيره من أفراد البشر على اتباعه والامتثال أوامره". "أستاذية العالم"، والانقلاب العالمي الشامل"!! قد يسوغ الحلم إنتاج أدوات وآليات تحيله لطوطم، من غير أن يتساءل صاحبه عن مدى موائمة تلك الأدوات والآليات للبيئة، أو عن احتمال إنتاجها لتشوهات في المسار وفي البنية. لقد حلم "بول بوت" بالعدل والمساواة والأداة كانت قسرا طاغيا للمجتمع أزهق حياة مليون ونيف من الكمبوديين. في تعريف الطغيان الذي اعتمده المورودي كلمتان هما، "تجاوز" و"الحد"، و"عقدة النجار هي: من مؤهل ليحدد وكيف وبأية معايير تعريف "الحد"، ومن ثم تحديد حصول "التجاوز"، وما هو مصدر شرعية تأهيله؟. خاض البشر صراعات دامية عبر تاريخهم المديد على تخوم عقدة النجار تلك، وببساطة يخول المورودي الحزب الإسلامي منفردا حيازة تلك الأهلية، ونحسب أن الكواكبي وابن نبي وكثير غيرهما سيذهبان لاعتبار ذلك تجاوزا للحد. ناهيك عن أنه كذلك بمعايير الديمقراطية والماركسية والبوذية والمسيحية والرأسمالية.. الخ. "لا يفكرون إلا في أنفسهم وأولوياتهم ومصالحهم فقط، كل العالم باطل إلا أنت يا "أخوان"، الخرباوي".
هي حالة قد تفضي لاستهلاك ما هو متوافر من طاقة موجبة وإنتاج طاقة سلبية تقصي صاحب الهدف أو الحلم عن المحبة والجمال، طاقة تدمير ذاتي تعبر عن نفسها في البيئة تخريبا وتدميرا. ذلك ما اختارته جماعات إسلامية منها الأخوان، إذ أدخلت نفسها في حقل لا تملك القدرة على الهروب من قوة جاذبيته التي تنمو مع مرور الزمن. هاهم الأخوان يعانون من رهاب قشة لا يعرفون من سيضعها فوق ظهرهم وكيف. وذلك ما اختارته لاحقا أطراف من المعارضة السورية إعلان دمشق (تشرين أول 2005). إذ تبنت ما ليس لها طاقة به، وسدت العجز برهانها على قوى خارجية أسوة بما حصل في العراق، حيث كسر النظام بفأس أمريكية.
لم يكلف الأخوان أنفسهم ولا فقهاء إعلان دمشق مسؤولية التأمل في ما قد يصيب ظهر البعير، أو ظهرهم هم، من ناتج خياراتهم السياسية. لماذا؟ هل عشق، أم جهل، أم موروث، أم شبق الهيمنة؟!!
تحت عنوان "تجاوز التاريخ وتصحيح الجغرافيا شرطان للنهضة" كتب الدكتور صبحي غندور: إنّ النقطة المركزية الآن، التي يتمحور حولها الاهتمام السياسي والإعلامي العربي، هي مسألة الديمقراطية كعملية إجرائية ترتبط بآليات انتخابية أو بمؤسسات دستورية، دون الانتباه إلى أنّ أساس العطب في الجسم العربي هو في الفكر أولاً، وقبل أن يكون في طبائع نظم الحكم أو كيفيّة المشاركة الشعبية في الحياة العامّة"(مركز الحوار العربي).
قال كوفي آنان: "إن الأزمة السورية لا تلق حلا في إطار تسوية سياسية. كل يصر على طلب نسبة 100%".
في الفيزياء الوصول إلى 100% (المطلق) مستحيل، وطلب بلوغه، هو بطاقة ركوب لقطار التدمير الذاتي. تدمير قد يشمل ليس فقط الأطراف المتصارعة، بل والبيئة الذي يدور فيها الصراع.
غالبا هناك أكثر من قشة قادرة على التسبب بكسر ظهر البعير. في سباق المارتون للإبل الذي يقام دوريا في تونس، يعتني المتسابق بالجمل الذي سيمتطي خلال السنة التي تسبق المارتون، تزن خبرته وحرصه ما يلزم من طاقة لاجتياز 42كم جريا في تضاريس صعبة، وقد حصل أن أوقف متسابق جمله، الغالي عليه، عن الركض وترجل عنه كي لا ينفق. للأسف تعاملت قوى سياسية عربية مع مجتمعاتها بطريقة مختلفة، قصم ظلم السلطات ظهر كثير من المواطنين، وأصاب فسادها العمود الفقري للدولة فباتت تحبو أو تزحف، واجتهدت معارضات في رفع سقف التحميل لحدود تقصم ظهر الدولة والمجتمع. ولا من يرتدع. ثمة هياكل دول باتت قاب قوسين أو أدنى من الانهيار، والتحميل الزائد مستمر. لا يترجل أحد ولو لبرهة، وكل يحمل غيره مسؤولية الظهور التي قصمت وتلك التي قد تقصم. من أين جاء ذلك البؤس العقلي والفقر الأخلاقي؟ بالتأكيد ليس من أغنية سميرة توفيق، "بيع الجمل يا علي.. بيع". لكن بعضا منه على الأقل جاء من ثقافة "البيع"، من الإكراه على "البيعـ..ة" بحد السيف. فبالإضافة إلى الخيارات الخاصة، ثمة وعاء تاريخي أسهم في إنتاج البؤس والفقر أعلاه. وإلى ذلك الوعاء نذهب باقتباس من "ذاكرة ثقافية لثقافة تكاد تغرق" (علي محمد، المرصد2005): دخلت حضارتنا عصر الانحطاط والاستبداد الذي قانونه الرئيس: الرضوخ للبيعة بالسيف أو الهلاك. انتهى الحوار، لم يعد هناك مكان لسؤال بل هو السكون. رغم ذلك، نبدو اليوم كمن لا يدرك أن حقوق الإنسان وسيادة القانون، هي أدوات لا غنى عنها في هذا العصر كمدخل لبناء وعاء لأمة تريد أن تعجن طحنا وزيتا، ويفترض أن تكون خارج قوس كل المناورات والصراعات السياسية.
ثقافتنا ثقافة باطن وظاهر.. ثقافة الشاطر والشعرة والعجين، شاطر تتحول العقائد الوضعية والسماوية ومفاهيم الخير والشر إلى أدوات يستخدمها ليمرق بنفسه أو ليكرس نفسه، ثقافة ممثل بارع يسعى لاحتواء كل ما حوله: تعبيرا عن خوفه منه وعن محبته له، تلك هي اللعبة.. لعبة يحكمها قانون رئيس: الأقوى هو من يحدد كل المعايير، وللمعيار قابلية التحول إلى نقيضه في كل لحظة، فقد يصبح ما كان إيمانا كفرا وما كان وطنية خيانة وما كان وحشية عدلا وفي رمشة عين، إنها ثقافة تفوح من كلنا.
بيئة لا أمان فيها حتى للأقوى، الذي عليه ودائما أن يبقى هو الأقوى، وبالتالي أن يضعف كل ما سواه "الملك هو الملك" (كما يقول عنوان مسرحية سعد الله ونوس)، فضاء هو الأمثل لنمو وحش الفساد؛ الوحش الذي يأكل حتى من أرضعه طفلا، مؤسسا لفتح فضاء جديد لفساد جديد. قرونا ونحن تنتج هذه الثقافة السلبية، ننتجها بالكم والكيف اللازمين للمحافظة على انحطاط ألفناه وبتنا ندافع عنه، وسط نشأنا فيه ونستخدم حكومات ومعارضة وأفراد، الحديث الشريف والشعر والأدب العالمي لتعطيره.
صارت السياسة عندنا حاضنة للثقافة والجواب سجنا للسؤال، ومع الزمن بتنا نرى ذلك وضعا طبيعيا لهما، صار الساسة هم المنتج الرئيس للثقافة، وهم وبغض النظر عن موقعهم تنافسوا غالبا على قيادة عربة الانحطاط تلك وليس على إخراجنا منها، ولعبوا بكل ضوابط الحياة الاجتماعية في بازارات السياسة. تهرأت حواضن مجتمعاتنا وفعلنا قاصر عن ترميمها، ناهيك عن تجديدها، فرابطة القول بالفعل والمهام بالطاقة تهرأت هي الأخرى. ثمة انبثاق أنتجته ثقافات الانحطاط(الخوف والكسل والتقية). فكما ينبثق الماء من الهيدروجين والأكسيجين، تنبثق من الخوف ومن فراغ الطاقة؛ من المطلق الشمولي ومن العدم الفرداني. تنبثق الفوضى. الفوضى التي لا تعترف بقانون أو بمعيار أو بهوية. انبثاق من نفس بشرية شقها السائد إلى ظاهر وباطن "كتب مقدسة وجرح في الهوية" (كما نوه محمود درويش). انبثاق لثقافة نفس بشرية رزحت وترزح تحت ضغط هائل كما حبة زيتون بين حجري المعصرة، ثقافة نفس عصرتها رحى الاستبداد طوال قرون فصارت خاوية فارغة كرئة غريق ستبتلع كل الهواء المحيط بها إذا واتتها الفرصة. هل نحن هنا؟ وهل بقيت بضع قطرات من زيت الروح. ظاهريا؛ عاجزون عن إنتاج ثقافة مضادة لثقافة الخوف. باطنيا؛ راغبون بدوامها، وويل لمن يجترح إبداعا فاعلا لهزيمتها. ويل له من بطش السلطة ومن معارضة تقول نعم للغرق في شاشات الفضائيات وصحافة الوصايا ودكاكين الارتزاق (تطورت مؤخرا إلى بسطات). في الواقع؛ هناك رئات قد تولد إعصارا إن فتحت سدادة قمقمها، وأنظمة تغلق معظم فتحات التنفس!، وفرد خزن في نخاعه وقع سيوف الأتابك في اللحم. فرد باعه كثيرون في بازارات الدين والقومية والإنسانية والاشتراكية فرد يرى ويسمع ويفهم ما يدور حوله، وهو اليوم كعجوز هرم لم يعد يثق بأحد". سبق أن رصد الصحابي أبي ذر الغفاري (رض) تحولا: "كان الناس ورقا لا شوك فيه فصاروا شوكا لا ورق فيه". هل شف الصحابي الجليل فسادا في البيئة الأخلاقية دفعه لمقاربة قول لبيد: بدلت ناسها وحوشا..وغيرت حالها الجنوب؟ وهل لنا أن نستشف من قوله فسادا في وعاء السياسة، شكل مانعا صلبا في طريق كل محاولة لإصلاح الشأن الديني والدنيوي في ذلك الزمن؟
2. طغيان العقيدة.. تكفير الوطن والطبيعة
نقع في نص للسيدة زليخة أبو ريشة (أخوانية وزوجة قيادي إخواني) في مقال حمل عنوان "الأخوان والوطن" نشر في 23 أيلول 2013 على: "يبدو مفهوم الوطن غائباً تماماً في التّربية الأخوانية، إذ يتوهّم القادة والمنظّرون بينهم أنّ في الأمر تعارضاً بين فكرة الوطن وفكرة الإسلام! ولذلك تمحو التراتبيّة الحزبية وأدبيّات الحزب وممارساته الداخليّة كلّ انتماء إلا الانتماء إلى الحزب وتفسيره المحنّط للدين، ظناً، بل إصراراً أعمى على أنّ هذا التفسير وحده من بين سائر التفاسير هو الإسلام! فالوطن لدى الأخوان يكمن في البيعة على السمع والطاعة، ولذا تخلو مناهج التّربية الحزبيّة من أيّ إشارة إلى معاني الوطنيّة ومعاني الشّرف المتّصلة بها. فبحسبهم، لم يكن زمنَ الرسول والخلفاء الراشدين وطن يدافعون عنه، بل معنى إلهيّ هو الإسلام! وهذا بحدّ ذاته تعسّف في المنهج، وقصور عقليّ عن إدراك السماء الشاسعة التي أطلقها الإسلام في نصوصه لتُظِلَّ من سيأتي من شعوب وأمم في زمان غير زمانه الأول!
مجرّد القول بأنّ "المناضلين" في مواجهة العدو يموتون "فداءً" للوطن، تكون آلة التكفير جاهزة لدمغ هذا المعنى بـ"الشّرك"، "النّضال" ينبغي أن يكون "جهاداً"، والموت ينبغي أن يكون "في سبيل الله"!.
كتب المورودي ما يدعم القول أعلاه: " وغير خاف عليك أن الإسلام حزب، فليس له من هذه الوجهة دار محدودة بالحدود الجغرافية، يذود ويدافع عنها ويستميت بالدفاع عنها". وهل "الدار المحدودة" هي غير الوطن؟ يشار أن السيدة زليخة كانت تعقد في منزلها اجتماعات لقيادات أخوانية، وقد كتب سمير أمين في بحثه "الإسلام السياسي في خدمة الامبريالية"، ما يدعم قولها أيضا "التأكيد الشعائري على العضوية في الجماعة هي كل ما يشغلهم"، وسنعرض لنص لجبهة النصرة في المنحى ذاته لاحقا. "في لسان العرب الوطن هو "المنزل تقيم به وهو موطن الإنسان وجمعه أوطان"، ونرجح أنه كذلك في غير لسان. وانطلاقا من المنزل"الجغرافيا"، ومن الإقامة التي تتضمن الوجود المتشابك والمستمر مع الطبيعة يمكن أن نقول: إن للحيوان وللحشرات وللنبات وطن. إذ يشهد عالم النبات صراعات من أجل حيازة موطن يوفر طاقة الحياة. ولا نعلم حتى اليوم إن كان هناك من وعي جمعي عند أنواع من النبات!، لكن ثمة سلوك جمعي عند بعضها يوطد حيازتها لموطن، وسعيا لتوسيع رقعته لتوفير فرص بقاء واستمرار أفضل. ونعلم أن قطعان الضواري تختار مناطق نفوذها وتحدد عديدها وفق معايير ترتبط باقتصاد العيش والأمن والبقاء، وتدافع عن معايرها تلك وبضراوة من خلال أنماط سلوكية سبق أن استنبطتها واختبرتها أجيال متعاقبة للتوثق من نجاعتها في تكريس حماية جغرافية الوجود وكيمياء اللحمة (أي الوطن)، ومن ثم تورث كحامل لشفرة حفظ النوع. تحدد التشاركية في مجتمع الحيوان حقوقا ومسؤوليات من خلال نظم تحكم حياتها الداخلية، إذ تمارس الفيلة بعض الطقوس (حداد) عند موت أحدها، وتعتبر حضانة جراء الكلاب البرية مسؤولية جماعية وكذلك رعاية المريض منها أو المصاب في عراك مع ضواري أخرى، وتحفظ بعض القرود حقوقا للشيخوخة، وتعرض الذئبة نفسها للقتل دفاعا عن وجر أطفالها.. الخ.
كل ثقافة تنفي وجود الوطن ككيان مستقل عن العقائد، هي تكفيرية وطاغية بامتياز، وهل طغيان أعتى من تنصيب عقيدة لنفسها كحاكمة على علاقة الإنسان بالطبيعة.
"في لسان العرب كَفَرَ: سَتَرَ، وكفرت: سترت، والكفر هو التغطية؛ يقال للمزارع: "كافرا" لأنه يغطي البذر بالتراب. وينعت بالكافر: الظلم والليل والبحر والسحاب المظلم والزارع ولابس الدرع. أي أن الكفر فعل (عمل) وليس موقفا فكريا، وقد يكون إيجابي القصد والمردود (زرع)، أو العكس(ظلم). "ستر" أو "تغطية" عقيدة ما للوطن (البيئة الطبيعية لعيش الإنسان والحيوان والنبات) هو فعل تكفير سلبي وبامتياز. "وللياسمين حقوق في منازلنا"(نزار قباني).
في نص بقلم أ.د. محمد نبيل جامع ورد: "إذن فماذا تريد جماعة الإخوان؟ قالها المرشد بوضوح وصرامة في رسالته الأخيرة: رسالة الجماعة "تبدأ بإصلاح الفرد ثم بناء الأسرة ثم إقامة المجتمع ثم الحكومة فالخلافة الراشدة فأستاذية العالم. أستاذية الهداية والرشاد والحق والعدل. لم يذكر المرشد في رسالته كلمة (مصر) مرة واحدة، ويستخدم مصطلح (الخلافة) ليخاطب مسلمي العالم المليار والنصف لينشئ نظاما عالميا فيه دولة الخلافة الإسلامية والحاكمية وسيادة العالم (على حد قول الشاطر) والأستاذية التي تتعامل مع العالم بما فيه مسلميه على أنهم مخلوقات هو تحتاج إلى أستاذية الإخوان وهدايتهم"(5). استفز وعي الدكتور جامع لأن "الشاطر" لم يذكر "مصر" بل "الخلافة"، أي أن ما يربط الأخوان بسكان مصر ليس شراكة في وطن، أكده نص"زليخة"، بل احتمال قبول أولئك بمشروعهم لإصلاح الفرد وبناء الأسرة وصولا لفكرة الخلافة. أي ربط قيمة الآخر (معيار) بالانتماء لمشروعهم الشمولي الذي يهدف إعادة تشكيل المجتمع البشري على يد "الأساتذة". أصدر الأخوان أكثر من بيان أعلنوا فيه قبولهم بالوطن، واتهمتهم أطراف عديدة بالباطنية وكذبت ادعاءهم، ورجحت أخرى بأن البيانات جاءت في سياق تكتيك سياسي. ينضوي تحت كونه وجهة نظر كل رأي كذلك، وكذلك التالي. في البنية الفكرية للجماعات الإسلامية، مقدس على المستوى الفرداني والجمعي أعلى قيمة من الوطن والمواطنة، فإذا تعارض المقدس مع الوطن ووجب الاختيار أزيح الثاني بغض النظر عن كونه منظومة تحتوي الكثير من التنوع والفعاليات، وأهمل المواطن رغم كونه حجر أساس في الثقافة الديمقراطية والدولة الحديثة. والمقدس أعلاه هو "عقائد جماعات" (وضعية) رفعت إلى مرتبة المقدس الديني، ولكل جماعة عقيدتها المقدسة. "المقدس، ولا يماري فيه أحد، يأخذ، وبعملية تقنيع غريبة، صورة الشيخ الذي يدافع عنه" (فيصل دراج)(6). تحدث الدكتور هيثم الخياط في كتابه "المرأة المسلمة وقضايا العصر"، عن تقاليد أصبحت هي القاعدة بالرغم من مخالفتها للدين أحياناً، وأشار إلى موروثات استطاعت أن تفرض نفسها حتى وجدت "من الفقهاء من يصوغها في قالب إسلامي ويجعلها جزءاً من الفقه". نموذج لذلك: "غياب مبدأ الأخوة الإيمانية وطغيان روح الأخوة الوطنية والترابية في بنود الميثاق جميعها، كما في النقطة الثالثة والخامسة والسادسة والثامنة فكلها تبث روح المواطنة والانتماء إلى التراب والوطن، وهذا مخالف لما قررته نصوص الوحي من الأخوة الإيمانية دون النظر إلى الوطن والجنس واللون ونحو ذلك إن أوثق عرى الإيمان أن تُحبَّ في الله، وتُبغِضَ في الله". وإن ما يؤذي إخواننا المهاجرين يؤذينا وما يصيبهم يصيبنا، ومن يهمزهم فقد همزنا، فيا أيها المهاجرون هذه أرض الشام فسيحوا فيها، وأبواب الشام ستبقى مفتوحة على مصراعيها لكل من أراد نصرتها والخير لها ولأهلها". (جبهة النصرة) (7).
