يكتب الكاتب الفلسطيني أن الشاعرة توظف الرمزية والحكاية والأسطورة إلى نهاية رحلة البحث، والتي هي كما في كل نصوصها لها نهاية واحدة هي الحياة الأخرى ما بعد الموت، حيث الحقيقة المطلقة، والوصول إلى ذلك يحتاج للتحليق الروحي، والبحث بكل السبل عن الحقيقة كي نعرف سر وجودنا في الحياة وما بعد الحياة.

خارج حدائق الحلم

مع أمنيات جودة بلغيث

زياد جيّوسي

جودة بلغيث، الشاعرة التونسية، ابنة ولاية ومدينة نابل السياحية ذات التاريخ العريق، والتي يظهر أنها تأثرت بمدينتها وولايتها المحاطة بالبحر من ثلاثة جوانب باستثناء الشرق، والتي شهدت عبر تاريخها تمازجاً حضارياً لا يزال قائماً من حيث توارد السياح من كافة الجنسيات عليها، والتي تفيض روحها دوماً بأجمل الأشعار ذات الطابع الروحي والصوفي، والتي حلقت بهذا الجانب في ديوانها "نافلة الحلم" الذي أعادنا إلى فترة الأشعار الصوفية والمحلقة في السماء، حيث تقول في هذا الديوان:

"كلما هزني الحرف

وعلى شغاف قلبي رقص المعنى

تحلق روحي

هالة من نور

تتخطى الحجب

ملائكة السماء تتلقفها

شعاعاً إلى سدرة المنتهى".

نراها تواصل مسيرة الروح والبحث عن الذات وعن الحقيقة، فهي ترى كما يرى الفيلسوف الأردني المرحوم فايز محمود أن الحقيقة بحث في الوجود، وفي نص جديد للشاعرة حمل عنواناً مثيراً للبحث"لا معنى للأمنيات خارج حدائق الحلم"، نرى في هذا النص للشاعرة أنها تؤكد على أن الأمنيات تبدأ بالحلم، وبدون الحلم لا يكون هناك معنى للأمنيات، "لا معنى للأمنيات خارج حدائق الحلم"، ومن خلال هذه الفكرة الرقيقة الحالمة تنطلق بنصها إلى أمنياتها والحلم، فهي الحالمة بالبحث عن الحقيقة، تجول تحت الشمس التي تعيدها إلى حكاية الخلق في الأديان (الطين المبلل)، "وهج الشّمس يشرّدني إلى طيني المبلّل"، وعند النهر تترك نبضها "عند النّهر أترك نبضي"، فالنبض إشارة الحياة والنهر مكان لجأ إليه الإنسان في بدايات الحياة ليجد لنفسه الماء والغذاء، ومن هناك من حيث النهر والبداية للحياة تنطلق للبحث عن الحقيقة، فمن يجد الحقيقة يعرف سر الوجود، ولذا حملت بيمينها زهرة اللوتس التي ترتبط بالأسطورة الفرعونية للخلق التي تربط زهرة اللوتس بالنيل ويعتبرونها عنوان الخلق، وتحمل في يدها الأخرى السراج وهو ما حمله الفيلسوف ديوجين في النهار رمزاً للبحث عن الحقيقة، "زهرة لوتس بيميني وسراج بيساري".

هذه الرحلة الصوفية في البحث عن الحقيقة تفتح لها أبواب السماوات "أفق السّماء تنفتح"، وتحلق الروح بعد أن يزول عنها غبش الحياة "غبشٌ عن مرايا الرّوح ينقشع"، فهناك حيث النور المطلق لا يعود للموت وجود "تفقأُ عين الموت"، ويكون خلود الروح الأزلي، حيث الحقيقة الوحيدة المطلقة "صوتي يصدح بأناشيد الحقيقة"، حيث ترى الشاعرة أن صوتها سيسبح هناك في أناشيد الحقيقة، حيث تسبح بـماء (الهيولى)، والهيولى هي المادة التي تملأ الخلية التي تقوم عليها الحياة، وغالبيتها لدرجة 95% من الماء، وهي أصل كل المواد الحية من إنسان أو حيوان أو نبات، وهي كلمة يونانية تعني الأصل، "مفردة تسبَح في ماء الهيولى"، وحيث الخلود الأزلي ونهاية رحلة البحث، تؤكد شاعرتنا من جديد، أن الحلم هو الأساس للأمنيات، ولا معنى للأمنيات بعيداً عن الحلم، فهي ترى فيه وكأنه الخلية الأولى لتحقيق الأمنية، كما الخلية الأولى الأساس الذي يحقق الحياة.

وهكذا نصل مع الشاعرة التي تمكنت أن توظف الرمزية والحكاية والأسطورة في نصوصها عامة، وفي نصها هذا بشكل خاص، إلى نهاية رحلة البحث، والتي هي كما في كل نصوصها لها نهاية واحدة هي الحياة الأخرى ما بعد الموت، حيث الحقيقة المطلقة، والوصول إلى ذلك يحتاج للتحليق الروحي، والبحث بكل السبل عن الحقيقة كي نعرف سر وجودنا في الحياة وما بعد الحياة.