يكتب الناقد العراقي أن هذا الكتاب يوميات الإنسان البصراوي المعذّب المسحوق بالقصف المرعب والغارات المميتة، يوميات يلاحق فيها ليالي ونهارات مدينته الدموية وهي تُقصف في الحرب العراقية الإيرانية يومياً. يوميات لا صلة لها بالسياسة ولا الانحيازات بل بجذر روح الإنسان – أي إنسان - وهو يواجه الموت العبثي في أية لحظة.

كتاب (غدا يبدأ قصف البصرة)

للمحامي أفنان السامرائي

حسين سرمك حسن

تصوّر بلدا يُقحم في أتون جحيم ثلاث حروب كونية بكل شدائدها الفاجعة، ويخرج ممزّقاً محطماً، إنساناً وأرضاً، حاضرا ومستقبلاً، ونتاجات مبدعيه التي تتناول هذه الحروب الدامية المهولة لا يتجاوز ما مكتوب عن مسرحية من مسرحياته أو أقل بكثير. أين كان يعيش مبدعو البصرة مثلا وهي تُقصف وتُسحق وتدمّر في هذه الحروب الجهنمية الثلاث ؟ عندما تتابع ما كتبه مبدعو البصرة من روائيين وشعراء وقصّاصين وغيرهم عن الحروب الثلاث يساورك شكٌمشروع في أنهم لم يكونوا فيها، أو أنهم كانوا فيها لكنهم لم يسمعوا دويّ المدافع وصرخات الجرحى وأنين الثكالى. أين هي الروايات ؟ أين هي القصص ؟ أين هي القصائد والدواوين ؟ أين هي اليوميات والمذكرات ؟ هل كانوا يكتبون تحت القصف ؟ هل كانوا يسجلون ما يشاهدونه من مآس ليحوّلوه إلى مادة إبداعية ترسخ في اذهان الأجيال اللاحقة ووجداناتها ؟ هل هم فعلا الشاهد الصادق والحقيقي على الحوادث والوقائع ؟ طيّب لنترك الإبداع المُتخيّل.. أكتبوا ما شاهدتموه.. أكتبوا مراثي للمدينة المحروقة والمسلوبة مثلما كان يفعل الشعراء السومريون عبر آلاف السنين فتركوا لنا أكبر عدد من مراثي المدن المحروقة والمنهوبة حسب صموئيل كريمر ومن دون أن يدخلوا اللعبة السياسية فيشيروا إلى الأطراف المتحاربة. إن الكثير من الكتّاب العراقيين يداورون ويناورون ويخشون تسجيل حقيقة المدينة المستباحة المسلوبة المحروقة المقصوفة المهدومة. ليس لديهم ذاكرة تسجّل ولا وجدان ينفعل. إنهم يمرون على ثلاثين سنة من الحرائق ويخرجون نظاف معافين. وإلّا فقل لي أين هي نتاجاتهم وهم يعيشون تحت دكّحرب أولى استمرت ثماني سنوات، وثانية كونية اجتمعت على بلاده فيها نصف الكرة الأرضية، وثالثة كونية أيضا انتهت باحتلالها. وفي الثلاث تتحمل البصرة العظيمة الخسارات الجسيمة الأكبر والأدهى. لكن كل مدينة وقصبة في العراق أصابها خراب الحروب التي تنهش بمخالبها النسيج الإجتماعي فتمزقه شرّ ممزق. فأين هي نتاجات مبدعي المدن العراقية التي تتناول هذه اللعنات.. لعنات غولة الحرب التي مزّقت مدنهم واجتثت أرواح أهلهم ؟

من المدهش والمفارق أن يأتي واحد من الأجوبة الشافية من محامٍ، وليس من مبدع قصة أو رواية أو شاعر أو مؤلف مسرحي معروف، هو الأستاذ (أفنان وفيق عبد الله السامرائي) في كتابه الصادر مؤخرا عن دار ضفاف للطباعة والنشر (الشارقة/ بغداد) : (بلاغ : غداً يبدأ قصف البصرة) (174 صفحة). وهي يوميات الإنسان البصراوي المعذّب المسحوق بالقصف المرعب والغارات المميتة، المحاصر من كل جانب بالخوف واحتمالات الموت التي صارت مبتذلة. إنّها يوميات يلاحق فيها ليالي ونهارات مدينته الدموية وهي تُقصف في الحرب العراقية الإيرانية يومياً. يوميات لا صلة لها بالسياسة ولا الإنحيازات بل بجذر روح الإنسان – أي إنسان - وهو يواجه الموت العبثي في أية لحظة. وتتضح قصدية الكاتب تماما من خلال العبارة التي صدّر بها يومياته هذه :

(حتى لا يتكرّر قتل الأبرياء في المدن الآمنة) (ص 5)

فهي الدرس الخلاصة الذي عاشه بروح ممزقة ويقدّمه الآن إلى الناس أجمعين.. وإلى منظمات الهلال الأحمر والصليب الأحمر الدولي ومنظمات حقوق الإنسان (ص 7).