لا يخفى قصد جبهة النصرة على السوريين، كما لم يخف على الفلسطينيين الذين ساح اليهود "المهاجرين" في ديارهم واغتصبوا بيوتهم انطلاقا من عقيدة شرعت لهم فعل ذلك، وباسم رب وعدهم ليس بفلسطين فقط، بل وبالمعمورة كلها "يكونون أسيادا على من فيها". نخلص لقول أن التعارض بين مفهوم الوطن كقيمة عليا وضرورة لا غنى عنها لساكنيه، وبين مقدس الجماعات الإسلامية، لا يُجَبُ أو يلطف ببيان أو قول، فلا يستقيم عدل إذ يلغى أو ينتقص "الآخر" ولأي سبب. لكن الآخر، قد يخضع مكرها لطغيان لا يملك رده، حصل ذلك مرارا في التاريخ، وإلى ذلك المآل..إلى الخضوع الظالم المر, تدفع مجتمعها كل ثقافة لا تكرس الفرد معرفا بذاته كقيمة مصانة، تغتصب حقه بوطن وتلغي كل قيمة له. سبق أن اكتسبت من خارج منظومتها هي.
نستقوي لوجهة نظرنا ثانية من بحث الدكتور فيصل دراج: "نقض طه حسين (العمومية الإيمانية)، مدافعاً عن تعددية العلوم. ولم يكن الأمر مختلفاً، وهو ينقض (العمومية الإسلامية) وهي عمومية أيديولوجية غائمة، ملتزماً بوعي تاريخي حديث، يتعامل مع مفاهيم الإنسان والمواطن والمجتمع والوطن. فالوعي الديني في تبسيط بريء، أو خال من البراءة، يذهب إلى تعابير الأرض والديار والجماعة، التي يحوّلها نعت (الإسلامي) إلى ماهيات مجردة، لتصبح (الأرض الإسلامية) و(الديار الإسلامية) و(الجماعة الإسلامية) أيضاً. وبداهة، فإن إضافة المقدس إلى الجغرافي، ينصر الأول منهما ويحوّل الدنيوي إلى وجود محتمل. وعن هذا الفرق يصدر قول مألوف: (مَن قال وطني قال ديني)، ويأتي التعريف الديني للوطن، فيكون: "الدار التي تسيطر عليها عقيدة المؤمن وتحكم فيها شريعة الله وحدها"(8). يشتق تعريف الوطن من الإيمان، في علاقة يكون فيها الثاني مسيطراً على الأول، ليتم الاعتراف بالوطن إن كان مؤمناً، وينزع الاعتراف عنه إن جانب الإيمان. بهذا المعنى، فإن الوطن دون إيمان يليق به مجرد أرض لا يليق بالمؤمن أن يدافع عنها. ينتهي التحديد الحقوقي والسياسي والجغرافي للوطن، وهو تحديد حديث، وينزلق إلى (عمومية دينية) مرجعها جماعة تصرّف أحوال الدين والوطن. وهذا ما سمح للشيخ الشعراوي أن يصلي ركعتين، حين هزم (الله) جمال عبد الناصر في حرب حزيران 1967، ذلك أن الهزيمة لم تصب (الوطن)، إنما أصابت (غير المؤمنين)، الذين لم يروا في الوطن الأصيل امتداداً للإيمان الأصيل. وعلى هذا، فإن الوطن هو الجماعة المؤمنة التي تجسّد الإيمان الديني، يرتحل بارتحالها ويستقر إن آثرت الاستقرار". قاس كلام الشيخ الشعراوي. كأن الأرض وما عليها لأمثاله فقط، للعلماء الربانيون أساتذة البشرية اللذين نصت جل أدبيات الإسلام السياسي على مرجعيتهم. وكما تتحدث بيانات للأخوان عن الوطن، يتحدث فقهاء الإسلام السياسي عن العلم والعلوم، ليسقف كل حديث في النهاية بمرجعية الأساتذة أو العلماء الربانيون. وسيجد كل باحث عشرات النصوص المشابهة للتالي: "إن العلوم الآن –عند الناس– كثيرة؛ لهذا كان الإتباع من أهم خصائص الربَّانيين يقول الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى: العلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة، وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور".
ليس عاديا أن يستسهل شخص ما وضع طيف واسع من العلوم في خانة ما هو غير نافع، وأن يحصر النافع بضبط نصوص الكتاب والسنة، وأن يستخدم كلمة "ضبط" و"فهم"، كما فعل! ثمة ما يشبه حلولا وتجسيدا للقضاء والقدر في هيكل الجماعات الإسلامية، وإلا فكيف استقرت جماعة بوكوحرام على القول بأمر إلهي يقضي ببيع كل امرأة غير ملتزمة بالشريعة الإسلامية في سوق النخاسة؟ ومن أين جاء الغطاء لامتلاك امرأة بثلاث تكبيرات ولبيع فتيات سوريات كالإماء؟ أمن شركات قابضة (ربانية)؟(9).
3- في الموقف من المرأة
من مقال "المنقبة" للباحثة ريتا فرج(10، 05، 2014 جريدة السفير): "الحاصل، أن امرأة منقبة كانت مع زوجها في أحد المطاعم، وبعدما قدم النادل الطعام طلب الزوج وضع عازل خشبي يفصله عن رواد المطعم كي تتمكن زوجته من كشف وجهها. والحال، إلمَ يحيلنا هذا المشهد؟ تحولت المرأة إلى جسد مركب من المعاني، تابع بلا هوية؛ جسد تُرسم حدوده ويتم ضبطه بهدف إبقائه تحت السيطرة الذكورية وإدارتها. أصبح الجسد كله عبارة عن ثقب لا بد من تحديد حركته الفاتنة والمغرية في نطاق الذكر الشرعي، أي الزوج، ونحن هنا أمام جسد مجنسن يُنظر إليه بوصفه مكمن الفتن. إن تعبير الفتنة غني بدلالاته وله حقل واسع من علم الألفاظ الدلالي، فجذره اللغوي يعني الاختبار والامتحان، والفاتن هو المضل عن الحق، والفتان من أسماء الشيطان، وفي المدلول الاجتماعي أو الديني، تدل الفتنة على النزاع الأهلي أو النزاع داخل الأمة، كما أن لها دلالة واضحة في حقل الجنسانية حيث تسبب المرأة الفتنة والاضطراب، لأنها تشتت انتباه الرجل وتغريه على ارتكاب المعصية. ولعل اللون الأسود للنقاب ينم عن رمزية متشعبة وعن دال قهري غايته وأد مفاتن النساء والحيلولة دون تهديد الذكورة".
بالعودة لبحث باسيلي نقتبس: "فأول ما طلب مرشد الجماعة من عبد الناصر في بداية ثورة 23 يوليو 52 كان أن يفرض الحجاب علي نساء مصر. ورفض عبد الناصر، وحكى القصة في احدى خطبه مما أضحك جمهور السامعين في مقطع دال متوفر علي اليوتيوب. ولكنهم نجحوا في تحجيب نساء مصر بعد رحيل ناصر والسادات. وفي لجنة تأسيس الدستور التي رأسها الاخوان بعد ثورة 25 يناير وتكدست بهم وبحلفائهم السلفيين، أرادوا رفع الحظر عن ختان البنات، كما قالوا أنه لا مانع من تزويج البنت في التاسعة أو العاشرة ما دامت قد بلغت جسديا (لاحظ أن البلوغ لديهم هو جسدي حيضي بحت، ولا يعنيهم البلوغ العقلي اللازم لكي تصبح زوجة وأما)، مما دفع ببعض الباحثين بإطلاق اسم "فقه الفراش" أو "فقه الحيض" على رؤية الاخوان والسلفيين الضيقة والرجعية لكل ما يتعلق بالمرأة، التي يرونها أساسا كجسد وكم من اللحم، اعتبروا فيه أن شعر المرأة عورة وصوتها عورة. ورأي بعضهم أن وجهها عورة. هذا بالإضافة إلي كم هائل من الفتاوي الشاذة التي تتناول المرأة التي يطلقها دعاة معظمهم مدعون لا دعاة، من فتوي ارضاع الكبير، إلى فتاوي تحريم جلوس المرأة على كرسي كان قد جلس عليه رجل".
لقد سفه متشددون رأي آخرين لحد اعتبار أن الصلاة خلف إمام حليق الذقن غير مستوفية لشروطها، ولنهى الذكور عن الجلوس على مقعد في حافلة كانت تشغله امرأة ولم تذهب حرارة جسدها منه بعد. قد يرد بعضهم بأن ذلك تسليط للضوء على قشور لحجب اللب. وقد رأى فقيه بأن النصوص المقتبسة أعلاه تأتي في سياق حملة عالمية ضد الإسلام، وأن الإسلام هو الأمثل في ما يتعلق بحقوق المرأة كما في كل أمر آخر. لكن الواقع يقول، أن إناء جماعات إسلامية بات ينضح بنقيض ما شهدت يثرب المنورة. يتداعى الإسلام كقيمة، كمكارم أخلاق رافعة لآمال البشر وبسرعة كبيرة، لصالح كائن فكري وسلوكي واقتصادي وسياسي وبألف رأس حاكم ويزيد، وكل يرى نفسه على حق ويصر على تمثيله للإسلام والمسلمين، وتتجه مزيد من الرؤوس لتكفير واستباحة حياة كل من لا يبايعها. في محاضرة ألقاها الدكتور محمد هيثم خياط عضو مجلس الأمانة العامة للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في مكتبة الأسد بدمشق(2007)، هاجم الفكر الذي يرى "أن المرأة دنسة في فترة المحيض، أي أنها كذلك في ما يقارب 15% من حياتها". ودار سجال حام بين الدكتور خياط وفقهاء يتبنون دناسة المرأة كلها في المحيض. فقهاء يعتنقون فكرا يشار إليه اصطلاحا بالـ"أصولي"، "سلفي"، "متشدد"؛ وهي مصطلحات تعاني برأينا من اضطراب دلالاتها، ونفضل استبدالها باشتقاق من أدبيات المفكر مالك بن نبي حول الأفكار القاتلة، بـ"فقه الأفكار القاتلة". واقعيا مددت المنظومات الفقهية للأفكار القاتلة، الدنس إلى خارج زمن المحيض ومكانه، بفعل مؤثرات وآليات استنبطتها وباتت حاكمة مع الزمن، كي تغدو المرأة، "حرمة" و"متاع" و"بضع" و"بضاعة"، كما اجتهدت الباحثة ريتا فرج في نصها "المنقبة": "المنقبة ذات حاضرة غائبة، والأنثى، كما يدل المشهد ليست كائناً عاقلاً، والمرأة في بعض المجتمعات العربية والإسلامية لا تخرج عن دائرة التملك فهي ملك الرجل وحرمته؛ والحرمة مستمدة من الحرام ومنها يأتي الحريم المقرون بالمقدس، وهذا المعنى كما يلاحظ علي زيعور في أطروحته الهامة «التحليل النفسي للذات العربية، أنماطها السلوكية والأسطورية»، له مدلول «تصغيري». يكشف معنى حرِم عن معانٍ عدة منها: الحَرامُ: نقيض الحلال، وجمعه حُرُمٌ؛ والحَرامُ: ما حَرَّم اللهُ. والمُحَرَّمُ: الحَرامُ. والمَحارِمُ: ما حَرَّم اللهُ. والحَريمُ: ما حُرِّمَ فلم يُمَسَّ. يؤشر المشهد نفسه إلى تحويل المرأة لبضاعة يملكها الرجل، ليس لها هوية، وإن وجدت فهي تابعة للشرط الذكوري، أي أن الذكر محدد هويتها، زمنياً ومكانياً، ويرسم لها فضاء تحركها وفقاً للعاملين الديني والمجتمعي. المرأة بهذا المعنى بضاعة، علماً أن بعض التفسيرات الفقهية في الإسلام رأت في عقد النكاح «استباحة الانتفاع بالجملة» وهو «معاوضة البضع بالمال»، و«البضع» (الفرج) كما جاء في لسان العرب، موضع الغشيان، كما أنه مهر المرأة، ومنه البضاعة."
في كتابه "شروط النهضة" عرض المفكر مالك بن نبي وفي فصل حمل عنوان " مشكلة الزي" قال: "ليس اللباس من العوامل المادية التي تقر التوازن الأخلاقي في المجتمع فحسب، بل إن له روحه الخاصة به، وإذا كانوا يقولون:"القميص لا يصنع القسيس" فإني أرى العكس من ذلك، فإن القميص يسهم في تكوين القسيس إلى حد ما، لأن اللباس يضفي على صاحبه روحه". وننوه إلى أن السينما العالمية قد قدمت أفلاما كشفت أهمية الزي والتعبير الجسدي النمطي المتسق معه، عند كل من الحزبين، الفاشي الإيطالي والنازي الألماني. نعود للدكتور خياط لنوثق، أنه أفتى في محاضرته بحق المرأة أن تمسك المصحف وتقرأ وهي حائض، فالدنس دنس مكان المحيض فقط والمرأة غير دنسة. فتوى تلقفتها مئات النساء المسلمات في المدرج وفي الصالة خارجه، كما يتلقف ظمآن جرعة ماء قراح. مؤلم هو النبذ ومهين، ومبهج هو الإنصاف والتقدير والاحترام. "وهل المرأة غير الوطن"(نزار قباني).
في كتابه " المرأة المسلمة وقضايا العصر"، تناول الدكتور خياط ثقافات صنفت المرأة ضمن المخلوقات الشيطانية، وبأنها لا وظيفة لها إلا الإنجاب ورعاية شؤون البيت. ثقافات صبت منتجها في الحضارة الإسلامية وكان كان لها أثر سلبي امتدت آثاره إلى المراجع الفقهية في بلاد الإسلام :"وأصبح المرء يحار: أين هي الحقيقة في هذا الركام من التقاليد، ما هو موقف المسلم منها في عصرنا الحاضر". واجتهد مصطلحا هو: "فقه الأعاجم"، وأشار إلى أن الأمر يحتاج بذل جهود كثيرة لتنقية الفقه الإسلامي مما تسرب إليه.
مصطلح "فقه الأعاجم"، يقابله سفه الرأي عند من أخذوا بمضامينه الضارة. وجائز القول أنه كان من المفترض أن يردع الفقه الإسلامي المسلمين عن الأخذ بها.. لكنه لم يفعل ذلك بالحد الكافي. بالمقابل أخذ العرب من الأعاجم علوما نافعة، لكن إناء الحضارة العربية الإسلامية أصيب بما جعله ولقرون يقصي الثمين لصالح الغث. حتى اليوم يترضى مسلمون على الحجاج بن يوسف الثقفي الذي أنشأ معسكر اعتقال وضعت فيه مئات من النساء المسلمات شبه عاريات بحراسة ذكور مسلمين أيضا.
نقدر عاليا جهد الدكتور الخياط وصدق ونبل قصده وهمته، لكن احتمال توافر أدوات تنتج آليات مناسبة كما وكيفا لتنقية الفقه الإسلامي بات ضعيفا (هذا رأي يحتمل الصواب والخطأ).
فالمرصود هو أن تلك الشوائب تتكاثر وباطراد. مرة أخرى تثبت صيغة مالك بن نبي صوابها؛ في تحكم الأفكار القاتلة بالحاضر والمستقبل، إن هي نمت إلى حد معين. ربما يحتاج الخروج من نفق جاذبيتها إلى إنتاج بيئة أخرى، نجد توصيفا متقدما لها عند مالك بن نبي. من "شروط النهضة" لمالك نقتبس ثانية: "الواجب أن توضع المرأة هنا وهناك حيث تؤدي دورها خادمة للحضارة، وملهمة لذوق الجمال وروح الأخلاق، ذلك الدور الذي بعثها الله فيه أمًّا وزوجة للرجل". ولحل مشكلة المرأة " المشكلة متعددة الجوانب ولها في كل ناحية من نواحي المجتمع نصيب"، اقترح مالك عقد مؤتمر عام تحدد فيه مهمة المرأة بالنسبة لصالح المجتمع، يشارك فيه إلى جانب علماء الشريعة الأطباء وعلماء النفس والاجتماع وعلماء التربية، لوضع المنهج الأسلم لحياة المرأة "، "ولسوف يكون هذا التخطيط حتما في صالح المجتمع، لأن علماءه والمفكرين فيه هم الذين وضعوه"، وينبغي أن تكون مقررات المؤتمر العام "دستورا لتطور المرأة في العالم الإسلامي". الأطباء وعلماء النفس والاجتماع التربية الشريعة، وليس "الأستاذية" الأخوانية، وعلماء الوهابية والجبرية عموما. "الربانيون". هنا لسنا أمام شركة مقاولة، أو أخرى قابضة، يمتلكها ويدير كل شأنها "أساتذة" و"ربانيون. بل أمام بصيرة ومنهج سيقبل بهما الكثير من العلمانيين كمدخل، لأنهما مؤسستان على ما يمتلك المجتمع من علوم نافعة، وعلى تشاركية غير مسقوفة بأفضلية عقائدية أو سياسية مسبقة ولخدمة المجتمع والنهوض به نحو الأفضل.
4- في الموقف من القانون
في الموقف من القانون نذهب لأهم نقد ساقه الخرباوي في كتابه بحق الأخوان، لموقفهم من القانون كمؤشر أساس لسبر احتمال توافر الطاقة الموجبة البناءة، والطاقة السالبة المعوقة عندهم. جاء في حوار بينه وبين "الهضيبي" حول الموقف من القانون (صفحة 21 و22)، ما يستشف منه أن الأخوان ممثلين بقيادتهم، لا يرون قيمة للقانون إلا ذلك الذي من صياغتهم. قال الهضيبي: "نحن نتحالف مع من يقربنا من دوائر صنع القرار. نحن تحالفنا في الأطباء مع حمدي السيد ومع حسب الله الكفراوي في المهندسين لهذا السبب، وأي شخص قريب من دوائر السلطة سنتحالف معه، ولن نقبل أن يخرج أي واحد منا على هذا القانون. هذا هو دستور الجماعة، وأنت رجل قانون". أجاب الخرباوي: "قانون التحالف مع من يكون قريبا من السلطة أظن أنه يكون وسيلة مرحلية وليس دستورا دائما". واضح تحفظ الخرباوي على عبارة الهضيبي "دستور الجماعة"، إذ قال: "وليس دستورا دائما". فقانون يفرضه شخص أو جماعة، حزب تنظيم نخبة، ويأخذ صفة "دستور دائم"، أمر يشي بتأسيس لطغيان داخل الجماعة وخارجها. نتابع والقول للخرباوي: "ظهر الضيق على وجهه ثم قال بنفاذ صبر: لا تجادلني. أنت رجل قانون. لماذا وضعت الدولة قانونا للمرور؟ ماذا لو خالفت سيارة قانون الدولة وقطعت الإشارة الحمراء؟ قطعا ستقع حوادث وستصطدم السيارات بالمارة. ماذا لو أقام أحدهم بناية دون ترخيص من الحي وفقا للقانون؟ سيصبح الحال فوضى. هناك قانون للعقوبات. من يخالفه يكون قد ارتكب جريمة أليس كذلك؟ تنفست الصعداء وأنا أقول: لا ليس كذلك. ماذا تقصد؟ قالها مقاطعا وهو يبدي استغرابه. أكملت كلامي وأنا أتناول كتابا كان على المنضدة وكأنه لم يقاطعني. هناك مواد في القانون يتم محاكمة الإخوان بموجبها مثل المادة 86 من المدونة العقابية. وبالمناسبة الإخوان يخالفون هذه المادة ويرتكبون بمخالفتهم هذه جريمة إنشاء تنظيم دون أن يكون لهذا التنظيم رخصة من الجهات الرسمية، فإذا كان قانون الجماعة في رأيك يجب أن يتم احترامه كما نحترم قانون المرور وقانون العقوبات فحينئذ يجب أن نعلن عن حل الجماعة لأنها تخالف قوانين الدولة لأانها أنشئت دون رخصة كما البنايات التي تنشأ من غير رخصة، وإلا لأدت هذه المخالفة إلى اصطدام السيارات ووقوع الحوادث وإشاعة حالة فوضى. أليس كذلك؟ هب الرجل واقفا وهو يقول بعصبية وحدة وهو يشير إلى الباب: اتفضل يا أستاذ المقابلة انتهت". حاول الخرباوي إيصال فكرة أن القانون ليس شيئا تتحدث عنه كما تريد وتطوع استخدامه لما يناسبك، بل هو ما عليك أن تحترم وتقبل به سواء حاباك أم ردعك. وأصر الهضيبي على أن مصلحته وإرادته، وعلى طريقة الجنرالات، هي القانون، قانون يجب أن يعامل كدستور دائم. ذلك هو أحد جذور الاستبداد العميقة التغلغل في التربة العربية الإسلامية، والمنتج الرئيس للطاقة السالبة، ولكل من عصارته نصيب.
