كل الأمم تحتفل بلغاتها باعتبارها المعبر عن شخصيتها والوعاء الذي حفظت فيه حضارتها. والأمة العربية هي أمة لغة، تقدس الكلمة والحرف، وفي الماضي كان للكلمة معنى إذ أنها تقرن بالفعل، أما اليوم فهي لغة كلام وكلام مائع، جرائد ورسائل الكترونية، وهي لغة تقتبس أكثر مما تنتج، ولكنها تقدم للعالم مصطلحات جديدة وأسماء عن العنف والفوضى. لا أريد ذكر ما يجري في سوريا والعراق وبقية الدول العربية من دمار للشخصية العربية ومعها دمار لمعالم الهوية والإنسان الذي يبدع اللغة وتحيا اللغة به، فعندما أباد المستعمرون الأوروبيون قبائل المايا والأزتيك، ضاعت لغاتهم، وعندما أباد البيض قبائل الهنود الحمر اختفت لغاتهم، ومن بقي منها أصبحت لغات متحجرة تعيش في بطون الكتب وفي مختبرات اللغة الجامعية.
نعتز بالمعجزة
ونحن العرب نعتز بمعجزة نبينا التي كانت لغوية في طابعها، والقرآن الكريم الذي حمله رسولنا العظيم مبشرا العالم بفجر جديد، وانتقالة كبرى من عالم التيه والظلام إلى عالم النور والحقيقة والعقل. وليس غريبا أن يحدث القرآن في حياة العرب كل الثورات الفكرية واللغوية، فقد قننت اللغة لفهمه، ووضع النحو للبحث في قواعده، وأقيمت معالم البلاغة للبحث في بلاغته العالية، وجمعت نوادر العرب وقصصهم للبحث في القرآن، ولم يقم علم في الأمة الإسلامية إلا وكان غرضه فهم القرآن والاستجابة لما جاء في الوحي الكريم من الدعوة للنظر والاستبصار والسير في الأرض وعمارتها والتفكير والتغلب على الظلام. ورغم ثبات النص القرآني إلا أنه أحدث ثورة كونية في الفكر والحياة لا تزال آثار أبطال الإسلام حاضرة تهزأ من حال المسلمين اليوم. والمهم في هذا السياق أن اللغة العربية أصبحت لغة حية، حيث أضاف الوحي إلى شخصيتها الشعرية وطابعها البلاغي بعدا رساليا لا يهم العرب فقط ولكن الإنسانية.
قصور شامخة
وفي العصور الزاهية بنى اللغويون والنحويون قصورا شاهقة من الكلمات وأقاموا معالم المعجمية العربية ودونوا اللغة العربية بشواهدها القرآنية واللغوية في معاجم لا تزال حاضرة في الثقافة العربية، فمن سيبويه إلى ابن منظور وابن سيدة والزبيدي قامت معالم المعجمية العربية. ومع ولادة هذا العلم الموسوعي الطابع الذي يحاول شرح وفهم حقول الدلالة للكلمة وأصولها نشأ علم آخر يبحث في الدخيل والملحون في لغات العرب، فالقرآن نزل على لغة قريش باعتبارها اللغة الشعبية والمعيارية بين لغات ولهجات العرب. ولهذا ظل اللسان العربي وحماته ساحة معركة لحماية اللغة في جوهرها الحقيقي، لكن تقعيد اللغة في سياق معين أثر على حركيتها، فاللغة كما يقول اللغويون كائن حي مثل الطفل يكبر ويشب على الحياة ويهرم وتعبث به الدهور، وحياة اللغة بازدهار الأمم، فاللاتينية كانت لغة أوروبا والعالم القديم ولكنها افترقت إلى لغات عدة واليونانية أصبحت لغة أمة بعينها مع أنها كانت اللغة التي تحدث بها سقراط وأفلاطون وأرسطو، وهكذا. وابن اللغة يعرف الصحيح من الخطأ في لغته، هكذا يفهم تشومسكي وعلماء اللغويات أصل اللغة باعتبارها فعلا حدسيا وعملية عقلية تنشأ مع الطفل. وفي العالم العربي يتعلم الولد اللغة المكتوبة في المدرسة، ويخرج إلى الشارع ليتحدث لغة البيت ولهجة حارته وبيته. وقد أضفى هذا البعد نوعا من الازدوادجية اللغوية، كان ولا يزال محلا للنقاش. ولكن العرب يبجلون الكلام الجميل ويكرهون من يعبث باللغة كلاما وكتابة. وأقاموا في تاريخهم أسسا لمعرفة الصحيح من السقيم، وتنقية الدخيل والحفاظ على الأصيل، كل هذا حفاظا على القرآن واللغة الجميلة. وألف العرب في العصر الحديث كتبا تعلم الناس أساليب الكلام «قل ولا تقل» و»معجم الأخطاء» الشائعة لمحمد العدناني، الشاعر الفلسطيني، وألف إبراهيم اليازجي «لغة الجرائد» وغير ذلك. وفي مجتمعات يتحدث فيها العربي- خاصة النساء – نصف الكلام بالعربية والآخر مطعم بالفرنسية أو الإنكليزية – شاهد أية محطة لبنانية – أو في شمال إفريقيا سترى العجب. كان لا بد من تأكيد معيارية ودرجة الصواب في فوضى الإعلام الحالي وإعلام التواصل الاجتماعي وترجمات محرك غوغل، فاللغة تتطور يوميا والعربي نتيجة للتطور التكنولوجي في مجال المعلومات أصبح تحت ضغط الاستعارة والتعريب أحيانا بطريقة أو بأخرى. ولم يعد المعجمي اليوم بقادر على مواكبة ما يجري، فصناعة اللغة تجري على مستوى التلفاز والهاتف النقال والرسائل السريعة.