إنّها يوميات العجز الإنساني حين يتعرى الإنسان في أي مكان وزمان من كل الممكنات ويصبح هدفا للموت كما هو حال دمى البط في ألعاب الرماية في مدن الملاهي :
(المكوث في زاوية غرفة معتمة رطبة في مدينة كانت آمنة..
في جو تتساقط فيه القذائف، ولاتدري في أي لحظة يدخل الموت عنوة بفعل صاروخ او قنبلة او شظية سكرى. ستشعر بالخذلان لانك تقتل عنوة دون ان تستطيع الدفاع عن نفسك. بقاؤك في مدينة مهددة بالموت بفعل قصف صاروخي ومدفعي ولاتستطيع فعل شيء ما لايقاف هذا الموت النازل، فذلك هو الذل والامتهان لانسانيتك، وانه ليس من السهولة مغادرة هذه المدينة الى مكان اكثر امنا.أي احلام تبقى والدوي الفاجع لا يهدأ يحرق ويدمر كل شيء ؟!  مستقبل مجهول وحاضر من دماء. الم تشبع الارض من النزف ؟ الم تضجر القلوب من الاسى؟ ألا تزهر الاشجار وتكف أيدٍ عن حز اعناق العصافير؟
بلاغ..– ص 9).
إن التركيبة السياسية التي تؤسس للبنية الفوقية لشخصية المثقف العراقي صارت بنية تحتيّة إلى حد أنها جعلته لا يميّز بين عذابات الإنسان والأهداف السياسية للحكومات. يتصوّر أنه حين يتحدّث عن آلام البشر المعذّبة المسحوقة في البصرة تحت القصف فإنه ينحاز إلى الموقف السياسي للحكومة ناسيا أن عرضه لمعاناة هذا الإنسان هو عرض لمعاناة اي إنسان تحت القصف مهما كان مكانه وزمانه. ولهذا فإن ما يبقى من البشر أمام المصير الحيواني المشترك هو الإبداع المحايد الذي ينتصر للإنسان. ولن تستطيع كل أدوات الموت والدمار الإنتصار على كلمة واحدة. بهذه الروح عبّر أفنان السامرائي عن فناء الموت نفسه وانتصار الحياة في النص الذي وجهه إلى القنبلة وكان من الأفضل أن تكون نصّ ختام الكتاب :
(الى قنبلة...

تساقطي وانثري أسنان الموت...
أينما سقطت..هنا أو هناك؟
لكنك.. لن تقتلي الحب...
ولن تكتمي زقزقات العصافير...
ازرعي الموت...
ازرعي الخوف..
وكما تشائين!!
هي بسمة الاطفال دائما
ستشرق...
مثل الشمس مهما غربت
وستشرق دائما..
مهما حل الجفاف اذ سيظل البحر هو البحر!
والحب هو الحب..
ما دام الله...
هو رب..
الرحمة والسلام..– ص 11)

لقد اختلفت كل مكوّنات الحياة البشرية عبر مسيرة تاريخية هائلة ومديدة.. اختلفت الأفكار والأيديولوجيات.. تنافرت المصالح الإقتصادية والسياسية.. تلاطمت الأديان والمذاهب.. كل شيء تغيّر.. كلّ شيء.. وظل موقف الإنسان من الموت واحدا لم يتغيّر ممثلا بالخوف والرعب من فقدان الاحياة والأحبة :
(التاسعة والربع ليلا..
القذائف تنفجر في مدينتي التي ضمها الظلام في احضانه هنا وهناك.. حاولت رؤية ما الذي تغير من ملامحي.. أردت ان أعرف تأثير الخوف على وجهي.. نظرت الى شظايا مرآة مهشمةعلى الحائط. تجربة غريبة.. إذاً.. عشرة وجوه شاحبة! كان وجهي مشدودا.. قطعة مطاط منكمشة.. لون ترابي.. تركت المرآة!! الساعات تمضي كئيبة، والقلق يزداد عتمة كهذا الليل.. ربما تسقط قنبلة فجأة بعد هذا الصمت؟ كيف سيكون تأثيرها؟                                                                 الرغبة في الضحك.. في البكاء.. تتقلص المعدة.. الرغبة في التقيؤ.. جبهة باردة.. اطراف باردة.. تتبعثر الكلمات.. تتحفز الاعصاب تظل متوترة..                                       من الأفضل استمرار القصف؟!                                                                    تعتاد!!
ربما هي اقل سوءاً من ساعات انتظار انفجار لا تدري متى؟ - ص 27)