في إحدى شركات القطاع العام في سوريا، حصل أن قال مدير شؤونها القانونية لمديرها العام معلقا على "أمر" أحيل إليه لإبداء رأيه القانوني: يا معلم هذا مخالف للقانون. كان رد المدير وبلهجة ساخرة (قانون!) نحن وضعنا القانون، بسيطة نغيره.
في 2004، وخلال لقاء في قطنا. تحدث عدة أشخاص قبل أن يمسك المهندس سليم خيربك (نائب رئيس جمعية حقوق الإنسان في سوريا) بدفة الحديث ليقول: نحن نعمل في الجمعية تحت مظلة القانون السوري العادي، وطرحنا في الحركة النقابية سيادة القانون كمطلب رئيس في عام 1980 نأمل تحققه لخير الوطن. أن يحترم ويسود على الجميع بدون استثناء، وتلك قناعتنا اليوم. انتفض جورج صبرا مقاطعا وقال بغضب: أي قانون هذا الذي تريد منا أن نخضع له؟ قانون الأحكام العرفية، نحن لن نخضع لقوانين سنتها الهيئات التشريعية للسلطة المستبدة، ما هذا الطرح، نواجه نظاما مستبدا وأنت تقول لنا أن نخضع للقانون، واسترسل مهاجما النظام، مكررا بين مقطع وآخر أن الديمقراطية هي الهدف الرئيس. قلت لصبرا: أنت تنادي بالديمقراطية ولا يمكن التأسيس لديمقراطية من غير سيادة القانون، ولا تستقيم ديمقراطية بدونه، سقف سيادة القانون أعلى مما طرحت.
يقول مثل ألماني: "يدور الحديث عما لا يدور عنه الحديث". وقد دار الحديث بين من يؤمن بالعمل على تغيير متدرج وسلمي، وبين من يؤمن بتوجيه ضربة مباشرة وقاضية للنظام (الذي كان يترنح حسب رياض الترك)، وبقبضة خارجية إن كان ولا بد. كان ذلك المتدرج والمؤسس يتصارع مع البحث عن مفتاح سلطة باليد في الساحة السياسية في سوريا.
حصل أن وجه أحد الأعضاء المؤسسين للجمعية سؤالا لناشطة سويدية في حقوق الإنسان كانت تزور سوريا: ماذا تفعل حكومة السويد مع مواطن سويدي يذهب للبنتاغون ويطلب أن يقصف الطيران الأمريكي ستوكهولم؟ أجابت: توقفه للتحقيق معه فور عودته للسويد. في لقاء جمع ممثلين عن مجلس إدارة جمعية حقوق الإنسان في سوريا بالأستاذ رياض سيف والدكتور وليد البني ومأمون الحمصي والمحامي حبيب عيسى، شن وليد البني هجوما على الجمعية لأنها لم تشجب توقيف اللبواني في مطار دمشق (2005) إثر عودته من واشنطن (دعا منها لقصف العاصمة السورية بالطيران الأميركي). كان رد مجلس إدارة الجمعية: أن التوقيف تم بناء على مذكرة قضائية أبرزها شرطي للبواني، نصت على توقيفه للتحقيق معه حول زيارته للبنتاغون وتصريحاته من واشنطن. احتج الدكتور البني وهاجم الجمعية التي تسكت عن توقيف استند إلى قانون الأحكام العرفية. قيل له: أن المذكرة استندت للقانون العادي الذي كان حاكما في سوريا قبل عام 1963، والجمعية تعمل وفق نظام داخلي، نص على أن تمارس نشاطها تحت مظلة القانون السوري، ومناهضة القوانين الاستثنائية وحالة الأحكام العرفية السائدة، نظام داخلي أقرته هيئتها العامة ومجلس الإدارة ملتزم بذلك. علت لهجة خطابه رابطا الأمر بالشجاعة، كان يهاجم تخاذل مجلس الإدارة.
ثمة مفهوم خاص للقانون يجمع الهضيبي الأخواني بصبرا الشيوعي وغيرهما، وهو "دسترة" قانون الجماعة، أو الحزب، وأحيانا "الشخص". ألا يصح ذلك كمثال تعليمي لشرح ما ينتج الفوضى، والفوضى عموما "خلاقة"؟
دار الحوار بين الخرباوي والهضيبي حول سؤال مازال مطروحا على المجتمعات العربية والإسلامية نخبا وعامة ومنذ قرون، هو: ما هو الذي لابد منه لينتج المجتمع طاقة عمل تكاملية، لإقامة عدل، لتطور يهب الأمن المسرة؟ لم يقع في الوعي العربي النخبوي والجمعي بعد، قبول مستقر أنه "القانون" الذي ينبت من إرادة المجتمع. ثمة بداوة فكرية وسلوكية ما زالت قامتها منتصبة، وثمة بنى نفسية تعيق عبور الوعي لذلك القانون ولضرورة سيادته. بالتأكيد نتحدث هنا عن القانون العادي "الطبيعي"، وليس العرفي أو الاستثنائي، فالأخيران مستقر قبولهما في البنية الثقافية السائدة، وخصوصا عند النخب السياسية على تنوع مشاربها. عرف الإنسان ذلك الطبيعي في حقبة تاريخه غير المكتوب، راقب ما حوله باحثا عن ما يساعده عل تلبية احتياجاته الحياتية. طرح الأسئلة واكتشف إجابات بعضها نال ثقته، فحولها إلى ثوابت في معرفته ومعاشه(اعتمدها). كان امتثاله لها في البدء طوعيا، فقد شارك الكل في اختيارها. نبتت من حياة الكل. لكن بعض ما أنتجه الحوار بين السؤال والجواب في حقبة الرعي اختلف عما اعتمد في حقبة الصيد ومن ثم في حقبة الزراعة، حيث تشابكت في بداياتها أنماط الإنتاج الثلاثة في تشكيل اقتصاد الجماعات البشرية، واعتمدت ثوابت لتنظيم العلاقات بين أفراد الجماعات المرتبطين معيشيا (عشيرة قبيلة)، وتشابك الامتثال الطوعي لها مع آخر توافقي . في حقبة بناء المدن، تنوعت الوظائف الاجتماعية ولكل منها ناظمها، وللتنسيق فيما بينها ناظم، وتلك النظم ما عادت تنبت كلها من حياة الكل، ولا الخضوع لها طوعيا أو تكيفا يهذبه الزمن، بل صار توافقيا بين النخب وقسريا بالنسبة لعامة الناس، فوسم الإكراه حياتهم. الطبيعي هو ما يتشارك الجميع في صياغته، والاستثنائي هو ما يفرض قسرا على العامة. ما أسس الديمقراطية هو التشاركية، وما سعت إليه هو عقد اجتماعي وليس عقد طليعة أو نخبة أو حزب أو تكتل سياسي، وقانون ينبت منه ويعبر عن مصالح من صاغوا العقد ويحميها. طرحت نخب سياسة سورية مشروع عقد اجتماعي، وتصرف بعضها وكأن رؤيته الشخصية هي ذلك العقد الملزم للجميع، وقدم شخص فرد مشروع دستور!!! واقعيا ناضلت جل تلك النخب من أجل عقد يأتي من خلفية نخبوية تختصر المجتمع إلى مسمى في بيان سياسي أو ميثاق تجميع للنخب. هل هي(النخب) متخلفة، أم!! إلى درجة أنها لا تدرك أن العقد الاجتماعي يولد من رحم هو المجتمع، وليس من دماغ نخبة؟
5- نفي مفهوم الوطن والوطنية
بعد توقيع السادات لاتفاقية كامب ديفيد، حرص الإخوان في سوريا على الدعاء بعد كل صلاة، للمجاهدين الأفغان بالنصر على الكفار السوفييت، من غير إرفاق له بنصر الفلسطينيين المقاومين على العدو الإسرائيلي. وتشاركوا مع الليبراليين الجدد بعد احتلال بغداد، في إنتاج ثقافة تخرج إسرائيل من خانة العدو الرئيس للمجتمعات العربية والإسلامية(10)، لتضع فيها حزب الله والنظام في كل من إيران سوريا. مسار لا لبس في توافقه مع سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وفي الفترة التي تلت اغتيال الحريري وخروج الجيش العربي السوري من لبنان، احتوت أدبيات أخوان سوريا إلى جانب تشبثهم بفكرة الحاكمية قبولا للديمقراطية!! تناقض فج لم يحل دون قبولهم في إعلان دمشق كفريق يطرح الديمقراطية. "إنه إعلان دمشق"، كذلك كتب ميشيل كيلو. باحثين عن سبيل لامتلاك خاتم السلطة، استبدل منظرو إعلان دمشق، حجر أساس العمارة الديمقراطية الذي هو الفرد معرفا بفردانيته كمواطن، بجديد هو"المكونات" مسوقين "نظرية" جديدة في علم الاجتماع السياسي لم يسبق أن برهن أحد على صلاحيتها لعمارة ديمقراطيه (برهن واقع العراق على عكس ذلك). نظرية هدفت إتاحة فرص غنية للعب على تلك المكونات وبها، بأمل شق مخرج من عقم مزمن لمجموعات سياسية، فشل منظروها الذين صاغوا وثائقها النظرية التأسيسية في تحديد الشريحة المجتمعية التي كلفتهم بتمثيل مصالحها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية (المدخل الطبيعي للحداثة)، فكان أن عبرت تلك الوثائق عن مسؤولية أصحابها عن المجتمع كله، مكرسة ثقافة الشمولية السياسية (رحم سياسات كسر العظم) وبرهنت التجربة فشلهم في إنجاز مهام طرحتها تلك الوثائق المؤسسة.
يقول المثل العامي"الطيور على.. تقع". وواقعيا لم يكن الأخوان وحدهم من امتطى حصان طروادة "الديمقراطي" وبحث عن دعم أجنبي للوصول لكرسي السلطة. بل حثوا مطاياهم كما شيوعيون وقوميون، سابقا، وليبراليون جدد، للعدو في مضمار البحث عن واهب لخاتم السلطة وكل بطريقته. مضمار ستنطلق منه أفكار تدعو، أو تمهد الطريق لدعوات علنية لتدخل عسكري خارجي، وثق بعضها الكاتب المعارض محمد سيد رصاص في مقالة حملت عنوان "تبلور نزعة المراهنة على الخارج في المعارضة السورية".
تحضيرا لذلك وجب تهميش ثقافة تستنكر التعاون مع الأجنبي ضد الوطن، والمفتاح كان استحالة كسر حلقة الاستبداد من الداخل. وتهميش كل مستنكر له، والمفتاح كان استنبات مفهوم جديد للوطن ربط وجوده بوجود الديمقراطية كتوأم سيامي. و"التوأم" سيولد عندما يصلون هم إلى السلطة. أما ما اسمه سوريا اليوم فهو تعبير عن عزبة للنظام المستبد الواجب إسقاطه من أجل الديمقراطية ولو قاد ذلك لتدمير العزبة. بخطى ثابتة تمت شيطنة النظام ثم وببساطة وزخم وتشاركية غير مسبوقة شرعنوا استدعاء الأجنبي. وبجهود السفارة الأمريكية وسفارات أوربية نظمت دورات تدريبية في مراكز إقليمية وأوروبية لخلق نواة لمعارضة هجينة.
في سوريا قدمت سفارات من الاتحاد الأوربي هبات مالية لمنظمات غير الحكومية، مثالا عليها "منظمة مكافحة الجوع في سوريا، التي شكلها المعارض فايز سارة، ومركز أبحاث لرضوان زيادة.. وغيرهما. في مصر وفي عام 2006 بلغ عدد "البسطات" غير الحكومية التي اصطفت آملة أن تعتمد من سفارات أوربية، 36000 بسطة(حسب ناشط مصري). في الغالب ضمت البسطة الواحدة، وكما في سوريا، بضعة أشخاص، وأحيانا رجل وزوجته. من مركز القاهرة للدراسات وحقوق الإنسان، كان بهي الدين الحسن يصدر بيانات تحمل تواقيع منظمات غير حكومية تشكل دعما لسياسات دول غربية في بلدان أفريقيا وأسيا (دارفور مثالا)، ويشرف على خطوط تصنيع صناعة المعارضة الهجينة، عبر تشكيل مجموعات تعطى صفة منظمات غير حكومية، ويسهم بتصنيع قادة ونجوم جدد. في ندوة عقدت بمصر 2006 قدم الحسن كل من "فايز سارة" و"رضوان زيادة" كمفكرين، وقال للناشط السوري أبي الحسن، الذي نطق في سياق مداخلته بـ"الوطن العربي": والنبي بلا ش "الوطن العربي"، متقول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وخلاص". قال أحدهم أنه يتقاضى راتبا شهريا من الأوروبيين قدره اثنا عشر ألف يورو، ناهيك عن ميزانية ضخمة يوزع منها على التابعين. كانت الليبرالية الجدية تزحف بتوحش على كل الوطن العربي، وكان الحراس في قيلولة، وسيكون الثمن فادحا. كتبت خديجة صفوت في بحث "المبشرون الجدد": "ذلك أن المنظمات غير الحكومية لا تعبر عن نفسها في مناشط العمل على مستوى المحلي بين الطبقات المحكومة، حيث تعمل على مستوى سياسات الدول والمجتمعات الخارجية. بقوة خطاب وأجندة تتصل بمانحين وبممولين خارجيين، لهم مصالح تتجاوز بل تحبط المصالح الوطنية"(مجلة الكلمة).
وفي "المعارضة السورية بين تقليدية وهجينة": "من الثغرات التي صنعتها السلطة والمعارضة التقليدية، عبرت مجموعات امتلكت موهبة تحوير المفاهيم وتدنيسها. مجموعات "بصبصت" باحثة عن وسائل تمكنها من استثمار بؤس السلطة والمعارضة، وعن طاقة تضع الثروة بيدها. ووجدت مفتاحاً لها في مؤسسات أجنبية كانت تبحث في كل بلدان المنطقة عمن توظفه بعد احتلال العراق لتسويق "الفوضى الخلاقة" وخدمة مشروع الشرق الأوسط الجديد. من آنية تلك المؤسسات، ولدت شركات سياسية خاصة على غرار شـــركات الأمن الخاصة، اندلق منها أفراد ليبشروا بثقافة نفعية متوحشة استباحت العرف والتاريخ والجغرافيا مقابل مهر. بديهي أن تكون الضحية الأولى "لقابيل" الجديد هذا، هي ذلك الجيل الذي انتفض سلمياً وليس الاستبداد، وأن تكون الثانية سوريا. للأسف تمكن هذا الهجين من تشويش الرؤية العامة، ومن سحب بعض البساط من تحت قدمي المعارضة التقليدية الهرمة، بل ومن استقطاب بعض منها".(علي محمد، القدس العربي 4-4-2012).
وكتب قاسم عز الدين في "الهمجية أعلى مراحل البلاء"(مجلة الوطن العربي): " في منتصف التسعينات تعمّق التحوّل الرأسمالي الدولي نحو العولمة النيوليبرالية في جولة مراكش "لمنظمة التجارة العالمية" عام 94، الذي قلَبَ المجتمعات إلى غابة لحرية السوق والتجارة والاستثمار الأجنبي المباشَر. فهذا الانقلاب المعولَم ضرب المجتمعات العربية و"العالم الثالث" بزلزال شرّعها أمام "الشراكات الحرة" الذي يعتمد على زيادة النمو في نهب الثروات الطبيعية و"تشجيع" الرساميل في وضع اليد على الثروات العامة. إنما هذا الاقتصاد السياسي هو فرع من إستراتيجية جيوسياسية فرضت انسلاخ كل بلد عربي عن محيطه الإقليمي، كما فرضت شروط إسرائيل ودول "المجتمع الدولي" في احتلال الفراغ السياسي والأمن القومي وعلى جري العادة في الغزو، يبدأ المبشّر أولاً بتمهيد الطريق أمام مافيات المال والأعمال في نشر ثقافة سياسية "منزّهة" عن المصالح الخاصة، فـ"أنتلجنسيا" بلادنا (ولا سيما مفكروها وخبراؤها)، أخذت، في معظمها، على عاتقها تعريب أنتاج ثقافة مؤسسات العولمة النيوليبرالية وهيئاتها الدولية لتنمية التبعية، سبيلاً "للتنمية" والقضاء على "الجهل والتخلّف. والحال، ليست الهمجية التي تحلّ علينا استمرار لتاريخ احتراب طوائفنا واثنياتنا على الدوام وفق قواعد وأعراف لم تبلغ همجية الإبادة ومنهجَة التدمير، ولا هي "خلل ثقافي" نتيجة الاستبداد والوهابية والتعصّب الموروث، إنما هي جزء من انفجار "الفاشية الجديدة" في العالم التي تغذّيها في بلادنا مغذّيات وعوامل متعددة، لكنها تنبع من تفكّك أسس المجتمعات المعاصرة وضعضعتها".
لا ريب أن من كتب "إنه إعلان دمشق"، كان على بينة من انفجار "الفاشية الجديدة" الذي لم يكن خافيا على متابع. لكن المرجح هو أن رهان المعلنين كان قد عقد على ذلك الانفجار. عمليا مهد الإعلان لنسف أسس حاول الحراك المعارض توكيدها ثقافيا وسياسيا خلال عقود، وأخرجت أدبيات بعض "الليبراليين الجدد" إسرائيل وإدارة الولايات المتحدة من خانة العداء والخصومة(11)، وتنافس شيوعيون وقوميون وإسلاميون على تدمير الآنية الجامعة وكل بمهدته، وصرح بعض قادة المعارضة (شفاها) أن إزالة النظام ضرورة ولو كلف ذلك تدمير سوريا. قبل آذار 2011، جرت مباراة في رفع السقوف لتسجيل أهداف، كان في مقدمها إغلاق نوافذ الحوار المفتوحة، (منتدى الأتاسي الذي نجح بفتح وإدارة حوار بناء)، والمبالغة بتسويد صورة الواقع والمجتمع، كما واكبت أكثر من جوقة معارضة موعد تقديم ميلتس لتقريره الدوري بمعزوفات منتقاة، وقدمت خدمات وتسهيلات لأفواج من الباحثين وبدون حد أدنى من التحفظ عن مآل البحث أو عن محتد الباحث، وصمت آذانهم عن كل صوت أنذر من خطورة ذلك المسار. في لقاء جمع سوريون معارضون ووفد أكاديمي نمساوي ضم أعضاء في البرلمان النمساوي من حزب الخضر وناشطون في حقوق الإنسان، قالت أستاذة جامعية نمساوية: ألا تخشون أن تستغل الولايات المتحدة كلامكم، وتدمر بلدكم؟
كان الحديث عن استحالة كسر حلقة الاستبداد من الداخل قد تحول إلى مزاد شبه يومي، وكانت اللازمة هي تقدير عمر النظام بثلاثة أشهر، فالأمريكان قطعوا ورقته. كتب الشاعر بولانت أجاويد (رئيس وزراء تركيا سابقا): "سيحصل شيء ما ذلك ما تقوله حركة السحب في السماء وحمحمة الخيول في السهوب". سيحصل شيء ما. فملايين البشر يدفعون كل عام إلى الفقر والجوع، وتدخل دورات حياتية مرحلة الاحتضار نتيجة انقراض آلاف الكائنات الحية. وتضمحل وباطراد معايير كانت تشكل مناعة تحمي عيشا صحيا للبشر؛ كالمحبة والتسامح والتعاطف والصدق والتآزر والنزاهة والكرم وتقدير النعمة والعائلة والصداقة .. الخ. وتزحف كالوباء مقولة الليبرالية المتوحشة: "أنا أفترس الآخر، إذا أنا موجود".
سيحصل شيء ما. ذلك ما قالته تقارير مراكز بحث نبهت من أن ديناصور العولمة المتوحشة (الشركات العملاقة) بات بحاجة لوجبات كبيرة، وأن الشرق الأوسط الجديد بوابة عبور لها.
سيحصل شيء ما. ذلك ما قالته حركة المهجرين من العراق في شوارع دمشق وتبشير الليبراليين الجدد بثقافة تضع سوريا في خانة العدو الرئيس للدول المجاورة لها، ونداء ساسة لبنانيين "العدو من ورائكم".