أين الصواب
ويقول عارف حجاوي، وهو إعلامي معروف ويعمل مديرا لإدارة المعايير التحريرية في قطاع ضبط الجودة في شبكة الجزيرة الإخبارية، إنه لم يعد وجه الصواب واضحا فهو غائم في الفصحى المعاصرة، وأسبابه عدة منها غياب التشكيل في الكلمة المطبوعة إلا في الكتب الدينية. وبسبب الجمود اللغوي والتشدد في أن لغتنا العربية لا تتغير تجري يوميا مذابح للغة على مسرح الإعلام. وفي العالم العربي كما قلنا عاميات متعددة وأهل كل واحدة يزعم أنه الأقرب لروح العربية، وينسون أنها جاءت من نفس المنبع. يقول حجاوي إن المعري لو ظهر اليوم لما عرف التواصل معنا وهو يسمعنا نتحدث عن القنبلة الذرية والسيارة بمعنى الأتوموبيل وليس القافلة، ونقول اليوم أجهزة الطرد المركزي والقنبلة الذرية وغيرها من المصطلحات. ويذكر حجاوي هنا بعبقرية اللغة العربية النابعة من مرونتها وطبيعتها الصرفية. وإزاء الحالة اللغوية التي يعيشها العرب يرى حجاوي إن «الحقبة التي تمر على العربية طابعها تعدد أوجه الصواب، وهذا ممتع مع أنه متعب». يقول هذا الكلام في بداية معجمه الإعلامي «اللغة العالية» وهو معجم لا يهتم بشرح المصطلحات الإعلامية للمبتدئ ولكنه كتاب جامع يهدف أن يكون دليلا للإعلاميين الذين يخطئون أكثر من الغير باعتبار اللغة مفتاح عملهم ومصدرمعيشتهم. في القديم اختلف اللغويون والمعجميون في ضبط كلمات ومعانيها وبقيت خلافاتهم وشاعت الكلمات بين الناس رغم كل هذا، وشيوع الكلمة لا يمنع من البحث أصالتها وفصحاتها. ويقدم حجاوي معجمه للإعلاميين ويرى فيه محاولة للتعبير عن اللغة العربية وحبا لها، ولكنه يضمر في داخله رؤية تعترف بأهمية التطور في اللغة وفوضى المرحلة التي تعيشها اللغات وأثر اللغات الأخرى على لغتنا الجميلة، ونزعة الكثيرين منا نحو التفرنج. ورغم هذا يؤكد أن اللغات لا تستغني عن بعضها البعض. ويثمن الكاتب خطوة مجمع اللغة العربية بمصر الذي أقر استخدام عدد كبير من التعابير والمصطلحات الشائعة وقننها كجزء من الموروث الثقافي العربي مع أنها كانت حتى عهد قريب من باب «قل ولا تقل» والأخطاء المعيبة التي يجب أن يتجنبها المثقف العربي في كلامه وكتابته.
طريقة ومنهج
وقد يتساءل البعض عن طريقة جمع مادة المعجم وكيف قام حجاوي ببناء مواد كتابه، فهو يشير إلى أنه قام بجمعهما من خلال عمله الطويل في تحرير نشرات الأخبار والمقالات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية. ومن هنا جاءت المادة التي قام بتعريفها تعريفا جامعا، وتعامل كما يقول مع العبارات والكلمات المنقولة من اللغات الأخرى من خلال مفهوم المنفعة، وثبتها في ثنايا كتابه منبها إلى منفعة الكلمة ومشيرا لفسادها إن اقتضى الأمر. ومنهج الكاتب في قبوله ورفضه للكلمات يقوم على مبدأ «يسروا ولا تعسروا».