لدى إنسان محصور في كهف يطارده وحش ضار، أو ضحية يطاردها جلّادو محاكم التفتيش.. أو مقاتل يرتعش في قتال البيوت في حصار النازي لستالينغراد في الحرب الثانية.. أو في هذه الأيام في سوريا أو في ليبيا أو أفغانستان. لدى كل هؤلاء نفس الإنفعالات والقلق الحارق من الموت. الإنسان هو الإنسان.. ذاك الكائن العظيم الذي يعود لينافس الكلاب في ملاجئها هربا من القصف.. ولينتهي دودة مذلّة تتلوى تحت الأقدام الحديدية لمارد اسمه الموت ؛ الإنسان الذي يقدّمه أفنان في أدقّ صورة يعوي مهملاً حين يحاصره عواء القنابل في الشوارع فيأتي صوت الأمومة الرحيم : أدخل. "ألا يتساوى في حضرة الموت الأميرُ والفقير؟"، هكذا كان يتساءل السومريون في ملحمة جلجامش الخالدة ؛ لا خالد إلّا الإبداع :
(هناك من يقطف الزهور ونلتقط نحن الشظايا!!"
فتحت الباب. تطلعت الى حديقتي، ومن خلف اكياس الرمل المكدسة التقطت شظية كبيرة رأيتها عند شجرة الزيتون.. السماء في الافق الشرقي يغطيها الدخان الاسود.. رائحة وقود مشتعل... صعدت الى سطح البيت.. الدخان ينبعث بكثافة وقد غطى افق مصفي "المفتية"
اذاً..!! كانت هناك قذيفة او قذائف.. فما حدث..؟ حدث ذلك منذ ساعات الصباح الاولى.؟
سارعت الى الدوام بحذر بالغ فالتعليمات شددت على الالتزام!
ماذا لو اصبت بشظية وانا في طريقي.. من سيهتم بالانسان.. من سيقدر هذه الجرأة.. هو مثل كلب الطرقات قد يسقط بشظية..
تساؤلات طرقت رأسي...
بسخرية وقفت وسط الطريق الخالي وقلّدت عواء الكلب.. احتجاجاً!! كان كل شيء هاديء.. فجاة عوت قنبلة.. سمعت دويها ثم لحقت بها اخرى..اصابني الذهول فهرولت لا ادري اين!
قرعت باب أحد البيوت التي لا اعرفها.. فتح الباب لي فسمعت كلمة غلّفها الخوف: ادخل..؟
وقفت لدقائق.. كانت ثقيلة..بطيئة..
عرق ينبض في جانب رأسي.. يحتقن دمي كلما انقضت قنبلة... مضت دقائق..
هدوء حذر خيم حولي فخرجت وصوت امرأة كبيرة تدعو لي بالسلامة وعلى مقربة منها طفل صغير يشد عباءتها، يردد كلمات متقطعة. قائلا: ماكو ---- بم!!
في مكتبي بقيت قابعاً اقلب بعض الاوراق.. وافكر.. هناك من لم يستطع الحضور لبعد مكان العمل عن بيته؟ - ص 46).