سيحصل شيء ما. ذلك ما قاله أداء حكومة العطري المدمر لاقتصاد عيش الطبقة المتوسطة وسحق تلك الفقيرة أصلا، وقالته سيطرة أجهزة الأمن على تفاصيل حياة السوريين، وتفش للفساد في مؤسسات الدولة والمجتمع سد شرايين الآمل بمستقبل كريم عند غالبية الشباب. ذهب أدراج الرياح تنبيه مئات السوريين للسلطة(ضمنا صحافتها) مما يحصل، وذهب أدراج الرياح تنبيه المعارضة من المسارات التي تتحرك فيها. في نيسان 2006، وفي المرصد النشرة الدورية لجمعية حقوق الإنسان في سوريا، كتبت تحت عنوان"بين مسرح السلطة وكواليس المجتمع": "تلوح في المشهد العراقي اليوم، نذر حرب أهلية (طائفية، أثنية) كنتيجة مباشرة للاحتلال الأمريكي البريطاني، ويقف"أركان" السلطة العراقية من ذلك في مكان مشابه لذلك الذي شغله صدام قبل الاحتلال، فقد باتوا عاملاً رئيساً في تطور الوضع برمته نحو الأسوأ.
كان لأصغر سلالة حاكمة من القيمة أعظم مما لأكبر الشعوب". هكذا وصف أنجلز في رده على دوهرنع، وضع ألمانيا وبولونيا والمجر وايطاليا بعد مؤتمر فينا عام 1815، والذي أسفر عن تقسيمها إلى دويلات بائسة وهزيلة (لنتذكر سايكس-بيكو!). بطريقة ما، تجاوزت أوربا أهمية السلالات الحاكمة "الأهم من الشعوب"، أما نحن العرب فلم نفعل! همس كثيرون (ساسة ومثقفون) في أذن الغرب قائلين: بأن حلقة استبداد صدام لا يمكن كسرها إلا من الخارج، وأنهم جاهزون لدعم عمل كذلك، مما وفر لإدارة بوش بعضاً من غطاء ولو هش، لمشروعها. من فعلوا ذلك هم في السلطة اليوم، وهم معاقون، مثلهم مثل صدام، عن الحيلولة دون تردي الوضع نحو الأسوأ، بل إن بعضهم يدفع إليه، مما يحث للتساؤل: هل التغيير في هذا الشرق محكوم منذ قرون بمنح أفضلية للخيار الأسوأ، ودعم حصوله عندما يصبح جاهزاً ؟ وهل ذلك لأن السائد يعيد إنتاج نفسه مع قدر من التطور، باتجاه تكريس قاعدة : تشكل سلالات حاكمة جديدة يكون لها لاحقا من القيمة "أعظم مما لأكبر الشعوب"؟ منذ فترة تتجمع سحب الاستهداف الأمريكي الإسرائيلي فوق سوريا (تضفرها سحب الفساد، وترهل الرسمي العربي). لا جدال حول ذلك بالنسبة للسوريين، كما لا جدال حول الحاجة الماسة والملحة لإصلاح نوعي.
هل يمكن إصلاح النظام السوري؟ عموما هناك إجابتان: نعم، ولا. وكلتاهما تعرج عند: الأدوات المتوافرة للتنفيذ، ودور المجتمع الذي يفترض أن تستمد منه فكرة الإصلاح أو التغيير شرعيتها. والفكرة عموما، تغدو معوقة بذاتها، بدون نموذج يعرفها، ويجعلها قابلة للقياس، للنقد وللتصويب. فمسوغ الإصلاح أو التغيير هو العمل على أن يأخذ المجتمع دورا سبق أن صودر أو لم ينجز إطلاقه من قبل. ما يسهم الليبراليون والمحافظون الجدد به، هو زرع فوضى سياسية وثقافية، تقطع الطريق على التغيير الديمقراطي المنشود (بيت القصيد)، وتطلق العنان لنرجسيات تبحث لنفسها عن ممالك "أهم من أعظم الشعوب". بين إمارات راهنة وإمارات يجري الإعداد لإقامتها، وعلى اتساع رقعة الوطن العربي: يتم طحن الزمن! هل هناك من مخرج؟ سؤال أكبر من أن يحيط بالإجابة عليه شخص أو طرف، لكن الإسهام مشروع. إن حالة تسمح وبحماية القانون وإشراف مؤسساته، لهيئات أهلية ومدنية متنوعة ومتخصصة، برصد النشاط المجتمعي، والدعوة والعمل على تصويبه في مجالات الطب والهندسة والقانون والتعليم وكل المهن، وتوفير الفرص للنقد وللحوار حول وضع الطفل والمرأة، ومراقبة المنتج الغذائي والصناعي، ورصد انتهاكات حقوق الإنسان (كل انتهاك هو إيداع في حساب من يريد شرا بسوريا) ولصحافة وإعلام تواكب ذلك الجهد. تؤازره وتكرسه. حالة كهذه، لن تشكل تهديدا إلا للفساد وللتخلف، فهي مدخل لإصلاح، قد يثمر لاحقا بيئة تنتج سياسة مرتبطة عضويا بالمجتمع، تنتج بدورها الديمقراطية المنشودة، حالة تتحدى من يريد الإصلاح، ومن يريد التطور نحو الأفضل، لا نحو إمارات جديدة.
نعود لأنجلز لنقتبس من ضد دوهرنغ: "إن الفكرة القائلة إن الأفعال السياسية، وأفعال الدولة هي العناصر الحاسمة في التاريخ، هي فكرة قديمة قدم التاريخ المكتوب نفسه وهي السبب الرئيس في أنه لم يتبق لنا إلا القليل جدا مما يتعلق بتطور التقدم الفعلي للشعوب، هذا التطور الذي حدث في هدوء، في الكواليس، وراء تلك المشاهد الصاخبة الجارية على المسرح".
وفي 2006، كتب ميشيل كيلو"نعوات": "تلفت نظري في اللاذقية، مدينة آبائي وأجدادي، أوراق النعي، التي تنتشر بكثافة علي حيطان البلد، كما يسميها أبناؤها. وفي حين تكون أوراق النعي المدينية مرتبة ومطبوعة وفق نموذج محدد، تتسم أوراق نعي الريفيين بعدم الترتيب، وبكثير من الفوضى في توزيع مكوناتها، وفي نوع حروف الطباعة الخشنة المستعملة فيها، والورق الأقرب إلى الأصفر الذي تطبع عليه.. ومع أن كلتا ورقتي النعي تبدأ بالآية الكريمة، التي تتحدث عن النفس المطمئنة العائدة إلي ربها راضية مرضية، فأنهما تفترقان في كل شيء بعد المقدمة.. وستخشي ما تشي الأوراق به من مصير بائس ينتظر وطنك، وستترحم على نفسك، خاصة حين تبحث عبثا في أوراق النعي عن شيء يشي بوجود زواج أو قرابة بين المدينة وريفها، وبين محمد علي وعلي محمد، فلا تعثر علي أثر لأي منهما".
لم تغب أوراق نعي المسيحيين عن مدينة اللاذقية أو ريفها يوما، فهي من نسيج النعوات "الوطني" للمدينة! لماذا لم تلحظها عين ميشيل. والعنوان "نعوات"؟
في"نعوات"، انتقل من إنتاج ملح السياسة الواجب الوجود في مسرحها، إلى استنباط سردية جديدة للبيئة، ممهدا الطريق لثقافة المكونات ذات النسج المتباينة إلى حد الافتراق، إلى نفي كل قرابة بين علي محمد ومحمد علي، توطئة لأمر.
في بداية السبعينات من القرن الماضي ترأس رياض الترك انشقاق كتلة عن الحزب الشيوعي السوري عملت تحت مسمى الحزب الشيوعي المكتب السياسي. وتبنى الحزب الجديد الديمقراطية كنظام حكم لسوريا، وطرح أفكارا ورؤى موحدة لليسار السوري، أيد الوحدة العربية ومقاومة إسرائيل من أجل دولة فلسطينية مستقلة، وحصد كثيرا من الدعم والتأييد من كوادر اليسار القومي والاشتراكي التي كانت تبحث عن أساس سليم لعمارة أحلامها. لاحقا، وبعد بضع سنوات، أسهم الترك وبعض رفاقه بتفكيك ذلك اليسار ودفعه لانحرافات هي الأسوأ في تاريخه المعاصر، بدءا بمد يده لنظام صدام متخليا عن الأسس الأخلاقية الديمقراطية والاشتراكية دفعة واحدة، مما سبب فجيعة لطيف واسع من كوادره التي زجت نفسها في نضال من أجل التغيير الديمقراطي"السلمي والمتدرج"، وفوجئت وهي في السجن، بعضها على الأقل، بقيادتها متحالفة مع أشرس الدكتاتوريات في المنطقة. حالة نموذجية لتصديع التكتيك السياسي للأسس الحاملة لعمارة المشروع السياسي. في السجن 1982، خاطبني أحد السجناء من تنظيم سياسي "قومي" قائلا: الجميع تحدثوا معنا إلا أنت لماذا؟ أجبت بأنني ألقي التحية على كل واحد منكم في كل جولة تنفس، وأتبادل بعض الحديث مع هذا أو ذاك. قال أقصد لم تحاورنا في السياسة. قلت أنا لست في تنظيم سياسي. ابتسم وقال: قيادتنا تريد حوارا معك وأنا مكلف بتبليغك ذلك. قلت حسنا. قال الموعد غدا في غرفة فلان. في اليوم التالي دخلت من باب الغرفة المفتوح على ساحة التنفس وألقيت التحية على قاطنها وعلى من دعاني، وكان جالسا. قاما وصافحاني ودعيت للجلوس. قال قاطن الغرفة تفضل. قلت: بداية أرغب في عرض مرجعيتي للحوار. فأومأ برأسه إيجابا. قلت: برأيي الدولاب في دمشق غير وطني، والدولاب في بغداد غير وطني. قال مضيفي مباشرة: المقابلة انتهت. في اليوم التالي بلغت رسالة شفهية.
لاحقا، سيغادر رياض ومجموعة من الليبراليين الجدد إلى قارب يرفع العلم المناسب حسب مقتضى الظرف. ولاحقا ستشن الولايات المتحدة الأمريكية حربا على العراق وتحتله، وسيقف بحزم من هم ضد دولاب التعذيب ضد ذلك العدوان رغم موقفهم من نظام صدام، وسيرى من سبق ومد يده لصدام في ما قام به المحتل خيرا للعراق (صعودا للصفر)، ولاحقا أيضا سيطالب بعض من نادوا بالوحدة العربية بتدخل عسكري أجنبي في سوريا. وسيشهد اليسار السوري القومي والاشتراكي، كما العربي عموما، بعد ذلك الاحتلال هجرة فكرية وسياسية وأخلاقية نحو "حدائق" مملكة "العم سام" المتناثرة في المعمورة كقواعده العسكرية. ربما لم يهاجروا، وربما نزعوا الأقنعة فقط.
أسرد ذلك الآن، وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود من الزمن توطئة لقول: أن احتلال العراق والتدخل الخارجي في الصومال والسودان وليبيا واليمن، وما حدث في سوريا وما يحدث اليوم في العراق من إبادة وتهجير، قد مهدت له نخب سياسية ترتدي أقنعة متنوعة. وأن القوى السياسية السورية (سلطة ومعارضة) تحمل في بنيتها العميقة خصومة وأحيانا عداوة للشعار وللهدف الذي تتبناه وتطرحه، وأن ذلك يقود لفقدان البوصلة، ويدخل العقل وطاقة الفعل في متاهات الفوضى، ويسبب مزيدا من عزلة تلك القوى عن المجتمع، ومن عزل المجتمع عن السياسة. وان ثمة ذات مجتمعية تعاني ومنذ قرون من فقدها للقيمة، وأن ذلك الواقع أنجب نخبا مهمتها منع تلك الذات من حيازة قيمة فاعلة، وعلى امتلاكها هي وحصرا للفاعلية وإن بوسائل شائنة، وأن معظم القوى السياسية تتشارك في ذلك مع حفظ التفاوت. عمليا حيازة النخب السياسية لقيمة، متاح بخيارات متعددة: 1-العودة للمجتمع والارتباط به. 2- من السلطة المحلية 3-من سلطة خارجية 4- من سلطة محلية ومن أخرى خارجية 5- من التخلي عن مصادر القيمة التقليدية أعلاه، والذهاب إلى التطرف والكراهية.
في سياق السجال الذي شهدت سوريا مذ آذار 2011، اختارت نخب شابة القيام بخطوة على طريق العودة للمجتمع، كذلك بعض المخضرمين، وولدت الأزمة تشكيلات لبعض منها. النخب التي أخذت الخيارات الأخرى، كانت متوافرا قبل وخلال الأزمة وستكون كذلك غدا. الجميع أعلنوا أن هدفهم هو الديمقراطية (سنعرض للأدوار في الفصل الثاني من الكتاب). واقعيا آمل أصحاب الخيار الأول تحريك الواقع نحو بيئة أفضل لتغيير ديمقراطي، وعملت الأخرى على استبدال السلطة المستبدة الحاكمة بأخرى مستبدة، ولو مع "خراب البصرة" بتدخل عسكري خارجي مباشر!!
نشرت صحيفة لوموند ديبلوماتيك في عددها لشهر تموز/ يوليو 2014 ملفاً مهماً عنوانه: "أشباح دول في الشرق الأدنى" عن إعادة توزيع الخرائط الجيوسياسية في بلاد الرافدين. قام المؤلفون بالعودة إلى اتفاقات "سايكس بيكو". هنري لورنس، وقّع ورقةً عنوانها "أريد الموصل"، عن مذكرات موريس هانكي، سكرتير الحكومة البريطانية، بتاريخ 11 كانون الأول/ ديسمبر 1920، حيث وصف اللقاء بين لويد جورج وكليمنصو وفوش بعد وقف إطلاق النار.
قال كليمنصو: "حسناً. ما الذي سيكونه موضوع نقاشنا؟" ردّ لويد جورج: "عن بلاد الرافدين وفلسطين". سأل كليمنصو: "قل لي، ماذا تريد؟" فقال لويد جورج: "أريد الموصل". قال كليمنصو: "ستكون لك. ألا تريد شيئاً آخر؟" فتابع لويد جورج: "بلى، أريد أيضاً القدس". فقال كليمنصو: "ستكون لك". لم تحدد اتفاقات سايكس بيكو، التي عقدت في 1916 بين فرنسا وبريطانيا العظمى، حدود الشرق الأدنى، بل رسمت مناطق نفوذ. تطورت تلك المناطق تطوراً ملموساً بعد الحرب العالمية الأولى، أثناء المفاوضات التي أفضت إلى ولادة الدول التي عرفناها في القرن العشرين. لكن هذه الهيكلية، التي فرضها الخارج، لم تعد تبدو قادرةً على التصدي للتحديات الحالية".
حيازة النخب غير السياسية للقيمة متاح أيضا وبخيارات متعددة:
1-بالعمل المتقن والسلوك الإيجابي، في الزراعة والصناعة وفي حقول الطب والقانون والهندسة وصولا للحرف وهيئات الرعاية المجتمعية.
2-بتنظيم علاقة العاملين في تلك الحقول، بطريقة تسمح بتأسيس حركة نقدية مهنية تسهم برفع مردود الأداء على المستوى الوطني.
3- تمتلك الفنون والآداب طاقة استثنائية قادرة على تطوير مستوى التواصل والتبادل المعرفي داخل المجتمع، وبينه وبين مجتمعات أخرى، على إطلاق المخيلة وتحريض طرح الأسئلة، وتنمية ملكة المبادرة. من شأن ذلك تحسين قابلية التشاركية، وكبح التطرف وإطلاق حركة نقدية تسهم بالارتقاء.
4- من حقل الفكر والمعرفة؛ فلسفة، تاريخ، علم حياة، علم اجتماع، فيزياء..الخ.
تاريخيا قادت النخب السياسية (سلطة، معارضة) حركة الواقع وهمشت أو احتوت دور النخب الأخرى واستبدت. نظريا، يفترض أن النخب السياسية والنخب المهنية والمجتمعية، هما جناحان حاملان للدولة ولفرص الازدهار، وحاميان للوطن.
6- إعلاء راية العنف
نطالع في كتاب "سر المعبد" لثروت الخرباوي القيادي في جماعة الإخوان: "مادت الأرض تحت قدمي حينما نطق المستشار مأمون الهضيبي بالكلمات التي أنكرها: "نحن نتعبد الله بأعمال النظام الخاص قبل الثورة" واستطرد: " كنا نجاهد والمجاهد يباح له ما لا يباح للآخرين، وضرب مثلا في الاغتيالات التي قام بها الحزب الشيوعي في اليونان في أربعينيات القرن العشرين، قال: لماذا لا تعيبون على الحزب الشيوعي اليوناني ارتكاب جرائم اغتيالات لمدنيين من بني وطنهم؟ أيباح لهم هذا ولا يباح لنا، أحرام على بلابلة الدوح حلال للطير من كل جنس؟! تخيلته ساعتها وهو يخرج لسانه لمصر كلها ولسان حاله يقول: موتوا بغيظكم يا أهل مصر، قتلناكم لأننا أهل الحق وأنتم أهل الباطل، نحن أمة الإسلام وأنتم أمة الكفر". هل يمكن أن نطلق على منطق الهضيبي عبارة" الفقه التبريري؟ (ص86 و87)".
تاريخيا، طبخ بعض قيادي الأخوان سياساتهم، مشيحين بصيرتهم عن هول ساقت إليه "الأفكار القاتلة" لابن جهم وغيره، وأودى لانهيار الحضارة العربية الإسلامية وصموا سمعهم عن صوت الكواكبي والأفغاني ومالك بن نبي الداعي لمغادرة ذلك المستنقع.
"أحرام على بلابلة الدوح"؟! يا له من سفه ذلك الذي نطق به "الهضيبي"، أقله بحق الشعر العربي والبلابل؛ يا هند قد آلف الخميلة بلبل يشدو فتهت الغصون وتطرب هو شاعر الأطيار لا متكبر صلف ولا هو بالإمارة معجب.
بديهي وقد شرعن تنظيم الأخوان ممارسة العنف لنفسه، واستقر على أعمدة الصلف والتكبر والشغف بالإمارة ("فالحكومة الإسلامية، فالدولة الإسلامية، فأستاذية العالم" حسن البنا عام 1928)، أن ينمو العنف في تربة تلك "الشرعية" وأن يقتبس، وأن يدور الزمن ليجد الخرباوي وأمثاله أنفسهم في آلة طرد مركزي تلفظهم لصالح من هم أشد عنفا وصلفا وتكبرا وشغفا بالإمارة، في غياب ضوابط أخلاقية وقانونية فاعلة في تلك التربة تقنن تشريع وممارسة العنف. ثم أن تتشظى الجماعة نفسها؛ فلا هي مؤهلة لمنافسة داعش أو النصرة في سباق العنف، ولا هي قادرة على مغادرة مضماره الذي بات من مكونات بنيتها. ربما فات منظروها، وهم "الأساتذة"، ما خلص إليه ابن خلدون في مقدمته حول دورة الصراع بين بدواة خشنه محاربة وبين من استطابوا رغد العيش في المدن. وهاهم "الأساتذة" وقد تربعت جماعات من الإسلام السياسي على قمة جبل العنف، يبحثون عما يسندون ظهرهم إليه، وهم يعلمون أن من تربع لن يجنح للتدحرج على سفوحه طلبا للاعتدال، بل ستتنافس الجماعات في ما بينها على من يشغل تلك القمة. تنافس قد يسفر عن خيار مفاده رفع منسوبها، ونصوص تكفير الجماعات بعضها البعض ترجح ذلك الخيار، ولطالما أبدعت مخيلة فقهاء الجهاد استنباط شرعنة ما تصبو إليه جماعاتهم سياسيا، من نص أو حدث تاريخي. جاء في بيان جبهة النصرة الإعلامي رقم(9) أيار 2014، ردا على ميثاق الشرف الذي صدرته الفرق الخمس في 17أيار-2014: "أصحاب الردة المغلظة ليس لهم في الإسلام إلا السيف، وطواغيت النظام ورموزه وركائزه من أصحاب الردة المغلظة الذين أمر الشرع بقتلهم عند القدرة عليهم، كما في الحديث عند النسائي وصححه الألباني في الأربعة النفر الذين يُقتلون وإن تعلقوا بأستار الكعبة".