لماذا اللغة العالية؟ يقول حجاوي إن العالية هي إسم لمكانين في الجزيرة العربية، فعالية نجد تشرف على الحجاز وعالية الحجاز تشرف على نجد، وفي هاتين العاليتين المتجاورتين ولدت الفصاحة العربية. ولكن لفظ العالية عند ابن سيدة وابن دريد يعني «الأفصح». وكأن الكاتب يريد أن يحل اللغة التي يتحدث بها المذيع محلها العالي. ويجب أن يكون هذا هو الحال، فنشرة الأخبار هي معيار عن اللغة. وفي اللغة الإنكليزية تعتبر نشرة أخبار «بي بي سي» تعبيرا عن اللغة الإنكليزية الحديثة التي يفمهما كل أبناء المملكة المتحدة بعيدا عن لهجاتهم ورطاناتهم المحلية. وهذا شأن العربية المعاصرة التي تجمع بين فصاحة «العالية» واللغة الشائعة، حيث تقام على أساسها كتب تعليم اللغة العربية اليوم.
لا يقوم المؤلف هنا بشرح لغوي للكلمة فقط ولكنه يقدم أمثلة حول استخداماتها في لغة الإعلامي، وهو معني بتضمين الكثير من الكلمات المعربة والمترجمة ترجمة حرفية وكيف تحولت في سياق الاستخدام العام لتؤدي معنى ووظيفة جديدة، كما لا يغفل عن مصطلحات الربيع العربي، ولم ينس ذكر «داعش»، ويشير إلى أصول الكلمات الأجنبية، ورحلة بعض الكلمات من العربية إلى اللغات الأجنبية وكيف استوردها العرب، «أمير الحرب» صارت «أدميرال»، «دار الصناعة» صارت «ترسانة» ونسي العرب الأصل واستخدموا «ترسانة»، ونفس الأمر حدث مع التنباك، وأصلها «طابوق/فرن» حيث أطلق المستعمرون الإسبان لأمريكا اللاتينية على الدخان أول ما شاهدوه. وعندما سافرت الكلمة لإسبانيا أخذناها بشكلها الجديد «تنباك». وهناك شروح حول طبيعة الترجمة وأشكالها، ورؤى عن الثقافة والمثاقفة، وفي مادة «قبح» يقول «لا يصف الإعلامي شخصا بأنه قبيح، لا في برنامج عن عمليات التجميل ولا في غيره، فالجمال نسبي..». ومن الكلمات التي يرى أنها أصبحت شائعة في الاستخدام ولهذا ضمنها «بوية» «كلمة جديدة لامرأة تتخذ دور الذكر إزاء بنات جنسها، وهي تأنيث عربي لكلمة «بوي» أي غلام بالأنكليزية». ويضع بعض المصطلحات في سياقها التاريخي مثل «أسلحة الدمار الشامل»… واشتهر هذا التعبير عندما تذرع الغرب بوجود هذه الأسلحة في العراق تسويغا لغزوه الذي حدث عام 2003». وتتسم بعض التعريفات بالإيجاز الشديد لكنها قد تطول خاصة عندما تتعلق الكلمة بالمهنة الإعلامية مثل كلمة «سأل يسأل سؤالا: طلب معلومة/ السؤال رأسمال المذيع…». وفي مادة «قرن» يحذر الكاتب الإعلامي من العبارات التهويلية مثل «محاكمة القرن» في وصف أحداث مثل محاكمة صدام حسين معلقا: «أمثال هذه المبالغات التي تتسرب من أقلام صحافيين هواة وتزعم قراءة الغيب يندر أن تصدر من وسيلة إعلامية رصينة». وغير هذا من التعليقات والتعريفات. والكتاب/ المعجم يظل محاولة تستحق الثناء لأنها ترصد وتعلق وتجمع الكلام وتحاول تسييقه في إطار تطور اللغة وحياتها وإثراء المعجم العربي، وفيه أيضا نافذة على حياتنا المعاصرة، التي أضحى التغريد فيها عبر التويتر لازمة من لوازم الحياة «غرد الطائر الغَردُ: والتغريد الغناء/ والتغريدة عبارة عن مئة وأربعين حرفا أو ما هو في مقام الحرف، اشترط طولها موقع التغريدات «تويتر» فكانت درسا للثرثارين».
عارف حجاوي: «اللغة العالية: العربية الصحيحة للمذيع والمراسل ولكل صحافي»
منشورات «الجزيرة»/ الدار العربية للعلوم ناشرون، الدوحة/بيروت، 2104، 415 صفحة