إنّ العذابات المدويّة والخسارات الجسيمة التي تحمّلها أهل البصرة يجب أن تسجل بأحرف من ذهب ونور. لم تكن القذائف هي التي تجتث وجودهم بل طغيان السلطة التي تحشدهم وترسلهم إلى المحارق.. الطغيان والذلّ اليومي والمحاصرة برغيف الخبز. خذ هذه الصورة التي تقطّع القلب عن الناس الذين يتقلبون على جمر انتظار أبنائهم في جبهات الموت، والحكومة / "البلدية" كما يسمّيهابسطاء البصرة، تبادر بهدم بيوتهم لفتح شارع !! :
(هذه الخبّازة الحلوة الموردة الخدين تخبز...استقبلتنا بابتسامة عريضة باسنان لؤلؤية... ابحت لنفسي ان اسأل من أين لها هذا الجمال في هذا المكان الآسن...
يعلو فوطتها الطحين... رائحة الخبز تجعلك تشعر بالجوع...وجهها تورّد أكثر وهي تخرج ارغفة الخبز من التنور وتزيد وهج الجمر بعصا طويلة.
لم تعترض على تقدير بيتها. بل قالت من الصعوبة ان اجد زبائن جدداً اذا ما انتقلت، والمنطقة اكثر امانا من غيرها، وولدي في الجبهة. متى تهدمون البيوت...؟
يقف اصحاب البيوت يتطلعون الينا بفضول... وبعضهم باستنكار..
كان البعض يبدي استياءه لأن هذه البيوت ستُهدم لغرض فتح الشارع. وما فائدة الشارع يا استاذ والحرب لازالت قائمة، والناس هاجرت المدينة بسبب القصف والحكومة "البلدية" تهجّر الناس... اقوال نسمعها بعبارات صريحة ورمزية...
قلت بتهكم : نحن ننفذ الاوامر......
فاجأنا أحد الشبان قائلا: متى تهدمون هذه البيوت. نريد ان نخلص من هذه المنطقة المستنقع...!!
سألته كيف حالكم في الشتاء وفي القصف...؟
قال: انعيش بالضيم..
لايريد البعض المغادرة لانهم لا يعثرون على البديل لهم... تمضي الساقية آسنة قذرة.. ونمضي نحن.... تستقبلنا امرأة بدينة في أواسط العمر... رأيتها تتأملنا ونحن نقفز فوق البرك ونطأ الازبال والاقذار... فوطتها سوداء معتمة..أهلاً.. أهلاً بكم... أخلاق بصرية ستبعثرها الحرب حتما... تحاول ان تقدم لنا قناني الببسي الذي تبيعه. نرفض ذلك.... سألتها عن ايجار البيت الذي تسكنه؛ غرفتين الايجار الشهري خمسون دينارا...
ملاحظة : (راتب الموظف ذو الخدمة الطويلة قد يتجاوز مائة دينار مع بعض المخصصات)..
زوجي في الجيش الشعبي... أخذوه؟ ثم استدركت...ذهب للدفاع عن الوطن!! والأولاد عسكريون في الجبهة.. اثنين..؟
- الله يحفظهم...!!
وسط هذه الأقذار تجد أجمل الاخلاق وأنظف البيوت. عجبت لذلك وأنا اتطلع الى ما حولي من بيت من الخشب والحصران...
عندما خرجنا ودعتنا الخبازة بوجه أكثر اشراقا...
زيارتكم خير.. فقد عاد ابني من الجبهة قبل قليل في اجازة.. الحمد لله...
كنت اتلفت لعلي اجد ملجأ يأوي إليه هؤلاء... لم أجد إلا صفائح وعلب واطارات واخشاب واحذية قديمة متناثرة في جوانب الغرف وسقوف من خشب متآكل من حشرة الأرضة...!! قال احدهم: انا اعيش في هذا البيت منذ سنين طويلة؟
سكت بأسى...!! لقد اعتاد هذا المستنقع ؛ أَلِفَ هذه الابواب العتيقة اقرأ في عينيه (...مات الطموح في نفوسنا...الفقر قد بلّد كل شيء فينا...,, - ص 167 و168).

ينفعل أفنان لانفعال البشر المحيطين به فهم أناسه وأهله المعذّبون المذلّون لكنه لا يستطيع الإفصاح عن تعاطفه، فقد نسي الإنسان عندنا الصوت العالي :
(الكلمات التي سمعتها من هذا الرجل الأسود اللون : أين نذهب إذا تهدّم البيت ؟ قال ذلك بيأس وحزن..
حقّاً. أليس من الأجدر بناء مجمعات سكنية لهؤلاء بدلا من هذه الحرب وهذا الدمار ؟ ذلك ما حدّثتني به نفسي..
لا أحد في بلادي يعرف لغة الصوت العالي – ص 166)

قدّم أفنان السامرائي بلاغاته الإنسانية عن يوميات البصرة تحت القصف بلغة شعرية جذّابة ؛ جميلة محكمة وبسيطة بعيدة عن التعقيدات "الحداثية"، وجاءت نصوصه رشيقة مرصوصة بجمل قصيرة تأتي كضربات الشظايا السريعة، بلا استطالات متعبة وترهّلات ثقيلة، فالموت لا يسمح بأوقات إضافية في لعبته السوداء الموجزة. 

والأستاذ أفنان السامرائي خريج كلية الحقوق في جامعة البصرة عام 1969، وله مؤلفات أخرى غير مطبوعة منها : رحلة في عالم المسكوكات، وصورة ساخرة من الحصار، وشيء عن تاريخ الفاو.

 

بغداد المحروسة -30/4/2014