ها نحن أمام اجتهاد يأخذ صفة الحكم القضائي المبرم، يشرع لانفجار طاقة القتل ويحررها من كل ناظم أو ضابط وباسم الإسلام المشتق من السلام. نموذج راهن لل"أفكار القاتلة" التي تحدث المفكر الراحل مالك بن نبي عن دورها في انهيار الحضارة العربية الإسلامية.
"فقهيا"، وحركيا، ثمة رابطة "أخوة" بين الأخوان وكل طيف التنظيمات الإسلامية من القاعدة إلى الطالبان إلى النصرة .. الخ. لكن ومؤخرا غدت تلك الأخوة هاجسا، غلو التنظيمات وصراعاتها بات يهدد ليس فقط المشروع السياسي للأخوان، بل وبنية تنظيمهم التي لم تأت من بيئة البداوة كما جل الآخرين، ولا تذهب ثقافتها لهدم تمثال بوذا أو قطع رأس تمثال أبي العلاء، أو لهدم الأضرحة، أو لجهاد النكاح وامتلاك النساء بالتكبير، أو للقتل الجماعي الممنهج على الهوية المذهبية، بل تكتفي بالاغتيالات وبأعمال إرهابية محدودة لخدمة هدف سياسي، ثقافة تطرح "هذا من فضل ربي"، شريطة أن يكون تفردها بالسلطة السياسية والاقتصادية من بعض ذلك الفضل. هاجسا، لأن بنيتهم التنظيمية باتت تنزف لصالح جماعات إسلامية أخرى. سقطوا في الحفرة التي حفروها لغيرهم بمعول العنف الديني، مبتعدين مع كل ضربة منه عن الوسطية التي سبق لهم أن انتقوها كسمة مميزة لهم. عشرات من نماذج "الطليعة المقاتلة"التي سبق أن انشقت عنهم في سوريا، تقيم مهرجانا مفتوحا من فعالياته مزاد علني لكسر حدود الغلو، وكلما علت درجة التطرف كبرت المقدرة على اختراق تلك البنية. تصرف "الأساتذة"، وكأن الواقع قد ثبت إلى محراث رؤاهم. لكن الواقع كان يتحرك كعادته. ضخ التطور التعليمي والتقني في سوق الإسلام السياسي فقهاء بمحافظ أكاديمية، يمتلكون معينا لغويا وحرفة صناعة اللوحات المناسبة منه، وحررتهم شبكة النت من حيازة سقف تمويل مرتفع كشرط للظهور والتواصل. فقهاء يتطلعون بشغف لتصدر منابر الاجتهاد والإفتاء والسلطة، وقد انكشفت لهم المساحة الآمنة المتاحة لمن يتقن اللعب على التناقض بين ظاهر القول وباطن القصد، وتنسموا المتعة الكامنة في تلك المساحة المتاحة لمن يتمكن من اختراق حجابها الحاجز. انطلق الفقهاء الجدد بعزيمة وصبر مقتبسين من التطور الذي أحرزته نخب اليسار العربي التي اعتنقت الليبرالية الجديدة. حيث الشخص نفسه قابل وقادر على الظهور كماركسي أو شيوعي أو وجودي أو قومي، فاشي، ديمقراطي، داعية حقوق إنسان، ملحد، متدين. ممثل بارع تحرر داخله من ضغط الانتماء لأي شيء سوى ما ينفعه هو، فاسترخى وبات أداءه يتدفق بسلاسة كما الماء في جدول، لا يأبه إلا بجريانه قابليته للتكيف هائلة.. وصعب أن يهزم. في 11-2، 2013، ومن على شاشة فضائية البي بي سي وفي سياق رده على البطيرك الراعي قال ميشيل كيلو: "استقبلت من جبهة النصرة وبقية الفصائل استتقبال الأبطال". أُسقِطَت "نعوات" سكان حي القزاز بدمشق، اللذين قضوا في 2012 بتفجير تبنته جبهة النصرة.
قربانا لموقف تكتيكي، بات ذلك مألوفا في بازار النخب السياسية السوري (من يشذ يقبض الجمر). تحولت "الأسس" إلى إيقونات من تمر تؤكل عند الحاجة، ثم يستعاد استحضارها لغويا لتؤكل ثانية(12).
نخب طبخت مصطلحات الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة. شعر دانتون ونيرودا والشابي ومسرح ونوس وروايات محفوظ وفلسفة نيتشه، وصنعت منها "مرقه" مسبقة الصنع لتحسين نكهة أي طبق فكري أو سياسي تحتاج تقديمه. هي في السلطة وفي المعارضة ومستقلة، تدوم متنقلة بشغف للتألق، ساعية لشغل المفيد من سطح الواقع. الملفت للنظر أن جلهم وزراء خارجية أو دوبلماسيون. لم يرتق "الفقهاء الجدد" لذلك المستوى بعد، لكنهم كسروا احتكار الأخوان لبعض سلع سوق تاريخ الإسلام السياسي، ولأدوات إنتاج تلك السلع، ولم يكن ذلك مما يغض عنه الأخوان طرفهم، فاستخدموا نفوذهم في العاصمتين التركية والقطرية لضبط الإيقاع. لكنهم غفلوا عن أهمية مولود جديد سيلعب دورا ليس في صالحهم. أسهمت سياسات النظام الدولي الاقتصادية، والتي تناغمت معها الأنظمة المستبدة في العالمين العربي والإسلامي بأريحية، في إنتاج دورات متعاقبة أفقدت الفقراء بعضا من حصصهم الضئيلة من الطعام وفرص العمل، ووهبتهم المزيد من القمع والمهانة. أنتج ذلك في دول عديدة من قارتي أفريقيا وأسيا نموذجا جديدا من عاطلين عن العمل والرجاء يترحلون بحثا عن مصائرهم، يستقرون بقلقهم وبؤسهم في قاع المجتمعات الغربية، وفي العشوائيات المحيطة بمدن العالم الثالث. وإذ يرتحل البدو كجماعة لها ثقافتها، وتربطها تقاليد وأعراف القبيلة أو العشيرة، ويحظى حتى من هم في أدنى المراتب بقدر من العناية والرعاية من المجموع، فقد حرم هؤلاء الجدد من روابط العناية والرعاية، ومن ثقافة جمعية. حرمانا تأصل في النفوس ورسخ في الوعي. منهم تشكل خزان بشري لنموذج جديد من البداوة.. "بداوة العشوائيات". خزان استثمرت وجوده أجهزة الشرطة والأمن في بلدان العالم لزيادة مخصصاتها المالية، وغرفت منه المافيات، السلطوية والخارجة عن القانون، ما تحتاج من قوة عمل،وإليه امتدت يد الجماعات الإسلامية المتطرفة بخطاب مناسب: راتب مقبول وصحبة جماعة وجنة وحور عين ومغامرة. ومنهم جند آلاف الشباب لغزو ليبيا بدعم من قوى إقليمية ودولية. في سوريا أضيف لقائمة المرغبات في العرض، جهاد النكاح. خطوة ذكية لإقحام الشريعة الإسلامية في دورة اقتصاد السوق، تقوم على أسلمته.."سوق حلال".
أضاف "اقتصاد العشوائيات" عبئا جديدا على جماعة الأخوان، إذ منحت أفضلية مهمة للمجموعات الجهادية السلفية المنافسة لهم، أو المنشقة عنهم. تتميز "بداوة العشوائيات"عن تلك التقليدية، بتحرر نسبي وح، الأمر الذي يؤهلها للقبول في سوق عمالة جديد يسعى لنيل فرصته على هامش السوق الذي تشرف عليه الدول ومؤسساتها ونجح الإخوان في استنباط الآليات والأدوات المناسبة لاختراقه. إلى السوق الهامشي" الجديد سيتدفق أفراد من أحياء الصفيح، تلك التي سبق أن قدمت الكثير لحركات التحرر الوطني. عمليا خسر اليسار العربي مواقعه في تلك الأحياء، واستعاض عنها بالخطابة في المقاهي والندوات، حيث أصر ودائما على أنه يمثل الفقراء والمضطهدين، قبل أن ينقلب "بعضه" لينافس اليمين التقليدي في لحس فلسفة "المبجلين سايكس وبيكو"، وفي لعق أمثال حمد (غليون وعزمي بشارة نموذجا.. وهم كثر). كوادر الإخوان المسلمين الرئيسة المنتمية إلى الطبقة المتوسطة القاطنة، غالبيتها، في المدن (أطباء ومهندسون ومحامون وتجار ..الخ)، والتي نجحت في بناء اقتصاد متين للجماعة، وفي استقطاب الشباب وتنظيمهم من المساجد والمدارس والجامعات والنوادي الرياضية وسوق الأعمال، وانتزعت حضورا فاعلا في النقابات المهنية، لم وليست مؤهلة لمنافسة دعاة الجماعات الجهادية المغالية في تطرفها في ذلك القاع الاقتصادي المجتمعي المحدث. بيروقراطيتها العريقة، على الأقل، أهلتها لخسارة تلك المنافسة تاركة لها فرصة احتواء الدعاة وجماعاتهم، وأتاحت للدعاة فرصا.
عمليا، تسبب ضعف ملاط الوسطية الحامي لجماعة الإخوان بفتح ثغرات في دروعهم التنظيمية، التي عجزت عن صد بعض اختراقات المجموعات الجهادية المغالية في تطرفها. من كانت لهم اليد العليا في السابق والكل يحسب لهم الحساب، تغير حالهم وقد باتت جماعات فاءت إليهم سابقا في أزماتها، تطلب السلطة لنفسها. وما كان ذلك بأمر يغض عنه الطرف من يمتلك تاريخا تميز بالسعي الدؤوب لامتلاك السلطة كالإخوان. وحسب الخرباوي: كان الإخوان يعملون على استلام السلطة في مصر عام 2018. استلموها قبل ذلك التاريخ، فنحوا لأسلمة الثقافة والقضاء، وتنكروا لتشاركية عمدت مرسي رئيسا عبر صندوق الاقتراع، وأشعلوا القلق من ذهابهم إلى ما ذهب إليه علي بلحاج في الجزائر من "أسلمة الفضيلة "، بحصر إمكانية صنعها في المنظومة الدينية: "لا فضل لجبهة التحرير الوطنية الجزائرية بتحرير الجزائر بل الفضل وكل الفضل للإسلام وفقط". نقتبس ثانية من مقال د. إيمان يحيى: "بعد انتصار ثورة 25 يناير بدت تصريحات قادة جماعة الإخوان وشيوخ السلفيين تروج بأن الثورة هي ثورة ربانية!، لا دخل لبشر في نجاحها".
أعلن مرسي نيته إرسال جيش مصر لمحاربة النظام السوري (ليس إسرائيل). أي أخونة مهام الجيش؛ "إن انحياز مرسي إلى الخندق الذي تقوده الولايات المتحدة في الأزمة السورية يذكر بتحذير مفكر الجماعة والقيادي فيها سيد قطب في مؤلف له بعنوان "إسلام أمريكاني" في أوائل عقد الخمسينيات من القرن العشرين من أن "الأمريكان وحلفاؤهم يريدون للشرق الأوسط إسلاما أمريكانيا. ليس هو الاسلام الذي يقاوم الاستعمار"(نقولا ناصر: حملة صليبية تاسعة).
مدهشة هي قدرة بعض قادة الإخوان على القيام بانعطافات حادة، تحول الصلابة المطلوبة للمصداقية إلى غاز مضطرب؛ في غزة وفي مشهد غير مسبوق فلسطينيا، قبل رئيس الوزراء، المقال، إسماعيل هنية يد الشيخ القرضاوي. فعل كشف مرجعية هنية الرئيسة. كان مشعل قد سبقه لحضن الشيخ القرضاوي الذي حرض على قتل القذافي وليس عزله، تاركا لقب نبي الثورة الليبية للصهيوني برنار ليفي، ونجهل ما أفتى به لمشعل وهنية.
واقعيا، تتواجد في طيف الإسلام السياسي جماعات أشد غلوا في احتكار التمثيل وشمولية الهدف واعتماد العنف من الأخوان، لكن ذلك لا يزيد ذلك الواقع إلا بؤسا. ولا يزيد حظوظ الأخوان إلا جفافا.
هم وبعد فقدهم السلطة في مصر، باتوا بحاجة ماسة لفعل يرفع من قامة حضورهم الميداني والسياسي لحماية الهيبة والمصالح. لكن وكما أخطأت قياداتهم في مصر فعلت في سوريا. لم تسمع في مصر صوت أهل مصر، ولم تسمع في سوريا حتى صوت شاهد من أهلها، الشيخ معاذ الخطيب، قال لها أن"هناك من يخطط لزوال سوريا من الوجود". فبدلا من أن تحرص على حماية سوريا أولا، أقله تيمنا بموقف مراقبها العام سابقا، الدكتور مصطفى السباعي من العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 (يوم حشد الجيش التركي مهددا سوريا المؤيدة لمصر)، ذهبت إلى الاتجاه المعاكس. شهدت الجماعة عبر تاريخها حوارا حول مفهوم الوطن ومفهوم الأمة، نحت محصلته إلى مسار يكرس وباطراد غلبة مفهوم الأمة على حساب مفهوم الوطن، ثم غدت الغلبة للقائلين بالجماعة نفسها، ثم بالمرشد وبعض "الصحابة"(13). ربما لذلك تصرفت كمن أنجز طلاقا مع السلام داخل نفسه ومحيطه، وسارت خلف أردوغان وأوغلو اللذين اختارا ما سيلحق ضررا بالغا بكل شعوب ودول المنطقة.
تبنى "أردوغان" قرار ومسؤولية الهجوم على كسب، إذ بشر وهنأ بإسقاط طائرة حربية سورية داخل الأرض السورية، وتوعد بالأعظم كي لا يدع مجالا للشك بأنها معركته. لاحقا وثق تسجيل سرب، طلب وزير خارجيته أوغلو من الاستخبارات التركية ترتيب ذريعة للتدخل عسكري واسع ومباشر في سوريا. هل جاءت حربهما على كسب، كرد فعل على خسارة الأخوان للسلطة في مصر؟ وعلى واقع بات يشير لتسارع انهيار حلم الأخوان وحلمهما بإمبراطورية؟ حلم بدت تفاحته لوهلة وكأنها باتت في متناول اليد.
يبدو الأخوان كمن يرغب بإسالة البنية المجتمعية والتاريخ والجغرافيا واللغة، ومن ثم سكب السائل ليتصلب في قوالب من صنعهم. في الفترة بين آذار وآب 2012، دعت قيادات الأخوان في تونس ومصر وفلسطين والأردن والعراق وسوريا، لتحرير ذلك الجزء من سوريا الطبيعية الذي لا تحتله إسرائيل من "الاحتلال"!(7). وثنى أمراء جماعات مسلحة بأنهم وبعد إسقاط نظام دمشق، سيزحفون على لبنان لتحريره ممن حرر جنوبه من جيش إسرائيل.
استخدموها ("الاحتلال") غير مبالين حتى بارتباطها التخصصي (والحليبي لأجيال) باستعمار بريطاني أسفر عن اغتصاب فلسطين، وبفرنسي وإيطالي (وحديثا أمريكي) لبلدان عرب ومسلمين! كذلك هو الأمر بالنسبة لمفردة "تحرير"؛ "نؤكد صريحة مدوية أن تحرير الأراضي من الاحتلال الإسرائيلي يبدأ من تحرير سوريا"( الشيخ رائد صلاح تموز2012). استخدام جائر للغة، منهج يطمر دلالات تاريخية اكتسبتها المفردات، ليلبسها ما يتفق مع رؤيا الأخوان السياسية حصرا. شارك "أخوان العراق" في أول حكومة شكلت في ظل الاحتلال. هل كانت صورة ذلك غائبة عن أردوغان، أو عن التنظيم العالمي للإخوان، الذي تمكن من إدخال أحمد منصور إلى الفلوجة ليغطي الهجوم الأمريكي عليها وطرح في السوق كتابا من تأليفه عن تجربته "البطولية" تلك؟
اختار "بلبل الدوح " كسب، رغم معرفته أن ثمة سوريون يحلمون بمسقط رأسهم في أنطاكية ومرسين، كما يحلم فلسطينيون بباحة دارهم وبياراتهم في حيفا وبيسان. لم تتوافر في قراره معايير العمل السياسي الرشيد (بغض النظر عن استعاد الجيش العربي السوري لكسب)، بل كان أقرب للعبة قمار، والمقامرة تفتح بوابات لريح سلبية قد تعصف بالدولة، فالعلمانية التي هي هوية للجمهورية التركية وأهم أعمدة قوتها، قد تبدأ بالانحسار لصالح الهوية الدينية كما حصل في إسرائيل بعد اغتيال رابين؛ إذ تراجع اليسار السياسي العلماني، قبل أن يضمحل، وشغل نتنياهو منصب رئيس الوزارة بدعم مباشر من الحريدية اليهودية، وانطلق الصراع بين العلمانيين المؤسسين تاريخيا للدولة الصهيونية، وبين الحريديين حول: هل إسرائيل دولة ديمقراطية علمانية أم دولة يهودية؟. بقي الجواب معلقا، وخرج نتنياهو من الحكم يلاحقه توصيف عزرا وايزمان له بأنه أكبر كذاب ومتبجح عرفته السياسة الإسرائيلية. انتخب الكذاب للحكم ثانية بعد حرب تموز، وبات ترسيخ الهوية اليهودية للدولة هم وزارته الرئيس في ظل انكماش حضور ثقافة اليسار واليمين العلمانيين لصالح ثقافة أخرى.
يمسك أردوغان وأوغلو اليوم بفرشاة تاريخية سترسم حركتها بعضا من ملامح مستقبل دول وشعوب المنطقة كلها. ليس هناك من مؤشرات تدعو للتفاؤل، فالجيش التركي قد ينفذ ما رغب مرسي لجيش مصر أن يقوم به، إذا تشبث الحاكمان بعزمهما استعادة تفاحة الحلم الإمبراطوري، متجاهلان أن تفاحة أسقطت آدم وحواء من الجنة، وأن أخرى "ذهبية" تسببت بدمار طروادة الأناضول.
عموما، تبدو المنطقة وكأنها أصيبت بـ"إيبولا" سياسي يفكك الدول العلمانية فيها. هل ستختار تركيا في عهد "أردوغان-أوغلو" مسارا مقاربا لذلك؟ هل ستنكمش العلمانية الأتاتوركية؟ نأمل أن لا يحصل ذلك.
لطالما لعب الإخوان بأوراق كثيرة، متجاوزين ما صرحوا مرارا بأنها خطوط حمر بالنسبة لهم. في ليبيا كان الشيخ القرضاوي والصهيوني برنار هنري ليفي في جبهة مضادة للقذافي، وهما جبهة في الصراع الدائر في سوريا. هل نحن عند استقراء السيد قطب لنشوء إسلام أمريكي؟ أم أن الواقع تجاوز ذلك؟
خسر الإخوان مبررهم السياسي التاريخي؛ إنجاز إصلاح ديني يثبت الوسطية (الاعتدال) كمنهج حاكم للإسلام السياسي. أجهضوا الوسطية حتى داخل تنظيمهم، فشلوا في بناء تشاركية سياسية أو ثقافية مع طرف آخر بسبب اشتراطهم التفرد بإمساك دفة قيادتها سواء في سوريا أو في مصر. وأسهموا في تدمير بلدان يحملون هوية صدرتها دولها..وانتقلت الراية إلى يد داعش وأخواتها. وتلك محرقة تبدو كالشمس في رابعة النهار، محرقة للشباب العربي والمسلم تحت رايات متعددة. ثمة من سيغذي كل الأطراف المتصارعة كي لا يتوقفوا وفي عروق أحدهم رمق(14).
ليس مقصد القول أعلاه، الإسهام في حملة تحريض من موقع قومي أو علماني ضد الأخوان. بل إضاءة أن مغادرة منظومة "مكارم الأخلاق"، التي يفترض بالمسلم أن يستفئ بها، بدفع من غايات سياسة واقتصادية قد يفضي لتناذر يهدر القيمة والهوية ليس للمغادر فقط، بل وللمجتمعات. تناذر قد يقود التيارات الإسلامية إلى تبعية مشابهة لتبعية أنطوان لحد. إلى غوص أعمق في مستنقع العنف، ما لم يصوب المسار. مؤكد أن من مصلحة الشعوب العربية والإسلامية حصول ذلك التصويب، وعودة كل المسلمين لمنظومة "مكارم الأخلاق". لكن الأمل بذلك يخبو وباطراد.
عموما، تتشارك القوى السياسية في الوطن العربي على اختلاف توجهاتها بجل عاهاتها، مع الاختلاف بمستوى الإصابة في كل منها.
7- "جنون وهلكة"
من الصعب الإحاطة بالخسائر أو إحصاؤها، لكن: في الحملة الشرسة التي شنت على الإسلام والمسلمين بعد الحادي عشر من سبتمبر، نشرت رسوم كرتونية مسيئة لنبي المسلمين(15)، وصور الإسلام كدين سيف ودم، وأنتجت عشرات الأفلام السينمائية لتشويه صورة العرب والمسلمين، وتبول جندي أمريكي على نسخة من القرآن الكريم، وكانت مكنة الإعلام الصهيوني تقف وراء ذلك. بدت واضحة ملامح مشروع استفزاز عميق وممنهج لمشاعر المسلمين، من شأنها أن تدفع شرائح شابة من المسلمين للتطرف. تصدى فنانون وكتاب عرب وعالميون (مسيحيون ومسلمون وملحدون) لذلك . في مواجهة تصوير الإسلام دين سيف ودم، استندت ردود على ما ورد في العهد القديم (يشوع 6: 21، 8: 1-2، 23- 25)(16)، حيث أمر الرب يشوع بقتل كل حياة في مدينة أريحا، سيف ودم، وعلى أن رب المسلمين وحسب ما أنزل على محمد (ص) هو، "الرحمن الرحيم"، "السلام"، "العدل"، "جميل ويحب الجمال". انفجر التطرف. وما قدمته جماعات الإسلام السياسي (نص النصرة نموذجا) حرر سفر يشوع من تفرده في تاريخ البشرية المكتوب. مرجح أنه لن تنفع نصيحة في منع حصول تفجر تسلسلي في مسار التنافس بين الجماعات الإسلامية المتطرفة على احتلال قمة جبل العنف.
هل استشف عبد الله المنصور الشافعي الخطورة الماثلة في تطور كذلك، فكتب في "الرد الرائق على بيان جبهة النصرة الصاعق": "يحومون حول جهاد الطلب !! رغم أن الآية التي استشهدوا بها هي في جهاد الدفع لا الطلب"، ويحومون حول استباحة دماء المرتدين ردة مغلظة جميعا أي نحو 3 مليون سوري ويبقى ربما نحو 15 مليون سوري سيحكمون بردتهم ردة مرققة أي يستتابوا ويراجع أمرهم حتى يقروا بأنه قاعد وأن له عينين اثنتين تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا(وقولي هذا مستفاد من فيديو مسجل لاياد قنيبي). ثم ما بالهم يخترمون الحديث فينقلون ما يوافقهم ويستترون عما يرجع على استشهادهم بالبطلان فقد ذكروا مآل ابن خطل وابن صبابة وتركوا عكرمة شهيد اليرموك وابن سرح فاتح مصر والميت وهو في سجوده وكلاهما ممن أمر النبي بقتلهما ثم عفا عنهما وكان في عفوه الخير كله ثم كيف يقاس حكم مفرد وواقعة عين على أمة من الأمم وقد نهى عن قتل أمة الكلاب !!! أيصح في عقل عاقل به أدنى أدنى مثقال من عقل الحكم بقتل النصيرية كافة وهل هذا ما تأمر وتهدي إليه كليات ومقاصد الشريعة وهل يترككم العالم أن تفعلوا؟ أي جنون وهلكة هذه التي تريدون إني أدعو إلى ما دعوت إليه من أمر الشيعة النصيرية وغيرهم من الفرق اليوم أن يعرض على جمعهم الإسلام فمن شاء دخل فيه آمنا ومن أبى حكم عليه بحكم أهل الكتاب والمجوس وليحكموا هم بنا كما حكمنا عليهم شريطة رفع السيف بيننا وأيضا أن لا يمنع منهم ولا يعاقب أحد إن يدخل في الإسلام وليس تحتمل الفتوى اليوم غير هذا وفي الأرض 200 مليون شيعي .أقول وأنا الذي نشأت ولا أذكر في حياتي كلها ومنذ ذكري للحوادث أني فوّت بفضل الله تعالى ومنته صلاة فجر في وقتها قط إلا أن أغلب نادرا بنوم أو تعطل منبه وأنا الملم بدين الله تعالى القارئ بالعشر أقول إن الميثاق خطوة غير كافية نحو حسن سياسة الاعتدال وما يتطلبه ويمليه الحال وهذا رأي عامة فقهاء وعلماء الشام ناهيك عن عوام المسلمين أفنرجع القهقرى لرأي غال لا والله لا يكون وإن كان فعلى الإسلام في الشام السلام لعقود صَمام (دواهي). والله الموفق وهو يهدي سبل السلام". واضح قلق الشافعي من بنية خرجت عن السيطرة إذ قال: "أي جنون وهلكة". حسن أنه قرع ناقوس الخطر، رغم أن المؤشرات على ما خشي منه على الإسلام في بلاد الشام، تبدت ومنذ عقود في العديد من البلدان العربية والإسلامية؛ ذبح بشر في الجزائر وعلق ملصق عن الحاجة ل "دباح" مقابل أجر، وفي مصر كفرت جماعة التكفير والهجرة وقبل عقود كل من ليس منها، وفي سوريا كتب الدكتور موفق السباعي:" السنة هم المسلمون، وهم أمة، وليست طائفة، وقد خاطبهم الله تعالى: وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةًۭ وَسَطًۭا لِّتَكُونُوا۟ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ البقرة الأية 143. ولهذا فإن الحرب في الشام هي حرب دينية مقدسة بين الإسلام والكفر والشرك والزندقة، بين المسلمين وبين المشركين الباطنيين العبيديين النصيريين الشيعة المجوس، بين الأمة الوسط وبين الأقلية الطائفة الحاقدة".
هل من حصيف يفوته أن الحرب المشار إليها بـ"المقدسة" تستهدف في المقام الأول الفوز بصولجان التحكم بأهل السنة والجماعة (اصطلاحا)، وأن الهجوم على الشيعة والمجوس ليس سوى جسرا للعبور؟
يضرب الفساد عميقا المجتمعات الإسلامية منذ قرون، تنافس خلالها كثيرون على امتلاك رأس المال الديني، والكتلة العظمى منه هي أهل السنة والجماعة، هي قلب المفاعل مصدر الطاقة الرئيس، تزداد حرارة القلب بسبب الفساد، وتحل الكوارث. تدفع لذلك الاحترار نخب فاسدة ومتعطشة لحيازة رأس المال الضخم إياه، مزيحة من طريقها وفي كل فورة فساد، بعض الصالحين والعلماء غيلان، عمر بن عبد العزيز (ر)، ابن المقفع، الكندي، ابن رشد، الكواكبي، علي عبد السلام، والقائمة طويلة جدا، مستخدمة فقراء المسلمين حطبا لنار شرهها. ثم تنقلب مكفرة بعضها البعض ولتقتل بعضها البعض، والبعض هم ودائما البسطاء. كم مرة حصل ذلك من قبل؟. هل سيتوقف ذلك إذا اختفت الأقليات أم سيتفاقم؟ هل تحسن الوضع المعيشي والأمني "للسنة" بعد تدمير تماثيل بوذا؟ هل المسلمات أكثر أمنا على ما كن عليه قبل انطلاق غزوات المجاهدين؟ وهل تغليف الأنثى بالأسود، هو التقوى؟ وهل البيعة بحد السيف هي الشورى؟
هز الشافعي ما شاهد في فيديو مسجل لـ"اياد قنيبي" فكتب عنه منذرا، وهز اغتيال الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي الشيخ معاذ الخطيب فكتب في23-3-2013 إلى رئيس وزراء قطر، الذي ولغ في دماء الليبيين والسوريين، رابطا استقالته من رئاسة الائتلاف بها، رسالة ستدفع غير باحث ليتساءل ومن ثم يبحث عن: هل كان الخطيب يشير وبشكل غير مباشر لمسؤولية حمد عن اغتيال البوطي؟ صمت كثيرون من اللذين لا يفوتون صلاة عمن نفذ الجريمة أو استطابها أو انتهج القتل كحل للاختلاف بالرأي، وعن مناشدة الشيخ القرضاوي للرئيس أوباما ضرب سوريا حبا بالله .. الخ. كان هناك الكثير تحت السمع والبصر مما يشير لتنامي ما يستحق القول "أي جنون وأية هلكة". هل يوم أنزلت الآية 143 من سورة البقرة، كان هناك من يسمون "سنة"؟. كان هناك الكثير مما يستوجب إدانة سياسات حمد وأردوغان حرصا على المسلمين والعرب من محرقة. شكل المسلمون والعرب في أوروبا والولايات المتحدة، بحضورهم الإيجابي في مجتمعات تلك الدول، تهديدا كامنا لعنصرية إسرائيل التي أدانها سبر للرأي في أوروبا قبل قرابة عقدين بصفتها الدولة الأكثر تهديدا للسلم العالمي. وهاهم في حالة حصار بفضل عروض العنف التي قدمتها التكفيرية الجهادية لكل العالم، في فن قطع الرقاب بالسكين والمنشار (اشتق مصطلح "فاشية" من شحذ حد السكين"). عروضا قدمت طرف حبل نجاة لإسرائيل ومستنقعا تغوص فيه المنظومة الأخلاقية الإسلامية، وخازوقا للسلم الأهلي، وصمت كثيرون طويلا. تعرض المسيحون العرب في الولايات المتحدة لحملات اضطهاد بعد الحادي عشر من سبتمبر ولم ينأوا بأنفسهم عن عروبتهم كاشفين ظهر المسلمين. هجر بعض المسيحيين من العراق بعد الاحتلال الأمريكي له، وقد وثقت منظمة "حمورابي لحقوق الإنسان" (العراقية) ذلك وحملت مسؤوليته للاحتلال، وهاهم يهجرون ثانية في سوريا والعراق على يد الجماعات الإسلامية، أو يخيرون بين السيف وبين دفع الجزية والخضوع لنظام ونمط حياة لا يسمح لهم حتى بإبداء ملاحظة حولهما. تباع النساء كسبايا وعليهم الإقرار بأن ذلك هو "الحق" و"العدل". أكد "وليام وردا" رئيس منظمة حمورابي لحقوق الإنسان: "على وجود مخطط كبير لتهجير المسيحيين من العراق"، وفي مقابلة مع إيلاف وجه له السؤال التالي: من تتهمون بتصفية الوجود المسيحي العراقي؟ رد وردا: "بدأ استهداف مسيحيي العراق عند دخول الأميركيين إلى البلد". وتساءل كرم الحلو من على صفحة جريدة السفير: "لماذا يضطهد المسيحيون الآن وفي ظل الاحتلال الأميركي بالذات؟ ولماذا لم يضطهدوا إلا في أزمات الانحطاط وفي ظل الاحتلال الأجنبي". وكتب علي محمد في جريدة النور(أيلول 2011): "يؤدي تهجير المسيحيين لتصحر المجتمعات العربية، ويخدم تطلع نتنياهو لتثبيت إسرائيل كدولة لليهود، ولعزمه على تهجير ما اصطلح تسميتهم بعرب 1948 منها. أي تهجير يمهد لتهجير".
نشرت قوائم تضمنت أسماء مئات العلماء العراقيين الذين قتلتهم الموساد الإسرائيلية في العراق بعد احتلاله، ويقتل العلماء في سوريا بيد خفية، ويتطبب بعض جرحى المنظمات الجهادية في مشاف إسرائيلية. ويشرعن فقهاء طلب التدخل الخارجي لإسقاط النظام السوري كما حدث في ليبيا.
"على الإسلام في الشام السلام"! حسن أن البعض تكلم، لكن ماذا عن الإسلام في العالم وقد دمرت الجماعات المسلحة وفتاوى فقهاء الجهاد قوته الناعمة، مستبدلة أمثولة محمد علي كلاي (رفضه قتال الفيتناميين امتثالا لأمر نبيه)، بمشهد من يأكل قلبا بشريا بعد التكبير وإلى جواره علم حمل نص الشهادتين؟ "قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق".
ماذا وقد حط الإسلام السياسي رحاله عند حاكمية الشيخ، وهم كثر؟
في نيسان 2014، نشرت صفحة "ثورة الأرض المباركة الشام" تعليقا وصفته بالهام لعبد الله منصور الشافعي على حملة "أنقذوا حلب"، جاء فيه: "إن جماعة السبعين (التي شكلت المجلس الوطني) ومنها إخوان سوريا وخاصة إخوان حلب وعلى رأسهم البيانوني والمغموص رمضان ومن لف لفهم وحبا حبوهم تأخروا في تأسيس المجلس ستة أشهر عن المدة التي لزمت الليبيون لتأسيس مجلسهم الانتقالي والسبب برأي أنهم كانوا يتوقعون فشل الثورة مما يعني لهم أن تأسيس كائن سياسي معارض للنظام سيقوض أحلامهم في مصالحة مع النظام يفرضها الواقع ثم ومع استمرار الثورة رأى هؤلاء أنه يتعين عليهم لزوما تشكيل هذا الكائن فأسسوه على طريقة توافق آراء بعض سفلة العلمانيين الخونة والقومجيين وزبد الفكر الصمودي والتصدي الأسدي المنافق فأقاموه على أساس يجهله كثير من أعضاء السبعين أنفسهم كما يفهم من مقولة نميت إلي للأستاذ غسان المفلح يُفهم منها أنه كان يجهل هذه الحقيقة الصارخة والتي لم أزل أنبه عليها استنباطا وقراءة للحال والفعال تلك هي قيام المجلس الوطني على أساس رفض التدخل الأجنبي بكافة أشكاله!، فكل ما تبجح به الخؤون برهان غليون عن حماية المدنيين والحظر والمنطقة العازلة كان مجرد كلام مساو تماما لكلمات قادة النظام في الكذب والبهتان وهذه حقيقة لا يمكن لأحد منهم أن ينكرها أمام عالم"(17). كتب الشافعي ذلك قبل أن تصدر الفرق الخمس ما أسمته "ميثاق شرف ثوري"، وكتب بعد إصدارها له: "أما دعوى النصرة بأن الأطراف الإقليمية لا تعمل إلا على محاربة الإسلام وأغفلوا الدولية وهم من يعيب على الميثاق اللبس والتناقض والغموض فإني أقول إن الأمة لا يمكنها الحياة بمعزل عن الأمم في هذا العصر فضلا عن محاربة العالم! ولا أدري لم جاز لابن لادن والقاعدة الحلف مع أمريكا لمحاربة روسيا ولا يجوز لنا؟! بل إن العدناني اتهم القاعدة بأمرها ترك قتال ايران فإذا جاز للقاعدة ترك جهاد أعدى أعداء السنة بالسياسة الشرعية أفلا يجوز لنا ما جاز لهم؟ أم أن دين الله تعالى فوض الله النظر فيه إليهم دون المسلمين!!". في كلام المنصور الشافعي ما يقلق أشد القلق. إذا كان تساؤله حول حق التحالف مع أمريكا قياسا بتنظيم القاعدة، يحمل رغبة بتحالف معها، وليس فقط رفض تفويض النصرة لنفسها كمتحدث باسم المسلمين. أبعد ما شهده العراق وأفغانستان على يد الإدارة الأمريكية يستطاب تحالف معها ؟ حلم كثيرون بمصالحة تاريخية بين شعوب المنطقة، بتكاتف الفرس والكرد والترك والعرب والأرمن و.. لبناء مستقبل زاهر بالطمأنينة والعدل، ويتبدى للمخيلة من عبارة "أعدى أعداء السنة" أعلاه، نقيع داحس والغبراء، وتذكر بقول المهلهل: "لا صالح الله منا من يصالحهم". ثمة سؤال لاحق لرفض الشافعي للنصرة كمتحدث باسم المسلمين، هو الأهم: هل يحق لشخص كائنا من كان، أن يتكلم باسم المسلمين، سنة أو شيعة، أو المسيحيين أو الكرد أو العرب أو الترك أو الفرس أو الأرمن جميعا؟ وإن أجاز أحدهم لنفسه ذلك الحق، فمن سيردع آخر عن الفعل نفسه؟ أليست تلك "الإجازة"، إن حصلت، وصفة لتكسير عظام كل شعوب المنطقة وبيد سكانها؟ مرجح أن ذلك ما اختير لها، وتنصيب الإتلاف كممثل شرعي وحيد للشعب السوري وبالنيابة عن السوريين. جاء لدفع السوريين "للجنون وللهلكة".
في نيسان 2013، كتب يزيد صايغ: "فما كان للائتلاف الوطني أن يظهر إلى حيز الوجود لولا عملية الضغط الواضحة –التي قادتها الولايات المتحدة رغم نفيها العلني لذلك- على المجلس الوطني". ندد الشافعي بـ"لمجلس الوطني" وألمح لقابلية التحالف مع صانع الائتلاف الوطني فهل تكمن العلة في أن أحصنة المجلس لم تكن أصيلة، رغم أن جلها قد بات يصهل في الائتلاف؟ وهاهي داعش وقد بايعت بالنيابة عن مليار وربع المليار مسلم أبو بكر البغدادي خليفة للمسلمين. جحافل من الساسة والفقهاء والأمراء وتجار الحروب. وكل ينطق بما لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه، وباسم الكل!! يا لها من متاهة تذهب بالحلم وتقود "للجنون والهلكة".
أزهقت أرواح كثيرة من النصرة ومن داعش في صراعهما الدموي حول راية من ستخفق على قمة جبل العنف. تنافستا في اكتشاف مساحات جديدة وواسعة لممارسة العنف، ومن أرحبها قتل المرتدين عن الإسلام. جاء في خاتمة بيان "النصرة"، وردا على الميثاق الصادر عن الجماعات المقاتلة الخمس في سوريا: "نذكِّر أننا ما كتبنا هذا البيان إلا نصحًا لله ولرسوله وللمجاهدين، كما نطالب الإخوة الموقِّعين بالرجوع عن البيان وتعديله وضبطه بألفاظ ومشاريع إسلامية واضحة بيِّنة، والله أعلم وأحكم".
ونعرض لبعض مما قالته داعش حول الأمر نفسه باقتباس من مقال لعبد الله سليمان علي نشر في جريدة السفير: "أمراء الجبهة الإسلامية" زهران علوش وحسان عبود وأبو عيسى الشيخ، مرتدّون عن الإسلام. هذا ما خلص إليه البيان الصادر عن «الهيئة الشرعية في الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش). ولم يكتف البيان بردة «الأمراء» بل أطلق حكم الردّة على جميع أتباع هؤلاء «الأمراء» ومقاتليهم بعد العلم بحال ردتهم، وهو ما أصبح ـ أي العلم ـ مثبتاً من خلال صدور هذا البيان المفصّل عن «الهيئة الشرعية»، وبالتالي لا عذر بالجهل بعد صدوره. وبحسب البيان فقد توافر ناقض من نواقض الإسلام وهو «تولي أمراء الجبهة للمرتدين وموافقتهم لما هم عليه من الكفر. وينتهي البيان إلى تقرير أن «الأمراء» لم يستوفوا أي شرط من شروط التوبة .. وينتقل إلى تقرير الحكم الأهم، وهو أن «كل من التحق بهؤلاء المرتدين بعد العلم بحالهم، وقاتل تحت رايتهم، فحكمُه حكمُهم سواء بسواء»، وبذلك، تتضح صورة القتال الدائر بين الفصائل المتشددة ضد بعضها البعض من وجهة نظر «داعش». فهو لا يعتبر القتال من قبيل «الفتنة ولا البغي ولا رد الصائل» وإنما هو «حرب ردة»، ومعنى ذلك أنه لا سبيل لانتهائها إلا بإعلان «أمراء الجبهة الإسلامية» كفرهم وتوبتهم عن هذا الكفر، وكما هو متوقع فإن ذلك لا بد أن يكون أمام قادة «الدولة الإسلامية»، لذلك يمكن القول إن هذه الحرب لن تتوقف بل سوف تشهد المزيد من التصعيد، خصوصاً بعد صدور «ميثاق الشرف الثوري» الذي اعتبره قادة «داعش» مثالاً جديداً على تمسك أمراء الجبهة بالكفر وإصرارهم عليه". واضح تفوق داعش على النصرة، رغم شدة الأخيرة (الدعوة لقتل 200 مليون). مؤخرا سجلت داعش تفوقا جديدا، هو تكفير المملكة العربية السعودية لأنها لا تأخذ بقتل المرتد. قياسا قد تكفر لاحقا كل الدول العربية، وصيغة التكفير حسب الهيئة التشريعية لها تشمل كل من لا يكفر من تكفره الهيئة بعد إطلاعه على حكمها، ويصبح دمه مهدورا، كما وضحت في حكم تكفيرها لزهران علوش ومن يتبعه. تطوير عاصف لمخزون بنك الأهداف بعد مبايعة البغدادي كخليفة للمسلمين، يتضمن رسالة للنصرة ولغيرها؛ لا أحد يستطيع مجاراتنا فاستسلموا وبايعوا . ثمة ميدان آخر للتنافس لا يقوم على ذلك "الكمي"، بل على "النوعي"، والذي لم تفت أهميته بصيرة فقهاء دولة الخلافة؛ اللذين قضوا من خلال الهيئة الشرعية بصلب عناصر (من داعش) تبين أنهم كانوا "أرقاء" (من رقة) بعض الشيء في مهام أوكلت لهم. فعل تبدت منه ملامح مشروع لرفع سقف قابلية ارتكاب العنف عند العناصر المقاتلة، وذلك ما تفعله مدارس إعداد المارينز. وهو أمر يستند إلى القناعة بأن العنف من الجواهر الرئيسة المكونة لطباع الإنسان.
8- بزوغ فاشية كونية
في الثلاثينيات من القرن العشرين، دار صراع بين الاشتراكيين والنازيين في ألمانيا على استقطاب الشباب الألماني، تحدث "رايش" الاشتراكي عن الجمال وعن الحرية الجنسية، وحرض النازيون حلم الفحولة وحيازة قوة استثنائية عند الشباب، وصولا لتحرير شهوة العنف وإطلاقها. وكسبوا. في الأربعينيات قصفت هيروشيما بالنووي، واغتصبت فلسطين، ولم تنتج سينما العنف الأمريكية مئات الأفلام وتذهب لحقل التشوه الشكلي القبيح في العقدين الأخيرين صدفة، بل لترويج ثقافة كونية هادفة وفق منهج معتمد؛ كن الأكثر توحشا، تمتع بحقيقتك وتألق. والهدف كان وقد نار العنف وصولا لـ"انفجار الفاشية الجديدة"، ولسلطة فاشية كونية سبق للروائي الأمريكي جاك لندن وقبل قرابة قرن من الزمن أن تنبأ بها في روايته "العقب الحديدية"، واستشف المخرج "وودي آلان" تصورا لها في فيلم حمل اسم "الطاغية"؛ إذ تنجح الشركات العملاقة بإنجاز ثورة تكنولوجية هائلة تمكنها من تحكم شبه مطلق بالبشر وترسيخ سلطتها على الكون، وفي كل صباح وكل مغيب يطل وجه الطاغية من قبة السماء على الجنس البشري.
هل نحن اليوم في نقطة على مسار يزحف نحو فاشية كونية قدمت بعض ملامح طغيانها حقبة جورج بوش-تشيني؟ تدمير بلدان عربية بضربات عسكرية، يعقبه انفجار لطاقة تدمير ذاتية فيها، ومن ثم الحيلولة دون تخميدها. لم يسرب مشهد أكل قلب بشري في سوريا صدفة، بل قدم تعبيرا عن منهج هدف تحرير شهوة العنف، ومن أجل ذلك دفع ليراه كل سكان الأرض. في 2013 وفي مدينة الباب السورية بريف حلب الشرقي، قضم جهادي سعودي من داعش نهد فتاة سورية في ليلة دخلته عليها بعد زواج أكره ذويها على قبوله. سيحرض ذلك شهوة كثيرين. محق من توجس "على السلام في الشام السلام لعقود صمام" ها نحن في مواجهة "جهاد الترحيل"؟
أطلقت داعش تصريحا يحاكي لكمة قاضية في وزن ثقيل الثقيل ولكل الفصائل الجهادية: "أيها الأوروبيون نحن قادمون إليكم"، وأتبعته بفعل أشد هولا: إعدام صحفي أمريكي على يد جهادي بريطاني المولد، كانت تعلم أن كل من في قيادة النظام العالمي سيفكر بذلك مليا. داعش وجهت دعوة لكثيرين ممن حشرتهم العولمة المتوحشة في قمقم الاكتئاب وانحسار الأفق، قالت لهم : بإمكانكم فعل ذلك وأكثر. في «لوفيغارو» الفرنسية 1/8/2014، كتب الخبير في النزاعات المسلحة جيرار شاليان: "الكلام على خطر «الاخطبوط الاسلامي» يشيع القلق في أوروبا، كأن عودة عدد ضئيل من المقاتلين الجهاديين الى القارة الأوروبية سيهدد استقرارها، ولا شك في ان أوروبا قادرة على مواجهتهم. لكن ما يثير القلق الفعلي هو مسائل داخلية أوروبية: الأزمة الاقتصادية المتناسلة الفصول منذ أزمة النفط الثانية والمتجددة قبل نحو عقد، وبروز اليمين المتطرف، والجو المشحون الذي ينفخ فيه اضطراب منطقة الشرق الاوسط (سورية والعراق وغزة) فتؤدي أي حادثة تنتهي الى وفاة أحدهم، الى شغب في بعض أوساط شباب الضواحي. وهذه أبرز مشكلات الجمهورية الفرنسية. والإسلام ليس الحل في هذا المعرض، بل ان السبيل المفضي إلى الحل هو التنمية الاقتصادية والتعليم، وهذا يصح، كذلك، في الصين والهند وتركيا".
كم هو حصيف وشفاف تعبير: "الأزمة الاقتصادية المتناسلة الفصول". في فصل توج نهاية حكم جورج بوش الابن، سكن أفراد من الطبقة المتوسطة الأمريكية خياما في ضواحي المدن بعد أن خسروا منازلهم، وقالت سيدة أمريكية في مقابلة تلفزيونية أن عليها أن تختار إما تدفئة المنزل أو تقديم العشاء لأسرتها. هناك ملايين من الشباب في الغرب يعانون فقدان الأمل بحياة مستقرة، ومن عبودية جديدة يفرضها النظام الاقتصادي، نمو النازية الجديدة واليمين المتطرف وجماعات الهوليكانز لم يأت من نزوع للفانتازيا، بل من تلك "المتناسلة الفصول" التي ضربت قبضتها مؤخرا شوارع اليونان وإسبانيا.. وتنتظر اللكمة دول أخرى. فصول أنتج تعاقبها قدرا لا بأس فيه من الجنون الكامن. لطالما اقتبس البشر، وثمة في امتلاك امرأة بالتكبير ثلاثا كما حصل في سوريا، ما يذكر بالغرب الأمريكي حيث امتلك قادم من أوروبا قطعة أرض بوضع علم يمثله فوق ترابها، ومن اعترض من السكان الأصليين قتل. محتمل أن يقتبس شباب في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية من "داعش" ما يطورنه بطريقتهم وبلا عباءة إسلامية. ذلك بعض ما تخشاه المجتمعات الديمقراطية ليس فقط لأنها خبرت من حقبتي المكارثية وبوش، أنها ستدفع بعضا من حرياتها المدنية واقتصاد عيشها على شكل ضريبة للإدارات الحاكمة مقابل حفظها للأمن، بل ويقض مضجعها سؤال: هل ما تصبو إليه شركات نمت في عهد بوش تشيني خارج النظم، وبات نفوذها حاكما في مفاصل هامة، هو تلاشى الديمقراطيات وانتعاش الإرهاب والديكتاتوريات من أجل استلاب مفتوح؟ وهل ستكون المجتمعات الأوروبية من بين من سيدفعون ثمنا باهظا؟ أقتبس من نص نشرته مجلة شرفات الشام، في3-10-2006 تحت عنوان "الذبابة والمستحاثة والضفدع": "في مطلع ستينيات القرن العشرين قدمت سينما الخيال العلمي الأمريكية قصة عالم يتوصل في مختبره لإمكانية تفكيك الأجسام إلى بلازما ومن ثم نقلها وبسرعة الضوء ليعاد تجميعها في حجرة أخرى!. يقرر العالم إجراء التجربة على نفسه فيدخل حجرة التفكيك غافلا عن ذبابة تدخلها برفقته، ليغادر حجرة التجميع برأس ذبابة وتغادرها الذبابة برأس العالم!. ويصبح البحث عن الذبابة لإعادة الاختبار وتصويب الخطأ، هو الدراما الحاملة لأمل استعادة الإنسان لرأسه الذي خسر. بعد أربعة عقود تناول الفكرة مخرج آخر. في هذه المرة يخرج العالم من الحجرة الثانية كما دخل إلى الأولى ويزف بشرى النجاح إلى حبيبته. تمر أيام فيلحظ العالم ظهور تغيرات في جسده لا يملك تفسيرا لها. أخيرا يدرك أن ذبابة قد شاركته التجربة. وأن اندماجا جينيا قد حصل أثناء التجربة، وأنه يتحول بيولوجيا إلى ذبابة. غاب الأمل الذي كان متوافرا قبل أربعة عقود؛ فتفكيك الاندماج الجيني الحاصل كشرط لاستعادة العالم(أي الإنسان) لنفسه هو فوق الطاقة العلمية الراهنة للإنسان. لكن المرأة (الحبيبة) تتمسك ببقايا من تحب البقايا التي تضمحل كل لحظة وتقول للحبيبة: "الذبابة حشرة والحشرة لا تعرف الدبلوماسية، إنها تقتل وحسب وقريبا سأصبح خطرا عليك". في النهاية تكاد عملية التحول أن تكتمل، ومرة ثانية يصدر عن ما تبقى من الإنسان في ذلك التكوين الحديث الولادة؛ يصدر رجاءه للحبيبة بتدمير الحشرة والتخلي عن العالم الذي وظف علمه (من غير دراية) لتحويل الإنسان إلى حشرة، أو لتقاد حضارة الإنسان من قبل حشرة. ربما هذا ليس خيالا علميا، ربما هو بعض الواقع اليوم. ترى هل دفع الإنسان نفسه عبر بوابة لا يملك شرط الرجوع منها؟ مقولة أن"الإنسان ظل حاسوبه" باتت رائجة اليوم، و"شركة الحاسب "باتت تصورا مطروحا كشركة للمستقبل، وعمليا بدأ إنتاج" ثقافة البؤبؤ" (ربط بؤبؤ العين بكبل معلوماتي كل الوقت) كبديل للثقافة الإنسانية القائمة على علاقة مباشرة مع الطبيعة والحياة.
من انتخب الفاشية اللينة ( (SOFT FACISM ؛ فاشية الحاسب لتبسط سيطرتها على كل تفاصيل الحياة البشرية؟! هل بات قرار الذات الحاسوبية حاكما؟ وهل من حضور ولو صغير في تلك الذات للتعاطف أو للتسامح؟
في الماضي الرأسمالي، صاغت الشركات نظمها بحيث يكون القرار بيد مجلس الإدارة الذي يخضع لقرار أغلبية المساهمين، وقد عرف بعضها نمطا من العلاقات الإنسانية قبل أن تضمحل قواها أمام شركات أخرى لا تقيم وزنا سوى للفوز في لعبة الصراع! لعبة كرست التوحش عبر افتراسها لنظم ولمعايير النمو، وخلق مناطق حره يجري فيها شل الضوابط ذات البعد الإنساني تدريجيا. -هل غدت الشركة العملاقة كائنا له عضوية؟ ذاتا تحتوي مجلس الإدارة والمساهمين؟ من يقدر اليوم وفي شركة عملاقة على معارضة رأي صاغته الجهود المشتركة لآلاف ألحواسيب المتطورة( بعضها يوصف بالذكي) التي "لا تعرف الدبلوماسية "؟
هل حصل الاندماج الجيني بين المؤسسات الحاكمة وبين أدواتها؟ وإلى أي حد نمت الحشرة في ذلك الجسد؟
هل تحولت الديمقراطية إلى عملاق روحه ليست بين جنبيه، بل في حاسوبه؟
في مستنبتات تلك المناطق تطورت الشركات العملاقة وقد أزيحت السقوف. لاحقا اندمجت الطاقة المالية والاقتصادية لتلك الشركات مع طاقة الذات الحاسبوبية التنظيمية والإدارية والبحثية الخارقة فانبثق وحش العولمة التي لم تعجز النظم السياسية عن كبحه وحسب، بل صارت تعمل لصالحه لا لصالح الأمم التي تمثلها، وباتت البشرية تحت رحمة تناغم رفيع المستوى لمطرقة المناطق المحررة من سيادة القانون وسندان الذات الحاسوبية".
فتح انفجار الفاشية الجديدة بوابات العنف ضد الإنسانية والطبيعة على مصراعيها، ذلك هو التحدي الرئيس للجنس البشري. ثمة حديث لمدير مركز أبحاث روسي بثته قناة روسيا اليوم قبل حرق البوعزيزي لنفسه، نوه إلى أن أحد مشاريع ربابنة تلك الشركات هو تقليص عدد سكان الأرض، وأن رقمهم المفضل لعدد سكان روسيا هو 35 مليون نسمة. وثمة صراع في الولايات المتحدة الأمريكية حول اعتماد برنامج ضمان صحي، تطالب به هيئات المجتمع المدني وتعارضه بحزم شركات العولمة المتوحشة. يطرح سؤال نفسه: هل تشكل بعض الجماعات "الجهادية" بعلم أو جهالة، أجزاء حصان طروادة إسلامي لاختراق أسوار الديمقراطيات الغربية، وتقويض قلاعها وصولا لنظام فاشي كوني يمكن الشركات الحاكمة من استلاب عميق لسكان البلدان الديمقراطية لامتلاك "ساعة اقتصادية" لا تعرف "الرحمة" ولا "الدبلوماسية"؟ هل ستجهض داعش وأخواتها مشروع الضمان الصحي في الولايات المتحدة الأمريكية، وتدفن دعوات حماية البيئة مما تنتجه شركات العولمة المتوحشة من تخريب لها؟ وثمة محاضرة ألقاها كيسنجر في جامعة هارفارد عام 1964 وأوصلته وبيد أحد أولئك الربابنة ليصبح وزير خارجية الرئيس نيكسون، قال فيها ما مفاده: لن نعدم الوسيلة للقضاء على فائض سكان العالم الثالث عندما تنتفي الحاجة إليهم. ستفكر المجتمعات الغربية مليا، وقد ترفع بعض هيئاتها قبعات تحية لرواد منها دأبوا على التظاهر كلما اجتمع قادة "النظام العالمي" مطالبين بحماية البيئة ووقف مكنة توحش أنظمتهم، وقدموا "شهيدهم" الأول في إحدى ساحات مدينة روما.
أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية "الفوضى الخلاقة"، وهاهي تعاني وكل حلفائها من انفجار تلك الفوضى، والعجز عن احتوائها. الكل في أزمة شبه خانقة، والكل يبحث عن ما ينقذه من خسائر فادحة باتت ملامحها واضحة. يضع ذلك العالم أمام خيارات منها، رفض تصويب السياسات والاستراتيجيات التي أنتجت الأزمة الكونية الراهنة. وذلك سيولد مزيدا من عواصف الفوضى، ومنها القبول بالتشاركية في الربح والخسارة. سبق لروكفلر أن نصح الإدارة الأمريكية بشراء نخب اليسار عوضا عن محاربتها، وكان أن اشترت جل نخب اليسار واليمين، خصوصا في البلدان العربية والإسلامية أسرفت في استئصال الفكري والسياسي بطريقة تذكر بالعقل الذي قاد قرار الصين لاستئصال العصافير لحماية محصول الأرز (حلت به كارثة). كذلك فعلت الأنظمة العربية "العلمانية".. قوضت الحضور الثقافي للعلمانية والسياسي لليسار، فانطلق إعصار داعش وأخواتها لاستئصال حياة كل من لا يخضع لهم.
"على الإسلام في الشام السلام لعقود صَمام". هل سيقتصر احتمال ذلك الوداع الحزين "لحبيب غال" على بلاد الشام وحدها؟ وإلى أين سيهاجر الإسلام و"لعقود صمام"؟ احتلت "الهجرة" مكانة مرموقة في فكر الإسلام السياسي المعاصر. وهاهي الشعوب تهاجر أو "تنزح". راهنا..أطلق اسم المهاجرين على جهاديين قدموا لسوريا من بلدان كثيرة؛ "فيا أيها المهاجرون هذه أرض الشام فسيحوا فيها". وقد ساحوا فيها.. ليس بكلمة طيبة كالتي خاطب بها جعفر بن أب طالب ملك الحبشة في معرض رده على عمرو بن العاص، بل قتلا وتدميرا وتهجيرا لسكانها الأصليين. و"المهاجرون الجدد" اختيارا.
قوامون على "الأنصار الجدد" قسرا، "فسوريا ليست للسوريين والعراق ليس للعراقيين"، كذلك قال صوت دولة الخلافة داعيا المسلمين في كل المعمورة للقدوم إلى سوريا والعراق. قالت الحركة الصهيونية: "كل يهودي هو مواطن في دولة إسرائيل"؟ هل ترسم دولة الخلافة مصيرا للسورين والعراقيين مشابه لمصير الفلسطينيين؟ سبق أن استوطن مهاجرون من أوروبا قارة أمريكا الشمالية، وقبائل بدو عربية بعضا من موريتانيا، ومهاجرون من بريطانيا جنوب أفريقا. والاستيطان هو الاستيطان بغض النظر عن الراية المرفوعة. للإسلام السياسي عموما مشروع عام هو إقامة دولة الإسلام؛ "الإسلام دين ودولة"، "الإسلام هو الحل"، "أستاذية العالم"، "الانقلاب العالمي الشامل"(18).. الخ. تتشبث أدبيات جماعات الإسلام السياسي بفرض ما تراه تلك الجماعات صوابا على الآخرين، وبالقوة القاهرة إن لزم الأمر عند جلها. نقتطف من تصريح لقائد لواء الإسلام محمد زهران علوش: "وقد كانت غايتنا منذ البداية تحرير سورية من العصابة الحاكمة، وإقامة الدولة التي تجعل القرآن والسنة دستورها، وتحكم الناس بالعدل، وليس لنا أي مرجعية إلا علماء الإسلام الربانيين على اختلاف بلدانهم وأقطارهم. ونحن اليوم نسعى بكل ما أوتينا من قوة لتحقيق هذا الهدف وحماية الجهاد من الانحراف وحفظ ثمرته من السرقة"(19). ومن بيان للطليعة الإسلامية المقاتلة: "أيها الكيانات السياسية: اعلموا أن الثوار في الداخل هم أصحاب الكلمة والفضل والتضحيات الكبرى، فمن أراد منكم أن يعمل على هذا الأساس فهو مأجور وإلا فهو منبوذ من صناع الثورة، ولن يكون لأية دولة أو منظمة ولايةٌ على إرادة أهل الشام". "إنها الحرب"، كذلك أجاب قيادي في جماعة إسلامية، تصنع "الثورة"، على سؤال طرح حول قرار قصف أحياء سكنية في المدن السورية، وقطع الكهرباء والماء عنها. ضاق صدر التنظيمات الإسلامية التكفيرية المحاربة، والمتحاربة، بقوى المعارضة السياسية بـ"الممثل الشرعي والوحيد لسوريا"، بمن راهنوا على الضربة العسكرية الأمريكية وذهبت ريحهم في خريف 2013. فقالت كفى، وجهر كل بمشروعه ونهجه وأسلوبه، من البوكمال والرقة إلى دوما والجولان، حروب. وكل على كل من لا يخضع لسلطته. في دوما اعتقلت المعارضة رزان زيتونة في سياق رفسة من السعودي للقطري والتركي، والضحية سوري كما العادة. وكتب المعارض البارز يسين الحاج صالح، أنه تخفى في مدينة الرقة (مسقط رأسه)عن أعين داعش، بدرجة تفوق تخفيه عن عين النظام في دمشق. واقعيا، كانت عوامل ومؤشرات تفكك الروابط بين الشركاء المحاربين للنظام كامنة تنتظر لحظتها، كما روابط أطراف إعلان دمشق في تاريخ سابق. هم يمثلون"إرادة أهل الشام"، والإئتلاف "ممثل شرعي ووحيد للشعب السوري"!! إسلام سياسي متعدد الرؤوس ولكل رأس مرجعيته، ومعارضة سياسية متعددة الوجوه، ولكل وجه ملقن. وذاك وهذا كلمة سواء وشورى وديمقراطية وثورة!!
9- "لا خير في حق لا يحيا إلا بحد السيف"، عمر بن عبد العزيز (رض)
"السلطة مفسدة"، كذلك قال أحدهم، والسياسة تفسد الفكر إذ تنحى بجل طاقته نحو السلطة. قدم في السياسة وأخرى في الفكر. حالة نحى الكواكبي وأمثاله بأنفسهم عنها، ونحسب أن الدفع لإنقاذ البلاد والعباد من "الجنون والهلكة" قد يرتقي كما ونوعا بمغادرة النخب لبوتقة السياسة الفاسدة بامتياز ومنذ قرون مديدة، إلى موقع يتحرر فيه القول والفعل من سطوتها.
نظريا، تكمن فرص تغيير منحى ذلك المسار المهلك، في قيام نهضة ثقافية سياسة اقتصادية، تمكن المجتمعات من تحرير طاقة كافية لتفكيك خطوط إنتاج صناعة التكفير والاستبداد والتخلف في آن معا، وعزل مؤثرات ذلك الثالوث، ما أمكن، عن آليات صناعة المستقبل، بدءا بفصل الدين عن الدولة، وبكون الإنسان الفرد معرفا بذاته تعريفا محميا بقانون نافذ، يضع تلك القيمة في موقع لا يطال من يد العقائد أو يد السلطة الحاكمة. والتأسيس لتشاركية مجتمعية تدير عجلة الحاضر، وتعمل لصنع مستقبل لا يتيح فرصة لأحد أن يتكلم باسم الكل، ولا لفريق أن ينصب كمثل شرعي ووحيد لشعب ما، أو لجماعة أن تبايع وبالنيابة عن مليار وربع مليار مسلم شخصا ما خليفة للمسلمين، ولا لحاكم أن يفسد ويستبد ويطغى.
يا لها من صيغة خطابية برعنا باستنباط أمثالها.
عمليا، بات تلك الفرصة في ذمة التطور، تطور المجتمعات بكيفية ما لحالة تمكنها من تخميد بركان التدمير الذاتي الذي انفجر، لإنقاذ نفسها من فيض متنوع من "الجنون والهلكة"، فالقوى السياسية الراهنة باتت محكومة بآليات تجعلها عاجزة عن إخراج مجتمعاتها من بطن ذلك البركان، ناهيك عن أن بعضها حشر نفسه في ذلك البطن منذ عقود ومده بما يفعل فورانه، معتقدا أن الحمم ستنهال على خصومه فقط.
في الغرب مافيات، وداخل إناء المافيات نمت آليات أزاحت من هم أقل عنفا، لكن وجود قضاء مستقل وصحافة حرة نسبيا ومؤسسات وجيش وطني وهيئات مجتمع مدني تراقب وتصوب، حمى الدول الغربية ومجتمعاتها من تناذر العنف المافيوزي.
في العراق وليبيا وسوريا حيث بالكاد بزغت بعض هيئات مجتمع مدنية نخرت حلويات السفارات جل أسنانها، ولا حضور لسلطة قضائية أو صحافة مستقلة. وجه رأس الحربة للجيش الوطني وللسلم الأهلي، للمؤسسات الخدمية الرئيسة.. للكهرباء والماء والوقود والنقل والصحة والتعليم والسكن والزراعة.. لكل ما تقوم عليه الدولة أو يحمي وجودها. لماذا؟
رغم كل ما تعرضت له الدولة والمجتمع في سوريا والعراق من تهديد لوجودها واجتماعه، تقهقرت الشفافية التي هي حبل نجاة للدولة وللمجتمع، وتقدم الفساد الذي هو حبل مشنقة لهما!! لماذا؟
"لا خير في حق لا يحيا إلا بحد السيف"، عمر بن عبد العزيز (رض).
الهوامش
(1) نشر النص في "بيت العودة للبحث والخيارات"، وهو جزء من كتاب سيصدر تحت عنوان: "موجز عقد من الزمان.. عقد الحريق العربي"
2-حسب "سمير أمين، ومن بحث له تحت عنوان: "الإسلام السياسي في خدمة الإمبريالية الإمبريالي:" " على أرض المسائل الاجتماعية الحقيقية يقف الإسلام السياسي في خندق الرأسمالية والإمبريالية المهيمنة، إنه يدافع عن مبدأ الطبيعة المقدسة للملكية، ويجيز عدم المساواة وكل متطلبات إعادة الإنتاج الرأسمالي، ودعم الإخوان المسلمين في البرلمان المصري للقوانين الرجعية الحديثة التي تعزز حقوق ملكية المالكين على حساب حقوق المزارعين المستأجرين (أغلبية الفلاحين الصغار) ليس سوى مثال بين فئات أخرى. لا يوجد مثال ولو قانوناً رجعياً واحداً في أي بلد إسلامي عارضته الحركات الإسلامية. زيادة على ذلك، مثل تلك القوانين تقر وتنشر بموافقة قادة النظام الإمبريالي"
رغم كون المملكة العربية السعودية والمملكة المغربية حليفتان متينان للإمبريالية العالمية، وكذلك شأن آخرين، فإننا نتحفظ على التعميم، فقد عرف تاريخ البلدان نضالا ضد الاستعمار "القديم"، على قاعدة فكرية إسلامية ووطنية، ومرجح أننا وعلى "أرض المسائل الاجتماعية الحقيقية" حسب تعبير سمير أمين، لن نجد فيضا لمواقف شفافة في سجل قوى عربية اشتراكية وقومية. راجع: "عروبة اللغة الأمازيغية وإيديولوجية النزعة البربرية الاستعمارية"، بقلم الدكتور عثمان سعدي.
3- حسب محمد سيد رصاص: "بدأت الاتصالات بين التنظيم العالمي للأخوان وواشنطن في عام /2005/ بعد قطيعة استمرت منذ انتهاء تحالف الإسلاميين مع الأميركان عقب انتهاء الحرب الباردة 1947-1989 ضد السوفيات، لما اختارت واشنطن الأنظمة العسكرية في مصر مبارك وتونس بن علي". ووثق رصاص لدعوات علنية لتدخل عسكري خارجي، في مقالة حملت عنوان "تبلور نزعة المراهنة على الخارج في المعارضة السورية".
4- من بحث له حمل عنوان"الأسباب الفكرية لفشل الأخوان المسلمين"، نشر بعد عزل مرسي.
5- هو أستاذ علم اجتماع التنمية بجامعة الإسكندرية، وعنون بحثه:" أيها الأخوان احذروا سلوك الصهاينة".
6- من بحث له بعنوان "الشيخ التقليدي والمثقف الحديث".
7- من بيان إعلامي رقم(9) لجبهة النصرة.
8- وثق فيصل دراج الفقرة كما يلي: سعيد بنسعيد. الأيديولوجيا والحداثة، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1987، ص113.
9- كتب إيان جونسون: "الفيدرالية الإسلامية"، تشكلت لتضم منظمات الإخوان المسلمين في كل من (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، أسبانيا، يوغسلافيا، النمسا، اليونان، هولندا، رومانيا، سويسرا) وأصبحت الفيدرالية الإسلامية المظلة لحوالي عشرين منظمة ذات روابط ثقافية وتنظيمية بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وبعبارة أخرى أصبحت الفيدرالية الإسلامية فرع أوربا من قيادة التنظيم الدولي للإخوان. تلا تأسيس الفيدرالية بناء سريع للتنظيم الجديد، فأحدثت الفيدرالية (معهد دراسات العلوم الإنسانية) الذي تم تصميمه لتدريب اللائحة والنخب الإسلامية وفي العام 1997 أحدثت (المجلس الأوربي للفتوى والأبحاث) كما انشأ (الصندوق الأوربي) لتأمين الأموال اللازمة لتغطية نشاطات الجماعة، إلى جانب دور (الفيدرالية كشركة قابضة) تعمل على إدارة مشاريع الجماعة وكان الممول الرئيسي للفيدرالية (مؤسسة مكتوم الخيرية) وهي مجموعة مقرها قطر ولها علاقة وثيقة مع جماعة الإخوان المسلمين. وقامت الفيدرالية بالحوار مع الفاتيكان والاتحاد الأوربي وهذا ما جعلها منظمة تدير وتقود التنظيم. الدولي للإخوان وتقوم بتمثيله دبلوماسياً وتستثمر وتجمع وتحصل على التمويل من الدول والجهات الراعية والمرتبطة بها كقطر والسعودية، وأجهزة أخرى، وهذه نقله في التنظيم الجديد تعطي لجماعة الإخوان الجديدة إمكانية التحرك والاستمرار". وفي مقال تحت عنوان "التقرير الممنوع نشرته مجلة الوعي العربي" أنقل هنا معظم المعلومات عن مدوَّنة «ابن مصر» التى استندت إلى الدكتور حسين شحاتة أستاذ المحاسبة بجامعة الأزهر والخبير الاستشارى فى المعاملات المالية والشرعية والخبير المالى لجماعة الإخوان، وفقا لما يذهب له كثير من المصادر، وهو بالمناسبة عضو بالجماعة وكان متهما أمام المحكمة العسكرية مع خيرت الشاطر وعبد المنعم أبو الفتوح فى قضية 1995، لكن المحكمة قضت له بالبراءة!
تحصل الجماعة على نصف مليار دولار نسبة عائد على استثماراتها فى دبى وتركيا وهونج كونج التى تصل جملتها إلى مليارَى دولار، ويتم تحويل هذه العائدات سنويا فى صورة سندات فى بنوك سويسرية. وتملك الجماعة، فضلا عن استثماراتها فى الخارج، كذلك عشرات الشركات فى مجالات التسويق والسلع المعمرة والعقارات والمقاولات والأوراق المالية والمدارس والأبنية التعليمية والملابس والأغذية والاتصالات والبرمجيات والمستشفيات والتصدير والاستيراد والطباعة والنشر وغيرها، وهو ما يعنى بوضوح يراه الأعمى أننا لسنا أمام جماعة سياسية فحسب بل أمام شركة قابضة تستخدم المال فى السياسة، ولها مصالح مباشرة فى كل قانون سيصدر من مجلس الشعب يخص أى فرع من فروع الاقتصاد والمال، مع ملاحظة أن هذه الشركات قابلة للتوسع الجنونى بعد تمكن الإخوان وتمكينهم من السيطرة على مقاليد الحكم!
أحد الفروق الطفيفة إذن بين الحزب الوطنى الذى كان يحكمنا والإخوان الذين يحكموننا الآن أن الوطنى حزب تحول إلى شركة، بينما الجماعة هى شركة تحولت إلى حزب، والثابت فقط أن المواطن هو الزبون"، كما كشفت مصادر روسية وأمريكية أسماء عشرات من كبار رجال الأعمال السعوديين والخليجيين اللذين يمولون داعش.
10- راجع مقالة نقولا ناصر "حملة صليبية تاسعة بواجهة إسلامية".
11- راجع، هجر للموضوعية وتهجير للعقلانية وجبرية ترتدي ثوب الحداثة، علي محمد، كلنا شركاء.
12- في آب 2014 وتحت عنوان مأساة أم الصبي الحقيقية، كتب سمير العيطة: "لقد تمّ جرّ ثورتنا رويداً رويداً من حلم المساواة إلى طروحات الأغلبيّة والأقليّة. ومن يُدعَون بالعلمانيين هم أوّل المسؤولين عن هذه الطروحات الطائفيّة والاستشراقيّة، مسلمين كانوا أم غير مسلمين".
13- قالت روزا لوكسمبورغ "أن الأحزاب الشيوعية تحط الرحال عند ديكتاتورية الأمين العام".
14- قدمت مؤسسة مالية تعود ملكيتها لجد الرئيس الأمريكي جورج بوش قروضا مالية لمصانع كروب الألمانية قبل الحرب العالمية الثانية، وتابعت ذلك حتى بعد إعلان أمريكا الحرب على ألمانيا.
15- "إلى أمير الدنيمارك هاملت.. من عربي مسلم " آلمتنا الرسوم كثيرا: محمد ليس نبينا فقط، إنه حبيبنا، ونحن نذكره عندما نشم رائِحَة عَطِرَهْ، وعندما تجود الأرض بغلالها، وعندما نرى للمرة الأولى طفلنا الوليد ونحن لا نفعل ذلك كطقس ديني، بل هو سلوك عفوي حر. ومحبة نسائنا لمحمد تفوق ربما محبة رجالنا له، فقد حابى محمد المرأة: حرم وأدها رضيعة وحض على تعليمها طفلة، ونصح زوجها بملاطفتها ومداعبتها وإرضائها جسديا، وكفل لها كامرأة حقوقا مالية لم تكن موجودة من قبله، وفضلها كأم على الأب.
في رسائله من السجن إبان الاحتلال البريطاني للهند كتب جواهر لال نهرو لابنته أنديرا غاندي: "تعرفين أنني ملحد، إلا أنني لا أملك إلا أن أقول لك أن محمدا هو فوق البشر".
لا أسوق ذلك للفخر بمحمد، بل للإشارة إلى عظمة نهرو، الذي تتلمذ على المهاتما غاندي. غاندي الذي دخل إضرابا عن الطعام مرتين في حياته احتجاجا على العنف. لقد غضب المسيحيون في بلادنا كثيرا بسبب تلك الرسوم، فمحمد هو أحد العناصر الرئيسة المشكلة لهويتنا التاريخية (الفردية والجمعية)، وكذلك عيسى المسيح. وستجدون امرأة مسلمة تدعو السيدة مريم العذراء أن تساعد طفلها على الإبلال من مرضه.
لقد دعا محمد لمحاربة الطمع، والجشع، والحسد، والغرور، وتلمس التواضع والصدق ومحبة الآخر، وأن لا ننسى نصيبنا من الدنيا، فهو وكما السيد المسيح مع: "وعلى الأرض المسرة". لكنها مسرة للجميع، وليست لأحد دون الآخر، مسرة تلمست حقوق الأحياء من غير البشر:"لا تجعلوا بطونكم مقبرة للحيوان" (علي بن أبي طالب رابع الخلفاء المسلمين).
إن الجهد الذي يبذل اليوم: سياسيا وثقافيا وإعلاميا، لتكريس أن الإسلام هو حاضنة الإرهاب، هو خديعة كبرى تصنع وتسوق مستهدفة البشرية جمعاء، وعلى كل محبي السلام في العالم العمل على تعريتها ومواجهتها. إنها الخديعة الحديثة التي يصنعها بعض سادة العالم، لإعاقة التيار المناهض للعولمة "المتوحشة"، كي لا يتطور إلى قطب مدني يواجه قطب القوة الأمريكية خصوصا، وأقطاب السلطات عموما.
16- الإسلام عدو لحضارة الغرب، والإسلام فاشية، والإسلام إرهاب، كلها لازمات لتسويق سياسة فتح قنوات لهدر طاقة البشر، كي لا توظف في ما هو مثمر ومفيد.
- لماذا الإرهابيون هم من المسلمين؟! سؤال يطرح اليوم، وهو جدير بالإجابة عليه.
هل نتجاوز ضرورة وأهمية التوافق الدولي على تعريف موحد للإرهاب، ونقبل بأن يكون احتكارا، كما كان طريق الصعود إلى الجنة يوما ما؟!
عرضت الرسوم محمدا كإرهابي، فهل هو كذلك؟ سبق لحكومة جلالة ملكة بريطانيا العظمى أن اعتبرت جورج واشنطن وغاندي ومانديلا إرهابيين، فهل هم كذلك؟! البعض منا متطرف، هذا صحيح . لكن : هل يخلو مجتمع من متطرفين؟! أوليس التطرف منتج للحضارة الراهنة، كما هي البطالة منتج لاقتصادها؟
لقد مارست الدول الكبرى على بلداننا ما نسميه استبداد القوة، وحمت وشجعت استبداد التخلف المحلي على أن يكون حاكمنا الدائم، ووضعت لنا سقفا معرفيا لا يُسمح لنا بتجاوزه. فهناك علوم وتقنيات محرم علينا أن نمسها. وليس بسبب الخوف من الإرهاب كما يدعون، بل لمنعنا كمجتمعات من التطور، ومن تحسين شروط عيشنا إلى حد يتيح لنا الخروج من دائرة تحكمهم بحاضرنا ومستقبلنا، والذي تسعى أمريكا وإسرائيل اليوم لجعله تحكما مطلقا.
لقد فُتنّا ومازلنا بهاملت الذي قاوم ورفض أن تدفعه الأعمال البشعة إلى أن يصبح هو بشعا. فتنتنا استعانة هاملت بالفن لكشف المجرم، وكأنه أراد أن يترك للبشرية رسالة مفادها أن هناك ثمة جرائم لا يملك كشف لغزها ودافعها سوى الفن.
رسام الكاريكاتير الذي رحبت بعض الصحف برسومه، لم يستخدم فنه ليكشف من يسكب السم في" أذن "المعرفة البشرية، ومن يخرب البيئة، ومن يعزل الشعوب عن أن تكون هي صاحبة القرار في برامج التسلح والبحث العلمي وغزو الفضاء، ومن يسعى وعبر الشركات العملاقة ليصنع نظاما كونيا فاشيا جديدا.
ريشة ذلك الرسام سكبت الزيت في موقد جنرالات البنتاغون، الذين يعيشون على الحروب، ويقومون بصناعتها، عبر أنتاج ما يلزم لإضرامها، وتلك الرسوم ستؤمن للقاعدة متطوعين جددا قد يستخدمهم رامسفيلد كذريعة لحرب جديدة. (*قدم هذا المقال إلى السفارتين الدنيماركية والسويدية بدمشق، مع المطالبة بنشره في نفس الجريدة التي نشرت الرسوم. ونشر في النشرة الدورية لجمعية حقوق الإنسان في سوريا"المرصد").
16- راجع "جاليلي ضد بنديكيت"، مجلة شرفات الشام.
17- في 2-6-2012 وخلال انعقاد مؤتمر المعارضة إياه في القاهرة، طالب الدكتور رضوان زيادة (قيادي في مجلس اسطنبول تستضيفه واشنطن) ومن شاشة الجزيرة: "بتدخل عسكري دولي لتدمير سلاح الدفاع الجوي السوري، وسلاح الجو السوري". قول يذكرنا بقول الخرباوي "لا يفكرون إلا في أنفسهم وأولوياتهم ومصالحهم فقط". ويشير بجلاء أن لا وجود لإسرائيل كعدو في وعي زيادة. وفي مؤتمر أصدقاء سوريا الذي انعقد، بعد يومين، في باريس طالب الدكتور برهان غليون بتدخل عسكري من خارج مجلس الأمن:"أسوة بكون معظم التدخلات العسكرية من أجل حماية الشعوب قد حصلت من خارج مجلس الأمن".
18- المورودي، الجهاد في سبيل الله، صفحة 43.
19-من حوار أجري معه ونشر في جريدة البيان(4حزيران 2013). ومرجح أن السارق المفترض هو جماعة إسلامية أخرى.